35/05/29
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
انتهى الكلام إلى ما ذُكر من منع وجود إطلاقٍ في أدلّة الأصول بنحوٍ تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي، وذلك بنكتة أنّ الإطلاق يتوقّف على تماميّة مقدّمات الحكمة ومنها عدم وجود قرينة على التقييد، وفي المقام توجد قرينة على التقييد تمنع من الإطلاق وهي عبارة عن ارتكاز المنافاة بين الترخيص الظاهري في هذا الطرف وبين التكليف المعلوم بالإجمال، هناك منافاة تمنع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف وتمنع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف وهي عبارة عن ارتكازية المنافاة بين الترخيص الظاهري في الأطراف وبين التكليف المعلوم بالإجمال، وحيث أنّ هذا الارتكاز يشكّل قرينة لبيّة متّصلة بالكلام، فتكون مانعة من انعقاد الإطلاق، فلا يكون دليل الأصل شاملاً لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه إنّما يكون شاملاً إذا تمسّكنا بإطلاقه، فإذا ناقشنا في الإطلاق لا يكون شاملاً.
هذا الكلام في الحقيقة إذا كان المقصود بالارتكاز المدّعى في المقام الارتكاز العقلائي المستند إلى حكم العقل باستحالة جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وأنّ جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي يستلزم المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا ممّا يرفضه العقل؛ لأنّ العقل يرى منجّزية العلم الإجمالي، وباعتبار أنّ العقل يرى منجّزية العلم الإجمالي حصل هذا الارتكاز العقلائي، فهو ارتكاز ناشئ من حكم العقل بالمنجّزية. إذا فرضنا ذلك، أنّ هذا الارتكاز ليس بمعزل عمّا يأتي بحثه من منجّزية العلم الإجمالي، وإنّما هو ارتكاز منشأه حكم العقل بالمنجّزية للعلم الإجمالي، إذا فرضنا ذلك؛ حينئذٍ يأتي ما أوردناه على الوجه السابق الذي كان يدّعي بأنّ الحكم بالحلّية والترخيص حكم حيثي، فلا يمنع من افتراض التحريم من جهة كون الطرف طرفاً لعلم إجماليٍ، والإيراد الذي أوردناه عليه هو أنّ هذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّ هذا استعانة بحكم العقل بالمنجّزية والتحريم بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي، فكأننا نريد أن نمنع من شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي باعتبار المنجّزية، بينما محل كلامنا هو البحث عن شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجزية، وقد كررنا مراراً أنّ الكلام في دليل الأصل هل يختص بالشبهات البدوية، أو يشمل محل الكلام؛ حينئذٍ يرد على هذا التقريب إذا كان الارتكاز مبني على افتراض المنجّزية وحكم العقل بالمنجّزية يرد عليه نفس ما أوردناه سابقاً، أنّ هذا إثبات لعدم شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي استناداً إلى حكم العقلي بالمنجّزية، وقلنا أنّ هذا ليس محل الكلام. وامّا إذا ادُّعي بأنّ الارتكاز المُدّعى في المقام ليس مبنيّاً على ذلك، وإنّما هو ارتكاز عقلائي ثابت بقطع النظر عن حكم العقل بالمنجّزية، هناك ارتكاز عقلائي لا يساعد على جعل ترخيص في أطراف العلم الإجمالي، العقلاء يرون المنافاة بين الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وبين التكليف المعلوم بالإجمال بقطع النظر عن حكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي، بقطع النظر عن ذلك هم يرون ذلك، فيُدّعى وجود ارتكاز عقلائي بقطع النظر عن حكم العقل. إذا كان هذا هو المُدّعى، فهذا غير واضح، وجود ارتكاز يمنع من جعل ترخيصٍ في هذا الطرف بخصوصه وفي هذا الطرف بخصوصه، وجود مثل هذا الارتكاز هو أمر غير واضح؛ إذ ماذا يلزم من جعل الترخيص في هذا الطرف ؟ تلزم المخالفة الاحتمالية، لا يوجد ارتكاز يمنع من اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية المستلزمة للمخالفة الاحتمالية، لا يوجد مانع من قِبل العقلاء في ذلك بحيث يكون هذا المانع مانعاً من إجراء الأصل في هذا الطرف ومقيّداً لإطلاق دليل الأصل عن الشمول لهذا الطرف بخصوصه، أو لهذا الطرف بخصوصه، ليس هناك ارتكاز عند العقلاء يمنع من ذلك، القائلون بالاقتضاء ــــــــــــ كما سيأتي ــــــــــــ في مرحلة وجوب الموافقة القطعية لا يرون مانعاً من جعل الترخيص في بعض الأطراف، بالإمكان أن يُجعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي، لا يرون بأنّ هذا مخالف للارتكاز العقلائي، وأنّه ممنوع، وأنّ إطلاق الدليل لابدّ من تقييده بنحو لا يكون شاملاً لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، ليس واضحاً وجود ارتكازٍ يمنع من الترخيص في هذا الطرف حتّى نقول أنّ هذا الارتكاز يكون قرينة لبّية متصلّة بإطلاق الدليل، وبالتالي يكون مانعاً من شمول إطلاق الدليل لأطراف العلم الإجمالي بالنحو الذي ذكرناه.
