35/05/18
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
ذكرنا في الدرس السابق أنّ التنجيز العقلي المبحوث عنه في المقام لا يمكن الاستدلال عليه بمسألة احتمال العقاب وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو العقاب المحتمل؛ وذلك لأنّ احتمال العقاب في طول هذا التنجيز ومترتب عليه، فلابدّ أن يقع البحث في أصل التنجيز العقلي لاحتمال التكليف، أنّ احتمال التكليف هل ينجز التكليف عقلاً، وهل يدخله في حق الطاعة والمولوية، أو لا ؟ نعم هناك تنجيز آخر ذكرناه في الدرس السابق وقلنا أنّه لا مانع من أن يكون في طول احتمال العقاب واحتمال الضرر وهو عبارة عن التحرّز عن الضرر المحتمل والفرار عن العقاب المحتمل وتجنّبه، هذا أمر جِبلّي طبعي في طبيعة الإنسان ولا يمكن إنكاره وهو ثابت في طول احتمال العقاب، بمعنى أنّ الإنسان بطبعه يفرّ من العقاب المحتمل عند احتماله، أنّ الإنسان عندما يحتمل الضرر يفرّ منه، وهذا الفرار من الضرر وتجنّبه يترتب على احتمال العقاب والضرر، فإذن: يمكن الاستدلال عليه باحتمال الضرر، لكنّ الكلام ليس في هذا التنجيز، وإنّما الكلام في التنجيز العقلي الذي عرفت معناه وأنّ معناه هو دخول التكليف في دائرة حق الطاعة والمولوية، ولعلّ الخلط ــــــــــــــ والله العالم ـــــــــــــــ بين التنجيز العقلي وبين التنجيز الذي ذكرناه هو الذي أوجب تخيّل أنّ التنجيز في طول احتمال العقاب، فصار تخيّل أنّ محل الكلام هو في هذا التنجيز الأخير، أي التنجيز الطبعي الجِبلّي الذي هو في طول احتمال العقاب، بينما الكلام كما قلنا ليس في هذا، وإنّما الكلام في المنجزية العقلية، وتبيّن ممّا تقدّم أنّ الجمع بين منجزية التكليف عقلاً، التنجيز العقلي لاحتمال التكليف وبين قاعدة قبح العقاب بلا بيان الجمع بينهما غير تام؛ بل لعلّه غير ممكن، فعليه: القائل بقبح العقاب بلا بيان لا مفر له من أن يبحث عن منجزية العلم الإجمالي؛ لأنّ القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يؤمّن بمنجزية الاحتمال، لا يرى أنّ احتمال التكليف منجز للتكليف، فلابدّ أن يبحث في محل الكلام عن منجزٍ لذلك التكليف وليس هناك منجز لذلك التكليف بعد استبعاد الاحتمال الصِرف، احتمال التكليف، ليس لذلك منجز إلاّ العلم الإجمالي، أو قل بعبارةٍ أخرى كما قلنا: احتمال التكليف المقرون بالعلم الإجمالي، لابدّ أن يبحث عن منجزية العلم الإجمالي وأنّ العلم الإجمالي هل ينجز هذا التكليف، أو لا ينجزه ؟
على كلّ حال، الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المتباينين، الكلام يقع في عدّة مسائل أو بحوث:
البحث الأوّل: يقع الكلام في حقيقة العلم الإجمالي، ما هو العلم الإجمالي ؟ وما هي حقيقته ؟ هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع ؟ أو لا علم بالجامع ولا علم بالواقع، وإنّما هو علم بالفرد المردّد ؟
البحث الثاني: في شمول أدلّة الأصول الشرعية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي. أنّ أدلّة الأصول الشرعية الترخيصية هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها.
البحث الثالث: في منجزية العلم الإجمالي، وأنّه هل يمنع من جريان الأصول في الأطراف بعد فرض شمول أدلّة الأصول الترخيصية للأطراف ؟ ويتفرّع هذا البحث إلى مسألتين:
المسألة الأوّلى: في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية. وبعبارة أخرى: في إمكان الترخيص في تمام الأطراف، وبناءً على إمكان الترخيص في تمام الأطراف معناه أنّ العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف، أو لا ؟ منجزية العلم الإجمالي تعني أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف ؟ فإذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، فهذا معناه أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية يكون بنحو العليّة التامّة، أي أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية؛ ولذا هو يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف ولا يمكن الترخيص بنظر العقل في تمام الأطراف؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، فلا يمكن الترخيص في تمام الأطراف؛ لأنّ الترخيص في تمام الأطراف هو مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال والمفروض أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، فهذا يعني أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية هو بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّية التامّة، إذا كان تأثيره بنحو الاقتضاء، فلا ينافيه حينئذٍ وجود ما يمنع من هذا التأثير؛ لأنّ تأثيره بنحو الاقتضاء بحسب الفرض، والمانع الذي يمنع من تأثير العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بناءً على الاقتضاء هو عبارة عن الترخيص الشرعي، هذا يشكل مانعاً يمنع من تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية بناءً على الاقتضاء.
