34/12/24
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/
الاحتياط الشرعي
كان الكلام في الشبهة الحكميّة، وذكرنا آراء المحقق النائيني(قدّس سرّه) وذكرنا بأنّ الصحيح في الشبهة الحكميّة هو عدم جريان استصحاب عدم التذكيّة، بقطع النظر عن ما نختاره في استصحاب العدم الأزلي، فالقضيّة ليست مبنيّة على القول باستصحاب العدم الأزلي، فحتّى لو قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً وبلا تفصيل، مع ذلك في خصوص المقام نقول أنّ الاستصحاب لا يجري؛ لما أشرنا إليه في الدرس السابق من أنّ الشك في القابلية مرجعه في الحقيقة إلى الشك في أنّ الخصوصية الموجودة في هذا الحيوان المذبوح الذي نشكّ في قابليته للتذكية وعدمها، هل اعتبرها الشارع؟ هل هي خصوصيّة موجبة لحلّيّة اللّحم على تقدير التذكية، أو لا؟
إنْ قلنا أنّ حكم الشارع بالقابلية، يعني حكمه بحلّية اللّحم على تقدير التذكيّة، وأنّ هذا الحكم لا يأتي اعتباطاً، وإنّما ينشأ من وجود خصوصيّة في الحيوان؛ فلأنّ هذا الحيوان فيه هذه الخصوصيّة، كانت تذكيّته موجبّة لحلّية لحمه؛ ولأنّ ذاك الحيوان لا توجد فيه هذه الخصوصيّة؛ لذا لم تكن تذكيته موجبة لحلّية لحمه، فعندما نشك في حيوان على نحو الشبهة الحكميّة، فهذا معناه أنّ الخصوصيّة موجودة في هذا الحيوان؛ لأنّ الشبهة ليست موضوعية، وإنّما هي شبهة حكميّة، أنّ الخصوصية الموجودة في هذا الحيوان هل توجب حلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا ؟ حتّى تكون الشبهة حكميّة، مثلاً الخيل المذبوحة، خصوصية الخيليّة متوفّرة فيها، وهي خصوصية معروفة، وهي أنّه حيوان أهلي، لكننا لا نعلم أنّ الخصوصية التي توجب حلّية اللّحم على تقدير التذكية هي خصوصية كونه أهلياً حتّى تكون موجودة في هذا الحيوان، ويُحكم بحلّية لحمه، أو أنّ الخصوصية هي ليست كونه أهليّاً، وإنّما الخصوصية هي كونه ـــــ فرضاً ـــــ غنماً، أو بقراً، أو كونه من الدواب الثلاثة المعروفة، هذه هي الخصوصية التي اوجبت حلّية اللّحم على تقدير التذكيّة، هذه الخصوصيّة ليست موجودة في هذا الحيوان المشكوك.
إذن: مرجع الشكّ في القابلية وعدمها إلى الشكّ في أنّ الخصوصيّة الموجودة في الحيوان المذبوح هل هي موجبة لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا؟ إذا أرجعنا هذا الشكّ إلى هذا الشكّ؛ حينئذٍ يتبيّن أنه لا يصح إجراء استصحاب عدم الخصوصيّة؛ وذلك لأنّ الخصوصية مردّدة بين ما هو مقطوع البقاء، وبين ما هو مقطوع الانتفاء، الخصوصية إنْ كانت خصوصية غنميّة وبقريّة وأمثالها، فهي مقطوعة الانتفاء في الخيل، وإنْ كانت الخصوصية هي كونه أهلياً فهي مقطوعة البقاء، فما معنى أنْ نجري الاستصحاب في الخصوصية ؟ هل نجري أصالة عدم الخصوصية الغنمية ؟ ليس لدينا شكّ في هذه الخصوصية حتّى نستصحب عدمها؛ لأننّا نقطع بعدم كونه من الغنم، فلا معنى لاستصحاب عدم هذه الخصوصية، كما لا معنى لإجراء الاستصحاب بلحاظ خصوصية الأهليّة، يعني استصحاب عدم كونه حيواناً أهلياً؛ لأننّا نقطع بوجود هذه الخصوصية، ونقطع بأنّ هذا حيوان أهلي. إذن: واقع الخصوصية مردّد بين ما يكون معلوم الوجود، وبين ما يكون معلوم الانتفاء، فلا مجال لجريان الاستصحاب في الخصوصية.
أمّا العناوين، كعنوان الخصوصية وغيره، فليس لها دخل في الحكم الشرعي، هذه العناوين هي عناوين انتزاعية ليست دخيلة في الحكم الشرعي، وإنّما الدخيل في الحكم الشرعي هو واقع الخصوصية، وأمّا عنوان الخصوصية، فليس له دخل في الحكم الشرعي، فبلحاظ ما يكون دخيلاً في الحكم الشرعي لا يجري الاستصحاب، وفي المقام لا يجري استصحاب عدم الخصوصية الذي يرجع إليه استصحاب عدم القابلية. وهذا لا يُفرّق فيه بين أنْ نقول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي، أو لا نقول بجريانه. هذا ما يرتبط بكلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) مع بعض التعليقات عليه.
