35/03/26
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الخامس
الكلام في جريان البراءة في المستحبّات: في تقريرات السيّد الخوئي في الدراسات،[1] وكذا المصباح[2] ورد بأنّ البراءة العقلية تختص بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية، وأمّا التكليف المحتمل إذا كان استحبابياً، إذا لم يكن إلزامياً، فالمقطوع منه لا توجب مخالفته العقاب، فكيف بالمحتمل منه ؟ من باب أولى أنْ لا تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب. وكأنّه بهذا المقطع من كلامه يشير إلى أنّ البراءة العقلية التي مفادها قبح العقاب بلا بيان، إنّما تجري لغرض التأمين من ناحية العقاب عند احتماله، وفي الأحكام غير الإلزامية لا يوجد احتمال العقاب، فلا تجري قاعدة البراءة العقلية، على القول بها.
ثمّ ذكر بأنّ البراءة الشرعية تجري في التكاليف غير الإلزامية، لكن على تفصيلٍ، وحاصل هذا التفصيل: أنّه التزم بجريان البراءة في التكاليف الاستحبابية الضمنية، كما إذا شكّ في جزئية شيءٍ لمستحب، أو شرطية شيءٍ لمستحب، هذا المشكوك على تقدير أنْ يكون جزءً من مستحب، فاستحبابه ضمني، فإذا شككنا في الاستحباب الضمني، هنا لا مانع من جريان البراءة، ومنع من جريانها عند الشكّ في التكاليف الاستحبابية الاستقلالية، كما إذا شُك في استحباب شيءٍ، في هذا المورد قال لا تجري البراءة، عللّ هذا التفصيل بين الشكّ في التكليف الضمني الاستحبابي، وبين الشكّ في التكليف الاستقلالي الاستحبابي، عللّه بأنّ مرجع البراءة إلى رفع الحكم المشكوك ظاهراً، بناءً على ما تقدّم؛ لأنّه ذكر هذا المطلب في ذيل حديث الرفع، تقدّم في حديث الرفع أنّ مفاده هو الرفع الظاهري للحكم الواقعي المشكوك، فمفاد البراءة الشرعية هو رفع الحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، فيكون مفادها رفع ظاهري للحكم الواقعي المشكوك ومرجع ذلك على ما تقدّم إلى رفع وجوب الاحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك، فهو يرفعه ظاهراً، هذا الرفع الظاهري معناه عدم وجوب الاحتياط وعدم وجوب التحفّظ تجاه التكليف الواقعي المشكوك. يقول: وهذا غير متحققٍ في موارد التكاليف الاستقلالية، فإذا احتملنا استحباب شيءٍ، فجريان البراءة يعني رفع الاستحباب في مرحلة الظاهر، ومعنى ذلك هو رفع استحباب الاحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك، ورفع التحفّظ تجاه الاستحباب الواقعي المشكوك، وهذا ما لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن الالتزام برفع استحباب الاحتياط عند الشك في الاستحباب الواقعي، لا يمكن الالتزام بأنّه لا يحسن الاحتياط؛ باعتبار أنّ استحباب الاحتياط شرعاً أمر مسلّم ولا يمكن إنكاره، فعندما يحتمل الإنسان استحباب شيءٍ، لا إشكال في أنّه يستحب له أنْ يحتاط تجاه هذا الاستحباب الواقعي المشكوك، استحباب الاحتياط في باب المستحبّات ممّا لا إشكال فيه، ولا يمكن إنكاره، ومفاد استحباب الاحتياط عدم رفع التكليف الواقعي المشكوك في مرحلة الظاهر؛ لأنّه يدعو إلى الاحتياط تجاه الحكم الواقعي المشكوك، فإذن: هو لم يرفعه في مرحلة الظاهر، هذا معنى استحباب الاحتياط، الاحتياط في كل مقام معناه