34/06/20
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
ذكرنا في الدرس السابق الوجه الأوّل من الوجوه التي تُذكر لإثبات إمكان تصحيح الفعل لو جاء به المكلّف في حال الاضطرار، وقلنا أنّ هذا الوجه هو عبارة عن التمسّك بقرينة الامتنان، فأننّا إذا سلّمنا بأنّ الحديث مسوقٌ مساق الامتنان، وأنّ هناك امتنان في الرفع، كما هو ظاهر الحديث، وأنّ الامتنان في نفس رفع الحكم عن المكلّف، ولم نناقش في ذلك؛ حينئذٍ الظاهر أنّ هذا قرينة على وجود مصلحةٍ، ومقتضٍ للحكم، وأنّه ممّا تحققّ ملاكه، لا أنّ الحكم رُفع لعدم وجود ملاك فيه؛ بل له ملاك، ومع ذلك يُرفع الحكم ويكون رفعه امتنانياً، ولو باعتبار أنّ هناك مصلحة أقوى، وأرجح منه في نفس الرفع اقتضت مراعاة المكلّفين، ورفع هذا الحكم بالرغم من وجود مصلحة، لكن هناك مصلحة أقوى من ذلك، وهذا يحققّ الامتنان، الله(سبحانه وتعالى) منّ على عبيده فرفع الحكم عنهم مراعاة لمصلحتهم؛ لأنّ الرفع في صالحهم، وهذا رفع امتناني. وذكرنا المناقشة في هذا الوجه، والإجابة عنها.
الوجه الثاني لإثبات تصحيح الفعل: هو أنْ نستعين بكلمة(الرفع) الواردة في الحديث الشريف، فالوارد في الحديث الشريف هو كلمة(الرفع)، لا(الدفع)، والرفع له مفهوم عرفي في مقابل الدفع، فالرفع يقتضي النفي بعد الوجود، والرفع بعد الثبوت، والإعدام، وليس المنع، كما هو الحال في الدفع، وإنّما يقتضي إعدام الشيء الموجود ونفيه، فلابدّ من افتراض نحوٍ من الوجود للشيء المرفوع في الحديث، وهذا النحو من الوجود للشيء المرفوع الذي هو الحكم الذي يُرفع بالحديث، هو عبارة عن الوجود الاقتضائي والملاكي للحكم، هذا هو الذي يصححّ إطلاق الرفع للحكم، مع أنّ المرفوع ليس له وجود من البداية، ورفعه ليس رفعاً. إذن: ما معنى أنْ يُسند الرفع إلى الحكم الذي ليس له وجود ؟ المصحح لهذا الاستعمال هو افتراض الوجود الاقتضائي للحكم، الذي يعني وجود الحكم بوجود مقتضيه، وليس نفس الحكم؛ لأنّ نفس الحكم لا وجود له من البداية.
بناءً على ذلك ـــــ أنْ يكون المصحح لنسبة الرفع إلى الحكم هو وجود الحكم وجوداً اقتضائيّاً ملاكيّاً ـــــ يمكن أنْ ننطلق منه لتصحيح الفعل؛ لأننّا نستكشف من حديث الرفع وجود الملاك والمقتضي للحكم، وإذا كان المقتضي والملاك موجوداً؛ حينئذٍ يمكن تصحيح الفعل على أساس المقتضي، والملاك.
أعتُرض على هذا الوجه: بأنّ هذا صحيح، لكنّه لا يخرج عن كونه احتمالاً وفي قِباله احتمالات أخرى. يعني أنّ هناك مناسبة لوحظت في إسناد الرفع إلى الحكم الشرعي مع عدم وجوده وثبوته حين الرفع، وأحدى المناسبات المحتملة في المقام لتصحيح نسبة الرفع إلى الحكم الذي لا ثبوت له حين الرفع هي افتراض الوجود الاقتضائي للحكم، لكن هناك احتمالات أخرى يمكن أنْ تصححّ نسبة الرفع إلى هذا الحكم، ومن هذه الاحتمالات:
الاحتمال الأوّل: افتراض أنّ الحكم في موارد الإكراه، والاضطرار، والخطأ، والنسيان له ثبوت حقيقي في بداية الشريعة، ثمّ بعد ذلك جاءت الشريعة، وجاء حديث الرفع، فرفع هذا الحكم الثابت، فالمصحح لاستعمال الرفع هو ثبوت الحكم حقيقةً وواقعاً في زمان الرفع، لكن بلحاظ صدر الشريعة؛ وحينئذٍ لا ينفعنا لتصحيح الفعل؛ لأنّه جاء رفعٌ ورَفَع ما هو ثابت، ولا دليل على بقاء المقتضي. وبعبارة أخرى: كأننّا استعملنا الرفع في معناه الحقيقي، حيث كان هناك حكم ثابت مع الاضطرار، ومع الإكراه في بداية الشريعة، ثمّ رفعه حديث الرفع، فهو استعمالٌ للرفع في معناه الحقيقي، فمن أين نعرف أنّ المقتضي لهذا الحكم المرفوع باقٍ حتّى نصححّ به الفعل الذي يأتي به المكلّف مع الاضطرار، أو الإكراه.
