35/04/10
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
بالنسبة إلى الأقوال الأخرى، القول الأوّل تقدّم ما فيه، وهو دعوى جريان البراءة الشرعية والعقلية في محل الكلام وتبيّن أنّ هناك توقفاً في جريان البراءة الشرعية في محل الكلام، لكنّ جريان البراءة العقلية في محل الكلام بلحاظ الأطراف، بلحاظ احتمال الوجوب واحتمال التحريم على الظاهر أنّه ليس فيه محذور.
القول الثاني: تقديم جانب التحريم، باعتبار أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.
لكن أورد عليه :
أولاً: أنّ هذه القاعدة لم يدل عليها دليل، لا شرعي ولا عقلي؛ إذ لا دليل على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة بنحو الإطلاق كما هو المدّعى في المقام، لابدّ أن يُدّعى أنّ هذه القاعدة ثابتة مطلقاً، أنّه في كل موردٍ يكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة وهذا يستدعي تقديم جانب التحريم.
وبعبارةٍ أخرى: كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ المنافع والمفاسد تختلف باختلاف الموارد، فربّ نفع يكون جلبه أولى من دفع المفسدة، كما أنّه ربّ مفسدةٍ يكون دفعها أولى من جلب المصلحة، وربما يتساويان، فلا توجد عندنا قاعدة كلّية مضطردة في جميع الموارد بحيث يقدّم جانب التحريم في جميع الموارد على جانب الوجوب، وإنّما هذا يختلف باختلاف الموارد.[1]
ثانياً: أساساً هذا التصوّر مبني على افتراض أنّ الواجبات ليس فيها إلاّ جلب المنفعة بحيث لا يكون في تركها مفسدة؛ بل مجرّد فوات منفعة؛ حينئذٍ يقال: أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، يعني تقديم جانب التحريم الذي يتحقق فيه جانب دفع المفسدة هو أولى من جانب الوجوب الذي يتحقق فيه جلب المنافع وكأنّه في الواجبات لا يوجد إلاّ جلب المنفعة وتركه ليس فيه وقوع في المفسدة، وإنّما في تركه مجرّد فوات المنفعة، عندما يطرح بهذا الشكل؛ حينئذٍ هذه القاعدة قد تكون مقبولة، لكنّ هذا الطرح غير مقبول، وذلك لأنّ ترك الواجب لماذا لا نقول أنّ فيه مفسدة ؟ ترك الواجب فيه مفسدة، كما أنّ فعل الحرام فيه مفسدة، ترك الواجب أيضاً فيه مفسدة، ففي الحقيقة حينئذٍ لا مبرّر لتقديم جانب التحريم بادعاء أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما أنّ في تقديم التحريم دفع المفسدة، لكنه نتيجة ترك الواجب يقع في مفسدةٍ أيضاً، فالأمر لا يدور بين منفعة ومفسدة، وإنّما يدور بين مفسدتين، أحداهما تترتّب على فعل الحرام، والأخرى تترتب على ترك الواجب، فعل الحرام فيه مفسدة وترك الواجب أيضاً فيه مفسدة، ترك الواجب ليس فيه فقط فوات منفعة وعدم حصول على منفعة، وإنّما فيه أيضاً وقوع في مفسدة، فلا وجه لتقديم جانب التحريم على أساس هذه الدعوى.
ثالثاً: في موارد الشبهات التحريمية تجري البراءة بلا إشكال، على ما تقدّم سابقاً، ومعنى جريان البراءة في الشبهات التحريمية أنّه لا يجب على المكلّف أن يراعي احتمال التحريم بالرغم من القطع بعدم وجود المصلحة، مع ذلك الشارع لم يأمر المكلّف بأن يراعي جانب التحريم، فكيف يقال بلزوم مراعاة جانب التحريم مع وجود احتمال المصلحة في مقابله كما في محل الكلام، ففي محل الكلام هناك مفسدة كما قيل وفي مقابله هناك مصلحة في الوجوب، هذه الحرمة التي يوجد في قبالها مفسدة قالوا بأنّه تجب مراعاتها ويقدّم جانب التحريم، بينما نجد في الشبهات التحريمية احتمال المفسدة الذي لا يوجد في قباله احتمال المصلحة، مع ذلك لم يؤمر المكلّف بمراعاة جانب التحريم؛ بل جرت البراءة ولم يراعِ جانب احتمال المفسدة واحتمال التحريم، إذن، كيف يقال أنّه في محل الكلام لابدّ من مراعاة جانب المفسدة مع أنّه يوجد في قبالها احتمال المصلحة، هذا غير قابل للتصديق ! كيف يمكن أن يقال بذلك ؟ والحال أنّ الشارع في الموارد التي لا يوجد فيها إلاّ احتمال المفسدة ولا يوجد في قبالها مصلحة محتملة تزاحمها، مع ذلك لم يراعٍ جانب التحريم، ولم يأمر المكلّف بمراعاة جانب التحريم، فكيف يأمره بمراعاة جانب التحريم في محل الكلام مع وجود احتمال المصلحة في مقابل احتمال المفسدة.