أنّ الشارع يريد التحفّظ على التكليف المشكوك، فيجعل استحباب الاحتياط ووجوب الاحتياط لغرض التحفّظ على الحكم الواقعي المشكوك. من جهةٍ يُراد إجراء البراءة، البراءة تثبت عكس هذا تماماً، البراءة عند الشكّ في الحكم الاستحبابي، فالبراءة تعني لا تتحفّظ تجاه الاستحباب المشكوك، يعني لا تحتاط تجاه الحكم الواقعي المشكوك، البراءة تعني رفع المشكوك ظاهراً، بينما الاحتياط يعني وضع المشكوك ظاهراً، الاحتياط معناه أنّ الشارع يضع المشكوك في مرحلة الظاهر، يحكم بثبوت المشكوك في مرحلة الظاهر، بينما البراءة تعني رفع الحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، وهذان أمران متنافيان، إمّا أنْ يكون الاحتياط مطلوباً للشارع، وهذا معناه الوضع الظاهري للتكليف والحكم المشكوك، وإمّا أنْ تجري البراءة في الاستحباب المشكوك، وهذا معناه الرفع الظاهري للتكليف المشكوك، والجمع بينهما غير ممكن، وحيث أنّ استحباب الاحتياط في المقام لا يمكن إنكاره ومسلّم ولا إشكال فيه؛ بل هو مسلّم من قبل الجميع؛ فحينئذٍ لابدّ أنْ نقول بأنّ هذا المقام لا يكون مشمولاً لدليل البراءة؛ لأنّ كونه مشمولاً لدليل البراءة يعني رفع الحكم المشكوك ظاهراً، بينما نحن نجزم بأنّ الشارع وضع الحكم المشكوك ظاهراً؛ لأننّا نجزم باستحباب الاحتياط في هذا المورد، ومن هنا هذا لا يكون مشمولاً لدليل البراءة، فلا تجري البراءة عند الشكّ في التكليف الاستحبابي الاستقلالي، وهذا بخلاف التكاليف الضمنية الاستحبابية كما إذا شكّ في جزئية شيءٍ لمستحب، هذا شك في التكليف الضمني الاستحبابي، يقول في هذه الحالة لا مانع من جريان البراءة، لا لأجل نفي استحباب الاحتياط، لما تقدّم من ثبوت استحباب الاحتياط قطعاً، وبلا إشكال؛ بل لأجل إثبات عدم الاشتراط في الظاهر، باعتبار أنّ الاشتراط غير معلوم، فلا ندري أنّ هذا المستحب مشروط بهذا الجزء المشكوك، أو غير مشروط، فباعتبار أنّ الاشتراط غير معلوم، فتجري البراءة لنفي الاشتراط ظاهراً، ويكون الغرض من ذلك هو إثبات جواز الإتيان بالباقي بداعي الأمر حتّى يجوز له أن يأتي بالباقي من دون ذلك الجزء بقصد امتثال الأمر المتعلّق به؛ لأنّه لولا إجراء البراءة وإثبات عدم الاشتراط في مرحلة الظاهر لما جاز الإتيان بالباقي بداعي الأمر، باعتبار أنّه لا يحرز الأمر بالباقي مع احتمال الاشتراط؛ لأنّه يحتمل أنّ الأمر غير متعلّق بالباقي؛ بل بالمجموع المركب من الباقي والجزء المشكوك، فالإتيان بالباقي بداعي الأمر يكون تشريعاً محرّماً، إنّما يجوز له الإتيان بالباقي بداعي الأمر مع أنّه يشك في وجود جزءٍ لهذا المستحب عندما يُجري البراءة لنفي الاشتراط في مرحلة الظاهر، فإذا أجرى البراءة لنفي الاشتراط في مرحلة الظاهر لا لإثبات عدم استحباب الاحتياط، وإنّما نفي الاشتراط في مرحلة الظاهر لغرض إثبات جواز الإتيان بالباقي بداعي الأمر؛ لأنّه لولا إجراء البراءة بهذا الشكل لكان مشرّعاً وارتكب حرمة تشريعية؛ إذ كيف يمكنه أنْ يأتي بالباقي بقصد امتثال الأمر المتعلّق به والحال أنّه لا يحرز تعلّق الأمر بالباقي؛ لأنّه يشك في وجود جزءٍ آخر. هذا كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) في التقريرات.