المسألة الثانية: هي نفس المسألة الأوّلى، لكن بلحاظ بعض الأطراف، بمعنى أننا نتكلّم عن منجزية العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية بعد فرض تأثير ومنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، يحرم مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال قطعاً؛ حينئذٍ يقع الكلام في أنّه هل تجب موافقته قطعاً، أو لا ؟ وأمّا إذا قلنا أنّه لا ينجز حرمة المخالفة القطعية، فأوضح ومن بابٍ أولى أن لا يكون منجزاً لوجوب الموافقة القطعية، فمن هنا يكون البحث عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية مبني على افتراض منجزيته لحرمة المخالفة القطعية، وإلاّ فلا معنى للبحث عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بعد فرض أنّه لا ينجز حرمة المخالفة القطعية، فيقع البحث الثاني في منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
وبعبارةٍ أخرى: في إمكان الترخيص في بعض الأطراف، هل يمكن الترخيص في بعض الأطراف ؟ الذي يعني عدم الموافقة القطعية، هل العلم الإجمالي مانع من جريان الأصول في بعض الأطراف، أو أنّه ليس مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف ؟ فإن كان مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وأمّا إذا لم يكن مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا يعني أنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هو بنحو الاقتضاء؛ ولذا عندما يكون الترخيص ثابتاً يكون العلم الإجمالي غير مؤثّر في وجوب الموافقة القطعية، فلا مانع من الترخيص في بعض الأطراف بنظر العقل.
إذن: البحث يقع في ثلاثة مسائل:
المسالة الأولى: حقيقة العلم الإجمالي.
المسألة الثانية: في شمول أدلّة الأصول الترخيصية المؤمّنة الشرعية لأطراف العلم الإجمالي.
المسألة الثالثة: في منجزية العلم الإجمالي بكلا جانبيها، المنجزية على مستوى حرمة المخالفة القطعية، والمنجزية على مستوى وجوب الموافقة القطعية. والبحث الثاني في المنجزية مترتب على البحث الأوّل في المنجزية، بمعنى أننا إذا قلنا بالمنجزية لحرمة المخالفة القطعية يقع الكلام في منجزيته لما هو أكثر من ذلك وهو وجوب الموافقة القطعية، وإلاّ فلا مجال للبحث الثاني كما هو واضح.
هذه هي منهجية البحث في المقام خلافاً ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ لبعض الكلمات التي تذكر منهجية أخرى، إنّما ارتأينا هذه المنهجية باعتبار أنّ البحث الأوّل عن حقيقية العلم الإجمالي في الحقيقة هو بمثابة المقدّمة التي لابدّ منها لما بعدها من البحوث باعتبار أن هناك ارتباطاً بين البحوث الآتية وبين البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّ البحوث الآتية وما يُختار فيها يتأثّر بما نفسّر به حقيقة العلم الإجمالي؛ فلذا لابدّ من بحث البحث الأوّل في حقيقة العلم الإجمالي؛ ولأجل ذلك ذكرناه أوّلاً.
ثمّ أننا قدّمنا البحث عن شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، هذا التقديم وجَعْل هذا بحثاً مستقلاً إنّما هو باعتبار أنّ البحث الثالث عن مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول في الأطراف كلاً، أو بعضاً، هذا البحث عن المانعية يفترض شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي حتّى نتعقّل البحث عن أنّ العلم الإجمالي يمنع أو لا يمنع. إذن: لابدّ من افتراض الشمول حتّى نتكلّم بعد ذلك أنّ هذا العلم الإجمالي يمنع من هذا الشمول، أو لا يمنع من هذا الشمول ؟ هل العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول العملية في تمام الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث الأوّل. هل العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول العملية في بعض الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث عن المانعية يتوقّف على افتراض أنّه لولا المانعية لكان دليل الأصل شاملاً للأطراف كلاً، أو بعضاً، فإذن، لابدّ من الكلام عن أصل الشمول بقطع النظر عن المنجزية، اساساً هل أنّ أدلّة الأصول العملية قابلة لأن تشمل أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو أنّها أصلاً ليس فيها قابلية لذلك، إذا لم تكن لها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، وكانت تختص بخصوص الشبهات البدوية؛ حينئذٍ لا داعي للبحث عن أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من الشمول، أو لا يمنع، هي أساساً غير قابلة لأن تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، إذن، يبدو أنّه لابدّ أن نبحث أنّ أدلة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو لا ؟ بعد الفراغ عن الشمول يقع الكلام عن البحث الثالث المهم وهو المنجزية، أنّ العلم الإجمالي هل ينجّز حرمة المخالفة القطعية، أو لا ؟ هل ينجز وجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ وهذا البحث هو في واقعه بحث عن المانعية، بحث في أنّ العلم الإجمالي عندما يحصل للإنسان هل يمنع من جريان الأصول في تمام أطراف العلم الإجمالي ؟ بعد الفراغ عن أنّه يمنع من جريان الأصول في تمام أطراف العلم الإجمالي، يقع البحث ثانياً في أنّه هل يمنع من جريان الأصول في بعض أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ التي هي مرحلة وجوب الموافقة القطعية، فهو بحث عن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، هذا البحث عن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يستبطن ويفترض أنّه لولا هذا المانع لكانت أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، هذا لابدّ من بحثه، لأنّ فيه بحث وكلام كما سيأتي، هل أنّ أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أو أنّها أساساً مختصّة بالشبهات البدوية ؟ فالكلام يقع في هذه المباحث الثلاثة.