الذي نقوله في هذا الباب هو: أنّ الارتكاز إن كان مستنداً إلى حكم العقل بالمنجّزية، فهذا خروج عن محل الكلام؛ لأننا نتكلّم عن شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية. وأمّا إذا لم يكن مستنداً إلى المنجّزية العقلية، فليس واضحاً وجود مثل هذا الارتكاز بنحوٍ يكون مانعاً من انعقاد الإطلاق.
بعد ذلك نذكر أنّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) في هذا المقام، يعني في بحث شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي يظهر من كلامٍ منقول عنه، مذكور في تقريرات بحثه[1] أنّه يقول بالتفصيل بين الأصول العملية التنزيلية كالاستصحاب كما يراه، فمنع من جريان هذه الأصول في أطراف العلم الإجمالي، وقال الأصل العملي التنزيلي لا يجري في أطراف العلم الإجمالي، وبين الأصول العملية غير التنزيلية كأصالة البراءة، هنا قال لا مانع من جريانها في أطراف العلم الإجمالي. يظهر من كلامه هذا التفصيل؛ لأنّه(قدّس سرّه) ذكر في البداية أنّ كلمات الشيخ مختلفة، وإن كان المعروف أنّ الشيخ يرى وجود مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وهو مسألة التهافت بين صدر الروايات وذيلها، لكنّه يقول: يظهر منه في كلماتٍ أخرى أنّ المانع الذي يمنع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو مانع ثبوتي، يعني مانع مستند إلى منجّزية العلم الإجمالي كما سيأتي وليس مانعاً بلحاظ دليل الأصل. ثمّ ذكر بأنّه على كل حال، سواء كان الشيخ يختار المانع بلحاظ نفس الدليل في مقام الإثبات، أو كان المانع مانعاً ثبوتياً يرجع إلى وجود محذور يمنع من شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي كالترخيص في المخالفة القطعية القبيح بنظر العقل، وأمثاله.
قال (قدّس سرّه): وعلى كل حال إن رجع كلامه إلى مقام الثبوت والجعل، وأنّ المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة القطعية، فهو حق. هذا صحيح، المانع هو مانع ثبوتي كما سيأتي، وليس مانعاً إثباتياً، فهو حقٌ، لكن في خصوص الأصول الغير التنزيلية. إذن: في محل كلامنا لا مانع بنظر المحقق النائيني (قدّس سرّه) من شمول أدلّة الأصول العملية الغير التنزيلية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية.
أمّا الأصول العملية التنزيلية، فيقول (قدّس سرّه): وأمّا الأصول العملية التنزيلية فالمانع من جريانها ليس هو المخالفة العملية؛ بل هو قصور المجعول فيها بأن يعمّ الأطراف، فهنا يوجد مانع إثباتي في الأصول التنزيلية عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، ومن هنا هو يكون مفصِلاً في بحثنا، الأصول العملية الغير التنزيلية تجري في أطراف العلم الإجمالي في محل كلامنا. نعم، نمنع من جريانها للمانع الثبوتي بلحاظ المنجّزية كما سيأتي، أمّا الأصول العملية التنزيلية، فهي لا تشمل محل الكلام لقصور في دليلها، أصلاً دليلها قاصر عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، ومن هنا لابدّ أن يُفصّل في محل البحث. قال:(بل هو قصور المجعول فيها لأن يعمّ الأطراف؛ لأنّه لا يمكن الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الأطراف مع العلم الوجداني بعدم بقائه) [2] في بعضها. يقول هذا هو المحذور.
هذا المحذور الذي يذكره مبني على افتراض أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو التعبّد بإحراز الواقع وليس مجرّد الجري العملي على طبق الحالة السابقة، وإنّما التعبّد بإحراز الواقع واعتبار المكلّف كأنّه محرز للواقع، بناءً على هذا يقول لا يمكن الالتزام بجريان دليل الأصل في أطراف العلم الإجمالي؛ باعتبار أنّ البناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الأطراف لا يمكن أن يجتمع مع العلم الوجداني بدم بقائه في بعضها، كيف يأمرني الشارع بالتعبّد بإحراز الواقع وببقاء الحالة السابقة في كلٍ من الطرفين، أو بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الطرفين مع علمي الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحد الطرفين، يقول: هذان لا يمكن الجمع بينهما. إذن: مع العلم الوجداني والعلم الوجداني بانتفاء الواقع في أحد الطرفين؛ حينئذٍ لا يمكن التعبّد ببقاء الواقع في كلا الطرفين ولا يمكن التعبّد بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلا الطرفين، كنت عالماً بطهارة كلا الأناءين، ثمّ علمت بنجاسة أحدهما، يقول: لا يمكن التعبّد ببقاء الطهارة