35/05/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
قلنا أنّ الكلام يقع في هذه المسألة المهمّة في مقامات، وكان المقام الأوّل الذي يُذكر عادة كمقدمةٍ للبحث هو البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّه بمّ يتميّز العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي، وقلنا أنّ هناك آراءً متعدّدة في هذا المجال وذكرنا تعليقاً على ذلك بأنّه هل البحوث الآتية في المقام الثاني والثالث، هل هي مبتنية على اختيار أحد الآراء في المسألة الأولى في تفسير العلم الإجمالي وبيان حقيقته، أو أنّها ليست مبتنية على ذلك ؟ وإنّما ما سيأتي من المنجزية لا يبتني على اختيار أحد التفاسير في بيان حقيقة العلم الإجمالي، وإنّما من يقول بالمنجزية في المقام الثالث سواء كان على مستوى حرمة المخالفة القطعية، أو على مستوى وجوب الموافقة القطعية يقول بذلك بقطع النظر عن تفسير العلم الإجمالي، وإنّما يقول بذلك على كل التقادير، سواء كان العلم الإجمالي هو علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو كان علماً بالفرد المردد، وكذلك من لا يقول بالمنجزية أيضاً على كلا المستويين إذا فرضنا ذلك، هو أيضاً لا يقول بها على كل التقادير، مهما فُسّر العلم الإجمالي هو يقول بعدم المنجزية.
الكلام في أنّ هذه الآراء في تفسير العلم الإجمالي لها تأثير في البحوث الآتية، أو لا ؟ في الدرس السابق ذكرنا أنّ البحث الثاني هو في شمول الأصول العملية الترخيصية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي، أدلّة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها ؟ هل فيها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، أو ليس فيها قابلية الشمول ؟
قلنا في الدرس السابق أنّ هذا البحث يبدو أنّه ليس متوقفاً على اختيار أحد التفاسير في حقيقة العلم الإجمالي، ليس مبتنياً على اختيار أحد التفاسير؛ بل من يقول بالشمول يقول به على كل التقادير، ومن يقول بعدم الشمول يقول به على كل التقادير، لا أريد أن أقول أنّ هناك قائلاً بعدم الشمول، لكن يبدو أنّ البحث عن الشمول وعدم الشمول ليس مبتنياً على اختيار أحد التفاسير في حقيقة العلم الإجمالي، وإنّما يقال بالشمول على كل التقادير، أدلّة الأصول العملية المؤمّنة لها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، أدلّة الأصول العملية المؤمّنة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن أيّ شيءٍ هي قابلة لأن تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي، سواء قلنا بأنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع، أو قلنا بأنّه علم بالفرد المردد، أو أنّه علم بالواقع، على كل التقادير أطراف العلم الإجمالي مشمولة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن منجزية العلم الإجمالي الذي يمنع من شمول أدلّة الأصول العملية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي، بقطع النظر عن المنجزية، أطراف العلم الإجمالي هي صالحة لأن تكون مشمولة لأدلّة الأصول العملية المؤمّنة. بالنسبة إلى الأصل العملي العقلي واضح أنّه يشمل كلّ طرفٍ في حدّ نفسه؛ لأنّ موضوع الأصل العملي العقلي هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، موضوعه عدم البيان، وعدم البيان في كلّ طرفٍ موجود؛ لأنّ المكلّف بالوجدان هو لا يعلم بأنّ هذا الطرف هل تحقق فيه المعلوم بالإجمال، أو لا ؟ فلا يوجد بيان، لم يتم عليه البيان، صحيح هو يعلم بالعلم الإجمالي بأنّ أحد الإناءين نجس قطعاً، أو يعلم إجمالاً بوجوب أحدى الصلاتين، لكنّه لا يعلم بأنّ النجس موجود في هذا الإناء، إذا التفت إلى هذا الفرد في هذا الطرف لا يستطيع أن يقول تمّ عليه البيان، لو تمّ عليه البيان لكان حاله حال العلم التفصيلي، فعدم البيان محفوظ في كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي، وهذا هو المقصود بأنّ أدلّة الأصول تشمل أطراف العلم الإجمالي في حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجزية هي مشمولة لأدلّة الأصول، موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان وعدم البيان محفوظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، الأصول العملية الترخيصية الشرعية موضوعها هو عدم العلم، الجهل، وهذا أيضاً محفوظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، لو جئنا إلى هذا الطرف لا يوجد وضوح ولا علم ولا انكشاف بحرمته، وإنّما هناك احتمال الانكشاف، الاحتمال ليس انكشافاً وليس بياناً حتّى يكون رافعاً لموضوع هذه الأصول؛ بل