أمّا بالنسبة إلى البحث الأوّل: في حقيقة العلم الإجمالي وماهيته، اختلفت كلمات المتأخّرين في تفسير حقيقة العلم الإجمالي، والمعروف أنّ هناك آراء ثلاثة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي:
الرأي الأوّل: هو الذي يظهر من صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، بمعنى أنّ المتعلّق للعلم الإجمالي هو الفرد المردّد. صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر ذلك في حاشية له في مبحث الواجب التخييري، حيث طرح هناك عدّة نظريات في تفسير الواجب التخييري، وكانت واحدة من هذه النظريات هي أنّ الواجب في الواجبات التخييرية هو الفرد المردّد، طرح هذا كاحتمال وناقشه ولم يرتضه، لكنّه ذكر في الحاشية بأنّه ليس الإشكال في هذه النظرية في تفسير الواجب التخييري بأنّه عبارة عن الفرد المردّد، ليس الإشكال في هذه النظرية هو أنّه كيف يتعلّق وصف بالفرد المردّد، الإشكال ليس من هذه الجهة؛ باعتبار أنّه يقول ليس لدينا مشكلة في تعلّق الوصف الحقيقي بالواحد المردّد، أو بالفرد المردّد، فما ظنّك بالوصف الاعتباري كالوجوب في محل الكلام، نتكلّم عن الواجب التخييري، يقول: نحن نقول أنّ الواحد والفرد المردّد يتّصف بأمرٍ حقيقي له حظ من الوجود وليس أمراً اعتبارياً ومجرّد اعتبار، هذا الوصف الحقيقي مثل العلم، لا مانع من أن يتعلّق العلم بالفرد المردّد وهو أمر حقيقي وليس أمراً اعتبارياً، فإذن: لا مشكلة في تعلّق الوصف بالأمر المردّد، سواء كان الوصف وصفاً اعتبارياً كالوجوب، أو كان وصفاً حقيقياً كالعلم، وهذا العلم الذي يتعلّق بالفرد المردّد هو العلم الإجمالي. فُهم من هذه الحاشية أنّه يرى أنّ العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، فيكون متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد المردّد.
الظاهر أنّ مقصوده هو أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد الخارجي المتعيّن خارجاً على نحوٍ لا يقبل الانطباق على كثيرين، لكن مع تردّده بين شخصين، فهو علم يتعلّق بالفرد الخارجي المتعيّن ومتعلّق هذا العلم الإجمالي لا يقبل الانطباق إلاّ على ذلك الفرد، لكنّ ذلك الفرد الذي تعلّق به العلم الإجمالي مرددّ بين فردين، ويمثّل لذلك بما إذا رأى شخص إنساناً من بعيد ولم يستطع أن يميّزه، وتردّد عنده بين شخصين، إمّا زيد، أو عمرو، الرؤيا هي بمثابة العلم في محل الكلام، الرؤيا تعلّقت بفردٍ خارجي متعيّنٍ في الخارج لا يقبل الانطباق على كثيرين، متعلّق الرؤيا هو فرد خارجي له تعيّن في الخارج ولا يقبل الانطباق على غيره، لكنّ هذا الفرد الذي تعلّقت به الرؤيا مردّد نتيجة بُعد، أو شيء آخر، فكأنّ العلم الإجمالي هو من هذا القبيل، متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد الذي له تعيّن في الخارج، لكنّه مردّد بين فردين. هذا رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
الرأي الثاني: هو الذي أختاره صريحاً المحقق الأصفهاني(قدّس سرّه)[1] وقيل أنّه يظهر من كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع لا بالفرد المرددّ، بينما العلم التفصيلي يتعلّق بالفرد، أي بالواقع، فيكون الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي هو في طرف المعلوم، أي في طرف المتعلّق، فالمتعلّق لهما مختلف لا في ناحية العلم، فالعلم واحد فيهما ولا فرق بين الانكشاف في العلم التفصيلي وبين الانكشاف في العلم الإجمالي، كل منهما واحد ولا فرق في العلم، وإنّما الفرق في المتعلّق، فالعلم التفصيلي يتعلّق بالواقع بتمام خصوصياته، بينما العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا يتعلّق بالفرد، الفرق في المعلوم أو المتعلّق لا في نفس العلم. هذا عُبّر عنه بأنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع مع شكوك في الأفراد.