في هذا الأناء والتعبّد ببقاء الطهارة في هذا الأناء، الطهارة في أحد الأناءين، فلا يمكن الجمع بينهما، فيكون المانع عنده مانعاً إثباتياً. مقصوده هو إذا كان دليل الأصل العملي يرجع إلى إلغاء حالة الشك، والتعبّد بأنّ المكلّف يحرز الواقع، فهذا ينافي العلم الوجداني ــــــــــــــــ كما سمّاه هو ــــــــــــ أو العلم الإجمالي الذي هو محل كلامنا، ينافي العلم الإجمالي بانتفاء الواقع في أحد الطرفين، هذان أمران متنافيان لا يجتمعان بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية، هذا لا علاقة له بلزوم المخالفة القطعية حتّى إذا لم يلزم المخالفة القطعية، في بعض الأحيان لا يلزم من إجراء الأصول في الطرفين مخالفة قطعية، يقول مع ذلك نحن نمنع من جريان الأصل التنزيلي في كلٍ من الطرفين لا من جهة لزوم المخالفة القطعية، ولا من جهة منجّزية العلم الإجمالي؛ بل حتّى لو لم يلزم ذلك نحن لا نجوّز جريان الأصل في كلا الطرفين، كما لو فرضنا أنّ المكلّف علم بطهارة أحد الأناءين النجسين سابقاً، عكس المثال المعروف، لا يلزم من جريان استصحاب النجاسة في هذا الطرف، وجريان استصحاب النجاسة في هذا الطرف، لا يلزم من ذلك الوقوع في محذور المخالفة القطعية، لا توجد مخالفة من البناء على نجاسة الطرفين للعلم الإجمالي بأنّ أحدهما طاهر، المخالفة موجودة بالعكس، عندما أعلم بنجاسة أحدهما، إجراء استصحاب الطهارة في كلٍ من الطرفين يلزم منه المخالفة العملية للمعلوم بالإجمال الذي هو نجاسة أحد الأناءين، أمّا إذا كان المعلوم بالإجمال هو طهارة أحد الأناءين، البناء على نجاسة كل منهما لا يكون فيه مخالفة عملية لهذا التكليف المعلوم بالإجمال؛ بل يكون فيه مخالفة عملية قطعية للمعلوم بالإجمال، يقول: مع أنّه لا يلزم منه المخالفة القطعية القبيحة الغير جائزة، مع ذلك نمنع من جريان الاستصحاب في كلٍ من الطرفين؛ لأنّ المحذور محذور إثباتي؛ المحذور لأنّه لا يمكن الجمع بين أمر المكلّف بأن يبني على بقاء الحالة السابقة في هذا الطرف وفي هذا الطرف، أن يبني على بقاء الواقع ـــــــــــ الواقع يعني الحالة السابقة ـــــــــــ في هذا الطرف، والواقع في هذا الطرف، وفي نفس الوقت هو يعلم وجداناً بانتفاء الواقع في أحد الطرفين، هذان أمران لا يمكن الجمع بينهما، بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية. هذا هو المحذور الذي ذكره، فإذن، هو محذور مبني على ما سيأتي التعرّض له، هذا في الأصول العملية التنزيلية، بخلاف الأصول العملية غير التنزيلية؛ لأنّه هذه لا يوجد فيها هذا الإحراز ولا يوجد فيها هذا التعبّد، لا يوجد فيها اعتبار المكلّف محرزاً للواقع، وإنّما هو مجرّد أصل وظيفة عملية تُعطى للشاك حتّى لا يبقى متحيراً ومتردداً في مقام العمل وليس أكثر من هذا، يقول: في هذه الحالة لا مانع من جريان هذا الأصل العملي غير التنزيلي في أطراف العلم الإجمالي بلا محذور إثباتي.
هذا الكلام مبني على ما سيأتي التعرّض له في مباحث الاستصحاب من أنّ الاستصحاب هل هو أصل عملي تنزيلي، أو هو أصل عملي بحت، هو باني على أنّه أصل عملي تنزيلي وأنّ مفاد دليله هو التعبّد بإحراز الحالة السابقة واعتبار المكلّف محرزاً للواقع، وهذا في مقابل من يرى أنّه ليس هكذا، ليس فيه إحراز للواقع وليس فيه بناء على أنّه محرزاً للواقع، وإنّما وظيفة عملية حالها حال أصالة البراءة، وهذا سيأتي التعرّض له في مباحث الاستصحاب، وسيأتي أنّ استفادة هذا المعنى الذي يقوله(قدّس سرّه) من أدلّة الاستصحاب لا تخلو من صعوبة، يعني مسألة إحراز أنّ المكلّف محرز للواقع، البناء على أنّه محرز للواقع كما يقال في الإمارات، استفادته من دليل الاستصحاب ليست واضحة.
ممّا تقدّم كلّه يتبيّن أنّ القول بشمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية هو الأقرب، هذا هو المشهور والمعروف بينهم؛ ولذا ركّزوا في منع جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي على الموانع الثبوتية الآتية، منعوا من جريانها باعتبار العلم الإجمالي ومنجّزية العلم الإجمالي، لم يمنعوا من جريانها بلحاظ نفس دليل الاستصحاب، أو دليل أصالة البراءة بادّعاء أنّ هذا الدليل ليس فيه إطلاق يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ بل اعترفوا بأنّه لو بقينا نحن والدليل، الدليل كما يشمل الشبهات البدوية هو يشمل الشبهات البدوية المقرونة بالعلم الإجمالي.
المقام الثالث: في منجّزية العلم الإجمالي.