بالنسبة إلى ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهو دعوى أنّ الواجبات أيضاً في تركها مفسدة، الظاهر أنّه خلاف ما بنوا عليه كما تقدّم في بحث النواهي من أنّ النهي، بأيّ شيءٍ فسّرناه، سواء فسّرناه بالزجر عن الفعل، أو فسّرناه بطلب الترك، على كلا التقديرين هو ينشأ من مفسدة في الفعل، ينشأ عن مفسدة في متعلّقه، في قباله الأمر وينشأ من مصلحةٍ في متعلّقه، الأمر لا ينشأ من مفسدة في ترك متعلّقه، وإنّما ينشأ من مصلحةٍ في متعلّقه في مقابل النهي الذي ينشأ من مفسدة، هذا هو الفرق بين الأمر وبين النهي، سواء فسّرنا النهي بالزجر عن الفعل كما يقال، أو بطلب الترك، على كل حال النهي ينشأ عن مفسدةٍ في متعلّقه والأمر ينشأ عن مصلحة في متعلّقه، إذن، الواجبات تنشأ من مصالح في متعلّقاتها، وهذا معناه أنّ المكلّف إذا ترك الواجب تفوته المصلحة، لا يدرك المصلحة الموجودة في المتعلّق لا أنّه إذا ترك الواجب يقع في مفسدة في مقابل المصلحة، الواجب ليس فيه إلاّ مصلحة في المتعلّق وترك الواجب ليس فيه إلاّ فوات تلك المصلحة، كما أنّ النهي ليس فيه إلاّ مفسدة في المتعلّق وليس في ارتكاب الحرام إلاّ الوقوع في تلك المفسدة الموجودة في متعلّق النهي، إذن، بناءً على هذا يصحّ ما قيل من أنّ الواجبات ليس فيها إلاّ مصالح في متعلّقاتها، وأنّ ترك الواجب لا يترتب عليه إلاّ فوات تلك المصالح؛ وحينئذٍ تأتي القاعدة التي ذكروها وهي أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، عندما يدور الأمر بين وجوب وبين تحريم كما في محل الكلام، فيقال نقدّم جانب التحريم؛ لأنّ دفع المفسدة الذي يتحقق بتقديم جانب التحريم أولى من جلب المصلحة الذي يتحقق بتقديم جانب الوجوب؛ لأنّ الواجب ليس فيه إلاّ مصلحة، وترك الواجب ليس فيه إلاّ فوات تلك المصلحة، فإذا دار الأمر بين أن تفوت الإنسان مصلحة، أو يقع في مفسدة، تجنّب الوقوع في المفسدة أولى من تحصيل المنفعة، فادعاء أنّ الواجبات ليس هكذا، وإنّما الواجبات قد تنشأ من مفسدة في ترك متعلّقها، الظاهر أنّ هذا خلاف ما ذُكر في بحث النواهي في مقام التمييز بين النهي وبين الأمر. إذا افترضنا من باب الاتفاق أنّ فعلاً من الأفعال كان فيه مصلحة، وكان في تركه مفسدة، هذا في الحقيقة لا يشبه الواجبات العادية المتعارفة، وإنّما هذا يكون نوعاً خاصّاً ويجب أن نلتزم على تقدير اتفاق ذلك بأنّه يترتب على المخالفة استحقاق عقابين، أولاً عقاب على مخالفة الوجوب، يعني عقاب على ترك المصلحة، وعقاب على الوقوع في المفسدة؛ لأنّ هذا فعل فيه مصلحة؛ ولأنّ فيه مصلحة أوجبه الشارع، وفي تركه مفسدة، هذا واجب، لكنّه ليس واجب محض، وإنّما هذا كأنّه ملفق من كل منهما، فيكون في فعله مصلحة وفي تركه مفسدة، فإذا تركه يقع في المفسدة وفي نفس الوقت تفوته المصلحة، فلابدّ أن يستحق عقابين، الواجبات العادية التي نتكلّم عنها ليست هكذا، وإنّما هي واجبات محضة ولا تنشأ إلاّ من مصلحة في الفعل فقط، وفواتها وتركها لا يترتب عليه إلاّ فوات تلك المصالح؛ حينئذٍ يقال في الدليل: إذا دار الأمر بين الحصول على المصلحة وبين الوقوع في المفسدة، فتجنّب الوقوع في المفسدة يكون أولى من تحصيل تلك المصلحة.