الرأي الثالث: هو الرأي الذي اختاره المحقق العراقي(قدّس سرّه) [2]حيث يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ويتعلّق بالفرد وما ينكشف به هو الواقع كما هو الحال في العلم التفصيلي، فكما أنّ ما ينكشف في العلم التفصيلي هو الواقع، وهو الفرد بخصوصياته، كذلك ما ينكشف بالعلم الإجمالي هو الواقع، غاية الأمر أنّ الفرق بينهما هو في نفس العلم لا في المعلوم كما في التفسير الثاني، نفس العلم والانكشاف فيهما مختلف، في العلم التفصيلي يكون الانكشاف تامّاً وهناك وضوح تام ولا يوجد أيّ غموض واشتباه، بينما الانكشاف في العلم الإجمالي ليس بذاك الوضوح، الصورة في العلم التفصيلي صورة واضحة، بينما الصورة في العلم الإجمالي صورة مشوّشة وفيها غموض، فيقول أنّ الفرق بينهما في نفس العلم لا في المعلوم، وإلاّ، كل منهما يتعلّق بالفرد وبالواقع، غاية الأمر أنّ رؤية الفرد تختلف، فقد تكون الرؤيا رؤية واضحة، وقد تكون رؤية مشوّشة، في باب العلم الإجمالي يوجد تشويش في الرؤية والانكشاف، يوجد تشويش في العلم، بينما في العلم التفصيلي لا يوجد مثل ذلك. هذا هو الرأي الثالث في محل الكلام. هذه أهم الآراء في المقام.
ما نريد أن نقوله في المقام، أساساً نريد أن نرى أنّه هل هناك حاجة وضرورة للدخول في تفاصيل البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّه هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد ؟ وهل يمكن تصوّر الفرد المردد في المقام، أو لا يمكن تصوّره ؟ هل هناك ضرورة للدخول في تفاصيل هذا البحث، أو ليس هناك ضرورة لذلك ؟
وبعبارةٍ أخرى: هل لهذا البحث والاختلاف في تفسير العلم الإجمالي تأثير في الأبحاث الآتية، أو ليس له تأثير ؟ إذا كان له تأثير في البحوث الآتية، إذن، لابدّ من الدخول في بحثه حتّى نكوّن فكرة عن حقيقة العلم الإجمالي وعلى ضوء هذه الفكرة سوف نختار ما نختاره في المسائل الآتية، وأمّا إذا لم يكن له تأثير في البحوث الآتية، بمعنى أننا نختار ما نختاره في البحوث الآتية على كل الاحتمالات في تفسير العلم الإجمالي، سواء فسّرناه بأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردد، نحن نختار ما نختاره في البحوث الآتية بمعزلٍ عن ذلك؛ حينئذٍ لا يكون هناك ضرورة للدخول في هذا البحث. الذي يمكن أن يقال في مقام الجواب عن هذا السؤال هو أنّه لا إشكال في أنّ معظم البحوث الآتية ليس للبحث الأوّل تأثير فيها، بمعنى أنّ البحث الثاني واضح أنّه ليس للبحث في حقيقة العلم الإجمالي تأثير فيه، الذي عنوناه في البحث الثاني هو شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، هذا لا علاقة له بكيفية تفسير العلم الإجمالي، اي شيء فسّرنا به العلم الإجمالي نبحث عن أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها ؟
بعبارة أوضح: أنّ البحث الثاني هو بحث إثباتي، أدلّة الأصول هل فيها إطلاق يجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أم ليس فيها هذا الإطلاق ؟ الشيخ الأنصاري أدّعى أنّ أدلّة الأصول ليس فيها إطلاق يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه يلزم من ذلك، أو التهافت ـــــــــــ كما سمّاه ــــــــــــ بين صدر دليل الأصل وبينه ذيله؛ لأنّه لاحظ أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هي مذيّلة بالعلم(حتّى تعلم أنّه حرام.....) وأمثالها، حينئذٍ يحصل تهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها، بمعنى أنّ شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي يوقع هذا التهافت؛ لأنّ دليل الأصل يقول أنت مرّخص إلى أن تعلم، وأنا لدي علم هنا في المقام، في باب العلم الإجمالي لديّ علم بالحرمة، فلابدّ أن يرتفع الصدر، فشمولها لباب العلم الإجمالي يوجب وقوع التهافت في نفس دليل الأصل؛ ولذا لا تكون أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، هذا بحث إثباتي، أمّا الطرف الآخر، فيقول فيها إطلاق يشمل أدلّة الأصول العملية، أمّا المحقق النائيني(قدّس سرّه) فيميّز بين الأصول العملية التنزيلية، فيرى أنّها غير شاملة وبين الأصول العملية غير التنزيلية، فيرى أنّها شاملة،[3] هذا كلّه بحث إثباتي لا يتوقّف على تحقيق أنّ حقيقة العلم الإجمالي هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو علم بالفرد المردّد ؟