ذكر المحقق العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار[1] نفس ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) تقريباً، أنّ التذكيّة إنْ كانت أمراً بسيطاً يجري استصحاب عدم التذكيّة، وإنْ كانت أمراً مركّباً من هذه الأفعال الخاصّة، وكانت القابلية شرطاً في تأثير هذه الأفعال الخاصّة في حلّية اللّحم بحيث تكون القابلية خارجة عن مفهوم التذكية، وإنّما هي مأخوذة على نحو الشرطيّة والقيديّة، هنا أيضاً قال بعدم جريان استصحاب عدم التذكية كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه).
نعم، هو أضاف معنىً ثالثاً في معنى التذكية غير الاحتمالين الذين ذكرهما المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهذا الاحتمال هو نفس الاحتمال الثاني، لكنّه افترض أنّ القابلية مأخوذة على نحو الجزئيّة وليس على نحو الشرطيّة، فيكون الفرق بين الثاني والثالث هو أنّهما يشتركان في أنّ التذكيّة أسم لهذه الأفعال الخاصّة من فري الأوداج وغيرها، لكن القابلية تارة تؤخذ بنحو الشرطيّة فتكون خارجة عن مفهوم التذكية كما في الاحتمال الثاني، وتارة تكون جزءاً من مفهوم التذكية، فتكون داخلة في مفهوم التذكية بحيث يكون مفهوم التذكية عبارة عن مجموع الأفعال زائداً قابلية الحيوان للتذكيّة. ذكر الاحتمال الثالث، وذكر أنّ حكمه هو نفس حكم الاحتمال الثاني، وهو عدم جريان استصحاب عدم التذكيّة، والتعليل هو نفس التعليل السابق، وهو عدم وجود حالة متيقنة كان فيها الحيوان وكنّا نحرز عدم التذكية؛ لأنّنا أخذنا القابلية قيداً، أو شرطا،ً حتّى نستصحب عدم القابلية، لم يمر على الحيوان زمان نقطع فيه بعدم التذكيّة؛ لأنّ الحيوان حينما وجد هو يُشك في كونه مذكّى، أو غير مذكّى، فأيّ عدم نستصحبه ؟ بعد وجود الحيوان ليس لدينا يقين بعدم التذكية، لأنّ هذا الحيوان حينما وجد هو مشكوك في كونه مذكّى، أو غير مذكّى، وفي كونه قابلاً للتذكية، أو غير قابلٍ لها، فليس لدينا يقين بعدم تذكية هذا الحيوان حتّى نقول أننّا نشكّ الآن، فنستصحب عدم التذكية، أو عدم القابلية المتيّقن في زمان وجود الحيوان، فقال(قدّس سرّه) بأنّ هذا يمنع من جريان الاستصحاب.
الكلام هو الكلاممع إضافة، وهي أنّ الاحتمال الثالث الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) يبدو أنّه ليس محتملاً حتّى ثبوتاً، فكون القابلية شرطاً في التذكية هو أمر معقول، فتكون خارجة عن مفهوم وحقيقة التذكية، أمّا أنْ تكون القابلية جزءاً من مفهوم التذكية، فهذا ليس مقبولاً؛ لأنّه لا معنى لأنْ يقال أنّ قابلية التذكية جزء من مفهوم التذكية؛ إذ أنّ قابلية الحيوان للتذكية هي شيء غير التذكية، القابلية لا تكون جزءاً من مفهوم التذكية، وإنّما الذي يكون جزءاً من مفهوم التذكية هو التذكية بمعنى فري الأوداج وأمثالها من الأمور، أما القابلية للتذكية، فهي خارجة عن مفهوم التذكية وليست جزءاً منه؛ ولذا الأصح هو أنْ يقال أنّ الاحتمال الثاني هو أنّ القابلية غير التذكية، فتكون شرطاً فيها وهو الاحتمال الثاني المتقدّم، لا أنّ القابلية جزء من التذكية؛ لأنّ القابلية للتذكية غير التذكية، ولا تكون جزءاً من مفهوم التذكية.
ثمّ المحقق العراقي(قدّس سرّه) اختار الاحتمال الثاني كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي قال بأنّه إما أنْ يكون أمراً بسيطاً، أو أمراً مركباً، واختار أنّه أمر مركب، وهذا أيضاً بحث فقهي، بحث استنباطي من الأدلّة، أننّا ماذا نفهم منها، هل التذكية أمر بسيط، أو أنّها أمر مركب ؟ أي عبارة عن الأفعال الخاصّة، هذا بحث استنباطي فقهي، هو اختار الاحتمال الثاني كالمحققّ النائيني(قدّس سرّه).
