15-06-1435
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
35/06/15
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:- الواجب الثاني عشر من
واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
قلنا إن الوجه الثاني الذي ذكره(قده) هو الآية الكريمة:- ﴿ فاذكروا الله في ايام معدودات فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ﴾.
ثم قال:- إن هذه الآية بضمّ الرواية المفسّرة لها تدلّ على المطلوب، فإن الرواية دلت على أن المقصود من قوله ( لمن اتقى ) أي لمن اتقى الصيد، فالذي اتقى الصيد يجوز له أن ينفر النفر الأوّل، إما الذي لم يتّقِ الصيد فيلزم أن يبقى إلى النفر الثاني، فلاحظ صحيحة حمّاد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأوّل ومن نفر في النفر الأوّل فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس وهو قول الله عز وجل " فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه .... لمن اتقى "، فقال:- اتقى الصيد )[1]، وغيرها من الروايات التي بمضمونها.
ويرد عليه:-
أما بالنسبة إلى الوجه الأوّل أعني السيرة:- فلابد وأن يقصد منها السيرة على المبيت في الليلتين بقصد الوجوب وبنيّة ذلك وإن لم يصرّح به وإلا فالمبيت وحده أعمّ من الوجوب فلابد وأن نفترض - حتى يتمّ هذا الوجه - أن المبيت كان بنيّة الوجوب كذلك جرت سيرة المسلمين ولو لم يكن المبيت الذي تحقّق من المسلمين واجباً وبقصد الوجوب لتركه بعضٌ إذ لماذا هذا التضييق على النفس ؟! إنّ عدم مخالفة بعض المسلمين في ذلك يدلّ على الوجوب.
وإذا قلت:- من أين عرفت أن بعض المسلمين لم يخالفوا فلعل البعض خالف ولم يكن يبيت في منى ؟
قلت:- لو كان ذلك كما تقول لنقل التاريخ أن المسلمين لم يكونوا يبيتون بأجمعهم في منى فعدم النقل يدلّ على أن الجميع كانوا يتحقّق منهم المبيت في منى بنيّة اللزوم.
هذا بالسبة إلى الوجه الأوّل فلابد من إصلاحه هكذا.
وبعد إصلاحه نقول:- إن المبيت بنيّة الوجوب يحتاج إلى إثباتٍ واثباته كما قلنا أنه لو لم يكن واجباً لتركه بعض المسلمين ونحتاج إلى مقدّمة ثانيةٍ وهي أنه ولو تركه بعض المسلمين لنقله التاريخ لنا، وكلتا هاتين المقدمتين قابلة للمناقشة:-
أما الأولى فيمكن أن يقال:- إنه مادام الحاج مطالبٌ بالرمي في صباح تلك الليلة - يعني في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر - فالداعي على البقاء في منى موجودٌ، فالبقاء أسهل له حتى يؤدّي الرمي في نهاري اليوم الحادي عشر والثاني عشر فإن ذلك أيسر بعد الالتفات إلى أن الوسائل في تلك الفترة لم تكن ميسّرة - يعني مثل شقّة السكن في مكّة ووسائل التكييف لم تكن موجودةً - حتى يقال فليرجع لأن المبيت في شقّة السكن أيسر وأشد راحة، كلّا لم يكن هذا الشيء موجوداً، فنفس الذهاب والإياب مضافاً إلى عدم وجود وسائل ميسّرة للتبريد وما شاكل ذلك تساعد على أن المسلمين يبقون في مكانهم في منى وإن لم يكن ذلك واجباً.
إذن لا ينبغي أن نقيس ذاك الزمان على زماننا، بل الاجتماعات كانت تحصل في منى، فدواعي البقاء واللبث موجودةٌ.