يصح للمكلّف أن يقول بأنّي لا أعلم بحرمة هذا الطرف، لا أعلم بوجوب صلاة الظهر في العلم الإجمالي السابق، فإذن، عدم العلم محفوظ، عدم الانكشاف محفوظ، وهذا هو المقصود من أنّ أدلّة الأصول العملية هي تشمل كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي في حدّ نفسه وبقطع النظر عن المنجزية، هذا لا يُفرّق فيه بين أن نقول أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، أو هو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد، حتّى لو قلنا أنّه علم بالواقع أيضاً موضوع الأصول العملية، موضوع الترخيص محفوظ في كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، وقد اعترف صاحب هذا القول القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، اعترف بأنّ موضوع الأصول العملية المؤمّنة محفوظ في كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، وقد ذكر ـــــــــــ المقصود به المحقق العراقي(قدّس سرّه) ــــــــــــ ما نصّه، بعد أن أشكل على نفسه بأنّ هناك فرق بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، في هذا المقام ذكر بأنّ هذا الإشكال واحتمال الفرق يندفع، وقال بأنّ(وجه الاندفاع ما عرفت من أنّ المنع عن الترخيص في كلّ طرفٍ إنّما هو من جهة احتمال انطباق ما هو المنجّز عليه الموجب لاحتمال العقوبة عليه، ولكون الترخيص فيه ترخيصاً في محتمل المعصية لا من جهة قصور أدلّة الترخيص عن الشمول لأطراف العلم من جهة عدم الموضوع).[1] ليس بذلك؛ بل موضوع الترخيص في أدلّة الأصول محفوظ في كل اطراف العلم الإجمالي، وإنّما نمنع من الشمول باعتبار ما يلزم من ذلك، هو رأيه أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف وإذا تنجز التكليف ودخل في عهدة المكلّف حيث يُحتمل أنّ هذا التكليف موجود في هذا الطرف وفي هذا الطرف؛ فحينئذٍ لابدّ من الامتناع عن كلا الطرفين. هذا هو الذي يمنع المكلّف من ارتكاب الطرف؛ لأنّه يُحتمل أن يتحقق فيه المنجّز، فيكون محتمل المعصية وإذا كان محتمل المعصية، فلابدّ من دفعه بحكم العقل ويدخله في كبرى لزوم دفع الضرر المحتمل، لا نقول بأنّ موضوع الأصول العملية الترخيصية غير منحفظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي؛ بل أنّ موضوع الأصول العملية محفوظ في كل طرف والموضوع هو عدم البيان وعدم العلم وهذا محفوظ في كل طرف، فيقول نحن لا نقول أنّه لا يجوز ارتكاب هذا الطرف؛ لأنّ موضوع البراءة والترخيص ليس متحققاً في المقام، وإنّما موضوعه محفوظ، لكنّه نقول بأنّه لابدّ من تركه في مثال الإناءين، باعتبار أنّه يحتمل انطباق ما هو المنجّز عليه؛ لأنّ العلم الإجمالي نجّز التكليف، وبحسب رأيه(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، بمعنى أنّ التنجيز يسري من الجامع إلى الواقع، لكن حيث أنّ هذا الواقع يُحتمل أن يكون موجوداً في هذا الطرف ويُحتمل أن يكون موجوداً في هذا الطرف، فمن هنا يتنجّز كلا الطرفين، تنجيز كلا الطرفين ليس من جهة أنّ موضوع الترخيص الشرعي والعقلي غير محفوظ في كل طرف؛ بل هو محفوظ في كل طرف، لكن تأتي فرضاً قاعدة الاشتغال، أو قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، هذه هي التي تقدَّم وينبغي البناء عليها، ولا يُستشكل في انحفاظ موضوع الأصول العملية الترخيصية في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، حتّى على القول بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، فضلاً عن بقية التفاسير.
إذن: يبدو ــــــــــ والله العالم ـــــــــــ أنّهم لا يختلفون في أنّ أدلّة الأصول العملية، فضلاً عن البراءة العقلية؛ ـــــــــ لأننا نتكلّم بناءً على البراءة العقلية، بناءً على أنّ العلم الإجمالي هو الذي ينجّز التكليف في المقام، نحن نريد أن نبحث عن هذه المنجّزية ــــــــــ يتفقون على أنّ أدلّة الأصول شاملة في حدّ نفسها لأطراف العلم الإجمالي، موضوع الأصل محفوظ في كل طرف، وقلنا أنّ موضوع الأصل هو عدم العلم وعدم الانكشاف وهو محفوظ في كل طرفٍ؛ لأنّ المكلّف بالوجدان هو لا يعلم بحرمة هذا الطرف ولا يعلم بوجوب هذا الطرف، ولو سُئل لا يستطيع أن يقول أنا أعلم بحرمة هذا، ولا يستطيع أن يقول أنا أعلم بوجوب صلاة الظهر، هذا معناه أنّ الموضوع محفوظ ولا نريد أن نثبت أكثر من هذا، أنّ أطراف العلم الإجمالي قابلة لأن تكون مشمولة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجّزية هي مشمولة لأدلّة الأصول كما هي مشمولة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا بالنسبة إلى البحث الثاني.