هل العلم الإجمالي ينجّز التكليف المعلوم بالإجمال ؟ هل العلم الإجمالي يكون مانعاً من جريان الأصول ـــــــــــ هذا ما كنّا نقول سيأتي بحثه ـــــــــــ في أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو لا يكون مانعاً من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً ؟ الكلام في المقام الثالث عن منجّزية العلم الإجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال، وعن مانعية العلم الإجمالي من إجراء الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي كُلاً، أو بعضاً.
الكلام في هذا المقام كما هو واضح تارةً يقع في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، ومانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول الترخيصية في جميع أطراف العلم الإجمالي. هذا بحث. البحث الثاني في منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافق القطعية وفي مانعية منجّزية العلم الإجمالي من جريان الأصول في بعض الأطراف. هذا هو البحث الثاني.
إذن: في هذا المقام الثالث يقع الكلام في بحثين:
البحث الأوّل: في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وفي مانعية العلم الإجمالي لجريان الأصول في تمام الأطراف. بالنسبة إلى أصل منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، الظاهر أنّ القضية مسلّمة بينهم لم يقع الشك فيها، أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا الاتفاق ناشئ من وضوح أنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع بلا إشكال وعلى كل التقادير السابقة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي مهما فسّرنا العلم الإجمالي الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي، وإذا تنجّز الجامع بالعلم الإجمالي؛ حينئذٍ لا يجوز ارتكاب كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، أو ترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية الذي هو معنى المخالفة القطعية، معنى تنجيز الجامع المتّفق عليه والذي لا ينبغي الإشكال فيه أنّ الجامع دخل في عهدة المكلّف؛ حينئذٍ لا يجوز له أن يرتكب كلا الطرفين في الشبهة التحريمية؛ لأنّ هذا يخالف منجّزية الجامع؛ لأنّ هذه مخالفة قطعية للجامع الذي دخل في العهدة، ولا يجوز له أن يترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ المفروض أنّ أحدى الصلاتين وجبت عليه قطعاً ودخلت في عهدته، فلا يجوز له أن يترك كلا الطرفين؛ لأنّها مخالفة قطعية للتكليف الذي دخل في العهدة وتنجّز على المكلّف، كون العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعية يقتضي منجّزية المخالفة القطعية، هذا لا ينبغي الإشكال فيه وهو أمر مسلّم، وإنّما الكلام يقع في أنّ العلم الإجمالي بعد الفراغ عن أنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية، يعني يقتضي حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، يقع الكلام في أنّه هل يمنع هذا العلم الإجمالي من إجراء الترخيص في كلٍ من الطرفين، أو لا يراه مانعاً ؟ العقل هل يقول أنّ العلم الإجمالي مانع من إجراء الأصول في تمام الأطراف، هذا الكلام يُطرح بعد الفراغ عن أنّ العقل يرى أنّ العلم الإجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعية، لكن تنجيز العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية لا يمنع من طرح هذا البحث في أنّ تنجيز العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول العملية في تمام الأطراف، أو لا يمنع من جريانها في تمام الأطراف، باعتبار أنّ البحث عن المانعية يرتبط بأنّ حكم العقل بالمنجّزية كيف يكون ؟ هل يكون على نحو التعليق، أو على نحو التنجيز ؟ هل يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال حكماً منجّزاً غير معلّق على شيء، أو انّ يحكم بذلك، لكن حكماً تعليقياً معلّقاً على عدم ورود ترخيص من قبل الشارع ؟ هل الحكم العقلي بالتنجيز حكم تنجيزي، أو حكم تعليقي ؟ إذا قلنا أنّ الحكم بالتنجيز هو حكم تنجيزي؛ حينئذٍ الجواب يكون أنّ العلم الإجمالي بنظر العقل يكون مانعاً من إجراء الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي وإثبات الترخيص في جميع الأطراف ينافي حكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية على نحو التنجيز، كيف يمكن افتراض جريان الأصول في جميع الأطراف مع حكم العقل بالمنجّزية التنجيزية، بأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ويكون هذا الحكم حكماً تنجيزياً، هذان لا يجتمعان، فمن هنا يكون الترخيص في جميع الأطراف ممنوعاً، وهذا هو معنى أنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في جميع الأطراف؛ لأنّ جريان الأصول في جميع الأطراف ينافي الحكم العقلي التنجيزي؛ فلذا يمنع من شمول دليل الأصول العملية بعد أن كان في حدّ نفسه شامل لأطراف العلم الإجمالي، نقول كلا، يمنع من شموله لتمام الأطراف في بحثنا لوجود هذا المحذور وهو أنّه يصطدم مع الحكم العقلي التنجيزي بحرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا أنّه حكم تعليقي وهو معلّق على عدم الترخيص الشرعي، فإذا جاء الترخيص الشرعي؛ فحينئذٍ يكون رافعاً لموضوع حكم العقل من دون أن يلزم من ذلك أي محذور، فالقضية مبنية على أنّ الحكم العقلي في المقام بالتنجيز هل هو حكم تنجيزي، أو حكم تعليقي.