والأمر الآخر هو أنّه نصّ على أنّ استصحاب عدم القابلية بنحو العدم الأزلي لا يجري،[2] باعتبار أنّ المختار فيه هو التفصيل بين ما إذا كانت الصفة من لوازم الماهية، وبين ما إذا كانت من لوازم الوجود، وهذا الاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كانت الصفة من لوازم الوجود، وهو يرى أنّ القابلية ليست من لوازم الوجود، وإنّما هي من لوازم الماهيّة؛ لذا يقول حتّى لو قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي، فهو لا يجري في المقام؛ لأننّا لا نقول بجريانه مطلقاً، وإنّما نقول بجريانه حينما تكون الصفة المشكوكة من لوازم الوجود، والقابلية في محل الكلام ليست من لوازم الوجود، وإنّما هي من لوازم الماهيّة. هناك كلمات أخرى لمحققّين آخرين كالمحققّ الأصفهاني(قدّس سرّه) لا داعي للتعرّض لها، فنكتفي بهذا المقدار في الشبهة الحكميّة.
الآن ننتقل إلى الشبهة الموضوعية: مثال الشبهة الموضوعيّة هو ما إذا علمنا بأنّ الغنم قابل للتذكية، وأنّ الخنزير ليس قابلاً للتذكية، لكننّا لا نعلم أنّ هذا الّلحم الموجود أمامنا، هل هو لحم شاةٍ حتّى تكون قابلية التذكية موجودة فيه، أو هو لحم خنزير ؟ وهذا الشك هو شكّ في شبهة موضوعيّة، سببّها ــــ فرضاً ــــ ظلمة الهواء، فلا يعلم بسبب هذه الظلمة بأنّ هذا اللّحم لحم خنزير، أو لحم شاة ؟ أو أنّ هذا الحيوان قد ذُبح بشكلٍ بحيث تقطّعت أوصاله وأصبح قطعاً صغيرة من اللّحم، فلا يُميّز بين لحم الخنزير وبين لحم الشاة، فيُشكّ بأنّ هذا اللّحم المذبوح والمُذكّى هل هو لحم شاة حتّى يكون حلالاً، أو هو لحم خنزير حتّى لا يكون حلالاً، أو أنّه لحم سباعٍ حتّى لا يكون حلال الأكل؟
مثال آخر لهذه الشبهة الموضوعيّة: وهو ما إذا علمنا أنّ الخصوصية التي حكم الشارع بأنّ الحيوان الواجد لها يحلّ أكله إذا ذُكّي، علمنا أنّ هذه الخصوصية هي كونه أهليّاً، لكننّا نشكّ في كون هذا اللّحم المُذكّى الموجود في الخارج لحم حيوان أهلي حتّى تكون الخصوصية موجودة فيه، وبالتالي يُحكم بحلّية لحمه، أو هو حيوان وحشي، حتّى لا يكون قابلاً للتذكيّة، وبالتالي لا يحل أكله ؟ هذه هي أيضاً شبهة موضوعيّة؛ إذ ليس لدينا شك من جهة الشارع، فنحن نعلم بأنّ هذه الخصوصيّة توجب حلّية اللّحم على تقدير تذكيته، والوحشيّة لا توجب ذلك، لكنّنا نشكّ في أنّ هذا اللّحم هل هو لحم حيوان وحشي، أو لحم حيوانٍ أهلي، بنحو الشبهة الموضوعيّة.
الذي يظهر من كلمات المحققّين، خصوصاً المحقق العراقي(قدّس سرّه) أنّ نفس ما تقدّم في الشبهة الحكميّة يجري في المقام، وصرّح(قدّس سرّه) بأنّه لا فرق بين الشبهتين.
لكن يمكن أنْ يقال: أنّ هناك فرقاً بين الشبهة الحكميّة وبين الشبهة الموضوعيّة، وهذا الفرق يظهر بناءً على الاحتمال الثالث الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) ــــــ إذا تعقّلناه ـــــ وهو أنْ تكون القابلية جزءاً من مفهوم التذكية، لا أنّها مأخوذة على نحو الشرطيّة؛ بل إنّما تكون مأخوذة على نحو الجزئية، في هذه الحالة، في الشبهة الموضوعيّة يمكن استصحاب عدم تلك الخصوصية بنحو العدم الأزلي، بخلاف الشبهة الحكميّة المتقدّمة، فأنّه هناك كان لا يجري استصحاب عدم الخصوصية على ما تقدّم، والفرق يكمن في أنّه في الشبهة الموضوعيّة عندما نشكّ في الخصوصية يمكن استصحاب عدمها، وذلك لأنّ الشكّ في وجود الموضوع شكّ في وجود الخصوصية، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو العدم الأزلي وليس العدم النعتي، فأننّا لا نحرز العدم النعتي، فليس لدينا يقين بأنّ هذا الحيوان وجد ولم تكن فيه هذه الخصوصية، بعد وجود الحيوان ليس لدينا يقين؛ لأنّ الحيوان حينما وجد هو مشكوك من حيث أنّ فيه هذه الخصوصية، أو ليس فيه هذه الخصوصية، وهل أنّه قابل للتذكية، أو ليس قابلاً لها، لكن بنحو العدم الأزلي يمكن استصحابه، بأن نستصحب عدم الخصوصيّة بنحو العدم الأزلي، حيث لا مانع منه في الشبهة الموضوعيّة؛ لأنّ الشكّ في وجود الخصوصية، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو بنحو العدم الأزلي، ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فلا مانع من استصحابه بناءً على المباني في استصحاب العدم الأزلي، فإذا قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً، فأنّه يجري في المقام، وإذا قلنا بالتفصيل المتقدّم، فيجري في المقام إذا كانت الخصوصية من لوازم الوجود لا من لوازم الماهيّة.