وأمّا الأمر الأوّل الذي ذُكر، في الحقيقة هذا الذي ذُكر إنّما يكون وارداً فيما إذا كان المدعى، كما هو محتمل؛ بل ليس ببعيد، إذا كان المدعى في اصل الدليل تقديم جانب الحرمة في جميع الموارد؛ فحينئذٍ يرد هذا الإيراد عليه، وهو أنّ المنافع والمصالح تختلف باختلاف الموارد كما يقول ربّ منفعة يكون تحصيلها أولى من دفع المفسدة، والعكس أيضاً صحيح، فربّ مفسدة يكون دفعها أولى من جلب المصلحة، وربّما يتساويان، لكن لو فرضنا أنّه ادعي ذلك في الجملة، يعني في بعض الموارد قد يطمأن الإنسان ويقطع بأنّ تحصيل هذه المصلحة أهم من دفع المفسدة، أو أن يكون دفع المفسدة أهم من تحصيل المصلحة، في هذه الحالات حينئذٍ يمكن ادعاء هذه الدعوى، كما ربّما قد يقال بذلك فيما إذا دار أمر الشخص بين أنْ يكون واجب القتل، أو محرم القتل، هنا قد يقال بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وجوب القتل لا يعني إلاّ الحصول على مصلحة، لكن الوقوع في القتل على تقدير الحرمة يكون فيه مفسدة، وهذه المفسدة أهم بمراتب من هذه المصلحة التي تترتب على القتل فيما إذا كان واجباً، فعلى هذا التقدير يكون واضحا أنًّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، هنا يمكن ادعاء هذا المطلب؛ لأنّه في هذه الحالة يقال أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، فيُلتزم بتقديم جانب النهي والتحريم لا أن يقدّم جانب الوجوب على جانب التحريم في هذا المثال، وإنّما في هذه الحالة قد تكون هذه الدعوى تامّة.
ومن هنا المحقق الخراساني(قدّس سرّه) في الكفاية [2]قدّم جانب التحريم بادعاء أنّ الأمر على تقدير أن يكون أحد الطرفين محتمل الأهمية، أو مقطوع الأهميّة؛ حينئذٍ المقام يدخل في كبرى الدوران بين التعيين والتخيير، باعتبار أنّ ترك الفعل يدور أمره بين أن يكون طرفاً للتخيير، والطرف الآخر هو الفعل بحيث يكون المكلّف مخيّر بين الترك وبين الفعل، وبين أن يكون لازماً بعينه، هذا عندما نحتمل أهميّة التحريم كما هو كذلك، أو نقطع بأهمية التحريم، يعني بعبارةٍ أخرى نقطع أنّ المفسدة التي تترتب على الفعل على تقدير الحرمة أهم من المصلحة التي تترتب على الفعل على تقدير الوجوب، في هذه الحالة إذا احتملنا هذه الأهمية؛ حينئذٍ يكون التحريم إمّا هو طرف للتخيير بينه وبين الوجوب، بمعنى أنّ المكلّف يكون مخيّراً بين الفعل والترك بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر، وإمّا أن يكون معيّناً دون احتمال العكس، بمعنى أنّ جانب الوجوب لا نحتمل فيه ذلك، وإنّما هو دائماً لا يحتمل فيه التعيين، وإنّما التعيين دائماً يكون ثابتاً في ما يحتمل أهميته، و هو جانب التحريم في محل الكلام. إذن: التحريم إمّا أنْ يكون الأمر دائر بينه وبين الوجوب، وإمّا أن يكون مُعيّناً.
وبعبارةٍ أخرى: ترك القتل إمّا أن يكون طرفاً للتخيير في ما إذا لم نقبل الترجيح باحتمال الأهمية في مالم تثبت الأهمية مثلاً، وإمّا أن يكون معيّناً على تقدير أن يكون ممّا يهتم به الشارع أكثر من اهتمامه بتحصيل المصلحة المترتبة على القتل، فهو يدور أمره بين التعيين وبين التخيير، بينما الجانب الآخر الوجوب وهو الفعل لا يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ بل هو لا يحتمل أنْ يكون معيّناً، ومن هنا إذا دخل في تلك الكبرى، العقل يحكم في هذه الحالة بلزوم الأخذ بجانب التعيين، وعليه: يمكن تقديم جانب التحريم على هذا الأساس؛ ولذا قال: أنّ تقديم جانب التحريم ليس صحيحاً في جميع الموارد، وإنّما يكون تامّاً في موارد احتمال أهمية جانب التحريم، أو الجزم بأهميته، وأمّا مع عدم احتمال الأهمية لا موجب لتقديم جانب التحريم على جانب الوجوب.