أما بالنسبة إلى المقدّمة الثانية فإنه يمكن أن يقال:- هذا وجيهٌ إذا فرض أن ترك المبيت لم يكن حالةً طبيعيةً، أمّا إذا فرض أن نصف المسلمين كانوا يبقون والنصف الآخر كانوا يذهبون مثلاً إلى مكة أو إلى مكانٍ آخر فحينئذٍ الظاهرة تكون ظاهرة طبيعية غير ملفتة للنظر تستدعي أن ينقلها المؤرخ لأن المؤرخ لا ينقل كلّ ظاهرةٍ وإنما ينقل الظاهرة الملفتة للنظر، فإذا فرضنا أنه كان هذا بالشكل المذكور فالظاهرة آنذاك تكون طبيعيّة لا تستدعي النقل، وفي زماننا نجد أن بعض المسلمين لا يبيتون في منى ولكن ليست تلك الظاهرة ظاهرة غريبة عندنا وحينما نرجع إلى بلداننا لا تستحق أن ننقلها أو نسجّلها في كتب رحلتنا إلى مكة المكرمة - إذا أردنا أن نكتبها -، كلّا لا إنا لا ننقل هذه الظاهرة لأنها ليست ظاهرة ملفتة للنظر.
إذن هذه السيرة التي ذكرها للإثبات محلّ تأملٍ لما ذكرناه.
نعم ربما يقصد الإشارة إلى قضيّة ثانية:- وهي أن المسألة المذكورة مسألة ابتلائية فيلزم أن يكون حكم الشارع فيها واضحاً وذلك الموقف الواضح لابد وأن ينعكس على المسلمين الذين أبرزهم الفقهاء، والذي برز على ساحة الفقهاء هو الوجوب دون عدم الوجوب فيدلّ ذلك على أن الموقف الشرعي هو ذلك - أي وجوب المبيت في منى -.
إنه إذا كان هو المقصود فهو شيءٌ وجيهٌ، بيد أن مخالفة الشيخ الطوسي(قده) - الذي هو واحد كألفٍ ولو في التبيان - يزعزع من حصول الاطمئنان بأن الوجوب هو الموقف الشرعي الواضح، نعم لو لم يخالف الشيخ الطوسي(قده) لكان هذا وجهاً وجيهاً، إلّا اللهم أن يقول أحدٌ إنه مادام قد ذكر الشيخ الطوسي ذلك في التبيان فلا يؤثر، ولكن أنا لا أتمكن من القول بذلك مادامت المخالفة من الشيخ الطوسي ولو في التبيان.
وأمّا ما أفاده في الوجه الثاني أعني التمسك بالآية بضمّ الرواية:- فلا نعرف وجهاً وتقريباً للاستدلال بذلك، وغريبٌ أنّه ذكره بلا تقريبٍ.
وعلى أيّ حال هناك ثلاثة احتمالات في التقريب:-
الاحتمال الأوّل:- أن يكون وجه الدلالة هو قوله تعالى:- ﴿ واذكروا الله في أيامٍ ﴾ فإن قوله ( فأذكروا ) أمرٌ بالذكر والأيام المعدودات هي هذه الأيام - يعني اليوم الحادي عشر والثاني عشر -، إذن نفس الأمر بالذكر بعد وضوح أن المقصود من الأيام المعدودات هي عبارة عن اليومين المذكورين يثبت المطلوب.
وجوابه واضحٌ:- فإن غاية ما يدلّ عليه هذا هو أن ذكر الله تعالى في منى شيءٌ لازمٌ، أمّا أن المبيت لازم فمن أين ذلك ؟! فلو فرض أنيّ ذكرت الله عز وجل في اليوم الحادي في النهار فقلت سبحان الله .. فهذا يصدق عليه ذكر الله في الأيام المعدودات، فالملازمة غير موجودةٍ بين وجوب الذكر في منى في هذه الأيام وبين وجوب المبيت فيها، نعم لو كانت الآية تقول ( واذكروا الله في جميع أو مجموع الأيام المعدودات ) أي في كلّ الأيام وليس في قسمٍ منها بليلها ونهارها فنعم تكون آنذاك دالّة على الوجوب . ولكنّ هذا تكليفٌ بما لا يطاق أوّلاً - أي ذكر الله في مجموع الأربعة والعشرين ساعة -، مضافاً إلى أنّه لم يلتزم أحدٌ من المسلمين بأنه يجب على المكلف البقاء في منى كلّ النهار أو كلّ الليل وإنما المقصود هو صِرْفٌ الوجودِ لا مطلق الوجود وصِرْف وجود الذكر في منى يتحقّق بالذكر ولو في لحظة ٍولا يتوقّف على أن يتحقّق في مجموع هذا الوقت.