انتهى الكلام إلى ما ذُكر من منع وجود إطلاقٍ في أدلّة الأصول بنحوٍ تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي، وذلك بنكتة أنّ الإطلاق يتوقّف على تماميّة مقدّمات الحكمة ومنها عدم وجود قرينة على التقييد، وفي المقام توجد قرينة على التقييد تمنع من الإطلاق وهي عبارة عن ارتكاز المنافاة بين الترخيص الظاهري في هذا الطرف وبين التكليف المعلوم بالإجمال، هناك منافاة تمنع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف وتمنع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف وهي عبارة عن ارتكازية المنافاة بين الترخيص الظاهري في الأطراف وبين التكليف المعلوم بالإجمال، وحيث أنّ هذا الارتكاز يشكّل قرينة لبيّة متّصلة بالكلام، فتكون مانعة من انعقاد الإطلاق، فلا يكون دليل الأصل شاملاً لأطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه إنّما يكون شاملاً إذا تمسّكنا بإطلاقه، فإذا ناقشنا في الإطلاق لا يكون شاملاً.
هذا الكلام في الحقيقة إذا كان المقصود بالارتكاز المدّعى في المقام الارتكاز العقلائي المستند إلى حكم العقل باستحالة جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وأنّ جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي يستلزم المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا ممّا يرفضه العقل؛ لأنّ العقل يرى منجّزية العلم الإجمالي، وباعتبار أنّ العقل يرى منجّزية العلم الإجمالي حصل هذا الارتكاز العقلائي، فهو ارتكاز ناشئ من حكم العقل بالمنجّزية. إذا فرضنا ذلك، أنّ هذا الارتكاز ليس بمعزل عمّا يأتي بحثه من منجّزية العلم الإجمالي، وإنّما هو ارتكاز منشأه حكم العقل بالمنجّزية للعلم الإجمالي، إذا فرضنا ذلك؛ حينئذٍ يأتي ما أوردناه على الوجه السابق الذي كان يدّعي بأنّ الحكم بالحلّية والترخيص حكم حيثي، فلا يمنع من افتراض التحريم من جهة كون الطرف طرفاً لعلم إجماليٍ، والإيراد الذي أوردناه عليه هو أنّ هذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّ هذا استعانة بحكم العقل بالمنجّزية والتحريم بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي، فكأننا نريد أن نمنع من شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي باعتبار المنجّزية، بينما محل كلامنا هو البحث عن شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجزية، وقد كررنا مراراً أنّ الكلام في دليل الأصل هل يختص بالشبهات البدوية، أو يشمل محل الكلام؛ حينئذٍ يرد على هذا التقريب إذا كان الارتكاز مبني على افتراض المنجّزية وحكم العقل بالمنجّزية يرد عليه نفس ما أوردناه سابقاً، أنّ هذا إثبات لعدم شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي استناداً إلى حكم العقلي بالمنجّزية، وقلنا أنّ هذا ليس محل الكلام. وامّا إذا ادُّعي بأنّ الارتكاز المُدّعى في المقام ليس مبنيّاً على ذلك، وإنّما هو ارتكاز عقلائي ثابت بقطع النظر عن حكم العقل بالمنجّزية، هناك ارتكاز عقلائي لا يساعد على جعل ترخيص في أطراف العلم الإجمالي، العقلاء يرون المنافاة بين الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وبين التكليف المعلوم بالإجمال بقطع النظر عن حكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي، بقطع النظر عن ذلك هم يرون ذلك، فيُدّعى وجود ارتكاز عقلائي بقطع النظر عن حكم العقل. إذا كان هذا هو المُدّعى، فهذا غير واضح، وجود ارتكاز يمنع من جعل ترخيصٍ في هذا الطرف بخصوصه وفي هذا الطرف بخصوصه، وجود مثل هذا الارتكاز هو أمر غير واضح؛ إذ ماذا يلزم من جعل الترخيص في هذا الطرف ؟ تلزم المخالفة الاحتمالية، لا يوجد ارتكاز يمنع من اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية المستلزمة للمخالفة الاحتمالية، لا يوجد مانع من قِبل العقلاء في ذلك بحيث يكون هذا المانع مانعاً من إجراء الأصل في هذا الطرف ومقيّداً لإطلاق دليل الأصل عن الشمول لهذا الطرف بخصوصه، أو لهذا الطرف بخصوصه، ليس هناك ارتكاز عند العقلاء يمنع من ذلك، القائلون بالاقتضاء ــــــــــــ كما سيأتي ــــــــــــ في مرحلة وجوب الموافقة القطعية لا يرون مانعاً من جعل الترخيص في بعض الأطراف، بالإمكان أن يُجعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي، لا يرون بأنّ هذا مخالف للارتكاز العقلائي، وأنّه ممنوع، وأنّ إطلاق الدليل لابدّ من تقييده بنحو لا يكون شاملاً لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، ليس واضحاً وجود ارتكازٍ يمنع من الترخيص في هذا الطرف حتّى نقول أنّ هذا الارتكاز يكون قرينة لبّية متصلّة بإطلاق الدليل، وبالتالي يكون مانعاً من شمول إطلاق الدليل لأطراف العلم الإجمالي بالنحو الذي ذكرناه.