هذا الكلام من قبل صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو إدخال المقام في صورة احتمال أهمية التحريم، إدخاله في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير وقع محل مناقشة من قبل المعلّقين على كلامه، وحاصل المناقشة هو أنّه في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير يُعتبر في تلك الكبرى قدرة المكلّف على الموافقة القطعية، كما أنّه قد يكون قادراً على المخالفة القطعية؛ حينئذٍ يكون هذا داخلاً في تلك الكبرى، فيقال: أنّ العقل يحكم بتقديم جانب التعيين، باعتبار أنّ به تتحقق الموافقة القطعية كما لو دار أمر العتق بين أن يكون واجباً تخييرياً، أو واجباً تعيينياً؛ إذ لا إشكال أنّ الموافقة القطعية إنّما تتحقق إذا التزم بالعتق، أمّا إذا التزم بالطرف الآخر الذي لا يحتمل فيه أن يكون معيّناً أصلاً لا تتحقق ضمن ذلك الموافقة القطعية، فحكم العقل بتقديم التعيين إنّما هو لأجل الحصول على الموافقة القطعية، باعتبار أنّ الموافقة القطعية للتكليف تحصل بتقديم التعيين، وهذا إنّما يُتصوّر عندما يكون المكلّف قادراً على الموافقة القطعية، وعندئذٍ يقال قدّم جانب التعيين حتّى تحرز الموافقة القطعية للتكليف المعلوم؛ لأنّه لا يحرز الموافقة القطعية إلاّ بتقديم جانب التعيين، لكن هذا حيث يمكن الموافقة القطعية، وأمّا في محل الكلام المفروض أنّ المكلّف غير متمكّن من الموافقة القطعية، كما أنّه غير قادر على المخالفة القطعية، فكيف يكون المقام داخلاً في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ؟ المكلّف في المقام مهما فعل، حتّى لو قدّم جانب التحريم هو لا يحرز بذلك الموافقة القطعية، هناك العقل يحكم بلزوم تقديم التعيين لإحراز الموافقة القطعية، وهذا إنّما يكون حيث يكون تقديم جانب التعيين يُحرز به المكلّف الموافقة القطعية كما في مثال العتق، العقل يحكم بلزوم تقديم التعيين؛ لأنّ به يحرز الموافقة القطعية، بينما إذا قدّمت الطرف الآخر لا تحرز الموافقة القطعية، بينما في محل الكلام مهما فعل المكلّف لا توجد موافقة قطعية، ولا يتمكّن المكلّف من تحصيلها، فإدخال المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ليس في محلّه.
من هنا يظهر أنّ الملاحظة التي ذكرت ترد على ما ذكروه؛ لأنّ أصل الدليل هو دعوى تقديم جانب التحريم في جميع الموارد ولا يُلاحظ ما نوع هذه المفسدة، وما نوع هذه المصلحة، وإنّما كلّما دار الأمر بين المحذورين قدّم جانب التحريم، والإشكال الذي ذكروه يرِد عليه؛ لأنّه ليس لدينا هكذا قاعدة تقول أنّه دائماً دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، كما قالوا ربّ منفعة يكون جلبها أولى من دفع المفسدة، فهذا الإيراد يكون وارداً على ما ذكروه. هذا كلّه بالنسبة إلى القول الثاني.
القول الثالث: هو الحكم بالتخيير الشرعي، أنّ حكم المسألة في محل الكلام هو التخيير بينهما شرعاً.
أورد على هذا القول بهذا الإيراد المعروف: وهو أنّه ماذا يُراد بالتخيير الشرعي في المقام ؟ هل يُراد به التخيير في المسألة الأصولية، أو يُراد به التخيير في المسألة الفرعية ؟ في التخيير في المسألة الأصولية المُخيّر بين شيئين هو المجتهد، فإذا اختار أحد شيئين يُفتي المقلّد بما يختاره، بينما في التخيير في المسألة الفرعية المُخيّر هو نفس المكلّف هو الذي يتخيّر بين هذا وبين هذا، فيُقال أنّ التخيير المدّعى في محل الكلام هل هو التخيير في المسألة الأصولية، أو التخيير في المسألة الفرعية ؟ إذا كان المقصود هو التخيير في المسألة الأصولية، فهذا لا دليل عليه، لا دليل على أنّ المجتهد يتخيّر بين التحريم وبين الوجوب، وإذا اختار أحدهما هو يُفتي المقلّد بما يختاره، هذا يحتاج إلى إقامة دليل كما قيل بوجود الدليل في مسألة التعارض بين الخبرين، هناك قيل بأنّ هناك أدلّة تدلّ على التخيير بين الخبرين المتعارضين، هذا تخيير في مسألة أصولية، بمعنى أنّ المجتهد يتخيّر بين الأخذ بهذا الخبر، أو بهذا الخبر، ثمّ إفتاء المقلّد بما اختاره وبمضمون الخبر الذي اختاره. هذا يحتاج إلى دليل، وإذا دلّ دليل عليه في باب الخبرين المتعارضين لا يمكن الالتزام بذلك الدليل في محل الكلام.
وأمّا التخيير في المسألة الفرعية، فهو ممّا لا وجه له؛ لأنّه أمر حاصل قهراً، ولا إشكال أنّ المكلّف بحكم الطبع وبحكم العقل ــــــــــ على ما قالوا ـــــــــــ هو مخيّر بين الفعل وبين الترك، فأنْ يأتي الشارع ويخيّر المكلّف بين الفعل والترك مع أنّ هذا أمر حاصل، هذا لا وجه له.
