35/11/24
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم
الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
الكلام في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي حكماً: من الموارد التي لا ينحل بها حقيقة، وبلحاظ القواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول الشرعية المؤمّنة. قلنا أنّه ذُكر أنّ القواعد العقلية في المقام تقتضي الانحلال الحكمي، بمعنى سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، وإن كان موجوداً حقيقة؛ لأنّ المفروض عدم الانحلال الحقيقي، لكنّه يسقط عن التأثير والمنجّزية؛ وذلك بالدليل الذي تقدّم في الدرس السابق، وكان حاصله: أنّ العلم الإجمالي يستحيل أن يُنجّز الجامع في محل الكلام، يعني في موارد وجود العلم التفصيلي؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على كلٍ من الطرفين، وقابلية هذا الجامع بهذا الشكل للتنجيز فرع قابلية كلا الطرفين لقبول التنجيز، عندما يكون كلا الطرفين قابلاً للتنجيز؛ عندئذٍ يكون الجامع قابلاً للتنجيز، فيمكن للعلم الإجمالي أن ينجّز الجامع. أمّا إذا كان أحد الطرفين غير قابلٍ للتنجيز، باعتبار أنّه تنجّز بمنجّزٍ آخر وهو العلم التفصيلي؛ حينئذٍ لا يكون كلا الطرفين قابلاً للتنجيز، وبالتالي لا يكون الجامع قابلاً للتنجيز، فمثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً للجامع، وإذا لم يكن منجّزاً للجامع، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالي فقد أثره، ولم يكن منجّزاً في محل الكلام، وإن كان هو باقٍ حقيقةً، لكنّه لا يكون منجّزاً للطرفين في هذا الفرض.
هذا الدليل يتوقّف على تسليم مقدّمتين:
المقدّمة الأولى : أنّ العلم الإجمالي لو نجّز الجامع، لسرى هذا التنجيز إلى كلٍ من الطرفين على نحو البدل، في المثال السابق الجامع المعلوم بالإجمال هو نجاسة أحد الإناءين، وانطباق هذا الجامع على الطرفين يكون بنحو البدلية، فإذا تنجّز الجامع؛ حينئذٍ سرى التنجيز إلى الطرفين بنحو البدلية، بمعنى أنّه يتنجّز هذا الطرف، لو كان هو النجس واقعاً، وذاك الطرف لو كان هو النجس واقعاً، وهذا هو معنى أنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالي إذا نجّز الجامع، قهراّ، هذا التنجيز يسري من الجامع إلى كلا الطرفين، لكن على نحو البدلية.
المقدمّة الثانية: أنّ الطرف لا يقبل التنجّز إذا كان منجّزاً بمنجّزٍ آخر؛ لاستحالة اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، نظير اجتماع علّتين على معلول واحد.
إذا تمّت هاتان المقدّمتان، بمعنى أنّ التنجيز لو ثبت للجامع لسرى إلى كلا الطرفين، هذا من لوازم تنجيز الجامع، وأنّ التنجيز يسري إلى كلا الطرفين، لكن على نحو البدلية، وثبت أنّ ما يتنجّز بمنجّزٍ لا يقبل التنجيز مرّةً ثانية، إذا تمّت هاتان المقدّمتان؛ حينئذٍ يثبت أنّ العلم الإجمالي يكون ساقطاً عن المنجّزية، ويكون غير مؤثرٍ في تنجيز الجامع؛ لأنّه لو نجّز الجامع لسرى التنجيز إلى كلا الطرفين على نحو البدلية، ولكان منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، وحيث أنّ أحد الطرفين قد تنجّز بالعلم التفصيلي، والمقدّمة الثانية تقول أنّ المنجّز بعلمٍ تفصيلي لا يقبل التنجيز مرّةً ثانية، وأحد الطرفين قد تنجّز بعلمٍ تفصيلي، فأحد الطرفين لا يقبل التنجيز بالعلم الإجمالي، وهذا يكشف عن أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً للجامع، وبعد هذا يفقد أثره، وهو معنى الانحلال.
