35/02/25
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
كان الكلام في الاعتراض الثالث، وحاصله: أنّ استكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب على عمل منوط بتحققّ أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
الأمر الأوّل: أنْ يكون العمل الذي رُتب الثواب عليه ممّا لا اقتضاء له في حدِّ نفسه للثواب.
الأمر الثاني: أنْ يكون الدليل الدال على ترتّب الثواب على العمل في مقام الحثّ على العمل والترغيب فيه؛ حينئذٍ يستظهر من ذلك الأمر والاستحباب، وكل منهما غير حاصل في محل الكلام. أمّا الأمر الأوّل؛ فلأن العمل في محل الكلام هو انقياد واحتياط، والانقياد والاحتياط في حدّ نفسه فيه مقتضي للثواب بقطع النظر عن الأمر، وأمّا عدم تحقق الأمر الثاني، فباعتبار ما ذكر من أنّ ترتّب الثواب في هذه الأخبار هو من باب التفضل والإحسان ولا يظهر من الروايات أنّها في مقام الترغيب والحثّ على العمل.
هذا الكلام يمكن التأمّل فيه من جهات:
الجهة الأولى: أننّا مع المستدل بالدليل، لم نفرغ بعد عن أنّ العمل الذي رُتب الثواب عليه هو خصوص العمل المأتي به برجاء الثواب، فافتراض هذا في كلام المعترض هذا كأنّه أشبه بالمصادرة. المستدل يقول بأنّي استدل بالروايات المطلقة، وهو لا يؤمن بأنّ الروايات المطلقة(فعلمه)، يعني عملها، يعني جاء بها برجاء الثواب، المستدل لا يؤمن بذلك ويقول: المقيّدات بالتماس ذلك الثواب ظاهرة في الحصة الانقيادية من العمل، لكن المطلقات ليس لها ظهور في ذلك، يقول أنا اتمسّك بالمطلقات التي ترتّب الثواب على ذات العمل، ومن الواضح أنّ ذات العمل ليس فيه اقتضاء الثواب، هو لا يُسلّم أنّ العمل في الروايات المطلقة هو خصوص الحصّة الانقيادية من العمل حتّى يقال بأنّ الانقياد فيه اقتضاء الثواب في حدِّ نفسه، هو لا يُسلّم بذلك، فنحن نقول له أنّ الأمر الأوّل غير متحقق في محل الكلام؛ لأنّ الثواب مرتّب في محل الكلام على العمل المأتي به برجاء الثواب، وهذا انقياد، والانقياد له اقتضاء الثواب، فالأمر الأوّل غير متحققّ.
أقول: هذا أوّل الكلام مع المستدل؛ لأنّه لا يؤمن بأنّ العمل جيء به برجاء الثواب في الروايات المطلقة، والمستدل يتمسّك بالروايات المطلقة، يقول: صحيح هناك روايات ترتب الثواب على العمل، على الحصة الانقيادية، لكن هناك روايات مطلقة ترتّب الثواب على ذات العمل، وذات العمل ليس فيه اقتضاء، وعندما ترتّب الثواب عليه نستكشف من ذلك تعلّق الأمر به.
الأمر الثاني الذي ذكره: يبدو أنّه خروج عن محل الكلام، يعني كبروياً لا يصح أنْ نقول أنّ أحد الأمور، أو النكتة الثانية التي توجب استكشاف الأمر من الدليل الدال على الثواب هو أنْ يكون الدليل ظاهراً في الترغيب والحثّ على العمل، فإذا كان الدليل ظاهراً في ذلك، فأنّه حينئذٍ سوف يكون دالاً على الأمر بلا إشكال ولا خلاف ولا معنى لوقوع النزاع، الكلام في أنّ الدليل لا يدل إلاّ على ترتّب الثواب على العمل، ولا يمكن أنْ نستكشف من ذلك بملازمة عقلية، أو ملازمة عرفية تعلّق الأمر بذلك العمل، أو لا. كلامنا في هذا، أمّا إذا افترضنا أنّ الدليل ظاهر في الحثّ على العمل والترغيب فيه، وهذا بمثابة أنْ يأمر بالعمل، هذا ليس هو محل الكلام، ولا معنى لأنْ يُجعل هو مناطاً لاستكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب؛ لأنّ هذا بمنزلة أن يقال أننّا نستكشف من الأمر بالعمل الأمر به، يعني الدليل الدال على ترتّب الثواب إذا كان ظاهراً في الأمر بالعمل نستكشف الأمر بالعمل، هذا لا معنى له، ليس هو المناط في استكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب، وإنّما هو إذا دلّ على الترغيب في العمل والحثّ عليه كان مفاده هو ذلك، يكون مفاده مباشرة هو الأمر بالشيء والحثّ عليه وطلبه، فيُستفاد منه كما يُستفاد من العمل، كما نستفاد الأمر من الأمر بالعمل، فإذا قال أفعل ذلك يكون دالاً بشكل مباشر على الأمر بالعمل، هنا إذا افترضنا الدليل الدال على ترتّب الثواب على العمل ظاهر في الحثّ على العمل والترغيب فيه؛ حينئذٍ لا إشكال ولا خلاف، ولا ينبغي أنْ يقع الإشكال في أننّا نستكشف من ذلك الأمر بالعمل، لكن ليس هذا هو محل النزاع، ليس هذا هو الذي يقع فيه الكلام، فيبدو أنّه أشبه بالخروج عن محل الكلام.