وأمّا في الشبهة الحكمية، فلا يجري استصحاب العدم الأزلي، باعتبار أنّ الشكّ في الشبهة الحكميّة ليس في وجود الموضوع، أي ليس في وجود الخصوصية، وإنّما الشكّ هو في موضوعيّة هذا الموجود، الشكّ هو في أنّ هذا الموجود الذي لا شكّ فيه، هل هو موضوع لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو ليس موضوعاً ؟ فالشك في المقام هو في موضوعية الموجود لا في وجود الموضوع، ومن هنا لا شكّ في الشبهة الحكميّة في الخصوصية، حيث في الشبهة الحكميّة نعلم بأنّ هذا الحيوان خيل، وأنّه حيوان أهلي، وإنّما الشكّ هو في أنّ الأهلية هل ثبت أنّها موضوعاً لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا ؟ ليس الشكّ في وجود الخصوصية حتّى نستصحب عدمها، ولو بنحو العدم الأزلي كما في الشبهة الموضوعيّة، وإنّما الموضوع محرز، بمعنى أنّ هذه الخصوصية نعلم بوجودها بلا إشكال، وإنّما نشكّ في حكمها الشرعي، وهل اعتبرها الشارع خصوصية موجبة لحلّية اللّحم، أو لا ؟ فلا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، بينما هناك مجال لإجراء الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة.
قلنا بأنّ جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة بنحو العدم الأزلي يبتني على أنْ لا تكون الخصوصية من لوازم الماهية، فإذا كانت من لوازم الوجود وقلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي؛ فحينئذٍ يجري الاستصحاب، وأمّا إذا كانت من لوازم الماهية، فالقول بجريان الاستصحاب فيها مبني على القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي مطلقاً.
نكتفي بهذا المقدار من النحو الثاني الذي هو عبارة عن حلّية اللّحم وعدم حلّيته من جهة الشكّ في قابلية التذكية وعدمها، وهو النحو المهم في هذا البحث؛ لأنّه في هذا البحث بحثنا عن استصحاب عدم التذكية، فأنّه إنّما يُتصوّر جريانه عندما يكون هناك شكّ في القابلية، فعندما نشكّ في قابلية الحيوان للتذكية، فهذا الشكّ يكون موجباً للشك في حلّية اللّحم وعدم حلّيته؛ وحينئذٍ يقع هذا الكلام. وإلاّ قلنا أنّ النحو الأوّل خارج عن محل الكلام، ولا كلام لنا فيه بالنسبة إلى أصالة عدم التذكية.