ولكن، كلتا هاتين المقدّمتين محل كلام، لا المقدّمة الأولى مسلّمة، ولا المقدّمة الثانية مسلّمة. أمّا المقدّمة الأولى؛ فلأن الجامع في محل الكلام عندما يتعلّق به العلم الإجمالي مفاده مفاد النكرة، يُلحظ بنحو صرف الوجود، ولا يُلحظ بنحو مطلق الوجود والسريان كل عارض يعرض على الجامع، إنّما يتحتم سريانه إلى أفراده عندما يلحظ الجامع بنحو مطلق الوجود، من قبيل(أكرم كل عالم)، أو (أكرم العالم) إذا لوحظ العالم بنحو مطلق الوجود، هذا الوجوب الذي يعرض على الجامع هو في الحقيقة يسري إلى أفراد ذلك الجامع. وأمّا إذا كان الجامع ملحوظاً بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود، هذا أول الكلام بأنّ العارض يسري من الجامع إلى الأطراف على نحو البدلية، هذا محل كلامٍ، وليس واضحاً، إذا قال:(أعتق رقبة)، ثبت وجوب عتق رقبة بنحو صرف الوجود، دعوى أنّ هذا الوجوب يسري من الجامع إلى جميع أفراد الرقبة على نحو البدلية، هو أوّل الكلام ومحل كلامٍ، وليس واضحاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، الجامع عندما يتعلّق به العلم يُلحظ بنحو صرف الوجود لا بنحو مطلق الوجود، فلا وضوح في أنّ التنجيز الثابت لهذا الجامع والعارض لهذا الجامع، من لوازمه أن يسري إلى أفراد ذلك الجامع على نحو البدلية، بحيث إذا لم يسرِ إلى فردٍ من أفراده، واستحال أن يثبت التنجيز لفردٍ من أفراده وطرفاً من أطرافه، نستكشف أنّ الجامع لم يثبت له التنجيز كما هو المُدّعى في المقام؛ لأنّ هذا فرع الملازمة بين ثبوت التنجيز للجامع وبين سريان الوجوب إلى أفراد وأطراف ذلك الجامع على نحو البدلية، فإذا لم يثبت التنجيز لطرفٍ من الأطراف، نستكشف أنّ التنجيز ليس ثابتاً للجامع، هذا غير تام في محل الكلام؛ لأنّ الجامع في محل الكلام يؤخذ بنحو صرف الوجود والسريان ليس تامّاً في هذه الحالة، وإنّما يكون تامّاً عندما يؤخذ الجامع بنحو مطلق الوجود كما في(أكرم العالم) وأمثاله، عندما يؤخذ بنحو مطلق الوجود، ما يعرض على الجامع يعرض على أفراده، أمّا بنحو صرف الوجود، فهذا ليس تامّاً. هذا بالنسبة إلى المقدّمة الأولى.
أمّا بالنسبة إلى المقدّمة الثانية التي تقول بأنّ القول بأنّ الطرف إذا تلقّى التنجيز من منجّزٍ يستحيل أنّ يتنجّز بمنجّزٍ آخر، فقد نوقش فيها من جهتين:
الجهة الأولى: لماذا لا نتعامل مع محل الكلام كما نتعامل في سائر الأمور التكوينية والظواهر الطبيعية، حيث أنّهم يلتزمون في الأمور التكوينية بأنّه عندما تجتمع علّتان مستقلّتان على معلولٍ واحد يلتزمون بالتوحّد، بأن تتحوّل كل علّةٍ من هاتين العلّتين المستقلّتين إلى جزء العلّة، ويكوّنان بمجموعها علّة واحدة، وكلّ علّة مستقلّة لو كانت وحدها في حال اجتماعها مع العلّة الأخرى تتحوّل إلى جزء العلّة، فتكون هناك علّة واحدة هي عبارة عن المجموع من هاتين العلّتين المستقلّتين، هكذا يتعاملون مع الظواهر التكوينية والأسباب الطبيعية، فلماذا لا نتعامل في محل الكلام هذه المعاملة ؟ فنقول: لا ضير في أن يتلقّى الطرف المعلوم بالتفصيل التنجّز من كلٍ من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ؟ بأنّ يكون كلاً منهما جزء العلّة المؤثرة في التنجيز؛ لأنّه اجتمع فيه علّتان، العلم الإجمالي ـــــــــــ إذا سلّمنا السريان ــــــــــ والعلم التفصيلي. إذن: لا مشكلة في أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، مؤثراً في التنجيز على كلّ تقدير، سواء كان معلومه متحققاً في هذا الطرف، المعلوم بالتفصيل، أو متحققاً في الطرف الآخر. إذن: يمكن أن يكون الجامع قابلاً للتنجيز؛ لأنّ كلا طرفيه قابل لأن يتنجّز بالعلم الإجمالي، غاية الأمر أنّ هذا التنجّز بالعلم الإجمالي يكون على نحو العلّية المستقلّة بلحاظ الطرف الآخر، وعلى نحو جزء العلّة بلحاظ المعلوم بالتفصيل، لكن يبقى العلم الإجمالي مؤثراً في التنجيز، سواء كان معلومه متحققاً في هذا الطرف، أو كان معلومه متحققاً في الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ الجامع قابل للتنجيز، فيكون العلم الإجمالي منجّزاً للجامع، ولا يفقد هذا التنجيز بمقتضى ما ذُكر. لماذا لا يُتعامَل مع المقام كما تعاملوا مع الأسباب التكوينية ؟ بل التزموا بذلك في بعض الموارد كمادّة الاجتماع إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه، في مادّة الاجتماع يقولون الملاك يتحول إلى جزء العلّة، إذا قال(أكرم عالم)، أو (أكرم هاشمي) وجب إكرام العالم، ووجب إكرام الهاشمي، واجتمعا في مادّة اجتماع العالم الهاشمي، يحصل توحّد، ويثبت فيه ملاكان، كل ملاكٍ لو كان وحده لكان مستقلاً ومؤثراً في الوجوب ومبادئ الوجوب من الحب والإرادة......الخ. لكن عندما يجتمعان يتحوّل كلٌ منهما إلى جزء العلّة، بحيث هذا يكون مؤثراً، وذاك أيضاً يكون مؤثراً.
