34/05/25
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية
نضيف إلى ما تقدّم:
أننّا إذا جمعنا بين وثاقة حريز، وبين صحّة شهادة يونس، فمقتضى ذلك أنْ تكون جميع روايات حريز في كتبه، عن الصادق(عليه السلام) بالواسطة، إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين؛ لأنّ عكس ذلك يجعلنا نشكك إمّا في شهادة يونس، وإمّا في وثاقة حريز، وافتراض أنّ جميع روايات حريز في كتبه عن الصادق(عليه السلام) بالواسطة، إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، هو افتراض غير صحيح؛ لأنّ جماعة كثيرين قد نقلوا روايات حريز عن الصادق(عليه السلام) مباشرة، وهؤلاء جماعة كثيرون، مثل(أبو أيوب الخزّاز، وعلي بن رئاب، وعبد الله بن مسكان، وأبان، وحمّاد بن عيسى، وسليم الفرّاء، وعبد الله بن المغيرة، ..وغيرهم)، وقد نقل جماعات كثيرون عن هؤلاء روايات حريز عن الصادق(عليه السلام) بلا واسطة، من قبيل(الحسين بن سعيد، وعلي بن إبراهيم، وموسى بن القاسم، ومحمد بن الحسن الصفّار، وعلي بن إبراهيم القمّي ....) وغيرهم من أصحاب الكتب والمصنّفات، وهؤلاء أيضاً هناك من نقل عنهم روايات حريز عن الصادق(عليه السلام) بلا واسطة، وهكذا تسلسل الأمر إلى أنْ وصل إلى المشايخ العظام، مثل(الشيخ الكليني، والشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ ابن قولويه، وأمثالهم) (قُدّست أسرارهم). هؤلاء أيضاً نقلوا روايات حريز عن الصادق(عليه السلام) بلا واسطة، وهذا يُجبرنا على واحدٍ من أمرين: فإمّا أنْ نشكّك في وثاقة حريز، وإمّا أنْ نشكّك في شهادة يونس. وحيث أنّ وثاقة حريز مُسلّمة عند الجميع، ولا يمكن التشكيك فيها، فلابدّ أنْ يكون هناك تشكيك في شهادة يونس.
قد يقال: يمكن أنْ ُنحتمل أنّ كل هذه الروايات الكثيرة الصريحة في النقل بلا واسطة، كانت مرويّة مع الواسطة في كتب يونس، إلاّ حديثاً واحداً، أو حديثين، لكنّ مَنْ نقل عن كتب حريز مباشرة، أو بالواسطة، اشتبهوا، وتخيّلوا أنّ هذه الروايات في كتب حريز مرويّة بلا واسطة، بينما هي في الواقع مرويّة مع الواسطة.
أقول: أنّ هذا الاحتمال بعيد جداً؛ لأنّه قد يصحّ في موردٍ واحدٍ، أو موردين، وبالنسبة إلى شخصٍ واحدٍ، أو شخصين، أمّا أنْ يصح في هذه الموارد الكثيرة، وبالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص الكثيرين، بأنْ يكونوا كلّهم اشتبهوا في النقل وهم عن ينقلون عن كتاب حريز، هذا أمر بعيد جدّاً، ولا يساعد عليه الاعتبار.
هذا كلّه إذا افترضنا أنّ هؤلاء جميعاً نقلوا عن كتب يونس، وأمّا إذا افترضنا أنّهم جميعاً، أو معظمهم نقلوا عنه عن طريق السماع، بأنْ يكون كل واحدٍ منهم قد سمع من شيخه، وشيخه أيضاً سمع من شيخه....وهكذا حتى يصل الأمر إلى من سمع عن حريز نفسه، كما هو النحو المتعارف في ذلك الزمان، حيث كان التحمّل، وهو السماع؛ فحينئذٍ يكون الأمر أوضح؛ إذ لا معنى لاحتمال الاشتباه، والغفلة في السماع؛ فحينئذٍ يكون عدم ورود هذا الاحتمال أوضح.