لوحظ على هذا الكلام: بأنّ المانع من جريان البراءة في المستحبّات ليس هو هذا الذي ذكره من أنّ مرجع إجراء البراءة في المستحبّات إلى نفي استحباب الاحتياط، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، فإذن: لا يمكن الالتزام بجريان البراءة في المستحبّات؛ لأنّ البراءة تعني رفع التكليف والحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، بينما نحن نجزم بأنّ الحكم المشكوك ثابت في مرحلة الظاهر بدليل استحباب الاحتياط، ليس هذا هو السبب في عدم جريان البراءة؛ لأنّه لا يوجد محذور في الالتزام بعدم استحباب الاحتياط، والمقصود هو نفي الاستحباب الشرعي؛ لأنّ الذي يكون منافياً حسب الدعوى للبراءة الشرعية هو الاستحباب الشرعي للاحتياط، إمّا أن يجعل الشارع استحباب الاحتياط شرعاً، يعني يضع الحكم المشكوك ظاهراً، أو يجري البراءة الشرعية التي تعني رفع الحكم المشكوك ظاهراً، فكلامنا في استحباب الاحتياط شرعاً. قيل: لا محذور في الالتزام بعدم استحباب الاحتياط الشرعي، وذلك بأن نفترض أنّ مبادئ المباحات الواقعية أهم عند الشارع من مبادئ المستحبات الواقعية عندما يقع التزاحم بينها في مقام الحفظ؛ لأنّ جعل استحباب الاحتياط في موارد الجهل والشك يؤدي إلى فوات بعض مبادئ المباحات الواقعية، سوف يلتزم على الإتيان بها ولو على مستوى الاستحباب، وهذا يؤدي إلى فوات بعض مبادئ المباحات الواقعية، فلأجل الحفاظ على مبادئ المباحات الواقعية الأهم ينفي الشارع استحباب الاحتياط، فمن ناحية ثبوتية، من ناحية الإمكان والاستحالة لا يوجد محذور في عدم جعل استحباب الاحتياط شرعاً، ويُعللّ بأنّ مبادئ المباحات الواقعية المتزاحمة في مقام الحفظ مع مبادئ المستحبات الواقعية أهم في نظر الشارع، فلا يجعل استحباب الاحتياط، المانع من جريان البراءة ليس هو هذا؛ لأنّ هذا ليس مانعاً ثبوتياً؛ بل المانع من ذلك هو مانع إثباتي، المانع هو أنّ أدلّة البراءة لا تشمل المستحبّات، باعتبار أنّها ناظرة إلى نفي الضيق والكلفة، ولو باعتبار أنّها مسوقة مساق الامتنان، أو باعتبار أنّ الرفع يقابل الوضع، والوضع ظاهر في جعل ما هو ثقيل على المكلّف، فيختص الرفع برفع ما هو ثقيل على المكلّف، وكل هذا يعني الاختصاص بموارد الشك في التكاليف التي فيها كلفة على المكلّف ومن الواضح أنّ الأحكام غير الإلزامية ليس فيها ذلك، ليس فيها ضيق وكلفة وثقل، وعمدة أخبار البراءة بنكات متعدّدة، ولو بنكتة كونها مسوقة مساق الامتنان، أو الرفع الذي يقابل الوضع، والوضع أخذ فيه مفهوم الثقل ــــــ مثلاً ــــــــ، كل هذه النكات تؤدي إلى افتراض اختصاص أدلّة البراءة بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية، ولو فرضنا أنّه أشكل على ما تقدّم بأنّ استحباب الاحتياط، لنفترض كما قيل أنّه ليس ثابتاً شرعاً، باعتبار ما ذُكر أنّ هذا أمر ممكن وليس محالاً أن لا يجعل الشارع استحباب الاحتياط، لكن استحباب الاحتياط ثابت عقلاً، والذي يُعبّر عنه بحسن الاحتياط، بلا كلام، فيمنع هذا الحكم العقلي بحُسن الاحتياط من شمول الحديث للموارد التي يثبت فيها الاحتياط العقلي، لا يمكن إنكار حُسن الاحتياط عقلاً، حتّى إذا أنكرنا حُسنه شرعاً، لكن حُسنه العقلي لا يمكن إنكاره، فلا إشكال في حُسن الاحتياط في باب المستحبّات الاستقلالية، وحُسن الاحتياط عقلاً أيضاً يمنع من شمول أدلة البراءة للموارد التي يحكم العقل فيها بحُسن الاحتياط، بنفس البيان السابق، كما قلنا بأنّ الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط يمنع من إجراء البراءة في المورد الذي يحكم الشارع فيه بحسن الاحتياط، للتنافي بين البراءة وبين استحباب الاحتياط، فالبراءة تعني الرفع، بينما الاحتياط يعني وضع الحكم المشكوك ظاهراً، بنفس هذا البيان الدال على الاستحباب الشرعي للاحتياط نقول: العقل يحكم بحُسن الاحتياط، فيقع التنافي، فلا تكون البراءة شاملة للمورد الذي يحكم العقل فيه بحُسن الاحتياط، وهذا لا يمكن إنكار حُسن الاحتياط عقلاً، هذا ثابت جزماً في جميع الموارد.