الجهة الثانية: أنّ الصحيح في المقام هو أنّ المقام ليس كالأسباب التكوينية والظواهر الطبيعية، تنجيز العلم الإجمالي باب مستقل لا يمكن أن نقيسه على الأسباب الطبيعية والظواهر التكوينية بحيث نقول إذا اجتمع سببان على معلولٍ واحد؛ فحينئذٍ يستحيل بقاء كلّ واحدٍ منهما على كونه علّة تامّة؛ لأنّه يلزم من ذلك اجتماع سببين على مسبّب واحد، اجتماع علّتين على معلولٍ واحد؛ فحينئذٍ لابدّ أن نرفع اليد عن تأثير أحدهما، فنقول أنّ أحدهما ليس مؤثراً، وإلاّ يلزم اجتماع علّتين على معلول واحد، فيُدّعى في المقام ــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ بأنّ العلم الإجمالي يصبح فاقداً للتأثير، في موارد العلم التفصيلي يفقد تأثيره ولا يكون مؤثراً في التنجيز، فيثبت الانحلال الحكمي، أو يأتي الجواب السابق وهو أن ندمج أحدهما بالآخر فيكون المجموع هو المؤثر، ويكون كلٌ منهما جزء علّة، فتكون العلّة واحدة هي عبارة عن مجموع الأمرين حتّى يترتّب عليه عدم الانحلال.
هذا كلّه ـــــــــــ سلب التأثير عن العلم الإجمالي، وإبقاء العلم التفصيلي هو المؤثر في التنجيز في هذا الطرف، أو دعوى أنّ المجموع هو المؤثر في تنجيز هذا الطرف، بأن يكون كلٌ منهما جزء العلّة ـــــــــــ هذا كلّه فرع قياس المقام بالأسباب التكوينية والمظاهر التكوينية الطبيعية، لكن الصحيح أنّ المقام ليس من هذا القبيل، باب التنجيز في محل الكلام باب مستقل، بابه باب لابدّ أن يُراجع فيه العقل العملي المدرك لحق المولوية وحق الطاعة، ماذا يدرك العقل بالنسبة إلى حق المولوية ؟ فنطرح هذه الأسئلة: أنّ العقل العملي هل يدرك أنّ ما يدخل في حق المولوية، ويدخل في حق الطاعة هو خصوص التكاليف الواصلة إلى المكلّف بالعلم، او هو يدرك ثبوت حق الطاعة والمولوية للمولى(سبحانه وتعالى) في كلّ تكليفٍ، حتّى لو كان محتملاً ؟ على التقدير الأوّل، إذا كان يُدرك اختصاص ما يدخل دائرة حق الطاعة هي التكاليف المعلومة للمكلّف، هذا هل يشمل العلم الإجمالي، أو يختص بالعلم التفصيلي، يعني فقط التكاليف الواصلة بالعلم التفصيلي تدخل في دائرة حق الطاعة بنظر العقل، أو أنّ هذا يشمل حتّى التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي ؟ على التقدير الثاني، إذا كان يشمل التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي، كما هو الظاهر، وهو الصحيح؛ حينئذٍ لابدّ أن نطرح سؤالاً آخر، وهو أنّ هذا التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يبقى في دائرة حق الطاعة حتّى إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، أو يخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه ؟ النتيجة تكون مترتبة على الجواب على هذه الأسئلة، إذا قلنا بالأخير، بلا إشكال ما يدركه العقل من حق الطاعة لا تختص دائرته بالتكاليف الواصلة بالعلم التفصيلي، وإنّما يشمل التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي، لكن هل التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يبقى في دائرة حق الطاعة في نظر العقل حتّى إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه ؟ إذا قلنا أنّه يبقى، فهذا يعني عدم الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالي يبقى داخلاً في دائرة حق الطاعة، ويبقى منجزّاً بالرغم من تحقق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، وأمّا إذا قلنا أنّ التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، وهذا معناه الانحلال، فلابدّ من الرجوع إلى ما يدركه العقل العملي من حقّ الطاعة، ودائرة حقّ الطاعة، وحدود حقّ المولوية للمولى(سبحانه وتعالى)، ليس لنا علاقة ببعض الأسباب التكوينية والظواهر الطبيعية حتّى نقول أنّ هذا يجبرنا على رفع اليد عن تأثير العلم الإجمالي، ويبقى العلم التفصيلي هو المؤثر في هذا الطرف، وهذا يساوق الانحلال الحكمي، أو نجمع المجموع ونقول أنّهما