بالنسبة إلى البحث الثالث: قلنا أنّ البحث الثالث ينحلّ إلى بحثين: الأوّل في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، والثاني في منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية إذا آمنا بها فهذا معناه أنّ الترخيص لا يثبت في كلا الطرفين، أي أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لكلا الطرفين، وأمّا وجوب الموافقة القطعية فيعني أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لأحد الطرفين، فضلاً عن كليهما. بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية وتنجيز العلم الإجمالي لها المستلزم للمنع من إجراء الأصول في جميع الأطراف الذي به تتحقق المخالفة القطعية، الظاهر أنّ هذا أمر مسلّم عندهم، لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، وهذا الشيء المسلّم عندهم الذي لا إشكال فيه لا يبتني على اختيار أحد التفاسير السابقة في تفسير العلم الإجمالي، على كل التقادير العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ويمنع من إجراء الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فهذا واضح، وإن قلنا أنّه يتعلّق بالفرد المردّد، أو بالواقع فأيضاً واضح، فهذا يعني أنّ هناك شيء أزيد من الجامع يتنجّز على المكلّف، فلنفترض هكذا، أنّ هناك شيئاً أزيد من الجامع أيضاً يتنجّز على المكلّف بالإضافة إلى الجامع. إذن: الجامع يتنجّز على المكلّف على كل تقدير، وإذا تنجّز على المكلّف كيف يمكن مخالفته القطعية ؟ كيف نرخّص للمكلّف بأن يُخالفه قطعاً، بأن يفعل كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، وأن يترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية ؟ هذه مخالفة قطعية للتكليف المنجّز؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع على كل التقادير، لا تتوقّف تنجيزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية على أن نقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا تتوقّف على أن نقول أنّه يتعلّق بالواقع، سواء قلنا أنّه يتعلّق بالواقع، أو قلنا أنّه يتعلّق بالجامع، الجامع يدخل في عهدة المكلّف ويتنجّز عليه وهذا تكليف تنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ تحرم مخالفته القطعية، هذا مؤكد، وهذا يسلّمون به ولا خلاف فيه بينهم ولا يبتني ذلك على اختيار أحد التفاسير السابقة، على كل التفاسير، الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي. نعم، على بعض التفاسير قد يتنجّز ما هو أكثر من ذلك، وهذا لا مشكلة فيه، بالنتيجة يتنجّز الجامع على المكلّف، وهذا الجامع تكليف، حرمة أحد الإناءين تنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ لا تجوز مخالفته القطعية، تحرم مخالفته القطعية بلا إشكال. هذا بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
إذا سلّمنا منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية نأتي إلى وجوب الموافقة القطعية الذي هو عبارة أخرى عن أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين ؟ الذي لا يلزم منه مخالفة قطعية، وإنّما يلزم منه مخالفة احتمالية، هل يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين كما منع من إجراء الأصل في كلا الطرفين، أو أنّ العلم الإجمالي لا يمنع من ذلك ؟
هذه المسألة هي المسألة المهمّة التي قد يُدّعى أنّ البحث في حقيقة العلم الإجمالي وأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردّد يؤثر فيها؛ إذ قد يقال أننا لو قلنا أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع؛ حينئذٍ العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ ما يتنجّز بالعلم الإجمالي بناءً على أنّه علم بالجامع هو جامع وليس أكثر من الجامع، فهو الذي يتنجّز بالعلم الإجمالي ويدخل في العهدة، ويكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الطرفين، ما دام أنّ الجامع على جامعيته بحدّه هو الذي تنجّز، الخصوصية للفرد لم تتنجّز، وإنّما الجامع هو الذي تنجّز بالعلم الإجمالي، ويكفي في امتثال الجامع وإطاعته الاتيان بأحد الطرفين؛ لأنّ هذا مصداق للجامع وهذا أيضاً مصداق للجامع، وما تنجّز على المكلّف هو الجامع وقد امتثل الجامع في ضمن هذا الفرد، يكفي في امتثال الجامع ترك أحد الطرفين في الشبهة التحريمية، يكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الفردين في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ الجامع يصدق على الفرد وينطبق عليه؛ لأنّه مصداق له، فإن قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فهناك مجال لإنكار وجوب الموافقة القطعية، قد يقال: أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز أكثر من الجامع؛ لماذا ينجّز كلا الطرفين ؟ ولماذا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ؟ نعم، ينجّز حرمة المخالفة القطعية، وقلنا أنّه لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي ينجّزها على كل الآراء، لكن أن ينجّز أكثر من ذلك، بأن ينجّز الفرد هذا لا دليل عليه؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، فالمنجّز هو الجامع فقط، ويكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الطرفين، أو ترك أحد الطرفين، أمّا ـــــــــــ تكملة للكلام السابق ـــــــــــ لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالفرد المردّد، أو قلنا أنّه يتعلّق بالواقع؛ فحينئذٍ ما يدخل في العهدة وما يتنجّز هو شيء أزيد من الجامع يتنجّز على المكلّف ويدخل في عهدته، وهو خصوصية الفرد والواقع؛ لأنّ العلم الإجمالي ــــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــــ يتعلّق بالواقع، وإذا تعلّق بالواقع، فأنّه ينجّز الواقع، فإذا نجّز الواقع؛ حينئذٍ تجب الموافقة القطعية، فالذي تنجّز على المكلّف هو الواقع لا الجامع، فالواقع تجب موافقته القطعية ولا تكون موافقته القطعية إلاّ بالإتيان بكلا الفردين في الشبهة الوجوبية، أو ترك كلا الفردين في الشبهة التحريمية، هذا كلام قد يقال.