أقول: أنّ هذا الإيراد يمكن دفعه، وذلك باعتبار أنّ الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لعدم شمول البراءة الشرعية للمستحبّات كان مبنيّاً على دعوى المنافاة بين جريان البراءة في المستحبّات وبين استحباب الاحتياط فيها، باعتبار أنّ الأوّل، أي البراءة تدل على رفع الاستحباب المشكوك ظاهراً، بينما الاحتياط يقتضي وضع الحكم المشكوك ظاهراً، وحيث أنّ الثاني ثابت حتماً، وهو استحباب الاحتياط شرعاً، فإذن: أدلّة البراءة لا تشمل الموارد التي يحكم الشارع فيها باستحباب الاحتياط. من الواضح أنّ هذا الوجه إذا تمّ، فهو إنّما يصح في الاستحباب الشرعي للاحتياط، تحصل منافاة بينهما، استحباب شرعي للاحتياط وفي مقابله براءة شرعية، فلا يمكن الجمع بينهما، وهذا مبني على أنّ معنى البراءة هو الرفع الظاهري للتكليف المشكوك، هذان بينهما منافاة فيتمّ هذا الوجه الذي ذُكر. وأمّا حُسن الاحتياط عقلاً، لا شرعاً، هذا لا مجال لتفسيره بمعنى يكون منافياً للبراءة الشرعية، العقل يحكم بحُسن الاحتياط وحُسن الانقياد إلى المولى، لا نستطيع أن نفسّر هذا الحكم العقلي بحُسن الانقياد بأنّه وضع للحكم المشكوك في مرحلة الظاهر لوضوح أنّ الحكم وضعاً ورفعاً، واقعاً وظاهراً هو من شئون الشارع، وبيد الشارع، فالشارع هو الذي يضع التكليف، أو الحكم واقعاً، أو يضعه ظاهراً بجعل الاحتياط، الشارع هو الذي يرفع التكليف واقعاً، أو يرفعه ظاهراً بنفي الاحتياط، هذا من شئون الشارع، فالشارع هو الذي بيده التكاليف، والتكليف هو عبارة عن أمرٍ اعتباري يعتبره الشارع، فقد يعتبر الشيء وقد يرفع الاعتبار ظاهراً، أو واقعاً، هذه من شئون الشارع وليست بيد العقل، فلا معنى لأن نقول أنّ العقل عندما يحكم بحُسن الاحتياط، يُفسّر حكمه بحُسن الاحتياط بأنّه وضع ظاهري للحكم المشكوك للواقع المشكوك، لا يمكن تفسيره بذلك؛ ولذا لا تكون هناك منافاة بين البراءة الشرعية وبين حُسن الاحتياط عقلاً؛ ولذا لم يتوهّم أحد وجود هذه المنافاة في باب الأحكام الالزامية، مع أنّه لا إشكال في باب الأحكام الالزامية العقل يحكم بحُسن الاحتياط، هذه قضية مسلّمة، لكن لم يتوهّم أحد بأنّ هذا ينافي البراءة الشرعية، نعم، البراءة الشرعية تنافي وجوب الاحتياط شرعاً، فإما أن يجب الاحتياط شرعاً، وإمّا أن يجعل البراءة، الجمع بينهما غير ممكن، الأحكام الظاهرية متضادة كتضاد الأحكام الواقعية، هنا توجد منافاة بين البراءة الشرعية وبين وجوب الاحتياط الشرعي في باب الأحكام الالزامية، لكن لم يتوهّم أحد وجود منافاة بين البراءة الشرعية وبين حُسن الاحتياط عقلاً، مع أنّ الوجه نفسه يجري، لو كان مرجع حكم العقل بحُسن الاحتياط إلى وضع الحكم الواقعي المشكوك ظاهراً يكون منافياً للبراءة الشرعية.