الجهة الثانية: هو أنّه يظهر من هذا الكلام أنّه إذا سلّمنا تحققّ الأمر الثاني في محل الكلام؛ حينئذٍ يُستكشف الأمر، والاستحباب النفسي المتعلّق بالعمل، هو يُنكر تحقق الأمر الثاني في المقام؛ لأنّه يقول أنّ ظاهر الروايات هو أنّ ترتّب الثواب هو من باب التفضّل والإحسان، وليست هي في مقام الحثّ والترغيب في العمل، لكن يظهر منه أنّه على تقدير أنْ تكون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل هذا يكفي لإثبات الاستحباب.
لكن يُلاحظ على هذا أنّه لا يكفي لإثبات الاستحباب النفسي لذات العمل ــــــ الذي هو محل كلامنا ــــــ مجرّد أنْ تكون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل، وإنّما يجب أنْ نلاحظ أنّ كون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل في مقابل أنْ تكون في مقام التفضّل والإحسان، هذا وحده لا يكفي لإثبات الاستحباب النفسي للعمل، يجب أنْ نلاحظ أنّه ما هو الشيء الذي حثّت عليه الروايات ورغّبت فيه ؟ على تقدير أنْ تكون الروايات في مقام الحثّ والترغيب ــــــ علماً أنّ المعترض لا يُسلّم بهذا الأمر ــــــ وما حثّت عليه الروايات هو ذات العمل؛ حينئذ يمكن أنْ يقال أننّا نستكشف من ذلك تعلّق الأمر بذات العمل، وهو معنى الاستحباب النفسي لذات العمل، وهو المطلوب. أمّا إذا فرضنا أنّ ما حثّت عليه الروايات ليس هو ذات العمل، وإنّما ما حثّت عليه الروايات هو الحصّة الانقيادية من العمل، كما هو الصحيح على ما تقدّم، سواء الروايات المقيّدة، أو الروايات المطلقة كما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، كل الروايات إذا سلّمنا أنّها في مقام الحثّ والترغيب، ما تحثّ عليه هو الحصّة الانقيادية من العمل(فعمله التماس ذلك الثواب)، أو(فعمله) هذا التفريع الذي قلنا أنّه من باب تفرّع الشيء على داعيه، أي جاء بالعمل بداعي تحصيل الثواب، هذه الحصّة الانقيادية. إذن: ما تحثّ عليه الروايات هو هذه الحصّة الانقيادية وليس ذات العمل، على تقدير أنْ نستفيد الاستحباب، فالاستحباب يكون للانقياد لا لذات العمل كما هو المفروض في الاحتمال الثاني، في الاحتمال الثاني نريد أنْ نثبت الاستحباب لذات العمل لا للانقياد، فمجرّد كون الروايات في مقام الترغيب والحثّ في مقابل كونها في مقام إعطاء الثواب من باب التفضل والإحسان، هذا وحده لا يثبت الاحتمال الثاني؛ بل لابدّ أنْ نضم إلى ذلك أنّ ما تحثّ عليه الروايات هو ذات العمل؛ حينئذٍ نستكشف من ذلك أنّ ذات العمل تعلّق به الأمر، وهو معنى الاستحباب النفسي له.
وأمّا إذا كان ما تحث عليه الروايات هو العمل المأتي به برجاء الثواب؛ فحينئذٍ لا يمكننا أنْ نستفيد استحباب ذات العمل، وإنّما على تقدير أنْ نستفيد الاستحباب، فالاستحباب يكون لعنوان الانقياد والاحتياط، العمل المأتي به بداعي رجاء الثواب، هذا هو الذي تحثّ عليه الروايات، فيكون هذا مستحبّاً، وأين هذا من الاحتمال الثاني الذي يعني استحباب ذات العمل ؟ هذا ما يرتبط بالدليل الأوّل للاحتمال الثاني.
الدليل الثاني: حاصله: ادعاء أنّ الجملة الخبرية الموجودة في كل هذه الروايات وهي(فعمله)، هذه الجملة الخبرية هي في مقام الإنشاء، فتُحمل على الإنشاء، فتكون هذه الجملة(فعمله)، أو(ففعله) بمثابة الأمر بالعمل، والأمر بالفعل، كما يقال ذلك في غالب الجمل الخبرية التي تقع في مقام بيان الأحكام الشرعية(سجد سجدتي سهو)، يعني يسجد سجدتي سهو، وكذلك(يُعيد)، يعني يجب عليه الإعادة، جمل خبرية تكون في مقام الإنشاء، وجملة(فعمله) أيضاً تُحمل على الإنشاء، وكأنّه قال(من بلغه ثواب على عمل فليعمله) فيكون أمراً بالعمل، وإذا كان أمراً بالعمل فقد وصلنا إلى النتيجة بلا حاجة إلى أيّ شيء آخر، فيثبت الأمر بهذا العمل، وهو معنى الاستحباب النفسي لذات العمل بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشاء كما وقع نظيره في أمثلة كثيرة، وفي الروايات موجودة كثيراً أنّه يستعمل الجملة الخبرية في مقام الإنشاء.