بالنسبة إلى الأقوال الأخرى، القول الأوّل تقدّم ما فيه، وهو دعوى جريان البراءة الشرعية والعقلية في محل الكلام وتبيّن أنّ هناك توقفاً في جريان البراءة الشرعية في محل الكلام، لكنّ جريان البراءة العقلية في محل الكلام بلحاظ الأطراف، بلحاظ احتمال الوجوب واحتمال التحريم على الظاهر أنّه ليس فيه محذور.
القول الثاني: تقديم جانب التحريم، باعتبار أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.
لكن أورد عليه :
أولاً: أنّ هذه القاعدة لم يدل عليها دليل، لا شرعي ولا عقلي؛ إذ لا دليل على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة بنحو الإطلاق كما هو المدّعى في المقام، لابدّ أن يُدّعى أنّ هذه القاعدة ثابتة مطلقاً، أنّه في كل موردٍ يكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة وهذا يستدعي تقديم جانب التحريم.
وبعبارةٍ أخرى: كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ المنافع والمفاسد تختلف باختلاف الموارد، فربّ نفع يكون جلبه أولى من دفع المفسدة، كما أنّه ربّ مفسدةٍ يكون دفعها أولى من جلب المصلحة، وربما يتساويان، فلا توجد عندنا قاعدة كلّية مضطردة في جميع الموارد بحيث يقدّم جانب التحريم في جميع الموارد على جانب الوجوب، وإنّما هذا يختلف باختلاف الموارد.[1]
ثانياً: أساساً هذا التصوّر مبني على افتراض أنّ الواجبات ليس فيها إلاّ جلب المنفعة بحيث لا يكون في تركها مفسدة؛ بل مجرّد فوات منفعة؛ حينئذٍ يقال: أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، يعني تقديم جانب التحريم الذي يتحقق فيه جانب دفع المفسدة هو أولى من جانب الوجوب الذي يتحقق فيه جلب المنافع وكأنّه في الواجبات لا يوجد إلاّ جلب المنفعة وتركه ليس فيه وقوع في المفسدة، وإنّما في تركه مجرّد فوات المنفعة، عندما يطرح بهذا الشكل؛ حينئذٍ هذه القاعدة قد تكون مقبولة، لكنّ هذا الطرح غير مقبول، وذلك لأنّ ترك الواجب لماذا لا نقول أنّ فيه مفسدة ؟ ترك الواجب فيه مفسدة، كما أنّ فعل الحرام فيه مفسدة، ترك الواجب أيضاً فيه مفسدة، ففي الحقيقة حينئذٍ لا مبرّر لتقديم جانب التحريم بادعاء أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما أنّ في تقديم التحريم دفع المفسدة، لكنه نتيجة ترك الواجب يقع في مفسدةٍ أيضاً، فالأمر لا يدور بين منفعة ومفسدة، وإنّما يدور بين مفسدتين، أحداهما تترتّب على فعل الحرام، والأخرى تترتب على ترك الواجب، فعل الحرام فيه مفسدة وترك الواجب أيضاً فيه مفسدة، ترك الواجب ليس فيه فقط فوات منفعة وعدم حصول على منفعة، وإنّما فيه أيضاً وقوع في مفسدة، فلا وجه لتقديم جانب التحريم على أساس هذه الدعوى.
ثالثاً: في موارد الشبهات التحريمية تجري البراءة بلا إشكال، على ما تقدّم سابقاً، ومعنى جريان البراءة في الشبهات التحريمية أنّه لا يجب على المكلّف أن يراعي احتمال التحريم بالرغم من القطع بعدم وجود المصلحة، مع ذلك الشارع لم يأمر المكلّف بأن يراعي جانب التحريم، فكيف يقال بلزوم مراعاة جانب التحريم مع وجود احتمال المصلحة في مقابله كما في محل الكلام، ففي محل الكلام هناك مفسدة كما قيل وفي مقابله هناك مصلحة في الوجوب، هذه الحرمة التي يوجد في قبالها مفسدة قالوا بأنّه تجب مراعاتها ويقدّم جانب التحريم، بينما نجد في الشبهات التحريمية احتمال المفسدة الذي لا يوجد في قباله احتمال المصلحة، مع ذلك لم يؤمر المكلّف بمراعاة جانب التحريم؛ بل جرت البراءة ولم يراعِ جانب احتمال المفسدة واحتمال التحريم، إذن، كيف يقال أنّه في محل الكلام لابدّ من مراعاة جانب المفسدة مع أنّه يوجد في قبالها احتمال المصلحة، هذا غير قابل للتصديق ! كيف يمكن أن يقال بذلك ؟ والحال أنّ الشارع في الموارد التي لا يوجد فيها إلاّ احتمال المفسدة ولا يوجد في قبالها مصلحة محتملة تزاحمها، مع ذلك لم يراعٍ جانب التحريم، ولم يأمر المكلّف بمراعاة جانب التحريم، فكيف يأمره بمراعاة جانب التحريم في محل الكلام مع وجود احتمال المصلحة في مقابل احتمال المفسدة.