الكلام في جريان البراءة في المستحبّات: في تقريرات السيّد الخوئي في الدراسات،[1] وكذا المصباح[2] ورد بأنّ البراءة العقلية تختص بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية، وأمّا التكليف المحتمل إذا كان استحبابياً، إذا لم يكن إلزامياً، فالمقطوع منه لا توجب مخالفته العقاب، فكيف بالمحتمل منه ؟ من باب أولى أنْ لا تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب. وكأنّه بهذا المقطع من كلامه يشير إلى أنّ البراءة العقلية التي مفادها قبح العقاب بلا بيان، إنّما تجري لغرض التأمين من ناحية العقاب عند احتماله، وفي الأحكام غير الإلزامية لا يوجد احتمال العقاب، فلا تجري قاعدة البراءة العقلية، على القول بها.
ثمّ ذكر بأنّ البراءة الشرعية تجري في التكاليف غير الإلزامية، لكن على تفصيلٍ، وحاصل هذا التفصيل: أنّه التزم بجريان البراءة في التكاليف الاستحبابية الضمنية، كما إذا شكّ في جزئية شيءٍ لمستحب، أو شرطية شيءٍ لمستحب، هذا المشكوك على تقدير أنْ يكون جزءً من مستحب، فاستحبابه ضمني، فإذا شككنا في الاستحباب الضمني، هنا لا مانع من جريان البراءة، ومنع من جريانها عند الشكّ في التكاليف الاستحبابية الاستقلالية، كما إذا شُك في استحباب شيءٍ، في هذا المورد قال لا تجري البراءة، عللّ هذا التفصيل بين الشكّ في التكليف الضمني الاستحبابي، وبين الشكّ في التكليف الاستقلالي الاستحبابي، عللّه بأنّ مرجع البراءة إلى رفع الحكم المشكوك ظاهراً، بناءً على ما تقدّم؛ لأنّه ذكر هذا المطلب في ذيل حديث الرفع، تقدّم في حديث الرفع أنّ مفاده هو الرفع الظاهري للحكم الواقعي المشكوك، فمفاد البراءة الشرعية هو رفع الحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، فيكون مفادها رفع ظاهري للحكم الواقعي المشكوك ومرجع ذلك على ما تقدّم إلى رفع وجوب الاحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك، فهو يرفعه ظاهراً، هذا الرفع الظاهري معناه عدم وجوب الاحتياط وعدم وجوب التحفّظ تجاه التكليف الواقعي المشكوك. يقول: وهذا غير متحققٍ في موارد التكاليف الاستقلالية، فإذا احتملنا استحباب شيءٍ، فجريان البراءة يعني رفع الاستحباب في مرحلة الظاهر، ومعنى ذلك هو رفع استحباب الاحتياط تجاه التكليف الواقعي المشكوك، ورفع التحفّظ تجاه الاستحباب الواقعي المشكوك، وهذا ما لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن الالتزام برفع استحباب الاحتياط عند الشك في الاستحباب الواقعي، لا يمكن الالتزام بأنّه لا يحسن الاحتياط؛ باعتبار أنّ استحباب الاحتياط شرعاً أمر مسلّم ولا يمكن إنكاره، فعندما يحتمل الإنسان استحباب شيءٍ، لا إشكال في أنّه يستحب له أنْ يحتاط تجاه هذا الاستحباب الواقعي المشكوك، استحباب الاحتياط في باب المستحبّات ممّا لا إشكال فيه، ولا يمكن إنكاره، ومفاد استحباب الاحتياط عدم رفع التكليف الواقعي المشكوك في مرحلة الظاهر؛ لأنّه يدعو إلى الاحتياط تجاه الحكم الواقعي المشكوك، فإذن: هو لم يرفعه في مرحلة الظاهر، هذا معنى استحباب الاحتياط، الاحتياط في كل مقام معناه أنّ الشارع يريد التحفّظ على التكليف