وفي مقابل هذا قد يقال: أنّ الكلام في وجوب الموافقة القطعية هو نفس الكلام في حرمة المخالفة القطعية، بمعنى أنّ من يقول بالمنجّزية في وجوب الموافقة القطعية وأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، يقول بها على كل التفاسير في حقيقية العلم الإجمالي، سواء كان يقول أنّ العلم الإجمالي علماً بالواقع، أو يقول بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، أو يقول بها في محل الكلام، وأنّ من يقول بعدم المنجّزية أيضاً يقول بها على كل التفاسير السابقة. هذا الكلام هل يمكن أن يُقبل ؟ أنّ القائلين بمنجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية يلتزمون بالمنجّزية على كل التفاسير السابقة، يعني سواء كان على القول بتعلّق العلم بالواقع، أو تعلّقه بالفرد المردد، أو تعلّقه حتّى بالجامع، بالرغم من افتراض تعلّقه بالجامع هو يقول بمنجّزية العلم الإجمالي. نعم، طريقة الاستدلال على المنجّزية تختلف، يعني المحقق النائيني(قدّس سرّه) عندما يؤمن بأنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية وهو يرى أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع لديه طريقة خاصّة في إثبات هذه المنجّزية غير طريقة المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يؤمن بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، هو أيضاً له طريقة خاصّة في إثبات هذه المنجّزية، كلٌ له طريقة في الاستدلال، بالنتيجة يلتقون في إثبات منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية حتّى المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يبني على أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع هو يؤمن بأنّه ينجّز وجوب الموافقة القطعية كما قلنا من باب قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ويقول بأنّه حتّى لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، مع ذلك نقول بالمنجّزية ببيان: أننّا نسلّم أنّه يتعلّق بالجامع، لكن تعلّقه بالجامع لا يعني أنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية كما قيل؛ لأننا صوّرنا أنّه إذا تعلّق بالجامع فأنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنه يكفي في امتثال الجامع الإتيان بأحد الطرفين، هو يقول حتّى لو قلنا بالجامع فأنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه إذا تعلّق بالجامع ينجّز الجامع، الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي على هذا المبنى بلا إشكال، وإذا تنجّز الجامع ودخل في العهدة؛ حينئذٍ إلا يحتمل انطباق ما تنجّز على المكلّف ودخل في عهدته على هذا الطرف ؟ يطبّق قاعدة الاشتغال أنّ التكليف الذي تنجّز على المكلّف يستقل العقل بلزوم إحراز موافقته وامتثاله ولا يتيسر للمكلّف امتثاله إلاّ جاء بكلا الطرفين، امتثال هذا التكليف الذي تنجّز على المكلّف لا يحرزه المكلّف إلاّ إذا وافقه قطعاً بأن جاء بكلا الطرفين، اشتغال يقيني؛ لأنّ التكليف بالجامع تنجّز على المكلّف واشتغلت به عهدته، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، هو رأيه ليس هذا، وإنّما رأيه هو أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، فيسري التنجيز من الجامع إلى الواقع، وحيث أنّ الواقع يُحتمل انطباقه على هذا الطرف ويُحتمل انطباقه على هذا الطرف، يقول حينئذٍ لابدّ من الإتيان بهذا الطرف وهذا الطرف وهو معنى وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه ما دام يُحتمل أن ينطبق المنجّز على هذا الطرف، إذن يحتمل أن يكون في ارتكابه معصية، يحتمل أن يكون في ارتكابه عقاب والعقل يستقل بوجوب دفع الضرر والعقاب المحتمل، فيتنجّز وجوب الموافقة القطعية، هذا هو رأيه، يقول حتّى لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، مع ذلك نقول بالمنجّزية من باب قاعدة الاشتغال، وإن كان المتنجّز على المكلّف هو الجامع بحدّه، لكن هذا الجامع الذي تنجّز على المكلّف ودخل في عهدته إلا يجب امتثاله بحكم العقل ؟ ولا يُحرز امتثاله إذا اقتصر على أحد الطرفين؛ بل لابدّ أن يأتي بكلا الطرفين. القائل بالمنجّزية، يقول بالمنجّزية ظاهراً على اختلاف التفاسير السابقة في تفسير العلم الإجمالي. نعم، هذا الشيء لابدّ من الاعتراف به، وقد يكون له أثر أيضاً وهو أنّ الاستدلال على المنجّزية يختلف باختلاف تلك التفاسير، من يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع يستدل على المنجزية بأمورٍ أخرى من قبيل تعارض الأصول في الأطراف، يقول يتنجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الأصل لا يمكن أن يشمل كلا الطرفين؛ لأنّه يستلزم تجويز المخالفة القطعية وقد فرغنا عن أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، ولا تجري في أحد الطرفين بعينه؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح بعد تساوي نسبة كلٍ من الطرفين إلى دليل الأصل العملي وليس هناك خصوصية لهذا الطرف المعيّن حتّى يجري فيه الأصل دون الآخر، فتخصيص أحد الطرفين بعينه بشمول الأصل هذا ترجيح بلا مرجّح، وهذا معناه أنّ الأصول في الأطراف تجري وتتعارض وتتساقط، فإذا جرت وتعارضت وتساقطت؛ حينئذٍ لابدّ من الموافقة القطعية. هذا الدليل الذي يذكره. القول الآخر يقول بدليلٍ آخر ويلتزم بوجوب الموافقة القطعية إمّا باعتبار أنّ المنجّزية تسري من الواقع إلى الجامع، وإمّا بقاعدة الاشتغال بالبيان الذي ذكرناه.