إذن هذا لا يمكن أن نثبت من خلاله وجوب المبيت.
الاحتمال الثاني:- أن يكون وجه الدلالة هو قوله تعالى:- ﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم علية ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتقى ﴾ يعني من اتقى الصيد لا إثم عليه في أن يتعجّل، ولازم جواز التعجّل في اليومين أنّ ما قبل اليومين لا يجوز فيه التعجّل يعني أن المبيت لازمٌ وبذلك ثبت المطلوب، فالتعجّل الجائز هو بعد اليومين ولازمُ ذلك وجوب المبيت وهو المطلوب.
وفيه:- إن المقصود من التعجّل هو النفر من منى، والنفر هو الهَجْرُ والتركُ الكلّي، فمن ترك منى بشكلٍ كلّيٍ بأن أخذ أمتعته وخرج من منى فهذا يقال له ( نفر )، فالنفر بهذا المعنى - أي الهجر -، أمّا لو فرض أنّي أبقيت أمتعتي في منى وذهبت مدّة ساعتين أو ثلاث ساعات ثم أرجع إليها فهذا لا يسمّى نفراً، فالآية الكريمة حينما تقول ﴿ فمن تعجل في يومين ﴾ أي فمن نفر والنفر يختصّ بالهجر الكلّي، فعلى هذا الأساس لو كنت أنا في منى طيلة اليوم الحادي عشر مثلاً ولكن ذهبت عند الغروب بقصد أن أزور مكة المكرمة لأداء الأعمال أو لأهدافٍ أخرى وكان في نيّتي الرجوع بعد ذلك - كما لو أردت الرجوع في الصباح - فهذا ليس نفراً وليس تعجلاً فلا يكون مشمولاً للآية الكريمة، فالنفر الكلّي يكون منهياً عنه قبل اليومين وهذا ليس تركاً وهجراً كلّياً لمنى.
إذن لا يمكن أن نستفيد من هذا العبير إلا حرمة الهَجْر الكلّي وعدم جواز الهجْر الكلّي، أمّا الخروج من منى لسويعاتٍ ليلاً أو طيلة الليل فهذا ليس نفراً، ولذلك لو خرج في النهار وعاد في الليل لا يقال هذا تعجّل ونفر رغم أنه ترك منى في النهار لأنه كان قاصداً الرجوع . فإذن النفر قد أُخِذ فيه الخروج الكلّي، ومادام قد خرج في الليل بقصد العودة صباحاً فليس هذا هجْراً كلّياً.
الاحتمال الثالث:- أن يكون وجه الدلالة هو الرواية الشريفة حيث قالت:- ( إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول ) وهذا معناه أنه لو لم يصب الصيد له الحقّ في النفر الأوّل، ولازمه أنه إذا كان له الحقّ في النفر الأوّل أن البقاء في مدّة اليومين واجبٌ والنفر الأوّل بعد اليومين - يعني بعد زوال اليوم الثاني عشر - يجوز آنذاك فتدلّ الرواية الشريفة على المطلوب.
وجوابه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أن الذي عُبِّر في الرواية كما عُبِّر في الآية هو التعجّل أو النفر والنفر إنما يصدق على الترك الكلّي، وفي المقام لا يصدق الترك الكلّي إذا خرج الحاج تمام الليل فلا يصدق أنه ترك ونفر من منى.
مضافاً إلى أنّه بناءً على هذا سوف يكون الدليل هو الرواية وليس الآية، فلا داعي لذكر الآية الكريمة بل تذكر الرواية وحدها بلا حاجة إلى أن تذكر الآية الكريمة.