علّة واحدة، فيكون كل منهما مؤثراً حتّى نثبت الانحلال، الأمر لا علاقة له بالأسباب والظواهر الطبيعية، لابدّ أن نرجع إلى العقل لنرى ماذا يحكم. بناءً على هذا الكلام؛ حينئذٍ نقول في المقام: إن آمنّا بفكرة منجّزية الاحتمال عقلاً، يعني آمنّا بمسلك(حق الطاعة)، وأنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فحينئذٍ تُحلّ المسألة وتكون واضحة، والذي لابدّ أن يُلتزم به على ضوء ذلك هو عدم الانحلال؛ لأنّ الاحتمال منجّز، احتمال التكليف يكفي في دخول التكليف في دائرة حق الطاعة وفي تنجيزه؛ فحينئذٍ لا إشكال في عدم الانحلال؛ لأنّ التكليف في الطرف الآخر ينجّز، وهو مساوق لعدم الانحلال، الكلام ليس في ما إذا آمنّا بمنجّزية الاحتمال، وإنّما إذا آمنّا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كقاعدةٍ عقليةٍ؛ حينئذٍ في محل الكلام ما هو الصحيح ؟ هل نؤمن بالانحلال الحكمي ؟ يعني سقوط العلم الإجمالي عن قابلية التنجيز في هذه الحالة ؟ أو نؤمن بعدم الانحلال الحكمي ؟ يعني يبقى العلم الإجمالي قابلاً للتنجيز ؟ هذا في الحقيقة يرتبط بما تقدّم بحثه في العلم الإجمالي من أنّ العلم الإجمالي هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علم بالواقع ؟ إذا كان العلم الإجمالي علماً بالواقع، هذا معناه أنّه ينجّز الواقع على واقعه الذي هو مجهول ومردد لديّ، لكنّه ينجّز الواقع عليّ؛ ولذا يجب عليّ موافقته قطعاً، يعني تجب عليّ الموافقة القطعية بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّى لو لم تتعارض الأصول، العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه، ويُدخل الواقع في عهدة المكلّف، فتجب عليه موافقته القطعية، أمّا إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي ليس علماً بالواقع، وإنّما هو علم بالجامع، إذن، هو بما هو علم إجمالي لا ينجّز عليّ وجوب الموافقة القطعية، وإنّما غاية ما ينجّز عليّ وجوب الموافقة الاحتمالية، أو قل ينجّز عليّ حرمة المخالفة القطعية، ولا ينجّز عليّ وجوب الموافقة القطعية كعلمٍ إجمالي.
نعم، تجب الموافقة القطعية باعتبار تعارض الأصول، وتساقطها، فيبقى هذا الطرف بلا مؤمّن؛ فحينئذٍ يجب.
الأمر في مسألة الانحلال وعدمه يرتبط باختيار أحد هذين المسلكين الّذين تقدّمت الإشارة إليهما سابقاً، إن بنينا على أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع؛ حينئذٍ يكون الانحلال الحكمي متوجّهاً؛ لأنّ ما ينجّزه العلم الإجمالي هو الجامع، وهذا معناه أنّ ما زاد على الواحد من الطرفين يكون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان المؤمّنة؛ لأنّ العلم الإجمالي لا ينجّز أكثر من الجامع، والجامع يكفي فيه الإتيان بأحد الطرفين، ولا ينجّز عليّ أكثر من الجامع الذي ينطبق على هذا الطرف، وينطبق على هذا الطرف. إذن: ما زاد على الواحد منهما هو ذاك الذي تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ ولذا لو فرضنا أنّ المكلّف ارتكب كلاً من الطرفين، وصادف أنّ كلاً منهما كان حراماً واقعاً؛ فحينئذٍ لا يستحق المكلّف إلاّ عقاباً واحداً، وهو العقاب على مخالفة الحرام الواقعي الذي ينطبق عليه الجامع؛ لأنّ العلم الإجمالي لم ينجّز عليه إلاّ الجامع، فلو ارتكبهما معاً وصادف أنّ كلاً منهما كان حراماً واقعاً، لن يستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما تنجّز عليه هو الواحد، وما زاد عليه فهو مشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا معنى أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فإذا في هذه الحالة افترضنا أنّ العلم التفصيلي جاء ونجّز أحد الطرفين بعينه، ما عدا هذا يبقى مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ ما زاد على الواحد مشمول للتأمين الثابت بهذه القاعدة، والمفروض أننا نؤمن بهذه القاعدة، ولا موجب لتنجيزه، فيثبت الانحلال الحكمي.