المشكوك، فيجعل استحباب الاحتياط ووجوب الاحتياط لغرض التحفّظ على الحكم الواقعي المشكوك. من جهةٍ يُراد إجراء البراءة، البراءة تثبت عكس هذا تماماً، البراءة عند الشكّ في الحكم الاستحبابي، فالبراءة تعني لا تتحفّظ تجاه الاستحباب المشكوك، يعني لا تحتاط تجاه الحكم الواقعي المشكوك، البراءة تعني رفع المشكوك ظاهراً، بينما الاحتياط يعني وضع المشكوك ظاهراً، الاحتياط معناه أنّ الشارع يضع المشكوك في مرحلة الظاهر، يحكم بثبوت المشكوك في مرحلة الظاهر، بينما البراءة تعني رفع الحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، وهذان أمران متنافيان، إمّا أنْ يكون الاحتياط مطلوباً للشارع، وهذا معناه الوضع الظاهري للتكليف والحكم المشكوك، وإمّا أنْ تجري البراءة في الاستحباب المشكوك، وهذا معناه الرفع الظاهري للتكليف المشكوك، والجمع بينهما غير ممكن، وحيث أنّ استحباب الاحتياط في المقام لا يمكن إنكاره ومسلّم ولا إشكال فيه؛ بل هو مسلّم من قبل الجميع؛ فحينئذٍ لابدّ أنْ نقول بأنّ هذا المقام لا يكون مشمولاً لدليل البراءة؛ لأنّ كونه مشمولاً لدليل البراءة يعني رفع الحكم المشكوك ظاهراً، بينما نحن نجزم بأنّ الشارع وضع الحكم المشكوك ظاهراً؛ لأننّا نجزم باستحباب الاحتياط في هذا المورد، ومن هنا هذا لا يكون مشمولاً لدليل البراءة، فلا تجري البراءة عند الشكّ في التكليف الاستحبابي الاستقلالي، وهذا بخلاف التكاليف الضمنية الاستحبابية كما إذا شكّ في جزئية شيءٍ لمستحب، هذا شك في التكليف الضمني الاستحبابي، يقول في هذه الحالة لا مانع من جريان البراءة، لا لأجل نفي استحباب الاحتياط، لما تقدّم من ثبوت استحباب الاحتياط قطعاً، وبلا إشكال؛ بل لأجل إثبات عدم الاشتراط في الظاهر، باعتبار أنّ الاشتراط غير معلوم، فلا ندري أنّ هذا المستحب مشروط بهذا الجزء المشكوك، أو غير مشروط، فباعتبار أنّ الاشتراط غير معلوم، فتجري البراءة لنفي الاشتراط ظاهراً، ويكون الغرض من ذلك هو إثبات جواز الإتيان بالباقي بداعي الأمر حتّى يجوز له أن يأتي بالباقي من دون ذلك الجزء بقصد امتثال الأمر المتعلّق به؛ لأنّه لولا إجراء البراءة وإثبات عدم الاشتراط في مرحلة الظاهر لما جاز الإتيان بالباقي بداعي الأمر، باعتبار أنّه لا يحرز الأمر بالباقي مع احتمال الاشتراط؛ لأنّه يحتمل أنّ الأمر غير متعلّق بالباقي؛ بل بالمجموع المركب من الباقي والجزء المشكوك، فالإتيان بالباقي بداعي الأمر يكون تشريعاً محرّماً، إنّما يجوز له الإتيان بالباقي بداعي الأمر مع أنّه يشك في وجود جزءٍ لهذا المستحب عندما يُجري البراءة لنفي الاشتراط في مرحلة الظاهر، فإذا أجرى البراءة لنفي الاشتراط في مرحلة الظاهر لا لإثبات عدم استحباب الاحتياط، وإنّما نفي الاشتراط في مرحلة الظاهر لغرض إثبات جواز الإتيان بالباقي بداعي الأمر؛ لأنّه لولا إجراء البراءة بهذا الشكل لكان مشرّعاً وارتكب حرمة تشريعية؛ إذ كيف يمكنه أنْ يأتي بالباقي بقصد امتثال الأمر المتعلّق به والحال أنّه لا يحرز تعلّق الأمر بالباقي؛ لأنّه يشك في وجود جزءٍ آخر. هذا كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) في التقريرات.