الذي نقوله في هذا الباب هو: أنّ الارتكاز إن كان مستنداً إلى حكم العقل بالمنجّزية، فهذا خروج عن محل الكلام؛ لأننا نتكلّم عن شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية. وأمّا إذا لم يكن مستنداً إلى المنجّزية العقلية، فليس واضحاً وجود مثل هذا الارتكاز بنحوٍ يكون مانعاً من انعقاد الإطلاق.
بعد ذلك نذكر أنّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) في هذا المقام، يعني في بحث شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي يظهر من كلامٍ منقول عنه، مذكور في تقريرات بحثه[1] أنّه يقول بالتفصيل بين الأصول العملية التنزيلية كالاستصحاب كما يراه، فمنع من جريان هذه الأصول في أطراف العلم الإجمالي، وقال الأصل العملي التنزيلي لا يجري في أطراف العلم الإجمالي، وبين الأصول العملية غير التنزيلية كأصالة البراءة، هنا قال لا مانع من جريانها في أطراف العلم الإجمالي. يظهر من كلامه هذا التفصيل؛ لأنّه(قدّس سرّه) ذكر في البداية أنّ كلمات الشيخ مختلفة، وإن كان المعروف أنّ الشيخ يرى وجود مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وهو مسألة التهافت بين صدر الروايات وذيلها، لكنّه يقول: يظهر منه في كلماتٍ أخرى أنّ المانع الذي يمنع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو مانع ثبوتي، يعني مانع مستند إلى منجّزية العلم الإجمالي كما سيأتي وليس مانعاً بلحاظ دليل الأصل. ثمّ ذكر بأنّه على كل حال، سواء كان الشيخ يختار المانع بلحاظ نفس الدليل في مقام الإثبات، أو كان المانع مانعاً ثبوتياً يرجع إلى وجود محذور يمنع من شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي كالترخيص في المخالفة القطعية القبيح بنظر العقل، وأمثاله.
قال (قدّس سرّه): وعلى كل حال إن رجع كلامه إلى مقام الثبوت والجعل، وأنّ المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة القطعية، فهو حق. هذا صحيح، المانع هو مانع ثبوتي كما سيأتي، وليس مانعاً إثباتياً، فهو حقٌ، لكن في خصوص الأصول الغير التنزيلية. إذن: في محل كلامنا لا مانع بنظر المحقق النائيني (قدّس سرّه) من شمول أدلّة الأصول العملية الغير التنزيلية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية.
أمّا الأصول العملية التنزيلية، فيقول (قدّس سرّه): وأمّا الأصول العملية التنزيلية فالمانع من جريانها ليس هو المخالفة العملية؛ بل هو قصور المجعول فيها بأن يعمّ الأطراف، فهنا يوجد مانع إثباتي في الأصول التنزيلية عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، ومن هنا هو يكون مفصِلاً في بحثنا، الأصول العملية الغير التنزيلية تجري في أطراف العلم الإجمالي في محل كلامنا. نعم، نمنع من جريانها للمانع الثبوتي بلحاظ المنجّزية كما سيأتي، أمّا الأصول العملية التنزيلية، فهي لا تشمل محل الكلام لقصور في دليلها، أصلاً دليلها قاصر عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، ومن هنا لابدّ أن يُفصّل في محل البحث. قال:(بل هو قصور المجعول فيها لأن يعمّ الأطراف؛ لأنّه لا يمكن الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الأطراف مع العلم الوجداني بعدم بقائه) [2] في بعضها. يقول هذا هو المحذور.
هذا المحذور الذي يذكره مبني على افتراض أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو التعبّد بإحراز الواقع وليس مجرّد الجري العملي على طبق الحالة السابقة، وإنّما التعبّد بإحراز الواقع واعتبار المكلّف كأنّه محرز للواقع، بناءً على هذا يقول لا يمكن الالتزام بجريان دليل الأصل في أطراف العلم الإجمالي؛ باعتبار أنّ البناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الأطراف لا يمكن أن يجتمع مع العلم الوجداني بدم بقائه في بعضها، كيف يأمرني الشارع بالتعبّد بإحراز الواقع وببقاء الحالة السابقة في كلٍ من الطرفين، أو بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلٍ من الطرفين مع علمي الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحد الطرفين، يقول: هذان لا يمكن الجمع بينهما. إذن: مع العلم الوجداني والعلم الوجداني بانتفاء الواقع في أحد الطرفين؛ حينئذٍ لا يمكن التعبّد ببقاء الواقع في كلا الطرفين ولا يمكن التعبّد بالبناء العملي على بقاء الواقع في كلا الطرفين، كنت عالماً بطهارة كلا الأناءين، ثمّ علمت بنجاسة أحدهما، يقول: لا يمكن التعبّد ببقاء الطهارة في هذا الأناء