الكلام في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي حكماً: من الموارد التي لا ينحل بها حقيقة، وبلحاظ القواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول الشرعية المؤمّنة. قلنا أنّه ذُكر أنّ القواعد العقلية في المقام تقتضي الانحلال الحكمي، بمعنى سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، وإن كان موجوداً حقيقة؛ لأنّ المفروض عدم الانحلال الحقيقي، لكنّه يسقط عن التأثير والمنجّزية؛ وذلك بالدليل الذي تقدّم في الدرس السابق، وكان حاصله: أنّ العلم الإجمالي يستحيل أن يُنجّز الجامع في محل الكلام، يعني في موارد وجود العلم التفصيلي؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على كلٍ من الطرفين، وقابلية هذا الجامع بهذا الشكل للتنجيز فرع قابلية كلا الطرفين لقبول التنجيز، عندما يكون كلا الطرفين قابلاً للتنجيز؛ عندئذٍ يكون الجامع قابلاً للتنجيز، فيمكن للعلم الإجمالي أن ينجّز الجامع. أمّا إذا كان أحد الطرفين غير قابلٍ للتنجيز، باعتبار أنّه تنجّز بمنجّزٍ آخر وهو العلم التفصيلي؛ حينئذٍ لا يكون كلا الطرفين قابلاً للتنجيز، وبالتالي لا يكون الجامع قابلاً للتنجيز، فمثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً للجامع، وإذا لم يكن منجّزاً للجامع، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالي فقد أثره، ولم يكن منجّزاً في محل الكلام، وإن كان هو باقٍ حقيقةً، لكنّه لا يكون منجّزاً للطرفين في هذا الفرض.
هذا الدليل يتوقّف على تسليم مقدّمتين:
المقدّمة الأولى : أنّ العلم الإجمالي لو نجّز الجامع، لسرى هذا التنجيز إلى كلٍ من الطرفين على نحو البدل، في المثال السابق الجامع المعلوم بالإجمال هو نجاسة أحد الإناءين، وانطباق هذا الجامع على الطرفين يكون بنحو البدلية، فإذا تنجّز الجامع؛ حينئذٍ سرى التنجيز إلى الطرفين بنحو البدلية، بمعنى أنّه يتنجّز هذا الطرف، لو كان هو النجس واقعاً، وذاك الطرف لو كان هو النجس واقعاً، وهذا هو معنى أنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالي إذا نجّز الجامع، قهراّ، هذا التنجيز يسري من الجامع إلى كلا الطرفين، لكن على نحو البدلية.
المقدمّة الثانية: أنّ الطرف لا يقبل التنجّز إذا كان منجّزاً بمنجّزٍ آخر؛ لاستحالة اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، نظير اجتماع علّتين على معلول واحد.
إذا تمّت هاتان المقدّمتان، بمعنى أنّ التنجيز لو ثبت للجامع لسرى إلى كلا الطرفين، هذا من لوازم تنجيز الجامع، وأنّ التنجيز يسري إلى كلا الطرفين، لكن على نحو البدلية، وثبت أنّ ما يتنجّز بمنجّزٍ لا يقبل التنجيز مرّةً ثانية، إذا تمّت هاتان المقدّمتان؛ حينئذٍ يثبت أنّ العلم الإجمالي يكون ساقطاً عن المنجّزية، ويكون غير مؤثرٍ في تنجيز الجامع؛ لأنّه لو نجّز الجامع لسرى التنجيز إلى كلا الطرفين على نحو البدلية، ولكان منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، وحيث أنّ أحد الطرفين قد تنجّز بالعلم التفصيلي، والمقدّمة الثانية تقول أنّ المنجّز بعلمٍ تفصيلي لا يقبل التنجيز مرّةً ثانية، وأحد الطرفين قد تنجّز بعلمٍ تفصيلي، فأحد الطرفين لا يقبل التنجيز بالعلم الإجمالي، وهذا يكشف عن أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً للجامع، وبعد هذا يفقد أثره، وهو معنى الانحلال.