بالنسبة إلى ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهو دعوى أنّ الواجبات أيضاً في تركها مفسدة، الظاهر أنّه خلاف ما بنوا عليه كما تقدّم في بحث النواهي من أنّ النهي، بأيّ شيءٍ فسّرناه، سواء فسّرناه بالزجر عن الفعل، أو فسّرناه بطلب الترك، على كلا التقديرين هو ينشأ من مفسدة في الفعل، ينشأ عن مفسدة في متعلّقه، في قباله الأمر وينشأ من مصلحةٍ في متعلّقه، الأمر لا ينشأ من مفسدة في ترك متعلّقه، وإنّما ينشأ من مصلحةٍ في متعلّقه في مقابل النهي الذي ينشأ من مفسدة، هذا هو الفرق بين الأمر وبين النهي، سواء فسّرنا النهي بالزجر عن الفعل كما يقال، أو بطلب الترك، على كل حال النهي ينشأ عن مفسدةٍ في متعلّقه والأمر ينشأ عن مصلحة في متعلّقه، إذن، الواجبات تنشأ من مصالح في متعلّقاتها، وهذا معناه أنّ المكلّف إذا ترك الواجب تفوته المصلحة، لا يدرك المصلحة الموجودة في المتعلّق لا أنّه إذا ترك الواجب يقع في مفسدة في مقابل المصلحة، الواجب ليس فيه إلاّ مصلحة في المتعلّق وترك الواجب ليس فيه إلاّ فوات تلك المصلحة، كما أنّ النهي ليس فيه إلاّ مفسدة في المتعلّق وليس في ارتكاب الحرام إلاّ الوقوع في تلك المفسدة الموجودة في متعلّق النهي، إذن، بناءً على هذا يصحّ ما قيل من أنّ الواجبات ليس فيها إلاّ مصالح في متعلّقاتها، وأنّ ترك الواجب لا يترتب عليه إلاّ فوات تلك المصالح؛ وحينئذٍ تأتي القاعدة التي ذكروها وهي أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، عندما يدور الأمر بين وجوب وبين تحريم كما في محل الكلام، فيقال نقدّم جانب التحريم؛ لأنّ دفع المفسدة الذي يتحقق بتقديم جانب التحريم أولى من جلب المصلحة الذي يتحقق بتقديم جانب الوجوب؛ لأنّ الواجب ليس فيه إلاّ مصلحة، وترك الواجب ليس فيه إلاّ فوات تلك المصلحة، فإذا دار الأمر بين أن تفوت الإنسان مصلحة، أو يقع في مفسدة، تجنّب الوقوع في المفسدة أولى من تحصيل المنفعة، فادعاء أنّ الواجبات ليس هكذا، وإنّما الواجبات قد تنشأ من مفسدة في ترك متعلّقها، الظاهر أنّ هذا خلاف ما ذُكر في بحث النواهي في مقام التمييز بين النهي وبين الأمر. إذا افترضنا من باب الاتفاق أنّ فعلاً من الأفعال كان فيه مصلحة، وكان في تركه مفسدة، هذا في الحقيقة لا يشبه الواجبات العادية المتعارفة، وإنّما هذا يكون نوعاً خاصّاً ويجب أن نلتزم على تقدير اتفاق ذلك بأنّه يترتب على المخالفة استحقاق عقابين، أولاً عقاب على مخالفة الوجوب، يعني عقاب على ترك المصلحة، وعقاب على الوقوع في المفسدة؛ لأنّ هذا فعل فيه مصلحة؛ ولأنّ فيه مصلحة أوجبه الشارع، وفي تركه مفسدة، هذا واجب، لكنّه ليس واجب محض، وإنّما هذا كأنّه ملفق من كل منهما، فيكون في فعله مصلحة وفي تركه مفسدة، فإذا تركه يقع في المفسدة وفي نفس الوقت تفوته المصلحة، فلابدّ أن يستحق عقابين، الواجبات العادية التي نتكلّم عنها ليست هكذا، وإنّما هي واجبات محضة ولا تنشأ إلاّ من مصلحة في الفعل فقط، وفواتها وتركها لا يترتب عليه إلاّ فوات تلك المصالح؛ حينئذٍ يقال في الدليل: إذا دار الأمر بين الحصول على المصلحة وبين الوقوع في المفسدة، فتجنّب الوقوع في المفسدة يكون أولى من تحصيل تلك المصلحة.