الحاصل: أنّ كل ما تقدّم يجعلنا نطمئن بأنّ شهادة يونس يدور أمرها بين شيئين: إمّا أن تكون شهادة حدْسيّة معتمدة على النظر والحدس، وأمّا أنْ تكون قد أصابها التحريف والتصحيف، وهذا شيء موجود، وليس بدعاً من الأمر؛ بل هو موجود ومتعارف، وعلى كلا التقديرين لا يمكن البناء عليها، ولا تكون مانعة من الاعتماد على ما يرويه حريز عن الصادق(عليه السلام)، وبهذا نختم الحديث عن سند حديث الرفع، وتبيّن من خلال البحث أنّ سنده معتبر، ويمكن الاعتماد عليه.
دلالة حديث الرفع: الكلام في دلالة حديث الرفع يقع في مقامات:
المقام الأوّل: في كيفيّة الاستدلال بالرواية على البراءة الشرعيّة:
تقريب الاستدلال بالرواية: ذكر في تقريرات السيّد الخوئي(قدّس سرّه)
[1]
أنّ الإلزام المحتمل قابل لأنْ يكون وجوباً، أو تحريماً، فأنّه إذا لم تقم حُجّة على ثبوته فهو يدخل في ما لا يُعلم، فيدخل في فقرة(ما لا يعلمون)، فيكون مرفوعاً بمقتضى حديث الرفع؛ لأنّ حديث الرفع يقول(رفع عن أمّتي ما لا يعلمون).
[2]
ويقول أنّ المقصود بالرفع هنا هو الرفع الظاهري للتكليف الواقعي المشكوك، لا الرفع الواقعي للتكليف المشكوك؛ لأنّ التكليف كما يُرفع واقعاً يُرفع ظاهراً، والرفع الظاهري للتكليف يكون بعدم إيجاب الاحتياط من ناحيته، كما أنّ الوضع الظاهري للتكليف يكون موجباً لإجراء الاحتياط من ناحية التكليف المشكوك، فالتكليف الواقعي المشكوك يوضع ظاهراً بإيجاب الاحتياط من ناحيته، ويُرفع ظاهراً بعدم إيجاب الاحتياط من ناحيته، فالتكليف في المقام، الذي هو الإلزام المشكوك يكون مرفوعاً رفعاً ظاهرياً، والذي معناه عدم وجوب الاحتياط من ناحية ذلك التكليف، حتّى لو كان ثابتاً في الواقع؛ لأنّ الرفع ليس رفعاً واقعيّاً للتكليف، وإنّما هو رفع ظاهري للتكليف.
هذا التقريب يتوقّف على أمرين:
الأمر الأوّل: أنْ نسلّم بأنّ المراد بالموصول في الجملة هو التكليف، أي أنّ(ما لا يعلمون) يعني التكليف الذي لا نعلم به. وأمّا إذا قلنا ــــ وهذا سيأتي بحثه إنْ شاء الله تعالى ـــــ أنّ المراد به هو الموضوع الخارجي، كما سيأتي الاستدلال عليه بقرينة السياق؛ لأنّ معظم التسعة المرفوعة يُراد بها الموضوعات الخارجيّة، ولا معنى لأنْ يكون المقصود به هو الحكم الشرعي؛ بل المقصود به هو الموضوع الخارجي الذي يُجبَر عليه المكلّف، أو يُضطر إليه....الخ. فإذا قلنا بأنّ الموصول في فقرة(ما لا يعلمون) يُراد به الموضوع الخارجي، كما هو المراد بالموصول في سائر الفقرات؛ فحينئذٍ لا يصحّ الاستدلال بالرواية؛ لأنّها اجنبيّة عن محل الكلام، وليس فيها دلالة على رفع التكليف المشكوك ظاهرياً، وإنّما هي ناظرة إلى الموضوع الخارجي. فلابدّ أوّلاً من إثبات أنّ المقصود بالاسم الموصول في فقرة(ما لا يعلمون) هو التكليف ـــــ وهذا سيأتي بحثه ـــــ لنفترض الآن أنّ المراد بالاسم الموصول هو التكليف، كما هو الظاهر كما سيأتي.