ولكن، كلتا هاتين المقدّمتين محل كلام، لا المقدّمة الأولى مسلّمة، ولا المقدّمة الثانية مسلّمة. أمّا المقدّمة الأولى؛ فلأن الجامع في محل الكلام عندما يتعلّق به العلم الإجمالي مفاده مفاد النكرة، يُلحظ بنحو صرف الوجود، ولا يُلحظ بنحو مطلق الوجود والسريان كل عارض يعرض على الجامع، إنّما يتحتم سريانه إلى أفراده عندما يلحظ الجامع بنحو مطلق الوجود، من قبيل(أكرم كل عالم)، أو (أكرم العالم) إذا لوحظ العالم بنحو مطلق الوجود، هذا الوجوب الذي يعرض على الجامع هو في الحقيقة يسري إلى أفراد ذلك الجامع. وأمّا إذا كان الجامع ملحوظاً بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود، هذا أول الكلام بأنّ العارض يسري من الجامع إلى الأطراف على نحو البدلية، هذا محل كلامٍ، وليس واضحاً، إذا قال:(أعتق رقبة)، ثبت وجوب عتق رقبة بنحو صرف الوجود، دعوى أنّ هذا الوجوب يسري من الجامع إلى جميع أفراد الرقبة على نحو البدلية، هو أوّل الكلام ومحل كلامٍ، وليس واضحاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، الجامع عندما يتعلّق به العلم يُلحظ بنحو صرف الوجود لا بنحو مطلق الوجود، فلا وضوح في أنّ التنجيز الثابت لهذا الجامع والعارض لهذا الجامع، من لوازمه أن يسري إلى أفراد ذلك الجامع على نحو البدلية، بحيث إذا لم يسرِ إلى فردٍ من أفراده، واستحال أن يثبت التنجيز لفردٍ من أفراده وطرفاً من أطرافه، نستكشف أنّ الجامع لم يثبت له التنجيز كما هو المُدّعى في المقام؛ لأنّ هذا فرع الملازمة بين ثبوت التنجيز للجامع وبين سريان الوجوب إلى أفراد وأطراف ذلك الجامع على نحو البدلية، فإذا لم يثبت التنجيز لطرفٍ من الأطراف، نستكشف أنّ التنجيز ليس ثابتاً للجامع، هذا غير تام في محل الكلام؛ لأنّ الجامع في محل الكلام يؤخذ بنحو صرف الوجود والسريان ليس تامّاً في هذه الحالة، وإنّما يكون تامّاً عندما يؤخذ الجامع بنحو مطلق الوجود كما في(أكرم العالم) وأمثاله، عندما يؤخذ بنحو مطلق الوجود، ما يعرض على الجامع يعرض على أفراده، أمّا بنحو صرف الوجود، فهذا ليس تامّاً. هذا بالنسبة إلى المقدّمة الأولى.
أمّا بالنسبة إلى المقدّمة الثانية التي تقول بأنّ القول بأنّ الطرف إذا تلقّى التنجيز من منجّزٍ يستحيل أنّ يتنجّز بمنجّزٍ آخر، فقد نوقش فيها من جهتين:
الجهة الأولى: لماذا لا نتعامل مع محل الكلام كما نتعامل في سائر الأمور التكوينية والظواهر الطبيعية، حيث أنّهم يلتزمون في الأمور التكوينية بأنّه عندما تجتمع علّتان مستقلّتان على معلولٍ واحد يلتزمون بالتوحّد، بأن تتحوّل كل علّةٍ من هاتين العلّتين المستقلّتين إلى جزء العلّة، ويكوّنان بمجموعها علّة واحدة، وكلّ علّة مستقلّة لو كانت وحدها في حال اجتماعها مع العلّة الأخرى تتحوّل إلى جزء العلّة، فتكون هناك علّة واحدة هي عبارة عن المجموع من هاتين العلّتين المستقلّتين، هكذا يتعاملون مع الظواهر التكوينية والأسباب الطبيعية، فلماذا لا نتعامل في محل الكلام هذه المعاملة ؟ فنقول: لا ضير في أن يتلقّى الطرف المعلوم بالتفصيل التنجّز من كلٍ من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ؟ بأنّ يكون كلاً منهما جزء العلّة المؤثرة في التنجيز؛ لأنّه اجتمع فيه علّتان، العلم الإجمالي ـــــــــــ إذا سلّمنا السريان ــــــــــ والعلم التفصيلي. إذن: لا مشكلة في أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، مؤثراً في التنجيز على كلّ تقدير، سواء كان معلومه متحققاً في هذا الطرف، المعلوم بالتفصيل، أو متحققاً في الطرف الآخر. إذن: يمكن أن يكون الجامع قابلاً للتنجيز؛ لأنّ كلا طرفيه قابل لأن يتنجّز بالعلم الإجمالي، غاية الأمر أنّ هذا التنجّز بالعلم الإجمالي يكون على نحو العلّية المستقلّة بلحاظ الطرف الآخر، وعلى نحو جزء العلّة بلحاظ المعلوم بالتفصيل، لكن يبقى العلم الإجمالي مؤثراً في التنجيز، سواء كان معلومه متحققاً في هذا الطرف، أو كان معلومه متحققاً في الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ الجامع قابل للتنجيز، فيكون العلم الإجمالي منجّزاً للجامع، ولا يفقد هذا التنجيز بمقتضى ما ذُكر. لماذا لا يُتعامَل مع المقام كما تعاملوا مع الأسباب التكوينية ؟ بل التزموا بذلك في بعض الموارد كمادّة الاجتماع إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه، في مادّة الاجتماع يقولون الملاك يتحول إلى جزء العلّة، إذا قال(أكرم عالم)، أو (أكرم هاشمي) وجب إكرام العالم، ووجب إكرام الهاشمي، واجتمعا في مادّة اجتماع العالم الهاشمي، يحصل توحّد، ويثبت فيه ملاكان، كل ملاكٍ لو كان وحده لكان مستقلاً ومؤثراً في الوجوب ومبادئ الوجوب من الحب والإرادة......الخ. لكن عندما يجتمعان يتحوّل كلٌ منهما إلى جزء العلّة، بحيث هذا يكون مؤثراً، وذاك أيضاً يكون مؤثراً.