إذن هذا الوجه قابل للمناقشة أيضاً وبذلك يتّضح أن الوجه المهمّ لإثبات وجوب المبيت في منى ليس إلّا مثل صحيحة معاوية بن عمّار وغيرها مما دلّ على وجوب المبيت دون الوجهين المذكورين.
هذا كله بالنسبة إلى القضية الاولى.
وأما بالنسبة إلى القضية الثانية أعني أن المبيت ليس جزءاً من الحج رغم وجوبه:- فلم ينقل خلافٌ في هذه المسألة، ولعل عدم نقل الخلاف بسبب عدم تعرّضهم إليها من الأساس.
على أي حال يدلّ على ذلك صحيحة معاوية بن عمّار الأخرى حيث جاء فيها - بعد أن ذكرت أعمال يوم النحر وأنه بعد أعمال يوم النحر يرجع الحاج إلى مكّة لأداء أعمال مكّة - ما نصّه:- ( ثم ائت المروة فأصعد عليها وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شيءٍ أحرمت منه إلا النساء ثم ارجع إلى البيت وطف به أسبوعاً آخر ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام ثم قد أحللت من كلّ شيءٍ وفرغت من حجّك كلّه وكلّ شيءٍ أحرمت منه )[2]، إنّه إذا جمعنا بين هذه الصحيحة وبين الصحيحة السابقة التي دلّت على أصل وجوب المبيت - وهي أيضاً لمعاوية بن عمار والتي نصها ( لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى ) - فسوف تصير النتيجة هي أن المبيت واجبٌ ولكنّه ليس جزءاً من الحج، ولأنه ليس جزءاً عَبّر في هذه الصحيحة بقوله ( وفرغت من حجّك كلّه ) يعني أنّه فرغ بطواف النساء من حجّه كلّه ومعنى كلمة ( من ) يعني منه بأجزائه لا أنّه فرغتَ من واجباته وتوابعه المستقلّة الخارجة عنه، فجمعاً بين هاتين الصحيحتين تكون النتيجة هي أنّ المبيت واجبٌ وليس بجزءٍ.
هذا كله في النقطة الأولى من نقاط المتن.
قلنا إن الوجه الثاني الذي ذكره(قده) هو الآية الكريمة:- ﴿ فاذكروا الله في ايام معدودات فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ﴾.
ثم قال:- إن هذه الآية بضمّ الرواية المفسّرة لها تدلّ على المطلوب، فإن الرواية دلت على أن المقصود من قوله ( لمن اتقى ) أي لمن اتقى الصيد، فالذي اتقى الصيد يجوز له أن ينفر النفر الأوّل، إما الذي لم يتّقِ الصيد فيلزم أن يبقى إلى النفر الثاني، فلاحظ صحيحة حمّاد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأوّل ومن نفر في النفر الأوّل فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس وهو قول الله عز وجل " فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه .... لمن اتقى "، فقال:- اتقى الصيد )[1]، وغيرها من الروايات التي بمضمونها.
ويرد عليه:-
أما بالنسبة إلى الوجه الأوّل أعني السيرة:- فلابد وأن يقصد منها السيرة على المبيت في الليلتين بقصد الوجوب وبنيّة ذلك وإن لم يصرّح به وإلا فالمبيت وحده أعمّ من الوجوب فلابد وأن نفترض - حتى يتمّ هذا الوجه - أن المبيت كان بنيّة الوجوب كذلك جرت سيرة المسلمين ولو لم يكن المبيت الذي تحقّق من المسلمين واجباً وبقصد الوجوب لتركه بعضٌ إذ لماذا هذا التضييق على النفس ؟! إنّ عدم مخالفة بعض المسلمين في ذلك يدلّ على الوجوب.
وإذا قلت:- من أين عرفت أن بعض المسلمين لم يخالفوا فلعل البعض خالف ولم يكن يبيت في منى ؟
قلت:- لو كان ذلك كما تقول لنقل التاريخ أن المسلمين لم يكونوا يبيتون بأجمعهم في منى فعدم النقل يدلّ على أن الجميع كانوا يتحقّق منهم المبيت في منى بنيّة اللزوم.