النحو الثالث: هو ما إذا كان الشكّ في الحلّيّة والحرمة من جهة الشكّ في طرو المانع، يعني نحن نعلم بأنّ هذا الحيوان قد ذُكّي، ونعلم بأنّه قابل للتذكية، إمّا بلحاظ كلا الأثرين، حلّية اللّحم والطهارة، أو بلحاظ أحدهما، لكن بالنتيجة نعلم بأنّ هذا الحيوان قابل للتذكية، فليس لدينا شكّ في أصل التذكية، ولا في قابلية الحيوان للتذكية، وإنّما نشك في أنّه هل حدث مانع يمنع من تأثير هذه القابلية في حلّية اللّحم ؟ حيث هناك موانع تمنع من تأثير التذكية في حلّية اللّحم، حتّى في الحيوان القابل، من قبيل الجلل، فأنّه يمنع من تأثير الذبح والتذكية في حلّيّة اللّحم، فنشكّ في أنّ هذا الحيوان هل هو من الحيوانات الجلالة، أو لا ؟ هذ أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، وقد يكون الشبهة الموضوعيّة. أمّا بنحو الشبهة الحكميّة، فهو كما إذا شككنا في أنّ الجلل مانع، أو لا، مع إحراز الجلل في هذا الحيوان. وأمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة فهو أنْ نشكّ في تحققّ الجلل، مع العلم بكونه مانعاً
كان الكلام في الشبهة الحكميّة، وذكرنا آراء المحقق النائيني(قدّس سرّه) وذكرنا بأنّ الصحيح في الشبهة الحكميّة هو عدم جريان استصحاب عدم التذكيّة، بقطع النظر عن ما نختاره في استصحاب العدم الأزلي، فالقضيّة ليست مبنيّة على القول باستصحاب العدم الأزلي، فحتّى لو قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً وبلا تفصيل، مع ذلك في خصوص المقام نقول أنّ الاستصحاب لا يجري؛ لما أشرنا إليه في الدرس السابق من أنّ الشك في القابلية مرجعه في الحقيقة إلى الشك في أنّ الخصوصية الموجودة في هذا الحيوان المذبوح الذي نشكّ في قابليته للتذكية وعدمها، هل اعتبرها الشارع؟ هل هي خصوصيّة موجبة لحلّيّة اللّحم على تقدير التذكية، أو لا؟
إنْ قلنا أنّ حكم الشارع بالقابلية، يعني حكمه بحلّية اللّحم على تقدير التذكيّة، وأنّ هذا الحكم لا يأتي اعتباطاً، وإنّما ينشأ من وجود خصوصيّة في الحيوان؛ فلأنّ هذا الحيوان فيه هذه الخصوصيّة، كانت تذكيّته موجبّة لحلّية لحمه؛ ولأنّ ذاك الحيوان لا توجد فيه هذه الخصوصيّة؛ لذا لم تكن تذكيته موجبة لحلّية لحمه، فعندما نشك في حيوان على نحو الشبهة الحكميّة، فهذا معناه أنّ الخصوصيّة موجودة في هذا الحيوان؛ لأنّ الشبهة ليست موضوعية، وإنّما هي شبهة حكميّة، أنّ الخصوصية الموجودة في هذا الحيوان هل توجب حلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا ؟ حتّى تكون الشبهة حكميّة، مثلاً الخيل المذبوحة، خصوصية الخيليّة متوفّرة فيها، وهي خصوصية معروفة، وهي أنّه حيوان أهلي، لكننا لا نعلم أنّ الخصوصية التي توجب حلّية اللّحم على تقدير التذكية هي خصوصية كونه أهلياً حتّى تكون موجودة في هذا الحيوان، ويُحكم بحلّية لحمه، أو أنّ الخصوصية هي ليست كونه أهليّاً، وإنّما الخصوصية هي كونه ـــــ فرضاً ـــــ غنماً، أو بقراً، أو كونه من الدواب الثلاثة المعروفة، هذه هي الخصوصية التي اوجبت حلّية اللّحم على تقدير التذكيّة، هذه الخصوصيّة ليست موجودة في هذا الحيوان المشكوك.
إذن: مرجع الشكّ في القابلية وعدمها إلى الشكّ في أنّ الخصوصيّة الموجودة في الحيوان المذبوح هل هي موجبة لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا؟ إذا أرجعنا هذا الشكّ إلى هذا الشكّ؛ حينئذٍ يتبيّن أنه لا يصح إجراء استصحاب عدم الخصوصيّة؛ وذلك لأنّ الخصوصية مردّدة بين ما هو مقطوع البقاء، وبين ما هو مقطوع الانتفاء، الخصوصية إنْ كانت خصوصية غنميّة وبقريّة وأمثالها، فهي مقطوعة الانتفاء في الخيل، وإنْ كانت الخصوصية هي كونه أهلياً فهي مقطوعة البقاء، فما معنى أنْ نجري الاستصحاب في الخصوصية ؟ هل نجري أصالة عدم الخصوصية الغنمية ؟ ليس لدينا شكّ في هذه الخصوصية حتّى نستصحب عدمها؛ لأننّا نقطع بعدم كونه من الغنم، فلا معنى لاستصحاب عدم هذه الخصوصية، كما لا معنى لإجراء الاستصحاب بلحاظ خصوصية الأهليّة، يعني استصحاب عدم كونه حيواناً أهلياً؛ لأننّا نقطع بوجود هذه الخصوصية، ونقطع بأنّ هذا حيوان أهلي. إذن: واقع الخصوصية مردّد بين ما يكون معلوم الوجود، وبين ما يكون معلوم الانتفاء، فلا مجال لجريان الاستصحاب في الخصوصية.
أمّا العناوين، كعنوان الخصوصية وغيره، فليس لها دخل في الحكم الشرعي، هذه العناوين هي عناوين انتزاعية ليست دخيلة في الحكم الشرعي، وإنّما الدخيل في الحكم الشرعي هو واقع الخصوصية، وأمّا عنوان الخصوصية، فليس له دخل في الحكم الشرعي، فبلحاظ ما يكون دخيلاً في الحكم الشرعي لا يجري الاستصحاب، وفي المقام لا يجري استصحاب عدم الخصوصية الذي يرجع إليه استصحاب عدم القابلية. وهذا لا يُفرّق فيه بين أنْ نقول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي، أو لا نقول بجريانه. هذا ما يرتبط بكلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) مع بعض التعليقات عليه.