لوحظ على هذا الكلام: بأنّ المانع من جريان البراءة في المستحبّات ليس هو هذا الذي ذكره من أنّ مرجع إجراء البراءة في المستحبّات إلى نفي استحباب الاحتياط، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، فإذن: لا يمكن الالتزام بجريان البراءة في المستحبّات؛ لأنّ البراءة تعني رفع التكليف والحكم المشكوك في مرحلة الظاهر، بينما نحن نجزم بأنّ الحكم المشكوك ثابت في مرحلة الظاهر بدليل استحباب الاحتياط، ليس هذا هو السبب في عدم جريان البراءة؛ لأنّه لا يوجد محذور في الالتزام بعدم استحباب الاحتياط، والمقصود هو نفي الاستحباب الشرعي؛ لأنّ الذي يكون منافياً حسب الدعوى للبراءة الشرعية هو الاستحباب الشرعي للاحتياط، إمّا أن يجعل الشارع استحباب الاحتياط شرعاً، يعني يضع الحكم المشكوك ظاهراً، أو يجري البراءة الشرعية التي تعني رفع الحكم المشكوك ظاهراً، فكلامنا في استحباب الاحتياط شرعاً. قيل: لا محذور في الالتزام بعدم استحباب الاحتياط الشرعي، وذلك بأن نفترض أنّ مبادئ المباحات الواقعية أهم عند الشارع من مبادئ المستحبات الواقعية عندما يقع التزاحم بينها في مقام الحفظ؛ لأنّ جعل استحباب الاحتياط في موارد الجهل والشك يؤدي إلى فوات بعض مبادئ المباحات الواقعية، سوف يلتزم على الإتيان بها ولو على مستوى الاستحباب، وهذا يؤدي إلى فوات بعض مبادئ المباحات الواقعية، فلأجل الحفاظ على مبادئ المباحات الواقعية الأهم ينفي الشارع استحباب الاحتياط، فمن ناحية ثبوتية، من ناحية الإمكان والاستحالة لا يوجد محذور في عدم جعل استحباب الاحتياط شرعاً، ويُعللّ بأنّ مبادئ المباحات الواقعية المتزاحمة في مقام الحفظ مع مبادئ المستحبات الواقعية أهم في نظر الشارع، فلا يجعل استحباب الاحتياط، المانع من جريان البراءة ليس هو هذا؛ لأنّ هذا ليس مانعاً ثبوتياً؛ بل المانع من ذلك هو مانع إثباتي، المانع هو أنّ أدلّة البراءة لا تشمل المستحبّات، باعتبار أنّها ناظرة إلى نفي الضيق والكلفة، ولو باعتبار أنّها مسوقة مساق الامتنان، أو باعتبار أنّ الرفع يقابل الوضع، والوضع ظاهر في جعل ما هو ثقيل على المكلّف، فيختص الرفع برفع ما هو ثقيل على المكلّف، وكل هذا يعني الاختصاص بموارد الشك في التكاليف التي فيها كلفة على المكلّف ومن الواضح أنّ الأحكام غير الإلزامية ليس فيها ذلك، ليس فيها ضيق وكلفة وثقل، وعمدة أخبار البراءة بنكات متعدّدة، ولو بنكتة كونها مسوقة مساق الامتنان، أو الرفع الذي يقابل الوضع، والوضع أخذ فيه مفهوم الثقل ــــــ مثلاً ــــــــ، كل هذه النكات تؤدي إلى افتراض اختصاص أدلّة البراءة بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية، ولو فرضنا أنّه أشكل على ما تقدّم بأنّ استحباب الاحتياط، لنفترض كما قيل أنّه ليس ثابتاً شرعاً، باعتبار ما ذُكر أنّ هذا أمر ممكن وليس محالاً أن لا يجعل الشارع استحباب الاحتياط، لكن استحباب الاحتياط ثابت عقلاً، والذي يُعبّر عنه بحسن الاحتياط، بلا كلام، فيمنع هذا الحكم العقلي بحُسن الاحتياط من شمول الحديث للموارد التي يثبت فيها الاحتياط العقلي، لا يمكن إنكار حُسن الاحتياط عقلاً، حتّى إذا أنكرنا حُسنه شرعاً، لكن حُسنه العقلي لا يمكن إنكاره، فلا إشكال في حُسن الاحتياط في باب المستحبّات الاستقلالية، وحُسن الاحتياط عقلاً أيضاً يمنع من شمول أدلة البراءة للموارد التي يحكم العقل فيها بحُسن الاحتياط، بنفس البيان السابق، كما قلنا بأنّ الحكم الشرعي باستحباب الاحتياط يمنع من إجراء البراءة في المورد الذي يحكم الشارع فيه بحسن الاحتياط، للتنافي بين البراءة وبين استحباب الاحتياط، فالبراءة تعني الرفع، بينما الاحتياط يعني وضع الحكم المشكوك ظاهراً، بنفس هذا البيان الدال على الاستحباب الشرعي للاحتياط نقول: العقل يحكم بحُسن الاحتياط، فيقع التنافي، فلا تكون البراءة شاملة للمورد الذي يحكم العقل فيه بحُسن الاحتياط، وهذا لا يمكن إنكار حُسن الاحتياط عقلاً، هذا ثابت جزماً في جميع الموارد.