نعم، المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي ذكر هذا المعنى،[1]وغيره أيضاً ذكر هذا المعنى كالمحققّ العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار.[2] المحققّ النائيني(قدّس سرّه) نبّه على أنّ هذا الوجه ما يثبت به ليس هو خصوص الاحتمال الثاني الذي هو الاستحباب النفسي؛ بل ما يثبت به هو الجامع بين الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث الذي هو الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبّات، وذلك باعتبار أنّ ما نستفيده على أساس هذا الوجه هو الأمر بالفعل ليس أكثر، أنّ الشارع أمر بذلك الفعل الذي بلغه عليه ثواب، قال(فليفعله)، وهذا الأمر بالفعل كما يمكن أنْ يكون من جهة استحباب الفعل بعنوان البلوغ، والذي هو معنى الاحتمال الثاني الذي هو محل كلامنا، يمكن أنْ يكون الأمر بالفعل على أساس حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبّات؛ لأنّ الخبر الضعيف إذا كان حجّة في باب المستحبّات، فالشارع أيضاً يأمر بالفعل أمراً استحبابياً، فالأمر بالفعل يجتمع مع افتراض الاستحباب النفسي ويجتمع مع افتراض حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبّات، مجرّد الأمر بالفعل لا يعني بالضبط ثبوت الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ؛ بل هو يتلائم مع ذلك، ويتلائم أيضاً مع افتراض حجّية الخبر الضعيف في باب الأحكام غير الإلزامية. نبّهنا سابقاً أنّ الفرق بين الاحتمال الثاني والثالث هو أنّ الاستحباب يثبت للفعل على الاحتمال الثاني بعنوان ثانوي وهو عنوان(البلوغ)، بينما الاستحباب يثبت للعمل على الاحتمال الثالث بعنوانه الأوّلي؛ لأنّ الخبر الضعيف يصير أشبه بالخبر الصحيح في باب المستحبّات، الاحتمال الثالث يعني أنّه في باب المستحبّات لا يعتبر وثاقة الراوي، الخبر مطلقاً حجّة في باب المستحبّات سواء كان راويه ثقة، أو غير ثقة، فيثبت الاستحباب للفعل بعنوانه الأوّلي، بينما غلى الاحتمال الثاني يثبت الاستحباب للفعل، لكن بعنوان(البلوغ)، أي بعنوان أنّه بلغه عليه ثواب، هذا هو الفرق بينهما؛ ولذا قلنا أنّ الفقيه على كلا التقديرين يفتي بالاستحباب، بالنتيجة الأمر بالعمل يتلائم مع كلا الاحتمالين، فلا يتعيّن أنْ يكون مثبتاً لخصوص الاحتمال الثاني في مقابل الاحتمال الثالث. هذا هو الدليل الثاني للاحتمال الثاني.
ويُلاحظ عليه: أنّ حمل الجملة الخبرية في هذه الروايات على الإنشاء هو خلاف الظاهر جدّاً، عندما تكون الجملة واقعة في مقام الجزاء يمكن حملها على الإنشاء، لكن الجملة الخبرية في محل كلامنا ليست كذلك، الجملة الخبرية في هذه الروايات هي من متممّات الشرط ومن توابعه(من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك) ومن الواضح أنّ الشرط وتوابعه ومتممّاته كلّها بمنزلة الموضوع للحكم الشرعي، والموضوع دائماً يؤخذ مفروض الوجود والتحقق وليس المتكلّم في مقام الدعوة إليه والحثّ عليه، وإنّما يؤخذ مفروض الوجود والتحقق، ولا يتوهّم أحد أنّ الشرط يمكن أنْ يُفهم منه الطلب، سواء كان مباشرة، أو بواسطة كونه إخبار والإخبار في مقام الإنشاء ويُحمل على الإنشاء، على كلا التقديرين لا يُفهم منه ذلك، فإذا قيل(إذا سافرت فقصّر) لا يُفهم منها طلب السفر، وإنّما يُفهم منها أنّ السفر أُخذ مفروض الوجود والتحقق وحُمل عليه هذا الحكم، أي على تقدير السفر يُحمل عليه هذا الحكم؛ ولذا يكون الشرط وكل توابعه لا هي إنشاء ولا هي إخبار، فهي جملة غير تامّة لا يصح السكوت عليها، لا نستطيع أنْ نقول أنّ(من سافر فليُقصّر) هي إخبار عن السفر، وهذا الإخبار نحمله على الإنشاء، فضلاً عن أنْ نقول أنّها ظاهرة في طلب السفر وإن طلب السفر، كلاّ هي ليست كذلك، (فعمله) في هذه الروايات هي من هذا القبيل، لأنّها من توابع الشرط ومن متممّاته، والشرط وتوابعه كلّها أُخذت مفروضة الحصول والتحققّ،(من بلغه ثواب على عمل فعمله) يعني افتُرض أنّه عمل ذلك العمل، بعد ذلك يأتي الجواب(كان له ذلك الثواب)، فليس لها قابلية على أنْ تُحمل على الإنشاء والطلب، وإنّما هي مأخوذة مفروضة الوجود والتحقق ولا معنى فيها للطلب والإنشاء؛ بل لا معنى فيها حتّى للإخبار، فهذا الوجه أيضاً لا يكون تامّاً لإثبات الاحتمال الثاني.