هذا بالسبة إلى الوجه الأوّل فلابد من إصلاحه هكذا.
وبعد إصلاحه نقول:- إن المبيت بنيّة الوجوب يحتاج إلى إثباتٍ واثباته كما قلنا أنه لو لم يكن واجباً لتركه بعض المسلمين ونحتاج إلى مقدّمة ثانيةٍ وهي أنه ولو تركه بعض المسلمين لنقله التاريخ لنا، وكلتا هاتين المقدمتين قابلة للمناقشة:-
أما الأولى فيمكن أن يقال:- إنه مادام الحاج مطالبٌ بالرمي في صباح تلك الليلة - يعني في اليوم الحادي عشر وفي اليوم الثاني عشر - فالداعي على البقاء في منى موجودٌ، فالبقاء أسهل له حتى يؤدّي الرمي في نهاري اليوم الحادي عشر والثاني عشر فإن ذلك أيسر بعد الالتفات إلى أن الوسائل في تلك الفترة لم تكن ميسّرة - يعني مثل شقّة السكن في مكّة ووسائل التكييف لم تكن موجودةً - حتى يقال فليرجع لأن المبيت في شقّة السكن أيسر وأشد راحة، كلّا لم يكن هذا الشيء موجوداً، فنفس الذهاب والإياب مضافاً إلى عدم وجود وسائل ميسّرة للتبريد وما شاكل ذلك تساعد على أن المسلمين يبقون في مكانهم في منى وإن لم يكن ذلك واجباً.
إذن لا ينبغي أن نقيس ذاك الزمان على زماننا، بل الاجتماعات كانت تحصل في منى، فدواعي البقاء واللبث موجودةٌ.
أما بالنسبة إلى المقدّمة الثانية فإنه يمكن أن يقال:- هذا وجيهٌ إذا فرض أن ترك المبيت لم يكن حالةً طبيعيةً، أمّا إذا فرض أن نصف المسلمين كانوا يبقون والنصف الآخر كانوا يذهبون مثلاً إلى مكة أو إلى مكانٍ آخر فحينئذٍ الظاهرة تكون ظاهرة طبيعية غير ملفتة للنظر تستدعي أن ينقلها المؤرخ لأن المؤرخ لا ينقل كلّ ظاهرةٍ وإنما ينقل الظاهرة الملفتة للنظر، فإذا فرضنا أنه كان هذا بالشكل المذكور فالظاهرة آنذاك تكون طبيعيّة لا تستدعي النقل، وفي زماننا نجد أن بعض المسلمين لا يبيتون في منى ولكن ليست تلك الظاهرة ظاهرة غريبة عندنا وحينما نرجع إلى بلداننا لا تستحق أن ننقلها أو نسجّلها في كتب رحلتنا إلى مكة المكرمة - إذا أردنا أن نكتبها -، كلّا لا إنا لا ننقل هذه الظاهرة لأنها ليست ظاهرة ملفتة للنظر.
إذن هذه السيرة التي ذكرها للإثبات محلّ تأملٍ لما ذكرناه.
نعم ربما يقصد الإشارة إلى قضيّة ثانية:- وهي أن المسألة المذكورة مسألة ابتلائية فيلزم أن يكون حكم الشارع فيها واضحاً وذلك الموقف الواضح لابد وأن ينعكس على المسلمين الذين أبرزهم الفقهاء، والذي برز على ساحة الفقهاء هو الوجوب دون عدم الوجوب فيدلّ ذلك على أن الموقف الشرعي هو ذلك - أي وجوب المبيت في منى -.
إنه إذا كان هو المقصود فهو شيءٌ وجيهٌ، بيد أن مخالفة الشيخ الطوسي(قده) - الذي هو واحد كألفٍ ولو في التبيان - يزعزع من حصول الاطمئنان بأن الوجوب هو الموقف الشرعي الواضح، نعم لو لم يخالف الشيخ الطوسي(قده) لكان هذا وجهاً وجيهاً، إلّا اللهم أن يقول أحدٌ إنه مادام قد ذكر الشيخ الطوسي ذلك في التبيان فلا يؤثر، ولكن أنا لا أتمكن من القول بذلك مادامت المخالفة من الشيخ الطوسي ولو في التبيان.