والتعبّد ببقاء الطهارة في هذا الأناء، الطهارة في أحد الأناءين، فلا يمكن الجمع بينهما، فيكون المانع عنده مانعاً إثباتياً. مقصوده هو إذا كان دليل الأصل العملي يرجع إلى إلغاء حالة الشك، والتعبّد بأنّ المكلّف يحرز الواقع، فهذا ينافي العلم الوجداني ــــــــــــــــ كما سمّاه هو ــــــــــــ أو العلم الإجمالي الذي هو محل كلامنا، ينافي العلم الإجمالي بانتفاء الواقع في أحد الطرفين، هذان أمران متنافيان لا يجتمعان بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية، هذا لا علاقة له بلزوم المخالفة القطعية حتّى إذا لم يلزم المخالفة القطعية، في بعض الأحيان لا يلزم من إجراء الأصول في الطرفين مخالفة قطعية، يقول مع ذلك نحن نمنع من جريان الأصل التنزيلي في كلٍ من الطرفين لا من جهة لزوم المخالفة القطعية، ولا من جهة منجّزية العلم الإجمالي؛ بل حتّى لو لم يلزم ذلك نحن لا نجوّز جريان الأصل في كلا الطرفين، كما لو فرضنا أنّ المكلّف علم بطهارة أحد الأناءين النجسين سابقاً، عكس المثال المعروف، لا يلزم من جريان استصحاب النجاسة في هذا الطرف، وجريان استصحاب النجاسة في هذا الطرف، لا يلزم من ذلك الوقوع في محذور المخالفة القطعية، لا توجد مخالفة من البناء على نجاسة الطرفين للعلم الإجمالي بأنّ أحدهما طاهر، المخالفة موجودة بالعكس، عندما أعلم بنجاسة أحدهما، إجراء استصحاب الطهارة في كلٍ من الطرفين يلزم منه المخالفة العملية للمعلوم بالإجمال الذي هو نجاسة أحد الأناءين، أمّا إذا كان المعلوم بالإجمال هو طهارة أحد الأناءين، البناء على نجاسة كل منهما لا يكون فيه مخالفة عملية لهذا التكليف المعلوم بالإجمال؛ بل يكون فيه مخالفة عملية قطعية للمعلوم بالإجمال، يقول: مع أنّه لا يلزم منه المخالفة القطعية القبيحة الغير جائزة، مع ذلك نمنع من جريان الاستصحاب في كلٍ من الطرفين؛ لأنّ المحذور محذور إثباتي؛ المحذور لأنّه لا يمكن الجمع بين أمر المكلّف بأن يبني على بقاء الحالة السابقة في هذا الطرف وفي هذا الطرف، أن يبني على بقاء الواقع ـــــــــــ الواقع يعني الحالة السابقة ـــــــــــ في هذا الطرف، والواقع في هذا الطرف، وفي نفس الوقت هو يعلم وجداناً بانتفاء الواقع في أحد الطرفين، هذان أمران لا يمكن الجمع بينهما، بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية. هذا هو المحذور الذي ذكره، فإذن، هو محذور مبني على ما سيأتي التعرّض له، هذا في الأصول العملية التنزيلية، بخلاف الأصول العملية غير التنزيلية؛ لأنّه هذه لا يوجد فيها هذا الإحراز ولا يوجد فيها هذا التعبّد، لا يوجد فيها اعتبار المكلّف محرزاً للواقع، وإنّما هو مجرّد أصل وظيفة عملية تُعطى للشاك حتّى لا يبقى متحيراً ومتردداً في مقام العمل وليس أكثر من هذا، يقول: في هذه الحالة لا مانع من جريان هذا الأصل العملي غير التنزيلي في أطراف العلم الإجمالي بلا محذور إثباتي.
هذا الكلام مبني على ما سيأتي التعرّض له في مباحث الاستصحاب من أنّ الاستصحاب هل هو أصل عملي تنزيلي، أو هو أصل عملي بحت، هو باني على أنّه أصل عملي تنزيلي وأنّ مفاد دليله هو التعبّد بإحراز الحالة السابقة واعتبار المكلّف محرزاً للواقع، وهذا في مقابل من يرى أنّه ليس هكذا، ليس فيه إحراز للواقع وليس فيه بناء على أنّه محرزاً للواقع، وإنّما وظيفة عملية حالها حال أصالة البراءة، وهذا سيأتي التعرّض له في مباحث الاستصحاب، وسيأتي أنّ استفادة هذا المعنى الذي يقوله(قدّس سرّه) من أدلّة الاستصحاب لا تخلو من صعوبة، يعني مسألة إحراز أنّ المكلّف محرز للواقع، البناء على أنّه محرز للواقع كما يقال في الإمارات، استفادته من دليل الاستصحاب ليست واضحة.
ممّا تقدّم كلّه يتبيّن أنّ القول بشمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بقطع النظر عن المنجّزية هو الأقرب، هذا هو المشهور والمعروف بينهم؛ ولذا ركّزوا في منع جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي على الموانع الثبوتية الآتية، منعوا من جريانها باعتبار العلم الإجمالي ومنجّزية العلم الإجمالي، لم يمنعوا من جريانها بلحاظ نفس دليل الاستصحاب، أو دليل أصالة البراءة بادّعاء أنّ هذا الدليل ليس فيه إطلاق يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ بل اعترفوا بأنّه لو بقينا نحن والدليل، الدليل كما يشمل الشبهات البدوية هو يشمل الشبهات البدوية المقرونة بالعلم الإجمالي.
المقام الثالث: في منجّزية العلم الإجمالي.