ذكرنا في الدرس السابق أنّ التنجيز العقلي المبحوث عنه في المقام لا يمكن الاستدلال عليه بمسألة احتمال العقاب وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو العقاب المحتمل؛ وذلك لأنّ احتمال العقاب في طول هذا التنجيز ومترتب عليه، فلابدّ أن يقع البحث في أصل التنجيز العقلي لاحتمال التكليف، أنّ احتمال التكليف هل ينجز التكليف عقلاً، وهل يدخله في حق الطاعة والمولوية، أو لا ؟ نعم هناك تنجيز آخر ذكرناه في الدرس السابق وقلنا أنّه لا مانع من أن يكون في طول احتمال العقاب واحتمال الضرر وهو عبارة عن التحرّز عن الضرر المحتمل والفرار عن العقاب المحتمل وتجنّبه، هذا أمر جِبلّي طبعي في طبيعة الإنسان ولا يمكن إنكاره وهو ثابت في طول احتمال العقاب، بمعنى أنّ الإنسان بطبعه يفرّ من العقاب المحتمل عند احتماله، أنّ الإنسان عندما يحتمل الضرر يفرّ منه، وهذا الفرار من الضرر وتجنّبه يترتب على احتمال العقاب والضرر، فإذن: يمكن الاستدلال عليه باحتمال الضرر، لكنّ الكلام ليس في هذا التنجيز، وإنّما الكلام في التنجيز العقلي الذي عرفت معناه وأنّ معناه هو دخول التكليف في دائرة حق الطاعة والمولوية، ولعلّ الخلط ــــــــــــــ والله العالم ـــــــــــــــ بين التنجيز العقلي وبين التنجيز الذي ذكرناه هو الذي أوجب تخيّل أنّ التنجيز في طول احتمال العقاب، فصار تخيّل أنّ محل الكلام هو في هذا التنجيز الأخير، أي التنجيز الطبعي الجِبلّي الذي هو في طول احتمال العقاب، بينما الكلام كما قلنا ليس في هذا، وإنّما الكلام في المنجزية العقلية، وتبيّن ممّا تقدّم أنّ الجمع بين منجزية التكليف عقلاً، التنجيز العقلي لاحتمال التكليف وبين قاعدة قبح العقاب بلا بيان الجمع بينهما غير تام؛ بل لعلّه غير ممكن، فعليه: القائل بقبح العقاب بلا بيان لا مفر له من أن يبحث عن منجزية العلم الإجمالي؛ لأنّ القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يؤمّن بمنجزية الاحتمال، لا يرى أنّ احتمال التكليف منجز للتكليف، فلابدّ أن يبحث في محل الكلام عن منجزٍ لذلك التكليف وليس هناك منجز لذلك التكليف بعد استبعاد الاحتمال الصِرف، احتمال التكليف، ليس لذلك منجز إلاّ العلم الإجمالي، أو قل بعبارةٍ أخرى كما قلنا: احتمال التكليف المقرون بالعلم الإجمالي، لابدّ أن يبحث عن منجزية العلم الإجمالي وأنّ العلم الإجمالي هل ينجز هذا التكليف، أو لا ينجزه ؟
على كلّ حال، الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المتباينين، الكلام يقع في عدّة مسائل أو بحوث:
البحث الأوّل: يقع الكلام في حقيقة العلم الإجمالي، ما هو العلم الإجمالي ؟ وما هي حقيقته ؟ هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع ؟ أو لا علم بالجامع ولا علم بالواقع، وإنّما هو علم بالفرد المردّد ؟
البحث الثاني: في شمول أدلّة الأصول الشرعية المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالي. أنّ أدلّة الأصول الشرعية الترخيصية هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها.
البحث الثالث: في منجزية العلم الإجمالي، وأنّه هل يمنع من جريان الأصول في الأطراف بعد فرض شمول أدلّة الأصول الترخيصية للأطراف ؟ ويتفرّع هذا البحث إلى مسألتين:
المسألة الأوّلى: في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية. وبعبارة أخرى: في إمكان الترخيص في تمام الأطراف، وبناءً على إمكان الترخيص في تمام الأطراف معناه أنّ العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف، أو لا ؟ منجزية العلم الإجمالي تعني أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف ؟ فإذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، فهذا معناه أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية يكون بنحو العليّة التامّة، أي أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية؛ ولذا هو يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف ولا يمكن الترخيص بنظر العقل في تمام الأطراف؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، فلا يمكن الترخيص في تمام الأطراف؛ لأنّ الترخيص في تمام الأطراف هو مخالفة قطعية للتكليف المعلوم بالإجمال والمفروض أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية. وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف، فهذا يعني أنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية هو بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّية التامّة، إذا كان تأثيره بنحو الاقتضاء، فلا ينافيه حينئذٍ وجود ما يمنع من هذا التأثير؛ لأنّ تأثيره بنحو الاقتضاء بحسب الفرض، والمانع الذي يمنع من تأثير العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بناءً على الاقتضاء هو عبارة عن الترخيص الشرعي، هذا يشكل مانعاً يمنع من تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية بناءً على الاقتضاء.