الجهة الثانية: أنّ الصحيح في المقام هو أنّ المقام ليس كالأسباب التكوينية والظواهر الطبيعية، تنجيز العلم الإجمالي باب مستقل لا يمكن أن نقيسه على الأسباب الطبيعية والظواهر التكوينية بحيث نقول إذا اجتمع سببان على معلولٍ واحد؛ فحينئذٍ يستحيل بقاء كلّ واحدٍ منهما على كونه علّة تامّة؛ لأنّه يلزم من ذلك اجتماع سببين على مسبّب واحد، اجتماع علّتين على معلولٍ واحد؛ فحينئذٍ لابدّ أن نرفع اليد عن تأثير أحدهما، فنقول أنّ أحدهما ليس مؤثراً، وإلاّ يلزم اجتماع علّتين على معلول واحد، فيُدّعى في المقام ــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ بأنّ العلم الإجمالي يصبح فاقداً للتأثير، في موارد العلم التفصيلي يفقد تأثيره ولا يكون مؤثراً في التنجيز، فيثبت الانحلال الحكمي، أو يأتي الجواب السابق وهو أن ندمج أحدهما بالآخر فيكون المجموع هو المؤثر، ويكون كلٌ منهما جزء علّة، فتكون العلّة واحدة هي عبارة عن مجموع الأمرين حتّى يترتّب عليه عدم الانحلال.
هذا كلّه ـــــــــــ سلب التأثير عن العلم الإجمالي، وإبقاء العلم التفصيلي هو المؤثر في التنجيز في هذا الطرف، أو دعوى أنّ المجموع هو المؤثر في تنجيز هذا الطرف، بأن يكون كلٌ منهما جزء العلّة ـــــــــــ هذا كلّه فرع قياس المقام بالأسباب التكوينية والمظاهر التكوينية الطبيعية، لكن الصحيح أنّ المقام ليس من هذا القبيل، باب التنجيز في محل الكلام باب مستقل، بابه باب لابدّ أن يُراجع فيه العقل العملي المدرك لحق المولوية وحق الطاعة، ماذا يدرك العقل بالنسبة إلى حق المولوية ؟ فنطرح هذه الأسئلة: أنّ العقل العملي هل يدرك أنّ ما يدخل في حق المولوية، ويدخل في حق الطاعة هو خصوص التكاليف الواصلة إلى المكلّف بالعلم، او هو يدرك ثبوت حق الطاعة والمولوية للمولى(سبحانه وتعالى) في كلّ تكليفٍ، حتّى لو كان محتملاً ؟ على التقدير الأوّل، إذا كان يُدرك اختصاص ما يدخل دائرة حق الطاعة هي التكاليف المعلومة للمكلّف، هذا هل يشمل العلم الإجمالي، أو يختص بالعلم التفصيلي، يعني فقط التكاليف الواصلة بالعلم التفصيلي تدخل في دائرة حق الطاعة بنظر العقل، أو أنّ هذا يشمل حتّى التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي ؟ على التقدير الثاني، إذا كان يشمل التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي، كما هو الظاهر، وهو الصحيح؛ حينئذٍ لابدّ أن نطرح سؤالاً آخر، وهو أنّ هذا التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يبقى في دائرة حق الطاعة حتّى إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، أو يخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه ؟ النتيجة تكون مترتبة على الجواب على هذه الأسئلة، إذا قلنا بالأخير، بلا إشكال ما يدركه العقل من حق الطاعة لا تختص دائرته بالتكاليف الواصلة بالعلم التفصيلي، وإنّما يشمل التكاليف الواصلة بالعلم الإجمالي، لكن هل التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يبقى في دائرة حق الطاعة في نظر العقل حتّى إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه ؟ إذا قلنا أنّه يبقى، فهذا يعني عدم الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالي يبقى داخلاً في دائرة حق الطاعة، ويبقى منجزّاً بالرغم من تحقق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، وأمّا إذا قلنا أنّ التكليف الواصل بالعلم الإجمالي يخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه، وهذا معناه الانحلال، فلابدّ من الرجوع إلى ما يدركه العقل العملي من حقّ الطاعة، ودائرة حقّ الطاعة، وحدود حقّ المولوية للمولى(سبحانه وتعالى)، ليس لنا علاقة ببعض الأسباب التكوينية والظواهر الطبيعية حتّى نقول أنّ هذا يجبرنا على رفع اليد عن تأثير العلم الإجمالي، ويبقى العلم التفصيلي هو المؤثر في هذا الطرف، وهذا يساوق الانحلال الحكمي، أو نجمع المجموع ونقول