ذكر المحقق العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار[1] نفس ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) تقريباً، أنّ التذكيّة إنْ كانت أمراً بسيطاً يجري استصحاب عدم التذكيّة، وإنْ كانت أمراً مركّباً من هذه الأفعال الخاصّة، وكانت القابلية شرطاً في تأثير هذه الأفعال الخاصّة في حلّية اللّحم بحيث تكون القابلية خارجة عن مفهوم التذكية، وإنّما هي مأخوذة على نحو الشرطيّة والقيديّة، هنا أيضاً قال بعدم جريان استصحاب عدم التذكية كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه).
نعم، هو أضاف معنىً ثالثاً في معنى التذكية غير الاحتمالين الذين ذكرهما المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهذا الاحتمال هو نفس الاحتمال الثاني، لكنّه افترض أنّ القابلية مأخوذة على نحو الجزئيّة وليس على نحو الشرطيّة، فيكون الفرق بين الثاني والثالث هو أنّهما يشتركان في أنّ التذكيّة أسم لهذه الأفعال الخاصّة من فري الأوداج وغيرها، لكن القابلية تارة تؤخذ بنحو الشرطيّة فتكون خارجة عن مفهوم التذكية كما في الاحتمال الثاني، وتارة تكون جزءاً من مفهوم التذكية، فتكون داخلة في مفهوم التذكية بحيث يكون مفهوم التذكية عبارة عن مجموع الأفعال زائداً قابلية الحيوان للتذكيّة. ذكر الاحتمال الثالث، وذكر أنّ حكمه هو نفس حكم الاحتمال الثاني، وهو عدم جريان استصحاب عدم التذكيّة، والتعليل هو نفس التعليل السابق، وهو عدم وجود حالة متيقنة كان فيها الحيوان وكنّا نحرز عدم التذكية؛ لأنّنا أخذنا القابلية قيداً، أو شرطا،ً حتّى نستصحب عدم القابلية، لم يمر على الحيوان زمان نقطع فيه بعدم التذكيّة؛ لأنّ الحيوان حينما وجد هو يُشك في كونه مذكّى، أو غير مذكّى، فأيّ عدم نستصحبه ؟ بعد وجود الحيوان ليس لدينا يقين بعدم التذكية، لأنّ هذا الحيوان حينما وجد هو مشكوك في كونه مذكّى، أو غير مذكّى، وفي كونه قابلاً للتذكية، أو غير قابلٍ لها، فليس لدينا يقين بعدم تذكية هذا الحيوان حتّى نقول أننّا نشكّ الآن، فنستصحب عدم التذكية، أو عدم القابلية المتيّقن في زمان وجود الحيوان، فقال(قدّس سرّه) بأنّ هذا يمنع من جريان الاستصحاب.
الكلام هو الكلاممع إضافة، وهي أنّ الاحتمال الثالث الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) يبدو أنّه ليس محتملاً حتّى ثبوتاً، فكون القابلية شرطاً في التذكية هو أمر معقول، فتكون خارجة عن مفهوم وحقيقة التذكية، أمّا أنْ تكون القابلية جزءاً من مفهوم التذكية، فهذا ليس مقبولاً؛ لأنّه لا معنى لأنْ يقال أنّ قابلية التذكية جزء من مفهوم التذكية؛ إذ أنّ قابلية الحيوان للتذكية هي شيء غير التذكية، القابلية لا تكون جزءاً من مفهوم التذكية، وإنّما الذي يكون جزءاً من مفهوم التذكية هو التذكية بمعنى فري الأوداج وأمثالها من الأمور، أما القابلية للتذكية، فهي خارجة عن مفهوم التذكية وليست جزءاً منه؛ ولذا الأصح هو أنْ يقال أنّ الاحتمال الثاني هو أنّ القابلية غير التذكية، فتكون شرطاً فيها وهو الاحتمال الثاني المتقدّم، لا أنّ القابلية جزء من التذكية؛ لأنّ القابلية للتذكية غير التذكية، ولا تكون جزءاً من مفهوم التذكية.
ثمّ المحقق العراقي(قدّس سرّه) اختار الاحتمال الثاني كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي قال بأنّه إما أنْ يكون أمراً بسيطاً، أو أمراً مركباً، واختار أنّه أمر مركب، وهذا أيضاً بحث فقهي، بحث استنباطي من الأدلّة، أننّا ماذا نفهم منها، هل التذكية أمر بسيط، أو أنّها أمر مركب ؟ أي عبارة عن الأفعال الخاصّة، هذا بحث استنباطي فقهي، هو اختار الاحتمال الثاني كالمحققّ النائيني(قدّس سرّه).