المسألة الثانية: هي نفس المسألة الأوّلى، لكن بلحاظ بعض الأطراف، بمعنى أننا نتكلّم عن منجزية العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية بعد فرض تأثير ومنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، يحرم مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال قطعاً؛ حينئذٍ يقع الكلام في أنّه هل تجب موافقته قطعاً، أو لا ؟ وأمّا إذا قلنا أنّه لا ينجز حرمة المخالفة القطعية، فأوضح ومن بابٍ أولى أن لا يكون منجزاً لوجوب الموافقة القطعية، فمن هنا يكون البحث عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية مبني على افتراض منجزيته لحرمة المخالفة القطعية، وإلاّ فلا معنى للبحث عن منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بعد فرض أنّه لا ينجز حرمة المخالفة القطعية، فيقع البحث الثاني في منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
وبعبارةٍ أخرى: في إمكان الترخيص في بعض الأطراف، هل يمكن الترخيص في بعض الأطراف ؟ الذي يعني عدم الموافقة القطعية، هل العلم الإجمالي مانع من جريان الأصول في بعض الأطراف، أو أنّه ليس مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف ؟ فإن كان مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وأمّا إذا لم يكن مانعاً من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا يعني أنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هو بنحو الاقتضاء؛ ولذا عندما يكون الترخيص ثابتاً يكون العلم الإجمالي غير مؤثّر في وجوب الموافقة القطعية، فلا مانع من الترخيص في بعض الأطراف بنظر العقل.
إذن: البحث يقع في ثلاثة مسائل:
المسالة الأولى: حقيقة العلم الإجمالي.
المسألة الثانية: في شمول أدلّة الأصول الترخيصية المؤمّنة الشرعية لأطراف العلم الإجمالي.
المسألة الثالثة: في منجزية العلم الإجمالي بكلا جانبيها، المنجزية على مستوى حرمة المخالفة القطعية، والمنجزية على مستوى وجوب الموافقة القطعية. والبحث الثاني في المنجزية مترتب على البحث الأوّل في المنجزية، بمعنى أننا إذا قلنا بالمنجزية لحرمة المخالفة القطعية يقع الكلام في منجزيته لما هو أكثر من ذلك وهو وجوب الموافقة القطعية، وإلاّ فلا مجال للبحث الثاني كما هو واضح.
هذه هي منهجية البحث في المقام خلافاً ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ لبعض الكلمات التي تذكر منهجية أخرى، إنّما ارتأينا هذه المنهجية باعتبار أنّ البحث الأوّل عن حقيقية العلم الإجمالي في الحقيقة هو بمثابة المقدّمة التي لابدّ منها لما بعدها من البحوث باعتبار أن هناك ارتباطاً بين البحوث الآتية وبين البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّ البحوث الآتية وما يُختار فيها يتأثّر بما نفسّر به حقيقة العلم الإجمالي؛ فلذا لابدّ من بحث البحث الأوّل في حقيقة العلم الإجمالي؛ ولأجل ذلك ذكرناه أوّلاً.
ثمّ أننا قدّمنا البحث عن شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، هذا التقديم وجَعْل هذا بحثاً مستقلاً إنّما هو باعتبار أنّ البحث الثالث عن مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول في الأطراف كلاً، أو بعضاً، هذا البحث عن المانعية يفترض شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي حتّى نتعقّل البحث عن أنّ العلم الإجمالي يمنع أو لا يمنع. إذن: لابدّ من افتراض الشمول حتّى نتكلّم بعد ذلك أنّ هذا العلم الإجمالي يمنع من هذا الشمول، أو لا يمنع من هذا الشمول ؟ هل العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول العملية في تمام الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث الأوّل. هل العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول العملية في بعض الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث عن المانعية يتوقّف على افتراض أنّه لولا المانعية لكان دليل الأصل شاملاً للأطراف كلاً، أو بعضاً، فإذن، لابدّ من الكلام عن أصل الشمول بقطع النظر عن المنجزية، اساساً هل أنّ أدلّة الأصول العملية قابلة لأن تشمل أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو أنّها أصلاً ليس فيها قابلية لذلك، إذا لم تكن لها قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي، وكانت تختص بخصوص الشبهات البدوية؛ حينئذٍ لا داعي للبحث عن أنّ العلم الإجمالي هل يمنع من الشمول، أو لا يمنع، هي أساساً غير قابلة لأن تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، إذن، يبدو أنّه لابدّ أن نبحث أنّ أدلة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالي كلاً، أو بعضاً، أو لا ؟ بعد الفراغ عن الشمول يقع الكلام عن البحث الثالث المهم وهو المنجزية، أنّ العلم الإجمالي هل ينجّز حرمة المخالفة القطعية، أو لا ؟ هل ينجز وجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ وهذا البحث هو في واقعه بحث عن المانعية، بحث في أنّ العلم الإجمالي عندما يحصل للإنسان هل يمنع من جريان الأصول في تمام أطراف العلم الإجمالي ؟ بعد الفراغ عن أنّه يمنع من جريان الأصول في تمام أطراف العلم الإجمالي، يقع البحث ثانياً في أنّه هل يمنع من جريان الأصول في بعض أطراف العلم الإجمالي، أو لا ؟ التي هي مرحلة وجوب الموافقة القطعية، فهو بحث عن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي، هذا البحث عن مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يستبطن ويفترض أنّه لولا هذا المانع لكانت أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، هذا لابدّ من بحثه، لأنّ فيه بحث وكلام كما سيأتي، هل أنّ أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أو أنّها أساساً مختصّة بالشبهات البدوية ؟ فالكلام يقع في هذه المباحث الثلاثة.