الاحتمال الثاني: أنْ تكون القضيّة ليست بلحاظ صدر الشريعة، وإنّما هو ما نقلناه عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وهو أنّ المنظور به هو الشرائع السابقة،
[1]
فالحكم له ثبوتٌ، لكن في الشرائع السابقة، حيث كانت الأحكام ثابتة مع الاضطرار، ومع الإكراه، ومع الخطأ، والنسيان، كما لعلّه تشير بعض الروايات إلى أنّه كان هناك تشددّ بلحاظ الشرائع السابقة، فيكون المصححّ للرفع هو ثبوت هذه الأحكام في الشرائع السابقة، فيأتي حديث الرفع فيرفع أمراً ثابتاً ليس ثبوتاً اقتضائيّاً، حتّى ينفعنا في مقام تصحيح الفعل، وإنّما بلحاظ الشرائع السابقة.
الاحتمال الثالث: أنْ يقال: أنّ المقصود هو الثبوت بلحاظ الأدلّة، وبحسب مقام الإثبات، وليس بمعنى الثبوت في الواقع، بمعنى أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الأحكام كان ثبوت هذا الحكم مطلقاً لولا حديث الرفع، لكنّ حديث الرفع هو الذي رفع هذا الحكم في حالة الاضطرار، ولولا حديث الرفع لكان مقتضى إطلاق أدلّة الأحكام هو ثبوت هذا الحكم في حالة الاضطرار، والإكراه، والنسيان، والخطأ.....الخ. وهذا الثبوت الإطلاقي، أو الثبوت بلحاظ عالم الإثبات هو الذي يُصححّ نسبة الرفع إلى هذا الحكم، فيقال(رُفع هذا الحكم) بالمعنى الدقيق للرفع؛ لأنّ الحكم له ثبوت إطلاقي بلحاظ الأدلّة، من دون أنْ نفترض أنّ المصححّ له هو الثبوت الاقتضائي للحكم، أو الثبوت الملاكي للحكم؛ بل المصححّ للرفع هو ما نسمّيه(الثبوت الإطلاقي) الذي هو الثبوت بلحاظ عالم إطلاق الأدلّة.
ومع وجود هذه الاحتمالات كيف نبني على الاحتمال السابق، ونلتزم بتصحيح الفعل لو صدر من المكلّف، باعتبار أنّ الرفع يدلّ على وجود الحكم وثبوته ثبوتاً اقتضائيّاً وملاكيّاً، مع أنّه لا دليل على تعيّن هذا الاحتمال في قِبال الاحتمالات الأخرى التي لا تنفعنا لتصحيح الفعل.
ويجاب عن هذا الاعتراض: إذا أمكن نفي الاحتمالات الأخرى، وإثبات عدم صحّتها يمكن أنْ يقال، بأنّه يتعيّن الاحتمال الأوّل؛ وحينئذٍ هذا ينفعنا في مقام الاستدلال. وهناك محاولة لإثبات بطلان هذه الاحتمالات الثلاثة لتصحيح نسبة الرفع إلى الحكم.