قلنا أنّ الكلام يقع في هذه المسألة المهمّة في مقامات، وكان المقام الأوّل الذي يُذكر عادة كمقدمةٍ للبحث هو البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّه بمّ يتميّز العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي، وقلنا أنّ هناك آراءً متعدّدة في هذا المجال وذكرنا تعليقاً على ذلك بأنّه هل البحوث الآتية في المقام الثاني والثالث، هل هي مبتنية على اختيار أحد الآراء في المسألة الأولى في تفسير العلم الإجمالي وبيان حقيقته، أو أنّها ليست مبتنية على ذلك ؟ وإنّما ما سيأتي من المنجزية لا يبتني على اختيار أحد التفاسير في بيان حقيقة العلم الإجمالي، وإنّما من يقول بالمنجزية في المقام الثالث سواء كان على مستوى حرمة المخالفة القطعية، أو على مستوى وجوب الموافقة القطعية يقول بذلك بقطع النظر عن تفسير العلم الإجمالي، وإنّما يقول بذلك على كل التقادير، سواء كان العلم الإجمالي هو علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو كان علماً بالفرد المردد، وكذلك من لا يقول بالمنجزية أيضاً على كلا المستويين إذا فرضنا ذلك، هو أيضاً لا يقول بها على كل التقادير، مهما فُسّر العلم الإجمالي هو يقول بعدم المنجزية.
الكلام في أنّ هذه الآراء في تفسير العلم الإجمالي لها تأثير في البحوث الآتية، أو لا ؟ في الدرس السابق ذكرنا أنّ البحث الثاني هو في شمول الأصول العملية الترخيصية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي، أدلّة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها ؟ هل فيها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، أو ليس فيها قابلية الشمول ؟
قلنا في الدرس السابق أنّ هذا البحث يبدو أنّه ليس متوقفاً على اختيار أحد التفاسير في حقيقة العلم الإجمالي، ليس مبتنياً على اختيار أحد التفاسير؛ بل من يقول بالشمول يقول به على كل التقادير، ومن يقول بعدم الشمول يقول به على كل التقادير، لا أريد أن أقول أنّ هناك قائلاً بعدم الشمول، لكن يبدو أنّ البحث عن الشمول وعدم الشمول ليس مبتنياً على اختيار أحد التفاسير في حقيقة العلم الإجمالي، وإنّما يقال بالشمول على كل التقادير، أدلّة الأصول العملية المؤمّنة لها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، أدلّة الأصول العملية المؤمّنة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن أيّ شيءٍ هي قابلة لأن تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي، سواء قلنا بأنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع، أو قلنا بأنّه علم بالفرد المردد، أو أنّه علم بالواقع، على كل التقادير أطراف العلم الإجمالي مشمولة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن منجزية العلم الإجمالي الذي يمنع من شمول أدلّة الأصول العملية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي، بقطع النظر عن المنجزية، أطراف العلم الإجمالي هي صالحة لأن تكون مشمولة لأدلّة الأصول العملية المؤمّنة. بالنسبة إلى الأصل العملي العقلي واضح أنّه يشمل كلّ طرفٍ في حدّ نفسه؛ لأنّ موضوع الأصل العملي العقلي هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، موضوعه عدم البيان، وعدم البيان في كلّ طرفٍ موجود؛ لأنّ المكلّف بالوجدان هو لا يعلم بأنّ هذا الطرف هل تحقق فيه المعلوم بالإجمال، أو لا ؟ فلا يوجد بيان، لم يتم عليه البيان، صحيح هو يعلم بالعلم الإجمالي بأنّ أحد الإناءين نجس قطعاً، أو يعلم إجمالاً بوجوب أحدى الصلاتين، لكنّه لا يعلم بأنّ النجس موجود في هذا الإناء، إذا التفت إلى هذا الفرد في هذا الطرف لا يستطيع أن يقول تمّ عليه البيان، لو تمّ عليه البيان لكان حاله حال العلم التفصيلي، فعدم البيان محفوظ في كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي، وهذا هو المقصود بأنّ أدلّة الأصول تشمل أطراف العلم الإجمالي في حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجزية هي مشمولة لأدلّة الأصول، موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان وعدم البيان محفوظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، الأصول العملية الترخيصية الشرعية موضوعها هو عدم العلم، الجهل، وهذا أيضاً محفوظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، لو جئنا إلى هذا الطرف لا يوجد وضوح ولا علم ولا انكشاف بحرمته، وإنّما هناك احتمال الانكشاف، الاحتمال ليس انكشافاً وليس بياناً حتّى يكون رافعاً لموضوع هذه الأصول؛ بل يصح للمكلّف أن يقول بأنّي لا أعلم