والأمر الآخر هو أنّه نصّ على أنّ استصحاب عدم القابلية بنحو العدم الأزلي لا يجري،[2] باعتبار أنّ المختار فيه هو التفصيل بين ما إذا كانت الصفة من لوازم الماهية، وبين ما إذا كانت من لوازم الوجود، وهذا الاستصحاب لا يجري إلاّ إذا كانت الصفة من لوازم الوجود، وهو يرى أنّ القابلية ليست من لوازم الوجود، وإنّما هي من لوازم الماهيّة؛ لذا يقول حتّى لو قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي، فهو لا يجري في المقام؛ لأننّا لا نقول بجريانه مطلقاً، وإنّما نقول بجريانه حينما تكون الصفة المشكوكة من لوازم الوجود، والقابلية في محل الكلام ليست من لوازم الوجود، وإنّما هي من لوازم الماهيّة. هناك كلمات أخرى لمحققّين آخرين كالمحققّ الأصفهاني(قدّس سرّه) لا داعي للتعرّض لها، فنكتفي بهذا المقدار في الشبهة الحكميّة.
الآن ننتقل إلى الشبهة الموضوعية: مثال الشبهة الموضوعيّة هو ما إذا علمنا بأنّ الغنم قابل للتذكية، وأنّ الخنزير ليس قابلاً للتذكية، لكننّا لا نعلم أنّ هذا الّلحم الموجود أمامنا، هل هو لحم شاةٍ حتّى تكون قابلية التذكية موجودة فيه، أو هو لحم خنزير ؟ وهذا الشك هو شكّ في شبهة موضوعيّة، سببّها ــــ فرضاً ــــ ظلمة الهواء، فلا يعلم بسبب هذه الظلمة بأنّ هذا اللّحم لحم خنزير، أو لحم شاة ؟ أو أنّ هذا الحيوان قد ذُبح بشكلٍ بحيث تقطّعت أوصاله وأصبح قطعاً صغيرة من اللّحم، فلا يُميّز بين لحم الخنزير وبين لحم الشاة، فيُشكّ بأنّ هذا اللّحم المذبوح والمُذكّى هل هو لحم شاة حتّى يكون حلالاً، أو هو لحم خنزير حتّى لا يكون حلالاً، أو أنّه لحم سباعٍ حتّى لا يكون حلال الأكل؟
مثال آخر لهذه الشبهة الموضوعيّة: وهو ما إذا علمنا أنّ الخصوصية التي حكم الشارع بأنّ الحيوان الواجد لها يحلّ أكله إذا ذُكّي، علمنا أنّ هذه الخصوصية هي كونه أهليّاً، لكننّا نشكّ في كون هذا اللّحم المُذكّى الموجود في الخارج لحم حيوان أهلي حتّى تكون الخصوصية موجودة فيه، وبالتالي يُحكم بحلّية لحمه، أو هو حيوان وحشي، حتّى لا يكون قابلاً للتذكيّة، وبالتالي لا يحل أكله ؟ هذه هي أيضاً شبهة موضوعيّة؛ إذ ليس لدينا شك من جهة الشارع، فنحن نعلم بأنّ هذه الخصوصيّة توجب حلّية اللّحم على تقدير تذكيته، والوحشيّة لا توجب ذلك، لكنّنا نشكّ في أنّ هذا اللّحم هل هو لحم حيوان وحشي، أو لحم حيوانٍ أهلي، بنحو الشبهة الموضوعيّة.
الذي يظهر من كلمات المحققّين، خصوصاً المحقق العراقي(قدّس سرّه) أنّ نفس ما تقدّم في الشبهة الحكميّة يجري في المقام، وصرّح(قدّس سرّه) بأنّه لا فرق بين الشبهتين.
لكن يمكن أنْ يقال: أنّ هناك فرقاً بين الشبهة الحكميّة وبين الشبهة الموضوعيّة، وهذا الفرق يظهر بناءً على الاحتمال الثالث الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) ــــــ إذا تعقّلناه ـــــ وهو أنْ تكون القابلية جزءاً من مفهوم التذكية، لا أنّها مأخوذة على نحو الشرطيّة؛ بل إنّما تكون مأخوذة على نحو الجزئية، في هذه الحالة، في الشبهة الموضوعيّة يمكن استصحاب عدم تلك الخصوصية بنحو العدم الأزلي، بخلاف الشبهة الحكميّة المتقدّمة، فأنّه هناك كان لا يجري استصحاب عدم الخصوصية على ما تقدّم، والفرق يكمن في أنّه في الشبهة الموضوعيّة عندما نشكّ في الخصوصية يمكن استصحاب عدمها، وذلك لأنّ الشكّ في وجود الموضوع شكّ في وجود الخصوصية، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو العدم الأزلي وليس العدم النعتي، فأننّا لا نحرز العدم النعتي، فليس لدينا يقين بأنّ هذا الحيوان وجد ولم تكن فيه هذه الخصوصية، بعد وجود الحيوان ليس لدينا يقين؛ لأنّ الحيوان حينما وجد هو مشكوك من حيث أنّ فيه هذه الخصوصية، أو ليس فيه هذه الخصوصية، وهل أنّه قابل للتذكية، أو ليس قابلاً لها، لكن بنحو العدم الأزلي يمكن استصحابه، بأن نستصحب عدم الخصوصيّة بنحو العدم الأزلي، حيث لا مانع منه في الشبهة الموضوعيّة؛ لأنّ الشكّ في وجود الخصوصية، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو بنحو العدم الأزلي، ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فلا مانع من استصحابه بناءً على المباني في استصحاب العدم الأزلي، فإذا قلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً، فأنّه يجري في المقام، وإذا قلنا بالتفصيل المتقدّم، فيجري في المقام إذا كانت الخصوصية من لوازم الوجود لا من لوازم الماهيّة.