هل العلم الإجمالي ينجّز التكليف المعلوم بالإجمال ؟ هل العلم الإجمالي يكون مانعاً من جريان الأصول ـــــــــــ هذا ما كنّا نقول سيأتي بحثه ـــــــــــ في أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو لا يكون مانعاً من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً ؟ الكلام في المقام الثالث عن منجّزية العلم الإجمالي للتكليف المعلوم بالإجمال، وعن مانعية العلم الإجمالي من إجراء الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي كُلاً، أو بعضاً.
الكلام في هذا المقام كما هو واضح تارةً يقع في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، ومانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول الترخيصية في جميع أطراف العلم الإجمالي. هذا بحث. البحث الثاني في منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافق القطعية وفي مانعية منجّزية العلم الإجمالي من جريان الأصول في بعض الأطراف. هذا هو البحث الثاني.
إذن: في هذا المقام الثالث يقع الكلام في بحثين:
البحث الأوّل: في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وفي مانعية العلم الإجمالي لجريان الأصول في تمام الأطراف. بالنسبة إلى أصل منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، الظاهر أنّ القضية مسلّمة بينهم لم يقع الشك فيها، أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا الاتفاق ناشئ من وضوح أنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع بلا إشكال وعلى كل التقادير السابقة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي مهما فسّرنا العلم الإجمالي الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي، وإذا تنجّز الجامع بالعلم الإجمالي؛ حينئذٍ لا يجوز ارتكاب كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، أو ترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية الذي هو معنى المخالفة القطعية، معنى تنجيز الجامع المتّفق عليه والذي لا ينبغي الإشكال فيه أنّ الجامع دخل في عهدة المكلّف؛ حينئذٍ لا يجوز له أن يرتكب كلا الطرفين في الشبهة التحريمية؛ لأنّ هذا يخالف منجّزية الجامع؛ لأنّ هذه مخالفة قطعية للجامع الذي دخل في العهدة، ولا يجوز له أن يترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ المفروض أنّ أحدى الصلاتين وجبت عليه قطعاً ودخلت في عهدته، فلا يجوز له أن يترك كلا الطرفين؛ لأنّها مخالفة قطعية للتكليف الذي دخل في العهدة وتنجّز على المكلّف، كون العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعية يقتضي منجّزية المخالفة القطعية، هذا لا ينبغي الإشكال فيه وهو أمر مسلّم، وإنّما الكلام يقع في أنّ العلم الإجمالي بعد الفراغ عن أنّه ينجّز حرمة المخالفة القطعية، يعني يقتضي حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، يقع الكلام في أنّه هل يمنع هذا العلم الإجمالي من إجراء الترخيص في كلٍ من الطرفين، أو لا يراه مانعاً ؟ العقل هل يقول أنّ العلم الإجمالي مانع من إجراء الأصول في تمام الأطراف، هذا الكلام يُطرح بعد الفراغ عن أنّ العقل يرى أنّ العلم الإجمالي منجّز لحرمة المخالفة القطعية، لكن تنجيز العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية لا يمنع من طرح هذا البحث في أنّ تنجيز العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول العملية في تمام الأطراف، أو لا يمنع من جريانها في تمام الأطراف، باعتبار أنّ البحث عن المانعية يرتبط بأنّ حكم العقل بالمنجّزية كيف يكون ؟ هل يكون على نحو التعليق، أو على نحو التنجيز ؟ هل يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال حكماً منجّزاً غير معلّق على شيء، أو انّ يحكم بذلك، لكن حكماً تعليقياً معلّقاً على عدم ورود ترخيص من قبل الشارع ؟ هل الحكم العقلي بالتنجيز حكم تنجيزي، أو حكم تعليقي ؟ إذا قلنا أنّ الحكم بالتنجيز هو حكم تنجيزي؛ حينئذٍ الجواب يكون أنّ العلم الإجمالي بنظر العقل يكون مانعاً من إجراء الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّ إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي وإثبات الترخيص في جميع الأطراف ينافي حكم العقل بمنجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية على نحو التنجيز، كيف يمكن افتراض جريان الأصول في جميع الأطراف مع حكم العقل بالمنجّزية التنجيزية، بأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ويكون هذا الحكم حكماً تنجيزياً، هذان لا يجتمعان، فمن هنا يكون الترخيص في جميع الأطراف ممنوعاً، وهذا هو معنى أنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في جميع الأطراف؛ لأنّ جريان الأصول في جميع الأطراف ينافي الحكم العقلي التنجيزي؛ فلذا يمنع من شمول دليل الأصول العملية بعد أن كان في حدّ نفسه شامل لأطراف العلم الإجمالي، نقول كلا، يمنع من شموله لتمام الأطراف في بحثنا لوجود هذا المحذور وهو أنّه يصطدم مع الحكم العقلي التنجيزي بحرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا أنّه حكم تعليقي وهو معلّق على عدم الترخيص الشرعي، فإذا جاء الترخيص الشرعي؛ فحينئذٍ يكون رافعاً لموضوع حكم العقل من دون أن يلزم من ذلك أي محذور، فالقضية مبنية على أنّ الحكم العقلي في المقام بالتنجيز هل هو حكم تنجيزي، أو حكم تعليقي.