وأمّا ما أفاده في الوجه الثاني أعني التمسك بالآية بضمّ الرواية:- فلا نعرف وجهاً وتقريباً للاستدلال بذلك، وغريبٌ أنّه ذكره بلا تقريبٍ.
وعلى أيّ حال هناك ثلاثة احتمالات في التقريب:-
الاحتمال الأوّل:- أن يكون وجه الدلالة هو قوله تعالى:- ﴿ واذكروا الله في أيامٍ ﴾ فإن قوله ( فأذكروا ) أمرٌ بالذكر والأيام المعدودات هي هذه الأيام - يعني اليوم الحادي عشر والثاني عشر -، إذن نفس الأمر بالذكر بعد وضوح أن المقصود من الأيام المعدودات هي عبارة عن اليومين المذكورين يثبت المطلوب.
وجوابه واضحٌ:- فإن غاية ما يدلّ عليه هذا هو أن ذكر الله تعالى في منى شيءٌ لازمٌ، أمّا أن المبيت لازم فمن أين ذلك ؟! فلو فرض أنيّ ذكرت الله عز وجل في اليوم الحادي في النهار فقلت سبحان الله .. فهذا يصدق عليه ذكر الله في الأيام المعدودات، فالملازمة غير موجودةٍ بين وجوب الذكر في منى في هذه الأيام وبين وجوب المبيت فيها، نعم لو كانت الآية تقول ( واذكروا الله في جميع أو مجموع الأيام المعدودات ) أي في كلّ الأيام وليس في قسمٍ منها بليلها ونهارها فنعم تكون آنذاك دالّة على الوجوب . ولكنّ هذا تكليفٌ بما لا يطاق أوّلاً - أي ذكر الله في مجموع الأربعة والعشرين ساعة -، مضافاً إلى أنّه لم يلتزم أحدٌ من المسلمين بأنه يجب على المكلف البقاء في منى كلّ النهار أو كلّ الليل وإنما المقصود هو صِرْفٌ الوجودِ لا مطلق الوجود وصِرْف وجود الذكر في منى يتحقّق بالذكر ولو في لحظة ٍولا يتوقّف على أن يتحقّق في مجموع هذا الوقت.
إذن هذا لا يمكن أن نثبت من خلاله وجوب المبيت.
الاحتمال الثاني:- أن يكون وجه الدلالة هو قوله تعالى:- ﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم علية ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتقى ﴾ يعني من اتقى الصيد لا إثم عليه في أن يتعجّل، ولازم جواز التعجّل في اليومين أنّ ما قبل اليومين لا يجوز فيه التعجّل يعني أن المبيت لازمٌ وبذلك ثبت المطلوب، فالتعجّل الجائز هو بعد اليومين ولازمُ ذلك وجوب المبيت وهو المطلوب.
وفيه:- إن المقصود من التعجّل هو النفر من منى، والنفر هو الهَجْرُ والتركُ الكلّي، فمن ترك منى بشكلٍ كلّيٍ بأن أخذ أمتعته وخرج من منى فهذا يقال له ( نفر )، فالنفر بهذا المعنى - أي الهجر -، أمّا لو فرض أنّي أبقيت أمتعتي في منى وذهبت مدّة ساعتين أو ثلاث ساعات ثم أرجع إليها فهذا لا يسمّى نفراً، فالآية الكريمة حينما تقول ﴿ فمن تعجل في يومين ﴾ أي فمن نفر والنفر يختصّ بالهجر الكلّي، فعلى هذا الأساس لو كنت أنا في منى طيلة اليوم الحادي عشر مثلاً ولكن ذهبت عند الغروب بقصد أن أزور مكة المكرمة لأداء الأعمال أو لأهدافٍ أخرى وكان في نيّتي الرجوع بعد ذلك - كما لو أردت الرجوع في الصباح - فهذا ليس نفراً وليس تعجلاً فلا يكون مشمولاً للآية الكريمة، فالنفر الكلّي يكون منهياً عنه قبل اليومين وهذا ليس تركاً وهجراً كلّياً لمنى.