أمّا بالنسبة إلى البحث الأوّل: في حقيقة العلم الإجمالي وماهيته، اختلفت كلمات المتأخّرين في تفسير حقيقة العلم الإجمالي، والمعروف أنّ هناك آراء ثلاثة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي:
الرأي الأوّل: هو الذي يظهر من صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، بمعنى أنّ المتعلّق للعلم الإجمالي هو الفرد المردّد. صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر ذلك في حاشية له في مبحث الواجب التخييري، حيث طرح هناك عدّة نظريات في تفسير الواجب التخييري، وكانت واحدة من هذه النظريات هي أنّ الواجب في الواجبات التخييرية هو الفرد المردّد، طرح هذا كاحتمال وناقشه ولم يرتضه، لكنّه ذكر في الحاشية بأنّه ليس الإشكال في هذه النظرية في تفسير الواجب التخييري بأنّه عبارة عن الفرد المردّد، ليس الإشكال في هذه النظرية هو أنّه كيف يتعلّق وصف بالفرد المردّد، الإشكال ليس من هذه الجهة؛ باعتبار أنّه يقول ليس لدينا مشكلة في تعلّق الوصف الحقيقي بالواحد المردّد، أو بالفرد المردّد، فما ظنّك بالوصف الاعتباري كالوجوب في محل الكلام، نتكلّم عن الواجب التخييري، يقول: نحن نقول أنّ الواحد والفرد المردّد يتّصف بأمرٍ حقيقي له حظ من الوجود وليس أمراً اعتبارياً ومجرّد اعتبار، هذا الوصف الحقيقي مثل العلم، لا مانع من أن يتعلّق العلم بالفرد المردّد وهو أمر حقيقي وليس أمراً اعتبارياً، فإذن: لا مشكلة في تعلّق الوصف بالأمر المردّد، سواء كان الوصف وصفاً اعتبارياً كالوجوب، أو كان وصفاً حقيقياً كالعلم، وهذا العلم الذي يتعلّق بالفرد المردّد هو العلم الإجمالي. فُهم من هذه الحاشية أنّه يرى أنّ العلم الإجمالي هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، فيكون متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد المردّد.
الظاهر أنّ مقصوده هو أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد الخارجي المتعيّن خارجاً على نحوٍ لا يقبل الانطباق على كثيرين، لكن مع تردّده بين شخصين، فهو علم يتعلّق بالفرد الخارجي المتعيّن ومتعلّق هذا العلم الإجمالي لا يقبل الانطباق إلاّ على ذلك الفرد، لكنّ ذلك الفرد الذي تعلّق به العلم الإجمالي مرددّ بين فردين، ويمثّل لذلك بما إذا رأى شخص إنساناً من بعيد ولم يستطع أن يميّزه، وتردّد عنده بين شخصين، إمّا زيد، أو عمرو، الرؤيا هي بمثابة العلم في محل الكلام، الرؤيا تعلّقت بفردٍ خارجي متعيّنٍ في الخارج لا يقبل الانطباق على كثيرين، متعلّق الرؤيا هو فرد خارجي له تعيّن في الخارج ولا يقبل الانطباق على غيره، لكنّ هذا الفرد الذي تعلّقت به الرؤيا مردّد نتيجة بُعد، أو شيء آخر، فكأنّ العلم الإجمالي هو من هذا القبيل، متعلّق العلم الإجمالي هو الفرد الذي له تعيّن في الخارج، لكنّه مردّد بين فردين. هذا رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
الرأي الثاني: هو الذي أختاره صريحاً المحقق الأصفهاني(قدّس سرّه)[1] وقيل أنّه يظهر من كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع لا بالفرد المرددّ، بينما العلم التفصيلي يتعلّق بالفرد، أي بالواقع، فيكون الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي هو في طرف المعلوم، أي في طرف المتعلّق، فالمتعلّق لهما مختلف لا في ناحية العلم، فالعلم واحد فيهما ولا فرق بين الانكشاف في العلم التفصيلي وبين الانكشاف في العلم الإجمالي، كل منهما واحد ولا فرق في العلم، وإنّما الفرق في المتعلّق، فالعلم التفصيلي يتعلّق بالواقع بتمام خصوصياته، بينما العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا يتعلّق بالفرد، الفرق في المعلوم أو المتعلّق لا في نفس العلم. هذا عُبّر عنه بأنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع مع شكوك في الأفراد.