بحرمة هذا الطرف، لا أعلم بوجوب صلاة الظهر في العلم الإجمالي السابق، فإذن، عدم العلم محفوظ، عدم الانكشاف محفوظ، وهذا هو المقصود من أنّ أدلّة الأصول العملية هي تشمل كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي في حدّ نفسه وبقطع النظر عن المنجزية، هذا لا يُفرّق فيه بين أن نقول أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، أو هو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد، حتّى لو قلنا أنّه علم بالواقع أيضاً موضوع الأصول العملية، موضوع الترخيص محفوظ في كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، وقد اعترف صاحب هذا القول القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، اعترف بأنّ موضوع الأصول العملية المؤمّنة محفوظ في كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، وقد ذكر ـــــــــــ المقصود به المحقق العراقي(قدّس سرّه) ــــــــــــ ما نصّه، بعد أن أشكل على نفسه بأنّ هناك فرق بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، في هذا المقام ذكر بأنّ هذا الإشكال واحتمال الفرق يندفع، وقال بأنّ(وجه الاندفاع ما عرفت من أنّ المنع عن الترخيص في كلّ طرفٍ إنّما هو من جهة احتمال انطباق ما هو المنجّز عليه الموجب لاحتمال العقوبة عليه، ولكون الترخيص فيه ترخيصاً في محتمل المعصية لا من جهة قصور أدلّة الترخيص عن الشمول لأطراف العلم من جهة عدم الموضوع).[1] ليس بذلك؛ بل موضوع الترخيص في أدلّة الأصول محفوظ في كل اطراف العلم الإجمالي، وإنّما نمنع من الشمول باعتبار ما يلزم من ذلك، هو رأيه أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف وإذا تنجز التكليف ودخل في عهدة المكلّف حيث يُحتمل أنّ هذا التكليف موجود في هذا الطرف وفي هذا الطرف؛ فحينئذٍ لابدّ من الامتناع عن كلا الطرفين. هذا هو الذي يمنع المكلّف من ارتكاب الطرف؛ لأنّه يُحتمل أن يتحقق فيه المنجّز، فيكون محتمل المعصية وإذا كان محتمل المعصية، فلابدّ من دفعه بحكم العقل ويدخله في كبرى لزوم دفع الضرر المحتمل، لا نقول بأنّ موضوع الأصول العملية الترخيصية غير منحفظ في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي؛ بل أنّ موضوع الأصول العملية محفوظ في كل طرف والموضوع هو عدم البيان وعدم العلم وهذا محفوظ في كل طرف، فيقول نحن لا نقول أنّه لا يجوز ارتكاب هذا الطرف؛ لأنّ موضوع البراءة والترخيص ليس متحققاً في المقام، وإنّما موضوعه محفوظ، لكنّه نقول بأنّه لابدّ من تركه في مثال الإناءين، باعتبار أنّه يحتمل انطباق ما هو المنجّز عليه؛ لأنّ العلم الإجمالي نجّز التكليف، وبحسب رأيه(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، بمعنى أنّ التنجيز يسري من الجامع إلى الواقع، لكن حيث أنّ هذا الواقع يُحتمل أن يكون موجوداً في هذا الطرف ويُحتمل أن يكون موجوداً في هذا الطرف، فمن هنا يتنجّز كلا الطرفين، تنجيز كلا الطرفين ليس من جهة أنّ موضوع الترخيص الشرعي والعقلي غير محفوظ في كل طرف؛ بل هو محفوظ في كل طرف، لكن تأتي فرضاً قاعدة الاشتغال، أو قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، هذه هي التي تقدَّم وينبغي البناء عليها، ولا يُستشكل في انحفاظ موضوع الأصول العملية الترخيصية في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، حتّى على القول بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، فضلاً عن بقية التفاسير.
إذن: يبدو ــــــــــ والله العالم ـــــــــــ أنّهم لا يختلفون في أنّ أدلّة الأصول العملية، فضلاً عن البراءة العقلية؛ ـــــــــ لأننا نتكلّم بناءً على البراءة العقلية، بناءً على أنّ العلم الإجمالي هو الذي ينجّز التكليف في المقام، نحن نريد أن نبحث عن هذه المنجّزية ــــــــــ يتفقون على أنّ أدلّة الأصول شاملة في حدّ نفسها لأطراف العلم الإجمالي، موضوع الأصل محفوظ في كل طرف، وقلنا أنّ موضوع الأصل هو عدم العلم وعدم الانكشاف وهو محفوظ في كل طرفٍ؛ لأنّ المكلّف بالوجدان هو لا يعلم بحرمة هذا الطرف ولا يعلم بوجوب هذا الطرف، ولو سُئل لا يستطيع أن يقول أنا أعلم بحرمة هذا، ولا يستطيع أن يقول أنا أعلم بوجوب صلاة الظهر، هذا معناه أنّ الموضوع محفوظ ولا نريد أن نثبت أكثر من هذا، أنّ أطراف العلم الإجمالي قابلة لأن تكون مشمولة في حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجّزية هي مشمولة لأدلّة الأصول كما هي مشمولة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا بالنسبة إلى البحث الثاني.