وأمّا الأمر الأوّل الذي ذُكر، في الحقيقة هذا الذي ذُكر إنّما يكون وارداً فيما إذا كان المدعى، كما هو محتمل؛ بل ليس ببعيد، إذا كان المدعى في اصل الدليل تقديم جانب الحرمة في جميع الموارد؛ فحينئذٍ يرد هذا الإيراد عليه، وهو أنّ المنافع والمصالح تختلف باختلاف الموارد كما يقول ربّ منفعة يكون تحصيلها أولى من دفع المفسدة، والعكس أيضاً صحيح، فربّ مفسدة يكون دفعها أولى من جلب المصلحة، وربّما يتساويان، لكن لو فرضنا أنّه ادعي ذلك في الجملة، يعني في بعض الموارد قد يطمأن الإنسان ويقطع بأنّ تحصيل هذه المصلحة أهم من دفع المفسدة، أو أن يكون دفع المفسدة أهم من تحصيل المصلحة، في هذه الحالات حينئذٍ يمكن ادعاء هذه الدعوى، كما ربّما قد يقال بذلك فيما إذا دار أمر الشخص بين أنْ يكون واجب القتل، أو محرم القتل، هنا قد يقال بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وجوب القتل لا يعني إلاّ الحصول على مصلحة، لكن الوقوع في القتل على تقدير الحرمة يكون فيه مفسدة، وهذه المفسدة أهم بمراتب من هذه المصلحة التي تترتب على القتل فيما إذا كان واجباً، فعلى هذا التقدير يكون واضحا أنًّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، هنا يمكن ادعاء هذا المطلب؛ لأنّه في هذه الحالة يقال أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، فيُلتزم بتقديم جانب النهي والتحريم لا أن يقدّم جانب الوجوب على جانب التحريم في هذا المثال، وإنّما في هذه الحالة قد تكون هذه الدعوى تامّة.
ومن هنا المحقق الخراساني(قدّس سرّه) في الكفاية [2]قدّم جانب التحريم بادعاء أنّ الأمر على تقدير أن يكون أحد الطرفين محتمل الأهمية، أو مقطوع الأهميّة؛ حينئذٍ المقام يدخل في كبرى الدوران بين التعيين والتخيير، باعتبار أنّ ترك الفعل يدور أمره بين أن يكون طرفاً للتخيير، والطرف الآخر هو الفعل بحيث يكون المكلّف مخيّر بين الترك وبين الفعل، وبين أن يكون لازماً بعينه، هذا عندما نحتمل أهميّة التحريم كما هو كذلك، أو نقطع بأهمية التحريم، يعني بعبارةٍ أخرى نقطع أنّ المفسدة التي تترتب على الفعل على تقدير الحرمة أهم من المصلحة التي تترتب على الفعل على تقدير الوجوب، في هذه الحالة إذا احتملنا هذه الأهمية؛ حينئذٍ يكون التحريم إمّا هو طرف للتخيير بينه وبين الوجوب، بمعنى أنّ المكلّف يكون مخيّراً بين الفعل والترك بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر، وإمّا أن يكون معيّناً دون احتمال العكس، بمعنى أنّ جانب الوجوب لا نحتمل فيه ذلك، وإنّما هو دائماً لا يحتمل فيه التعيين، وإنّما التعيين دائماً يكون ثابتاً في ما يحتمل أهميته، و هو جانب التحريم في محل الكلام. إذن: التحريم إمّا أنْ يكون الأمر دائر بينه وبين الوجوب، وإمّا أن يكون مُعيّناً.
وبعبارةٍ أخرى: ترك القتل إمّا أن يكون طرفاً للتخيير في ما إذا لم نقبل الترجيح باحتمال الأهمية في مالم تثبت الأهمية مثلاً، وإمّا أن يكون معيّناً على تقدير أن يكون ممّا يهتم به الشارع أكثر من اهتمامه بتحصيل المصلحة المترتبة على القتل، فهو يدور أمره بين التعيين وبين التخيير، بينما الجانب الآخر الوجوب وهو الفعل لا يدور أمره بين التعيين والتخيير؛ بل هو لا يحتمل أنْ يكون معيّناً، ومن هنا إذا دخل في تلك الكبرى، العقل يحكم في هذه الحالة بلزوم الأخذ بجانب التعيين، وعليه: يمكن تقديم جانب التحريم على هذا الأساس؛ ولذا قال: أنّ تقديم جانب التحريم ليس صحيحاً في جميع الموارد، وإنّما يكون تامّاً في موارد احتمال أهمية جانب التحريم، أو الجزم بأهميته، وأمّا مع عدم احتمال الأهمية لا موجب لتقديم جانب التحريم على جانب الوجوب.