الرأي الثالث: هو الرأي الذي اختاره المحقق العراقي(قدّس سرّه) [2]حيث يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ويتعلّق بالفرد وما ينكشف به هو الواقع كما هو الحال في العلم التفصيلي، فكما أنّ ما ينكشف في العلم التفصيلي هو الواقع، وهو الفرد بخصوصياته، كذلك ما ينكشف بالعلم الإجمالي هو الواقع، غاية الأمر أنّ الفرق بينهما هو في نفس العلم لا في المعلوم كما في التفسير الثاني، نفس العلم والانكشاف فيهما مختلف، في العلم التفصيلي يكون الانكشاف تامّاً وهناك وضوح تام ولا يوجد أيّ غموض واشتباه، بينما الانكشاف في العلم الإجمالي ليس بذاك الوضوح، الصورة في العلم التفصيلي صورة واضحة، بينما الصورة في العلم الإجمالي صورة مشوّشة وفيها غموض، فيقول أنّ الفرق بينهما في نفس العلم لا في المعلوم، وإلاّ، كل منهما يتعلّق بالفرد وبالواقع، غاية الأمر أنّ رؤية الفرد تختلف، فقد تكون الرؤيا رؤية واضحة، وقد تكون رؤية مشوّشة، في باب العلم الإجمالي يوجد تشويش في الرؤية والانكشاف، يوجد تشويش في العلم، بينما في العلم التفصيلي لا يوجد مثل ذلك. هذا هو الرأي الثالث في محل الكلام. هذه أهم الآراء في المقام.
ما نريد أن نقوله في المقام، أساساً نريد أن نرى أنّه هل هناك حاجة وضرورة للدخول في تفاصيل البحث عن حقيقة العلم الإجمالي وأنّه هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد ؟ وهل يمكن تصوّر الفرد المردد في المقام، أو لا يمكن تصوّره ؟ هل هناك ضرورة للدخول في تفاصيل هذا البحث، أو ليس هناك ضرورة لذلك ؟
وبعبارةٍ أخرى: هل لهذا البحث والاختلاف في تفسير العلم الإجمالي تأثير في الأبحاث الآتية، أو ليس له تأثير ؟ إذا كان له تأثير في البحوث الآتية، إذن، لابدّ من الدخول في بحثه حتّى نكوّن فكرة عن حقيقة العلم الإجمالي وعلى ضوء هذه الفكرة سوف نختار ما نختاره في المسائل الآتية، وأمّا إذا لم يكن له تأثير في البحوث الآتية، بمعنى أننا نختار ما نختاره في البحوث الآتية على كل الاحتمالات في تفسير العلم الإجمالي، سواء فسّرناه بأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردد، نحن نختار ما نختاره في البحوث الآتية بمعزلٍ عن ذلك؛ حينئذٍ لا يكون هناك ضرورة للدخول في هذا البحث. الذي يمكن أن يقال في مقام الجواب عن هذا السؤال هو أنّه لا إشكال في أنّ معظم البحوث الآتية ليس للبحث الأوّل تأثير فيها، بمعنى أنّ البحث الثاني واضح أنّه ليس للبحث في حقيقة العلم الإجمالي تأثير فيه، الذي عنوناه في البحث الثاني هو شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، هذا لا علاقة له بكيفية تفسير العلم الإجمالي، اي شيء فسّرنا به العلم الإجمالي نبحث عن أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هل تشمل أطراف العلم الإجمالي، أو لا تشملها ؟
بعبارة أوضح: أنّ البحث الثاني هو بحث إثباتي، أدلّة الأصول هل فيها إطلاق يجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالي، أم ليس فيها هذا الإطلاق ؟ الشيخ الأنصاري أدّعى أنّ أدلّة الأصول ليس فيها إطلاق يشمل أطراف العلم الإجمالي؛ لأنّه يلزم من ذلك، أو التهافت ـــــــــــ كما سمّاه ــــــــــــ بين صدر دليل الأصل وبينه ذيله؛ لأنّه لاحظ أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هي مذيّلة بالعلم(حتّى تعلم أنّه حرام.....) وأمثالها، حينئذٍ يحصل تهافت بين صدر الرواية وبين ذيلها، بمعنى أنّ شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي يوقع هذا التهافت؛ لأنّ دليل الأصل يقول أنت مرّخص إلى أن تعلم، وأنا لدي علم هنا في المقام، في باب العلم الإجمالي لديّ علم بالحرمة، فلابدّ أن يرتفع الصدر، فشمولها لباب العلم الإجمالي يوجب وقوع التهافت في نفس دليل الأصل؛ ولذا لا تكون أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالي، هذا بحث إثباتي، أمّا الطرف الآخر، فيقول فيها إطلاق يشمل أدلّة الأصول العملية، أمّا المحقق النائيني(قدّس سرّه) فيميّز بين الأصول العملية التنزيلية، فيرى أنّها غير شاملة وبين الأصول العملية غير التنزيلية، فيرى أنّها شاملة،[3] هذا كلّه بحث إثباتي لا يتوقّف على تحقيق أنّ حقيقة العلم الإجمالي هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو علم بالفرد المردّد ؟