الذي يظهر من مطاوي الكلمات والدروس السابقة أنّ هناك شيئين ينبغي الالتفات إليهما:
الأمر الأوّل: أننّا لا يمكننا إنكار ظهور هذه الروايات في أنّها في مقام الحثّ والترغيب على العمل، وأمّا افتراض أنّ ترتّب الثواب فيها من باب التفضّل والإحسان، الظاهر أنّ هذا خلاف سياقها، الذي يُفهم من سياق هذه الروايات أنّها في مقام الحثّ والترغيب على العمل، يعني يحثّه على العمل الذي بلغه عليه الثواب.
الأمر الثاني: أننّا نستظهر أنّ الثواب في كل هذه الروايات، في المطلقات والمقيّدات، أنّ الثواب رُتب على العمل الخاص لا على ذات العمل، يعني على الحصّة الانقياديّة من العمل، يعني على العمل المأتي به برجاء تحصيل الثواب الذي بلغه، استظهار هذا الأمر من المقيّدات واضح، أمّا من المطلقات تبعاً للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه). إذن: العمل الذي رُتب عليه الثواب في كل هذه الروايات هو الحصة الانقيادية من العمل، أي العمل المأتي به بداعي تحصيل الثواب. إذا ضممنا الأمر الثاني إلى الأمر الأوّل وهو أنّ الروايات في مقام الترغيب والحثّ على الإتيان بالعمل الذي بلغه عليه الثواب، يكون أقرب الاحتمالات المتقدّمة لتفسير هذه الروايات هو الاحتمال الأوّل، وهو أنّ هذه الروايات في مقام الإرشاد إلى حُسن الانقياد عقلاً، وحُسن الاحتياط عقلاً، وحُسن الانبعاث من المطلوبية الاحتمالية، وهذا أمر يدركه العقل، العقل يحكم بحُسن الانقياد، الروايات ترشد إلى هذا، هذه الروايات هي في مقام الإرشاد إلى ذلك، وهذا شيء يدركه العقل، حُسن الانقياد واستحقاق المنقاد للثواب، واستحقاق المحتاط للثواب هذا شيء يدركه العقل، والروايات في مقام الإرشاد إلى ذلك.
نعم، الذي يقف أمام أنْ يُلتزم بالاحتمال الأوّل فقط هو مسألة أنّ ظاهر الروايات هو إعطاء نفس الثواب الذي بلغه، وقلنا أنّ المقصود بها ليس هو نفسه من جميع الجهات، وإنّما نفسه من جهة الكم والكيف، ما هو حجم الثواب الذي بلغك، ومقداره، هو نفسه يُعطى لك، هذا هو ظاهر الروايات، وهذا ظهور لا ينبغي إنكاره، من الواضح أنّ العقل لا يدرك ذلك، العقل يقول بأنّ الانقياد حسن، والمنقاد يستحق الثواب، لكن لا يُشخّص كميّة ونوعية الثواب الذي يستحقه المنقاد، لا يدرك هذا، الروايات تعطي له نفس الثواب الذي بلغه، من هنا لابدّ ـــــ لكي نصل إلى نتيجة ـــــ من التلفيق بين الاحتمال الأوّل وبين الاحتمال الرابع الذي هو وعد من قبل المولى بإعطاء الثواب بأن يُقال: المولى في هذه الخصوصية، في كمية الثواب ونوعيته وعد المكلّف بإعطائه نفس ما بلغه، هنا أعمل المولوية في هذا الجانب فقط، هو في مقام الإرشاد إلى حسن الانقياد، واستحقاق المنقاد لأصل الثواب، لكن في مقام تحديد نوعية وكميّة الثواب هو أعمل مولويته ووعد العبد بأن يُعطيه نفس ذلك الثواب كمّاً وكيفاً الذي بلغه، هذا شيء لا يدركه العقل، فلابدّ من تطعيم الاحتمال الأوّل بالاحتمال الرابع المتقدّم، وبالتلفيق بين هذين الاحتمالين يكون هو الوجه الأقرب في تفسير هذه الروايات، وبناءً عليه لا يثبت الاستحباب النفسي للفعل بعنوان(البلوغ)، وكذلك لا يثبت الاستحباب النفسي للفعل بعنوانه الأوّلي، يعني لا الاحتمال الثاني ولا الاحتمال الثالث، وإنّما هو إرشاد إلى حُسن الانقياد إلى المولى، وحُسن الانبعاث للمطلوبية الاحتمالية مع الالتزام بإعطاء نفس الثواب الذي بلغه للمكلّف. هذا تمام الكلام في قاعدة التسامح في أدلّة السنن.