إذن لا يمكن أن نستفيد من هذا العبير إلا حرمة الهَجْر الكلّي وعدم جواز الهجْر الكلّي، أمّا الخروج من منى لسويعاتٍ ليلاً أو طيلة الليل فهذا ليس نفراً، ولذلك لو خرج في النهار وعاد في الليل لا يقال هذا تعجّل ونفر رغم أنه ترك منى في النهار لأنه كان قاصداً الرجوع . فإذن النفر قد أُخِذ فيه الخروج الكلّي، ومادام قد خرج في الليل بقصد العودة صباحاً فليس هذا هجْراً كلّياً.
الاحتمال الثالث:- أن يكون وجه الدلالة هو الرواية الشريفة حيث قالت:- ( إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول ) وهذا معناه أنه لو لم يصب الصيد له الحقّ في النفر الأوّل، ولازمه أنه إذا كان له الحقّ في النفر الأوّل أن البقاء في مدّة اليومين واجبٌ والنفر الأوّل بعد اليومين - يعني بعد زوال اليوم الثاني عشر - يجوز آنذاك فتدلّ الرواية الشريفة على المطلوب.
وجوابه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أن الذي عُبِّر في الرواية كما عُبِّر في الآية هو التعجّل أو النفر والنفر إنما يصدق على الترك الكلّي، وفي المقام لا يصدق الترك الكلّي إذا خرج الحاج تمام الليل فلا يصدق أنه ترك ونفر من منى.
مضافاً إلى أنّه بناءً على هذا سوف يكون الدليل هو الرواية وليس الآية، فلا داعي لذكر الآية الكريمة بل تذكر الرواية وحدها بلا حاجة إلى أن تذكر الآية الكريمة.
إذن هذا الوجه قابل للمناقشة أيضاً وبذلك يتّضح أن الوجه المهمّ لإثبات وجوب المبيت في منى ليس إلّا مثل صحيحة معاوية بن عمّار وغيرها مما دلّ على وجوب المبيت دون الوجهين المذكورين.
هذا كله بالنسبة إلى القضية الاولى.
وأما بالنسبة إلى القضية الثانية أعني أن المبيت ليس جزءاً من الحج رغم وجوبه:- فلم ينقل خلافٌ في هذه المسألة، ولعل عدم نقل الخلاف بسبب عدم تعرّضهم إليها من الأساس.
على أي حال يدلّ على ذلك صحيحة معاوية بن عمّار الأخرى حيث جاء فيها - بعد أن ذكرت أعمال يوم النحر وأنه بعد أعمال يوم النحر يرجع الحاج إلى مكّة لأداء أعمال مكّة - ما نصّه:- ( ثم ائت المروة فأصعد عليها وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شيءٍ أحرمت منه إلا النساء ثم ارجع إلى البيت وطف به أسبوعاً آخر ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام ثم قد أحللت من كلّ شيءٍ وفرغت من حجّك كلّه وكلّ شيءٍ أحرمت منه )[2]، إنّه إذا جمعنا بين هذه الصحيحة وبين الصحيحة السابقة التي دلّت على أصل وجوب المبيت - وهي أيضاً لمعاوية بن عمار والتي نصها ( لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى ) - فسوف تصير النتيجة هي أن المبيت واجبٌ ولكنّه ليس جزءاً من الحج، ولأنه ليس جزءاً عَبّر في هذه الصحيحة بقوله ( وفرغت من حجّك كلّه ) يعني أنّه فرغ بطواف النساء من حجّه كلّه ومعنى كلمة ( من ) يعني منه بأجزائه لا أنّه فرغتَ من واجباته وتوابعه المستقلّة الخارجة عنه، فجمعاً بين هاتين الصحيحتين تكون النتيجة هي أنّ المبيت واجبٌ وليس بجزءٍ.
هذا كله في النقطة الأولى من نقاط المتن.