بالنسبة إلى الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الثلاثة الأخيرة، والذي كان يقول أنّ المصحح هو ثبوت الأحكام في بداية الشريعة. لعلّ عدم تماميّة هذا الاحتمال واضحة، باعتبار أنّ الذي يظهر من الحديث هو أنّ الرفع ثابت في أصل الشريعة، وليس أنّه جاء متأخّراً عن صدر الشريعة كحالة طارئة، بمعنى أنّ افتراض أنّ الحكم، كوجوب الوضوء ـــــ مثلاً ــــ ثبت في حال الاضطرار، وحرمة الفعل حتّى على المضطر إلى فعله، هذه الحرمة وهذا الوجوب ثابتَين في بداية الشريعة حتّى في حالات الاضطرار والإكراه، لكن بعد ذلك، أي بعد الشريعة، جاء حديث الرفع ورفع هذه الأحكام. هذا الافتراض خلاف ظاهر الحديث، فأنّ الرفع موجود في أصل الشريعة وبدايتها، لا أنّه متأخّر عن بداية الشريعة. فاحتمال أنْ تكون هذه الأحكام ثابتة في بداية الشريعة، أساساً هو احتمال موهون، وضعيف، ومن البعيد جدّاً أنْ نفترض أنّ المضطر إلى شرب الخمر في بداية الشريعة كان يحرم عليه شرب الخمر، والمكره على شرب الخمر أيضاً كان يحرم عليه شرب الخمر، وهكذا بالنسبة إلى النسيان، وبالنسبة إلى الخطأ، وبالنسبة إلى ما لا يطيقون، ولا فرق بين الإكراه والاختيار، وبين الاضطرار وعدمه، وبين النسيان والالتفات، فالأحكام دائماً ثابتة. هذا احتمال بعيد جدّاً، ولو كان لبان، ولأتضح هذا المطلب، ولأشير إليه، مع أنّه لا توجد إشارة إليه إطلاقاً.
أمّا الاحتمال الثاني: والذي هو أنْ يكون المصححّ هو ثبوت هذه الأحكام في الشرائع السابقة. فأيضاً يمكن استبعاده، بعد الالتفات إلى أنّ مراتب الإكراه تختلف شدّة وضعفاً، وكذلك مراتب الاضطرار، وقد يصل الاضطرار إلى حدّ العجز، والإكراه كذلك قد يصل إلى حدّ العجز، وعندما يصل الإكراه والاضطرار إلى حدّ العجز يكون الحكم منتفياً عقلاً، ولا يحتاج إلى دليلٍ لنفيه. فمثل هذه الموارد، يعني عندما يصل الإكراه، أو الاضطرار إلى مرتبة شديدة جدّاً، احتمال أنّ تكون هذه الأحكام الواصلة إلى هذه الدرجة ثابتة حتّى في الشرائع السابقة يكون احتمالاً بعيداً. نعم، يمكن افتراض في فقرة(ما لا يعلمون) أنّ الأحكام كانت ثابتة حتّى في حال الجهل بلحاظ الشرائع السابقة، ورُفعت عن أمّة محمد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو يمكن افتراض ثبوت الحكم في المراتب الضعيفة للاضطرار، وللإكراه، لكنّ المراتب الشديدة التي تصل إلى حدّ العجز التام، كيف نفترض بأنّ الأحكام ثابتة فيها، وحتّى في الشرائع السابقة، مع أنّ انتفاء الحكم عقلي، مع ذلك نفترض أنّ هذه الأحكام التي تقترن بالعجز التام ثابتة بالنسبة إلى الشرائع السابقة. هذا افتراض بعيد، وهذا الاحتمال أيضاً يكون مستبعداً. نعم، قلنا بالنسبة إلى سائر الفقرات يمكن افتراض ثبوت الحكم في المراتب المتدنيّة من الاضطرار والإكراه بلحاظ الشرائع السابقة، لكن هذا لا يدفع الإشكال.
قد يقال: ما دام يمكن فرض ثبوت الحكم في الشرائع السابقة، ولو بلحاظ بعض الفقرات، أو بلحاظ بعض المراتب لتلك الفقرات، فيمكن أنْ نلحظ المجموع بما هو مجموع، أي أنْ نلحظ مجموع هذه الأمور التسعة، ومراتبها بما هو مجموع، لا أنْ ننظر إلى كل فقرةٍ من هذه التسعة، وكل مرتبةٍ من هذه التسعة؛ بل ننظر إلى المجموع بما هو مجموع، وحيث أنّ المجموع بما هو مجموع ، لا مشكلة في ثبوته في الشرائع السابقة، فيكون الرفع صحيحاً، والمصححّ له هو ثبوت هذه الأحكام في الجملة، أي ثبوت هذا المجموع من حيث هو مجموع في الشرائع السابقة، وليكن هذا هو الوجه المصحح للرفع.