كان الكلام في الاعتراض الثالث، وحاصله: أنّ استكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب على عمل منوط بتحققّ أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
الأمر الأوّل: أنْ يكون العمل الذي رُتب الثواب عليه ممّا لا اقتضاء له في حدِّ نفسه للثواب.
الأمر الثاني: أنْ يكون الدليل الدال على ترتّب الثواب على العمل في مقام الحثّ على العمل والترغيب فيه؛ حينئذٍ يستظهر من ذلك الأمر والاستحباب، وكل منهما غير حاصل في محل الكلام. أمّا الأمر الأوّل؛ فلأن العمل في محل الكلام هو انقياد واحتياط، والانقياد والاحتياط في حدّ نفسه فيه مقتضي للثواب بقطع النظر عن الأمر، وأمّا عدم تحقق الأمر الثاني، فباعتبار ما ذكر من أنّ ترتّب الثواب في هذه الأخبار هو من باب التفضل والإحسان ولا يظهر من الروايات أنّها في مقام الترغيب والحثّ على العمل.
هذا الكلام يمكن التأمّل فيه من جهات:
الجهة الأولى: أننّا مع المستدل بالدليل، لم نفرغ بعد عن أنّ العمل الذي رُتب الثواب عليه هو خصوص العمل المأتي به برجاء الثواب، فافتراض هذا في كلام المعترض هذا كأنّه أشبه بالمصادرة. المستدل يقول بأنّي استدل بالروايات المطلقة، وهو لا يؤمن بأنّ الروايات المطلقة(فعلمه)، يعني عملها، يعني جاء بها برجاء الثواب، المستدل لا يؤمن بذلك ويقول: المقيّدات بالتماس ذلك الثواب ظاهرة في الحصة الانقيادية من العمل، لكن المطلقات ليس لها ظهور في ذلك، يقول أنا اتمسّك بالمطلقات التي ترتّب الثواب على ذات العمل، ومن الواضح أنّ ذات العمل ليس فيه اقتضاء الثواب، هو لا يُسلّم أنّ العمل في الروايات المطلقة هو خصوص الحصّة الانقيادية من العمل حتّى يقال بأنّ الانقياد فيه اقتضاء الثواب في حدِّ نفسه، هو لا يُسلّم بذلك، فنحن نقول له أنّ الأمر الأوّل غير متحقق في محل الكلام؛ لأنّ الثواب مرتّب في محل الكلام على العمل المأتي به برجاء الثواب، وهذا انقياد، والانقياد له اقتضاء الثواب، فالأمر الأوّل غير متحققّ.
أقول: هذا أوّل الكلام مع المستدل؛ لأنّه لا يؤمن بأنّ العمل جيء به برجاء الثواب في الروايات المطلقة، والمستدل يتمسّك بالروايات المطلقة، يقول: صحيح هناك روايات ترتب الثواب على العمل، على الحصة الانقيادية، لكن هناك روايات مطلقة ترتّب الثواب على ذات العمل، وذات العمل ليس فيه اقتضاء، وعندما ترتّب الثواب عليه نستكشف من ذلك تعلّق الأمر به.
الأمر الثاني الذي ذكره: يبدو أنّه خروج عن محل الكلام، يعني كبروياً لا يصح أنْ نقول أنّ أحد الأمور، أو النكتة الثانية التي توجب استكشاف الأمر من الدليل الدال على الثواب هو أنْ يكون الدليل ظاهراً في الترغيب والحثّ على العمل، فإذا كان الدليل ظاهراً في ذلك، فأنّه حينئذٍ سوف يكون دالاً على الأمر بلا إشكال ولا خلاف ولا معنى لوقوع النزاع، الكلام في أنّ الدليل لا يدل إلاّ على ترتّب الثواب على العمل، ولا يمكن أنْ نستكشف من ذلك بملازمة عقلية، أو ملازمة عرفية تعلّق الأمر بذلك العمل، أو لا. كلامنا في هذا، أمّا إذا افترضنا أنّ الدليل ظاهر في الحثّ على العمل والترغيب فيه، وهذا بمثابة أنْ يأمر بالعمل، هذا ليس هو محل الكلام، ولا معنى لأنْ يُجعل هو مناطاً لاستكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب؛ لأنّ هذا بمنزلة أن يقال أننّا نستكشف من الأمر بالعمل الأمر به، يعني الدليل الدال على ترتّب الثواب إذا كان ظاهراً في الأمر بالعمل نستكشف الأمر بالعمل، هذا لا معنى له، ليس هو المناط في استكشاف الأمر من الدليل الدال على ترتّب الثواب، وإنّما هو إذا دلّ على الترغيب في العمل والحثّ عليه كان مفاده هو ذلك، يكون مفاده مباشرة هو الأمر بالشيء والحثّ عليه وطلبه، فيُستفاد منه كما يُستفاد من العمل، كما نستفاد الأمر من الأمر بالعمل، فإذا قال أفعل ذلك يكون دالاً بشكل مباشر على الأمر بالعمل، هنا إذا افترضنا الدليل الدال على ترتّب الثواب على العمل ظاهر في الحثّ على العمل والترغيب فيه؛ حينئذٍ لا إشكال ولا خلاف، ولا ينبغي أنْ يقع الإشكال في أننّا نستكشف من ذلك الأمر بالعمل، لكن ليس هذا هو محل النزاع، ليس هذا هو الذي يقع فيه الكلام، فيبدو أنّه أشبه بالخروج عن محل الكلام.