بالنسبة إلى البحث الثالث: قلنا أنّ البحث الثالث ينحلّ إلى بحثين: الأوّل في منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، والثاني في منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية إذا آمنا بها فهذا معناه أنّ الترخيص لا يثبت في كلا الطرفين، أي أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لكلا الطرفين، وأمّا وجوب الموافقة القطعية فيعني أنّ العلم الإجمالي يمنع من شمول الترخيص لأحد الطرفين، فضلاً عن كليهما. بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية وتنجيز العلم الإجمالي لها المستلزم للمنع من إجراء الأصول في جميع الأطراف الذي به تتحقق المخالفة القطعية، الظاهر أنّ هذا أمر مسلّم عندهم، لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، وهذا الشيء المسلّم عندهم الذي لا إشكال فيه لا يبتني على اختيار أحد التفاسير السابقة في تفسير العلم الإجمالي، على كل التقادير العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ويمنع من إجراء الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فهذا واضح، وإن قلنا أنّه يتعلّق بالفرد المردّد، أو بالواقع فأيضاً واضح، فهذا يعني أنّ هناك شيء أزيد من الجامع يتنجّز على المكلّف، فلنفترض هكذا، أنّ هناك شيئاً أزيد من الجامع أيضاً يتنجّز على المكلّف بالإضافة إلى الجامع. إذن: الجامع يتنجّز على المكلّف على كل تقدير، وإذا تنجّز على المكلّف كيف يمكن مخالفته القطعية ؟ كيف نرخّص للمكلّف بأن يُخالفه قطعاً، بأن يفعل كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، وأن يترك كلا الطرفين في الشبهة الوجوبية ؟ هذه مخالفة قطعية للتكليف المنجّز؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع على كل التقادير، لا تتوقّف تنجيزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية على أن نقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا تتوقّف على أن نقول أنّه يتعلّق بالواقع، سواء قلنا أنّه يتعلّق بالواقع، أو قلنا أنّه يتعلّق بالجامع، الجامع يدخل في عهدة المكلّف ويتنجّز عليه وهذا تكليف تنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ تحرم مخالفته القطعية، هذا مؤكد، وهذا يسلّمون به ولا خلاف فيه بينهم ولا يبتني ذلك على اختيار أحد التفاسير السابقة، على كل التفاسير، الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي. نعم، على بعض التفاسير قد يتنجّز ما هو أكثر من ذلك، وهذا لا مشكلة فيه، بالنتيجة يتنجّز الجامع على المكلّف، وهذا الجامع تكليف، حرمة أحد الإناءين تنجّز على المكلّف؛ حينئذٍ لا تجوز مخالفته القطعية، تحرم مخالفته القطعية بلا إشكال. هذا بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
إذا سلّمنا منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية نأتي إلى وجوب الموافقة القطعية الذي هو عبارة أخرى عن أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين ؟ الذي لا يلزم منه مخالفة قطعية، وإنّما يلزم منه مخالفة احتمالية، هل يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين كما منع من إجراء الأصل في كلا الطرفين، أو أنّ العلم الإجمالي لا يمنع من ذلك ؟
هذه المسألة هي المسألة المهمّة التي قد يُدّعى أنّ البحث في حقيقة العلم الإجمالي وأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردّد يؤثر فيها؛ إذ قد يقال أننا لو قلنا أنّ العلم الإجمالي علم بالجامع؛ حينئذٍ العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ ما يتنجّز بالعلم الإجمالي بناءً على أنّه علم بالجامع هو جامع وليس أكثر من الجامع، فهو الذي يتنجّز بالعلم الإجمالي ويدخل في العهدة، ويكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الطرفين، ما دام أنّ الجامع على جامعيته بحدّه هو الذي تنجّز، الخصوصية للفرد لم تتنجّز، وإنّما الجامع هو الذي تنجّز بالعلم الإجمالي، ويكفي في امتثال الجامع وإطاعته الاتيان بأحد الطرفين؛ لأنّ هذا مصداق للجامع وهذا أيضاً مصداق للجامع، وما تنجّز على المكلّف هو الجامع وقد امتثل الجامع في ضمن هذا الفرد، يكفي في امتثال الجامع ترك أحد الطرفين في الشبهة التحريمية، يكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الفردين في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ الجامع يصدق على الفرد وينطبق عليه؛ لأنّه مصداق له، فإن قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، فهناك مجال لإنكار وجوب الموافقة القطعية، قد يقال: أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز أكثر من الجامع؛ لماذا ينجّز كلا الطرفين ؟ ولماذا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ؟ نعم، ينجّز حرمة المخالفة القطعية، وقلنا أنّه لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي ينجّزها على كل الآراء، لكن أن ينجّز أكثر من ذلك، بأن ينجّز الفرد هذا لا دليل عليه؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، فالمنجّز هو الجامع فقط، ويكفي في امتثال الجامع الاتيان بأحد الطرفين، أو ترك أحد الطرفين، أمّا ـــــــــــ تكملة للكلام السابق ـــــــــــ لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالفرد المردّد، أو قلنا أنّه يتعلّق بالواقع؛ فحينئذٍ ما يدخل في العهدة وما يتنجّز هو شيء أزيد من الجامع يتنجّز على المكلّف ويدخل في عهدته، وهو خصوصية الفرد والواقع؛ لأنّ العلم الإجمالي ــــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــــ يتعلّق بالواقع، وإذا تعلّق بالواقع، فأنّه ينجّز الواقع، فإذا نجّز الواقع؛ حينئذٍ تجب الموافقة القطعية، فالذي تنجّز على المكلّف هو الواقع لا الجامع، فالواقع تجب موافقته القطعية ولا تكون موافقته القطعية إلاّ بالإتيان بكلا الفردين في الشبهة الوجوبية، أو ترك كلا الفردين في الشبهة التحريمية، هذا كلام قد يقال.