أنّهما علّة واحدة، فيكون كل منهما مؤثراً حتّى نثبت الانحلال، الأمر لا علاقة له بالأسباب والظواهر الطبيعية، لابدّ أن نرجع إلى العقل لنرى ماذا يحكم. بناءً على هذا الكلام؛ حينئذٍ نقول في المقام: إن آمنّا بفكرة منجّزية الاحتمال عقلاً، يعني آمنّا بمسلك(حق الطاعة)، وأنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فحينئذٍ تُحلّ المسألة وتكون واضحة، والذي لابدّ أن يُلتزم به على ضوء ذلك هو عدم الانحلال؛ لأنّ الاحتمال منجّز، احتمال التكليف يكفي في دخول التكليف في دائرة حق الطاعة وفي تنجيزه؛ فحينئذٍ لا إشكال في عدم الانحلال؛ لأنّ التكليف في الطرف الآخر ينجّز، وهو مساوق لعدم الانحلال، الكلام ليس في ما إذا آمنّا بمنجّزية الاحتمال، وإنّما إذا آمنّا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كقاعدةٍ عقليةٍ؛ حينئذٍ في محل الكلام ما هو الصحيح ؟ هل نؤمن بالانحلال الحكمي ؟ يعني سقوط العلم الإجمالي عن قابلية التنجيز في هذه الحالة ؟ أو نؤمن بعدم الانحلال الحكمي ؟ يعني يبقى العلم الإجمالي قابلاً للتنجيز ؟ هذا في الحقيقة يرتبط بما تقدّم بحثه في العلم الإجمالي من أنّ العلم الإجمالي هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علم بالواقع ؟ إذا كان العلم الإجمالي علماً بالواقع، هذا معناه أنّه ينجّز الواقع على واقعه الذي هو مجهول ومردد لديّ، لكنّه ينجّز الواقع عليّ؛ ولذا يجب عليّ موافقته قطعاً، يعني تجب عليّ الموافقة القطعية بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّى لو لم تتعارض الأصول، العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه، ويُدخل الواقع في عهدة المكلّف، فتجب عليه موافقته القطعية، أمّا إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي ليس علماً بالواقع، وإنّما هو علم بالجامع، إذن، هو بما هو علم إجمالي لا ينجّز عليّ وجوب الموافقة القطعية، وإنّما غاية ما ينجّز عليّ وجوب الموافقة الاحتمالية، أو قل ينجّز عليّ حرمة المخالفة القطعية، ولا ينجّز عليّ وجوب الموافقة القطعية كعلمٍ إجمالي.
نعم، تجب الموافقة القطعية باعتبار تعارض الأصول، وتساقطها، فيبقى هذا الطرف بلا مؤمّن؛ فحينئذٍ يجب.
الأمر في مسألة الانحلال وعدمه يرتبط باختيار أحد هذين المسلكين الّذين تقدّمت الإشارة إليهما سابقاً، إن بنينا على أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع؛ حينئذٍ يكون الانحلال الحكمي متوجّهاً؛ لأنّ ما ينجّزه العلم الإجمالي هو الجامع، وهذا معناه أنّ ما زاد على الواحد من الطرفين يكون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان المؤمّنة؛ لأنّ العلم الإجمالي لا ينجّز أكثر من الجامع، والجامع يكفي فيه الإتيان بأحد الطرفين، ولا ينجّز عليّ أكثر من الجامع الذي ينطبق على هذا الطرف، وينطبق على هذا الطرف. إذن: ما زاد على الواحد منهما هو ذاك الذي تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ ولذا لو فرضنا أنّ المكلّف ارتكب كلاً من الطرفين، وصادف أنّ كلاً منهما كان حراماً واقعاً؛ فحينئذٍ لا يستحق المكلّف إلاّ عقاباً واحداً، وهو العقاب على مخالفة الحرام الواقعي الذي ينطبق عليه الجامع؛ لأنّ العلم الإجمالي لم ينجّز عليه إلاّ الجامع، فلو ارتكبهما معاً وصادف أنّ كلاً منهما كان حراماً واقعاً، لن يستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما تنجّز عليه هو الواحد، وما زاد عليه فهو مشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا معنى أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فإذا في هذه الحالة افترضنا أنّ العلم التفصيلي جاء ونجّز أحد الطرفين بعينه، ما عدا هذا يبقى مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ ما زاد على الواحد مشمول للتأمين الثابت بهذه القاعدة، والمفروض أننا نؤمن بهذه القاعدة، ولا موجب لتنجيزه، فيثبت الانحلال الحكمي.