الجهة الثانية: هو أنّه يظهر من هذا الكلام أنّه إذا سلّمنا تحققّ الأمر الثاني في محل الكلام؛ حينئذٍ يُستكشف الأمر، والاستحباب النفسي المتعلّق بالعمل، هو يُنكر تحقق الأمر الثاني في المقام؛ لأنّه يقول أنّ ظاهر الروايات هو أنّ ترتّب الثواب هو من باب التفضّل والإحسان، وليست هي في مقام الحثّ والترغيب في العمل، لكن يظهر منه أنّه على تقدير أنْ تكون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل هذا يكفي لإثبات الاستحباب.
لكن يُلاحظ على هذا أنّه لا يكفي لإثبات الاستحباب النفسي لذات العمل ــــــ الذي هو محل كلامنا ــــــ مجرّد أنْ تكون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل، وإنّما يجب أنْ نلاحظ أنّ كون الروايات في مقام الترغيب والحثّ على العمل في مقابل أنْ تكون في مقام التفضّل والإحسان، هذا وحده لا يكفي لإثبات الاستحباب النفسي للعمل، يجب أنْ نلاحظ أنّه ما هو الشيء الذي حثّت عليه الروايات ورغّبت فيه ؟ على تقدير أنْ تكون الروايات في مقام الحثّ والترغيب ــــــ علماً أنّ المعترض لا يُسلّم بهذا الأمر ــــــ وما حثّت عليه الروايات هو ذات العمل؛ حينئذ يمكن أنْ يقال أننّا نستكشف من ذلك تعلّق الأمر بذات العمل، وهو معنى الاستحباب النفسي لذات العمل، وهو المطلوب. أمّا إذا فرضنا أنّ ما حثّت عليه الروايات ليس هو ذات العمل، وإنّما ما حثّت عليه الروايات هو الحصّة الانقيادية من العمل، كما هو الصحيح على ما تقدّم، سواء الروايات المقيّدة، أو الروايات المطلقة كما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، كل الروايات إذا سلّمنا أنّها في مقام الحثّ والترغيب، ما تحثّ عليه هو الحصّة الانقيادية من العمل(فعمله التماس ذلك الثواب)، أو(فعمله) هذا التفريع الذي قلنا أنّه من باب تفرّع الشيء على داعيه، أي جاء بالعمل بداعي تحصيل الثواب، هذه الحصّة الانقيادية. إذن: ما تحثّ عليه الروايات هو هذه الحصّة الانقيادية وليس ذات العمل، على تقدير أنْ نستفيد الاستحباب، فالاستحباب يكون للانقياد لا لذات العمل كما هو المفروض في الاحتمال الثاني، في الاحتمال الثاني نريد أنْ نثبت الاستحباب لذات العمل لا للانقياد، فمجرّد كون الروايات في مقام الترغيب والحثّ في مقابل كونها في مقام إعطاء الثواب من باب التفضل والإحسان، هذا وحده لا يثبت الاحتمال الثاني؛ بل لابدّ أنْ نضم إلى ذلك أنّ ما تحثّ عليه الروايات هو ذات العمل؛ حينئذٍ نستكشف من ذلك أنّ ذات العمل تعلّق به الأمر، وهو معنى الاستحباب النفسي له.
وأمّا إذا كان ما تحث عليه الروايات هو العمل المأتي به برجاء الثواب؛ فحينئذٍ لا يمكننا أنْ نستفيد استحباب ذات العمل، وإنّما على تقدير أنْ نستفيد الاستحباب، فالاستحباب يكون لعنوان الانقياد والاحتياط، العمل المأتي به بداعي رجاء الثواب، هذا هو الذي تحثّ عليه الروايات، فيكون هذا مستحبّاً، وأين هذا من الاحتمال الثاني الذي يعني استحباب ذات العمل ؟ هذا ما يرتبط بالدليل الأوّل للاحتمال الثاني.
الدليل الثاني: حاصله: ادعاء أنّ الجملة الخبرية الموجودة في كل هذه الروايات وهي(فعمله)، هذه الجملة الخبرية هي في مقام الإنشاء، فتُحمل على الإنشاء، فتكون هذه الجملة(فعمله)، أو(ففعله) بمثابة الأمر بالعمل، والأمر بالفعل، كما يقال ذلك في غالب الجمل الخبرية التي تقع في مقام بيان الأحكام الشرعية(سجد سجدتي سهو)، يعني يسجد سجدتي سهو، وكذلك(يُعيد)، يعني يجب عليه الإعادة، جمل خبرية تكون في مقام الإنشاء، وجملة(فعمله) أيضاً تُحمل على الإنشاء، وكأنّه قال(من بلغه ثواب على عمل فليعمله) فيكون أمراً بالعمل، وإذا كان أمراً بالعمل فقد وصلنا إلى النتيجة بلا حاجة إلى أيّ شيء آخر، فيثبت الأمر بهذا العمل، وهو معنى الاستحباب النفسي لذات العمل بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشاء كما وقع نظيره في أمثلة كثيرة، وفي الروايات موجودة كثيراً أنّه يستعمل الجملة الخبرية في مقام الإنشاء.