أقول: هذا يتوقّف على افتراض أنّ الرفع هو بلحاظ المجموع بما هو مجموع، وامّا إذا فرضنا أنّ الحديث ناظرٌ إلى كل فردٍ فردٍ من هذه الفقرات والمراتب، فهو يرفع فقرة ما اضطروا إليه بمرتبتها الضعيفة، ويرفعها بمرتبتها الشديدة؛ فحينئذٍ لا معنى لأنْ يقال أنّ المصححّ لنسبة الرفع هو ثبوت بعض الأحكام في بعض هذه المراتب في الشرائع السابقة، لابدّ أنْ نفترض تحققّ هذا بالنسبة إلى كل مرتبةٍ مرتبةٍ، وبالنسبة إلى كل فقرةٍ فقرةٍ، بينما المفروض أنّ هذا ليس صحيحاً، لما قلناه من أنّ بعض المراتب، وبعض الفقرات من البعيد جدّاً أنْ يكون المصحح للرفع فيها هو ثبوت أحكامه في الشرائع السابقة. ومن هنا يمكن أنْ يقال أنّ هذا الاحتمال أيضاً مستبعد.
أمّا بالنسبة إلى الاحتمال الثالث: وهو مسألة أنّ المناسبة مناسبة إثباتيّة، أي أنّ الثبوت بلحاظ عالم الدليل، ومقام الإثبات، بمعنى أنّ الحكم بمقتضى إطلاق أدلته يقتضي أنْ يكون ثابتاً حتّى في حالات الاضطرار لولا حديث الرفع، إذن: له نحو من الثبوت، وهذا يصححّ الرفع.
ولكن يُلاحظ على هذا الاحتمال:
أوّلاً: أنّه يتوقّف على الالتزام بوجود إطلاقٍ في أدلّة الأحكام يشمل حتّى فرض الاضطرار، والإكراه، والخطأ، والنسيان....الخ، وبكل مراتبها، فإذا كان لدينا هكذا إطلاق في الأدلّة؛ فحينئذٍ يمكن توجيه هذا الاحتمال؛ لأنّ دليل الحكم الشرعي نفسه ــــ مثلاً ــــ وجوب الوضوء، أو وجوب الغسل، فيه إطلاق يشمل حتّى حالات الاضطرار البالغة إلى حدّ العجز. فإذا قلنا بوجود هكذا إطلاق؛ فحينئذٍ سوف ينسد الإشكال من هذه الجهة، لكن هل لدينا هكذا إطلاق ؟ صحيح أدلة وجوب الغسل مطلقة، لكنّ إطلاقها لا يشمل حتّى حالات العجز، وعدم القدرة على الوضوء، والتي قلنا أنّ انتفاء الحكم فيها عقلي، فالعقل يدرك أنّه يقبح التكليف مع العجز، وهذا يكون بمثابة القرينة المكتنفة بالإطلاق، المانعة من انعقاد إطلاقٍ له لهذه الحالة، حتّى لو فرضنا وجود إطلاق في الدليل يشمل الحالات التي لا تصل إلى هذه المرتبة، لكن الإطلاق لا يشمل حالة الاضطرار البالغة إلى هذه الدرجة التي يستقلّ العقل بإدراك قبح التكليف بها، وهذه قرينة مكتنفة بإطلاق دليل(يجب الغسل) تقتضي تقييده وتخصيصه بغيرها وتمنع من إطلاقه. إذن: أصل افتراض أنّ هناك إطلاقاً في أدلّة الأحكام يشمل كل الفقرات، وكل المراتب، هذا ليس واضحاً.
ثانياً: الظاهر من الحديث أنّه ناظر إلى عالم الثبوت والواقع، وليس إلى عالم الإثبات بحيث يكون الرفع منوطاً بوجود دليلٍ، وبوجود إطلاقٍ في الدليل، بحيث لا رفع إذا لم يكن هناك إطلاق في الدليل، هذا معنى أنّ الثبوت ثبوت إطلاقي، يعني أنّه منوط بوجود إطلاقٍ في الدليل، فإذا فرضنا أنّ الدليل صدفة، ومن باب الاتفاق كان مجملاً، وليس فيه إطلاق، معناه لا يوجد رفع. الأمر ليس هكذا، وإنّما الرفع رفع واقعي، رفع في عالم الثبوت لا في عالم الإثبات وبلحاظ الدليل، وبلحاظ إطلاق الدليل. فافتراض أنّ الرفع في الحديث الشريف ناظر إلى عالم الإثبات، وأنّه بلحاظ الدليل، هذا أيضاً خلاف ظاهر الحديث.
هذه الملاحظات على هذه الاحتمالات، إذا تمّت؛ حينئذٍ قد يقال: بأنّ الطريق لتصحيح الرفع منحصر بافتراض الثبوت الاقتضائي الملاكي للأحكام، وبذلك يمكن تصحيح الفعل الذي يأتي به المكلّف في أحدى هذه الحالات. وأمّا إذا لم نقتنع بهذا؛ حينئذٍ يكون هناك كلام آخر، يأتي إنْ شاء الله تعالى.
[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، ص 237.