وفي مقابل هذا قد يقال: أنّ الكلام في وجوب الموافقة القطعية هو نفس الكلام في حرمة المخالفة القطعية، بمعنى أنّ من يقول بالمنجّزية في وجوب الموافقة القطعية وأنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، يقول بها على كل التفاسير في حقيقية العلم الإجمالي، سواء كان يقول أنّ العلم الإجمالي علماً بالواقع، أو يقول بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع، أو يقول بها في محل الكلام، وأنّ من يقول بعدم المنجّزية أيضاً يقول بها على كل التفاسير السابقة. هذا الكلام هل يمكن أن يُقبل ؟ أنّ القائلين بمنجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية يلتزمون بالمنجّزية على كل التفاسير السابقة، يعني سواء كان على القول بتعلّق العلم بالواقع، أو تعلّقه بالفرد المردد، أو تعلّقه حتّى بالجامع، بالرغم من افتراض تعلّقه بالجامع هو يقول بمنجّزية العلم الإجمالي. نعم، طريقة الاستدلال على المنجّزية تختلف، يعني المحقق النائيني(قدّس سرّه) عندما يؤمن بأنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية وهو يرى أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع لديه طريقة خاصّة في إثبات هذه المنجّزية غير طريقة المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يؤمن بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، هو أيضاً له طريقة خاصّة في إثبات هذه المنجّزية، كلٌ له طريقة في الاستدلال، بالنتيجة يلتقون في إثبات منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية حتّى المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يبني على أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع هو يؤمن بأنّه ينجّز وجوب الموافقة القطعية كما قلنا من باب قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ويقول بأنّه حتّى لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، مع ذلك نقول بالمنجّزية ببيان: أننّا نسلّم أنّه يتعلّق بالجامع، لكن تعلّقه بالجامع لا يعني أنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية كما قيل؛ لأننا صوّرنا أنّه إذا تعلّق بالجامع فأنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنه يكفي في امتثال الجامع الإتيان بأحد الطرفين، هو يقول حتّى لو قلنا بالجامع فأنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه إذا تعلّق بالجامع ينجّز الجامع، الجامع يتنجّز بالعلم الإجمالي على هذا المبنى بلا إشكال، وإذا تنجّز الجامع ودخل في العهدة؛ حينئذٍ إلا يحتمل انطباق ما تنجّز على المكلّف ودخل في عهدته على هذا الطرف ؟ يطبّق قاعدة الاشتغال أنّ التكليف الذي تنجّز على المكلّف يستقل العقل بلزوم إحراز موافقته وامتثاله ولا يتيسر للمكلّف امتثاله إلاّ جاء بكلا الطرفين، امتثال هذا التكليف الذي تنجّز على المكلّف لا يحرزه المكلّف إلاّ إذا وافقه قطعاً بأن جاء بكلا الطرفين، اشتغال يقيني؛ لأنّ التكليف بالجامع تنجّز على المكلّف واشتغلت به عهدته، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، هو رأيه ليس هذا، وإنّما رأيه هو أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، فيسري التنجيز من الجامع إلى الواقع، وحيث أنّ الواقع يُحتمل انطباقه على هذا الطرف ويُحتمل انطباقه على هذا الطرف، يقول حينئذٍ لابدّ من الإتيان بهذا الطرف وهذا الطرف وهو معنى وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه ما دام يُحتمل أن ينطبق المنجّز على هذا الطرف، إذن يحتمل أن يكون في ارتكابه معصية، يحتمل أن يكون في ارتكابه عقاب والعقل يستقل بوجوب دفع الضرر والعقاب المحتمل، فيتنجّز وجوب الموافقة القطعية، هذا هو رأيه، يقول حتّى لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، مع ذلك نقول بالمنجّزية من باب قاعدة الاشتغال، وإن كان المتنجّز على المكلّف هو الجامع بحدّه، لكن هذا الجامع الذي تنجّز على المكلّف ودخل في عهدته إلا يجب امتثاله بحكم العقل ؟ ولا يُحرز امتثاله إذا اقتصر على أحد الطرفين؛ بل لابدّ أن يأتي بكلا الطرفين. القائل بالمنجّزية، يقول بالمنجّزية ظاهراً على اختلاف التفاسير السابقة في تفسير العلم الإجمالي. نعم، هذا الشيء لابدّ من الاعتراف به، وقد يكون له أثر أيضاً وهو أنّ الاستدلال على المنجّزية يختلف باختلاف تلك التفاسير، من يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع يستدل على المنجزية بأمورٍ أخرى من قبيل تعارض الأصول في الأطراف، يقول يتنجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الأصل لا يمكن أن يشمل كلا الطرفين؛ لأنّه يستلزم تجويز المخالفة القطعية وقد فرغنا عن أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، ولا تجري في أحد الطرفين بعينه؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح بعد تساوي نسبة كلٍ من الطرفين إلى دليل الأصل العملي وليس هناك خصوصية لهذا الطرف المعيّن حتّى يجري فيه الأصل دون الآخر، فتخصيص أحد الطرفين بعينه بشمول الأصل هذا ترجيح بلا مرجّح، وهذا معناه أنّ الأصول في الأطراف تجري وتتعارض وتتساقط، فإذا جرت وتعارضت وتساقطت؛ حينئذٍ لابدّ من الموافقة القطعية. هذا الدليل الذي يذكره. القول الآخر يقول بدليلٍ آخر ويلتزم بوجوب الموافقة القطعية إمّا باعتبار أنّ المنجّزية تسري من الواقع إلى الجامع، وإمّا بقاعدة الاشتغال بالبيان الذي ذكرناه.