نعم، المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي ذكر هذا المعنى،[1]وغيره أيضاً ذكر هذا المعنى كالمحققّ العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار.[2] المحققّ النائيني(قدّس سرّه) نبّه على أنّ هذا الوجه ما يثبت به ليس هو خصوص الاحتمال الثاني الذي هو الاستحباب النفسي؛ بل ما يثبت به هو الجامع بين الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث الذي هو الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبّات، وذلك باعتبار أنّ ما نستفيده على أساس هذا الوجه هو الأمر بالفعل ليس أكثر، أنّ الشارع أمر بذلك الفعل الذي بلغه عليه ثواب، قال(فليفعله)، وهذا الأمر بالفعل كما يمكن أنْ يكون من جهة استحباب الفعل بعنوان البلوغ، والذي هو معنى الاحتمال الثاني الذي هو محل كلامنا، يمكن أنْ يكون الأمر بالفعل على أساس حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبّات؛ لأنّ الخبر الضعيف إذا كان حجّة في باب المستحبّات، فالشارع أيضاً يأمر بالفعل أمراً استحبابياً، فالأمر بالفعل يجتمع مع افتراض الاستحباب النفسي ويجتمع مع افتراض حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبّات، مجرّد الأمر بالفعل لا يعني بالضبط ثبوت الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ؛ بل هو يتلائم مع ذلك، ويتلائم أيضاً مع افتراض حجّية الخبر الضعيف في باب الأحكام غير الإلزامية. نبّهنا سابقاً أنّ الفرق بين الاحتمال الثاني والثالث هو أنّ الاستحباب يثبت للفعل على الاحتمال الثاني بعنوان ثانوي وهو عنوان(البلوغ)، بينما الاستحباب يثبت للعمل على الاحتمال الثالث بعنوانه الأوّلي؛ لأنّ الخبر الضعيف يصير أشبه بالخبر الصحيح في باب المستحبّات، الاحتمال الثالث يعني أنّه في باب المستحبّات لا يعتبر وثاقة الراوي، الخبر مطلقاً حجّة في باب المستحبّات سواء كان راويه ثقة، أو غير ثقة، فيثبت الاستحباب للفعل بعنوانه الأوّلي، بينما غلى الاحتمال الثاني يثبت الاستحباب للفعل، لكن بعنوان(البلوغ)، أي بعنوان أنّه بلغه عليه ثواب، هذا هو الفرق بينهما؛ ولذا قلنا أنّ الفقيه على كلا التقديرين يفتي بالاستحباب، بالنتيجة الأمر بالعمل يتلائم مع كلا الاحتمالين، فلا يتعيّن أنْ يكون مثبتاً لخصوص الاحتمال الثاني في مقابل الاحتمال الثالث. هذا هو الدليل الثاني للاحتمال الثاني.
ويُلاحظ عليه: أنّ حمل الجملة الخبرية في هذه الروايات على الإنشاء هو خلاف الظاهر جدّاً، عندما تكون الجملة واقعة في مقام الجزاء يمكن حملها على الإنشاء، لكن الجملة الخبرية في محل كلامنا ليست كذلك، الجملة الخبرية في هذه الروايات هي من متممّات الشرط ومن توابعه(من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك) ومن الواضح أنّ الشرط وتوابعه ومتممّاته كلّها بمنزلة الموضوع للحكم الشرعي، والموضوع دائماً يؤخذ مفروض الوجود والتحقق وليس المتكلّم في مقام الدعوة إليه والحثّ عليه، وإنّما يؤخذ مفروض الوجود والتحقق، ولا يتوهّم أحد أنّ الشرط يمكن أنْ يُفهم منه الطلب، سواء كان مباشرة، أو بواسطة كونه إخبار والإخبار في مقام الإنشاء ويُحمل على الإنشاء، على كلا التقديرين لا يُفهم منه ذلك، فإذا قيل(إذا سافرت فقصّر) لا يُفهم منها طلب السفر، وإنّما يُفهم منها أنّ السفر أُخذ مفروض الوجود والتحقق وحُمل عليه هذا الحكم، أي على تقدير السفر يُحمل عليه هذا الحكم؛ ولذا يكون الشرط وكل توابعه لا هي إنشاء ولا هي إخبار، فهي جملة غير تامّة لا يصح السكوت عليها، لا نستطيع أنْ نقول أنّ(من سافر فليُقصّر) هي إخبار عن السفر، وهذا الإخبار نحمله على الإنشاء، فضلاً عن أنْ نقول أنّها ظاهرة في طلب السفر وإن طلب السفر، كلاّ هي ليست كذلك، (فعمله) في هذه الروايات هي من هذا القبيل، لأنّها من توابع الشرط ومن متممّاته، والشرط وتوابعه كلّها أُخذت مفروضة الحصول والتحققّ،(من بلغه ثواب على عمل فعمله) يعني افتُرض أنّه عمل ذلك العمل، بعد ذلك يأتي الجواب(كان له ذلك الثواب)، فليس لها قابلية على أنْ تُحمل على الإنشاء والطلب، وإنّما هي مأخوذة مفروضة الوجود والتحقق ولا معنى فيها للطلب والإنشاء؛ بل لا معنى فيها حتّى للإخبار، فهذا الوجه أيضاً لا يكون تامّاً لإثبات الاحتمال الثاني.