هذا الكلام من قبل صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو إدخال المقام في صورة احتمال أهمية التحريم، إدخاله في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير وقع محل مناقشة من قبل المعلّقين على كلامه، وحاصل المناقشة هو أنّه في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير يُعتبر في تلك الكبرى قدرة المكلّف على الموافقة القطعية، كما أنّه قد يكون قادراً على المخالفة القطعية؛ حينئذٍ يكون هذا داخلاً في تلك الكبرى، فيقال: أنّ العقل يحكم بتقديم جانب التعيين، باعتبار أنّ به تتحقق الموافقة القطعية كما لو دار أمر العتق بين أن يكون واجباً تخييرياً، أو واجباً تعيينياً؛ إذ لا إشكال أنّ الموافقة القطعية إنّما تتحقق إذا التزم بالعتق، أمّا إذا التزم بالطرف الآخر الذي لا يحتمل فيه أن يكون معيّناً أصلاً لا تتحقق ضمن ذلك الموافقة القطعية، فحكم العقل بتقديم التعيين إنّما هو لأجل الحصول على الموافقة القطعية، باعتبار أنّ الموافقة القطعية للتكليف تحصل بتقديم التعيين، وهذا إنّما يُتصوّر عندما يكون المكلّف قادراً على الموافقة القطعية، وعندئذٍ يقال قدّم جانب التعيين حتّى تحرز الموافقة القطعية للتكليف المعلوم؛ لأنّه لا يحرز الموافقة القطعية إلاّ بتقديم جانب التعيين، لكن هذا حيث يمكن الموافقة القطعية، وأمّا في محل الكلام المفروض أنّ المكلّف غير متمكّن من الموافقة القطعية، كما أنّه غير قادر على المخالفة القطعية، فكيف يكون المقام داخلاً في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ؟ المكلّف في المقام مهما فعل، حتّى لو قدّم جانب التحريم هو لا يحرز بذلك الموافقة القطعية، هناك العقل يحكم بلزوم تقديم التعيين لإحراز الموافقة القطعية، وهذا إنّما يكون حيث يكون تقديم جانب التعيين يُحرز به المكلّف الموافقة القطعية كما في مثال العتق، العقل يحكم بلزوم تقديم التعيين؛ لأنّ به يحرز الموافقة القطعية، بينما إذا قدّمت الطرف الآخر لا تحرز الموافقة القطعية، بينما في محل الكلام مهما فعل المكلّف لا توجد موافقة قطعية، ولا يتمكّن المكلّف من تحصيلها، فإدخال المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ليس في محلّه.
من هنا يظهر أنّ الملاحظة التي ذكرت ترد على ما ذكروه؛ لأنّ أصل الدليل هو دعوى تقديم جانب التحريم في جميع الموارد ولا يُلاحظ ما نوع هذه المفسدة، وما نوع هذه المصلحة، وإنّما كلّما دار الأمر بين المحذورين قدّم جانب التحريم، والإشكال الذي ذكروه يرِد عليه؛ لأنّه ليس لدينا هكذا قاعدة تقول أنّه دائماً دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، كما قالوا ربّ منفعة يكون جلبها أولى من دفع المفسدة، فهذا الإيراد يكون وارداً على ما ذكروه. هذا كلّه بالنسبة إلى القول الثاني.
القول الثالث: هو الحكم بالتخيير الشرعي، أنّ حكم المسألة في محل الكلام هو التخيير بينهما شرعاً.
أورد على هذا القول بهذا الإيراد المعروف: وهو أنّه ماذا يُراد بالتخيير الشرعي في المقام ؟ هل يُراد به التخيير في المسألة الأصولية، أو يُراد به التخيير في المسألة الفرعية ؟ في التخيير في المسألة الأصولية المُخيّر بين شيئين هو المجتهد، فإذا اختار أحد شيئين يُفتي المقلّد بما يختاره، بينما في التخيير في المسألة الفرعية المُخيّر هو نفس المكلّف هو الذي يتخيّر بين هذا وبين هذا، فيُقال أنّ التخيير المدّعى في محل الكلام هل هو التخيير في المسألة الأصولية، أو التخيير في المسألة الفرعية ؟ إذا كان المقصود هو التخيير في المسألة الأصولية، فهذا لا دليل عليه، لا دليل على أنّ المجتهد يتخيّر بين التحريم وبين الوجوب، وإذا اختار أحدهما هو يُفتي المقلّد بما يختاره، هذا يحتاج إلى إقامة دليل كما قيل بوجود الدليل في مسألة التعارض بين الخبرين، هناك قيل بأنّ هناك أدلّة تدلّ على التخيير بين الخبرين المتعارضين، هذا تخيير في مسألة أصولية، بمعنى أنّ المجتهد يتخيّر بين الأخذ بهذا الخبر، أو بهذا الخبر، ثمّ إفتاء المقلّد بما اختاره وبمضمون الخبر الذي اختاره. هذا يحتاج إلى دليل، وإذا دلّ دليل عليه في باب الخبرين المتعارضين لا يمكن الالتزام بذلك الدليل في محل الكلام.
وأمّا التخيير في المسألة الفرعية، فهو ممّا لا وجه له؛ لأنّه أمر حاصل قهراً، ولا إشكال أنّ المكلّف بحكم الطبع وبحكم العقل ــــــــــ على ما قالوا ـــــــــــ هو مخيّر بين الفعل وبين الترك، فأنْ يأتي الشارع ويخيّر المكلّف بين الفعل والترك مع أنّ هذا أمر حاصل، هذا لا وجه له.