وأمّا في الشبهة الحكمية، فلا يجري استصحاب العدم الأزلي، باعتبار أنّ الشكّ في الشبهة الحكميّة ليس في وجود الموضوع، أي ليس في وجود الخصوصية، وإنّما الشكّ هو في موضوعيّة هذا الموجود، الشكّ هو في أنّ هذا الموجود الذي لا شكّ فيه، هل هو موضوع لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو ليس موضوعاً ؟ فالشك في المقام هو في موضوعية الموجود لا في وجود الموضوع، ومن هنا لا شكّ في الشبهة الحكميّة في الخصوصية، حيث في الشبهة الحكميّة نعلم بأنّ هذا الحيوان خيل، وأنّه حيوان أهلي، وإنّما الشكّ هو في أنّ الأهلية هل ثبت أنّها موضوعاً لحلّية اللّحم على تقدير التذكية، أو لا ؟ ليس الشكّ في وجود الخصوصية حتّى نستصحب عدمها، ولو بنحو العدم الأزلي كما في الشبهة الموضوعيّة، وإنّما الموضوع محرز، بمعنى أنّ هذه الخصوصية نعلم بوجودها بلا إشكال، وإنّما نشكّ في حكمها الشرعي، وهل اعتبرها الشارع خصوصية موجبة لحلّية اللّحم، أو لا ؟ فلا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، بينما هناك مجال لإجراء الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة.
قلنا بأنّ جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة بنحو العدم الأزلي يبتني على أنْ لا تكون الخصوصية من لوازم الماهية، فإذا كانت من لوازم الوجود وقلنا بجريان استصحاب العدم الأزلي؛ فحينئذٍ يجري الاستصحاب، وأمّا إذا كانت من لوازم الماهية، فالقول بجريان الاستصحاب فيها مبني على القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي مطلقاً.
نكتفي بهذا المقدار من النحو الثاني الذي هو عبارة عن حلّية اللّحم وعدم حلّيته من جهة الشكّ في قابلية التذكية وعدمها، وهو النحو المهم في هذا البحث؛ لأنّه في هذا البحث بحثنا عن استصحاب عدم التذكية، فأنّه إنّما يُتصوّر جريانه عندما يكون هناك شكّ في القابلية، فعندما نشكّ في قابلية الحيوان للتذكية، فهذا الشكّ يكون موجباً للشك في حلّية اللّحم وعدم حلّيته؛ وحينئذٍ يقع هذا الكلام. وإلاّ قلنا أنّ النحو الأوّل خارج عن محل الكلام، ولا كلام لنا فيه بالنسبة إلى أصالة عدم التذكية.
النحو الثالث: هو ما إذا كان الشكّ في الحلّيّة والحرمة من جهة الشكّ في طرو المانع، يعني نحن نعلم بأنّ هذا الحيوان قد ذُكّي، ونعلم بأنّه قابل للتذكية، إمّا بلحاظ كلا الأثرين، حلّية اللّحم والطهارة، أو بلحاظ أحدهما، لكن بالنتيجة نعلم بأنّ هذا الحيوان قابل للتذكية، فليس لدينا شكّ في أصل التذكية، ولا في قابلية الحيوان للتذكية، وإنّما نشك في أنّه هل حدث مانع يمنع من تأثير هذه القابلية في حلّية اللّحم ؟ حيث هناك موانع تمنع من تأثير التذكية في حلّية اللّحم، حتّى في الحيوان القابل، من قبيل الجلل، فأنّه يمنع من تأثير الذبح والتذكية في حلّيّة اللّحم، فنشكّ في أنّ هذا الحيوان هل هو من الحيوانات الجلالة، أو لا ؟ هذ أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، وقد يكون الشبهة الموضوعيّة. أمّا بنحو الشبهة الحكميّة، فهو كما إذا شككنا في أنّ الجلل مانع، أو لا، مع إحراز الجلل في هذا الحيوان. وأمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة فهو أنْ نشكّ في تحققّ الجلل، مع العلم بكونه مانعاً