أقول: أنّ هذا الإيراد يمكن دفعه، وذلك باعتبار أنّ الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لعدم شمول البراءة الشرعية للمستحبّات كان مبنيّاً على دعوى المنافاة بين جريان البراءة في المستحبّات وبين استحباب الاحتياط فيها، باعتبار أنّ الأوّل، أي البراءة تدل على رفع الاستحباب المشكوك ظاهراً، بينما الاحتياط يقتضي وضع الحكم المشكوك ظاهراً، وحيث أنّ الثاني ثابت حتماً، وهو استحباب الاحتياط شرعاً، فإذن: أدلّة البراءة لا تشمل الموارد التي يحكم الشارع فيها باستحباب الاحتياط. من الواضح أنّ هذا الوجه إذا تمّ، فهو إنّما يصح في الاستحباب الشرعي للاحتياط، تحصل منافاة بينهما، استحباب شرعي للاحتياط وفي مقابله براءة شرعية، فلا يمكن الجمع بينهما، وهذا مبني على أنّ معنى البراءة هو الرفع الظاهري للتكليف المشكوك، هذان بينهما منافاة فيتمّ هذا الوجه الذي ذُكر. وأمّا حُسن الاحتياط عقلاً، لا شرعاً، هذا لا مجال لتفسيره بمعنى يكون منافياً للبراءة الشرعية، العقل يحكم بحُسن الاحتياط وحُسن الانقياد إلى المولى، لا نستطيع أن نفسّر هذا الحكم العقلي بحُسن الانقياد بأنّه وضع للحكم المشكوك في مرحلة الظاهر لوضوح أنّ الحكم وضعاً ورفعاً، واقعاً وظاهراً هو من شئون الشارع، وبيد الشارع، فالشارع هو الذي يضع التكليف، أو الحكم واقعاً، أو يضعه ظاهراً بجعل الاحتياط، الشارع هو الذي يرفع التكليف واقعاً، أو يرفعه ظاهراً بنفي الاحتياط، هذا من شئون الشارع، فالشارع هو الذي بيده التكاليف، والتكليف هو عبارة عن أمرٍ اعتباري يعتبره الشارع، فقد يعتبر الشيء وقد يرفع الاعتبار ظاهراً، أو واقعاً، هذه من شئون الشارع وليست بيد العقل، فلا معنى لأن نقول أنّ العقل عندما يحكم بحُسن الاحتياط، يُفسّر حكمه بحُسن الاحتياط بأنّه وضع ظاهري للحكم المشكوك للواقع المشكوك، لا يمكن تفسيره بذلك؛ ولذا لا تكون هناك منافاة بين البراءة الشرعية وبين حُسن الاحتياط عقلاً؛ ولذا لم يتوهّم أحد وجود هذه المنافاة في باب الأحكام الالزامية، مع أنّه لا إشكال في باب الأحكام الالزامية العقل يحكم بحُسن الاحتياط، هذه قضية مسلّمة، لكن لم يتوهّم أحد بأنّ هذا ينافي البراءة الشرعية، نعم، البراءة الشرعية تنافي وجوب الاحتياط شرعاً، فإما أن يجب الاحتياط شرعاً، وإمّا أن يجعل البراءة، الجمع بينهما غير ممكن، الأحكام الظاهرية متضادة كتضاد الأحكام الواقعية، هنا توجد منافاة بين البراءة الشرعية وبين وجوب الاحتياط الشرعي في باب الأحكام الالزامية، لكن لم يتوهّم أحد وجود منافاة بين البراءة الشرعية وبين حُسن الاحتياط عقلاً، مع أنّ الوجه نفسه يجري، لو كان مرجع حكم العقل بحُسن الاحتياط إلى وضع الحكم الواقعي المشكوك ظاهراً يكون منافياً للبراءة الشرعية.