الذي يظهر من مطاوي الكلمات والدروس السابقة أنّ هناك شيئين ينبغي الالتفات إليهما:
الأمر الأوّل: أننّا لا يمكننا إنكار ظهور هذه الروايات في أنّها في مقام الحثّ والترغيب على العمل، وأمّا افتراض أنّ ترتّب الثواب فيها من باب التفضّل والإحسان، الظاهر أنّ هذا خلاف سياقها، الذي يُفهم من سياق هذه الروايات أنّها في مقام الحثّ والترغيب على العمل، يعني يحثّه على العمل الذي بلغه عليه الثواب.
الأمر الثاني: أننّا نستظهر أنّ الثواب في كل هذه الروايات، في المطلقات والمقيّدات، أنّ الثواب رُتب على العمل الخاص لا على ذات العمل، يعني على الحصّة الانقياديّة من العمل، يعني على العمل المأتي به برجاء تحصيل الثواب الذي بلغه، استظهار هذا الأمر من المقيّدات واضح، أمّا من المطلقات تبعاً للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه). إذن: العمل الذي رُتب عليه الثواب في كل هذه الروايات هو الحصة الانقيادية من العمل، أي العمل المأتي به بداعي تحصيل الثواب. إذا ضممنا الأمر الثاني إلى الأمر الأوّل وهو أنّ الروايات في مقام الترغيب والحثّ على الإتيان بالعمل الذي بلغه عليه الثواب، يكون أقرب الاحتمالات المتقدّمة لتفسير هذه الروايات هو الاحتمال الأوّل، وهو أنّ هذه الروايات في مقام الإرشاد إلى حُسن الانقياد عقلاً، وحُسن الاحتياط عقلاً، وحُسن الانبعاث من المطلوبية الاحتمالية، وهذا أمر يدركه العقل، العقل يحكم بحُسن الانقياد، الروايات ترشد إلى هذا، هذه الروايات هي في مقام الإرشاد إلى ذلك، وهذا شيء يدركه العقل، حُسن الانقياد واستحقاق المنقاد للثواب، واستحقاق المحتاط للثواب هذا شيء يدركه العقل، والروايات في مقام الإرشاد إلى ذلك.
نعم، الذي يقف أمام أنْ يُلتزم بالاحتمال الأوّل فقط هو مسألة أنّ ظاهر الروايات هو إعطاء نفس الثواب الذي بلغه، وقلنا أنّ المقصود بها ليس هو نفسه من جميع الجهات، وإنّما نفسه من جهة الكم والكيف، ما هو حجم الثواب الذي بلغك، ومقداره، هو نفسه يُعطى لك، هذا هو ظاهر الروايات، وهذا ظهور لا ينبغي إنكاره، من الواضح أنّ العقل لا يدرك ذلك، العقل يقول بأنّ الانقياد حسن، والمنقاد يستحق الثواب، لكن لا يُشخّص كميّة ونوعية الثواب الذي يستحقه المنقاد، لا يدرك هذا، الروايات تعطي له نفس الثواب الذي بلغه، من هنا لابدّ ـــــ لكي نصل إلى نتيجة ـــــ من التلفيق بين الاحتمال الأوّل وبين الاحتمال الرابع الذي هو وعد من قبل المولى بإعطاء الثواب بأن يُقال: المولى في هذه الخصوصية، في كمية الثواب ونوعيته وعد المكلّف بإعطائه نفس ما بلغه، هنا أعمل المولوية في هذا الجانب فقط، هو في مقام الإرشاد إلى حسن الانقياد، واستحقاق المنقاد لأصل الثواب، لكن في مقام تحديد نوعية وكميّة الثواب هو أعمل مولويته ووعد العبد بأن يُعطيه نفس ذلك الثواب كمّاً وكيفاً الذي بلغه، هذا شيء لا يدركه العقل، فلابدّ من تطعيم الاحتمال الأوّل بالاحتمال الرابع المتقدّم، وبالتلفيق بين هذين الاحتمالين يكون هو الوجه الأقرب في تفسير هذه الروايات، وبناءً عليه لا يثبت الاستحباب النفسي للفعل بعنوان(البلوغ)، وكذلك لا يثبت الاستحباب النفسي للفعل بعنوانه الأوّلي، يعني لا الاحتمال الثاني ولا الاحتمال الثالث، وإنّما هو إرشاد إلى حُسن الانقياد إلى المولى، وحُسن الانبعاث للمطلوبية الاحتمالية مع الالتزام بإعطاء نفس الثواب الذي بلغه للمكلّف. هذا تمام الكلام في قاعدة التسامح في أدلّة السنن.