الأمر الثاني: أنْ نستظهر من الرواية أنّ الرفع رفع ظاهري للتكليف الواقعي المشكوك، كما ذُكر في التقريب، حتّى يستعمل في إثبات البراءة، والتأمين، وعدم وجوب الاحتياط؛ لأنّ الرفع الظاهري للتكليف المشكوك هو عبارة عن عدم إيجاب الاحتياط من ناحيته، وهذا يكفي لإثبات التأمين والسعة، لكنّ الكلام في أنّه ما هو الدليل على أنّ الرفع في الحديث الشريف هو رفع ظاهري للتكليف المشكوك؟ فقد يكون رفعاً واقعياً للتكليف المشكوك؛ لأنّه كما يمكن الرفع الظاهري للتكليف المشكوك، يمكن الرفع الواقعي للتكليف المشكوك.
قد يقال: ما هو الدليل على كون الرفع في الحديث الشريف رفعاً ظاهريّاً للتكليف المشكوك؟
بل قد يقال أكثر من هذا: يتعيّن أنْ يكون الرفع رفعاً واقعيّاً، وليس رفعاً ظاهريّاً؛ لأنّ الرفع الظاهري فيه مؤنة إثباتيّة لا دليل عليها، وهي مسألة أنّ ظاهر الحديث هو أنّ المرفوع هو نفس ما لا تعلم به، أي أنّ الرفع يتعلّق بنفس ما يتعلّق به الجهل والعلم، فالحديث الشريف يقول:(رفع ما لا يعلمون) فنفس هذا الذي لا تعلم به هو المرفوع، فيكون المرفوع، ومتعلّق عدم العلم واحداً، وهذا يساعد على أنْ يكون الرفع واقعياً، لا ظاهرياً؛ لأنّه متى ما قلنا أنّ الرفع هو رفع ظاهري فسوف يتعدّد، ويختلف المرفوع عن متعلّق عدم العلم، لأنّ في الرفع الظاهري يكون ما لا أعلم به هو التكليف الواقعي، بينما المرفوع في الرفع الظاهري هو وجوب الاحتياط، وليس هو ما لا أعلم به، والذي هو التكليف الواقعي؛ لأنّ المفروض أنّ الرفع ظاهري، وليس رفعاً واقعيّاً، فالرفع الظاهري لا يتعلّق بما لا أعلم به، الذي هو التكليف الواقعي، وإنّما يكون الرفع رفعاً ظاهرياً، بمعنى عدم إيجاب الاحتياط، فيكون المرفوع شيئاً آخراً غير ما لا أعلم به، وهذا خلاف الظهور الأوّلي للحديث الشريف. فقد يقال: بأنّ ظاهر الحديث الشريف هو الرفع الواقعي، لا الرفع الظاهري، بنكتة أنّ الرفع الظاهري يستلزم أنْ يكون المراد من المرفوع غير ما يُراد ممّا لا يعلمون، بينما الحديث ظاهر في اتحادهما، وأنّهما شيء واحد، بمعنى أنّ ما لا أعلم به يكون هو المرفوع، وهذا لا ينسجم إلاّ مع كون الرفع رفعاً واقعيّاً، لا ظاهريّاً.
قد يقال: من الممكن أنْ نحافظ على مسألة أنّ الرفع يُسند إلى نفس ما لا يعلمون، وليس هناك تجوز في إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون، وبذلك نحافظ على ظهور الحديث، المرفوع هو نفس التكليف الواقعي المشكوك ـــــ والكلام عن الرفع الظاهري، وليس عن الرفع الواقعي ـــــ فإذا التزمنا بأنّ المرفوع هو نفس ما لا يعلمون؛ فحينئذٍ لا يكون هناك تجوز، ولا مخالفة للظاهر، لكن يُدّعى بأنّ الرفع له ليس رفعاً حقيقياً، وإنّما الرفع فيه مسامحة وعناية، أي أنّ الرفع رفع ظاهري للتكليف الواقعي المشكوك. إذن: ليس هناك تجوّز ومسامحة في إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون؛ بل الرفع مسند حقيقة وواقعاً إلى ما لا يعلمون، لكنّ الرفع ليس رفعاً حقيقياً، وإنّما هو رفع مجازي، ومسامحي.
أقول: جواب هذا واضح؛ لأننّا لم نغيّر شيئاً، فسواء نقلنا العناية من كونها عناية في إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون إلى كونها عناية في نفس الرفع، يعني يدور الأمر بين أنْ نبذل عناية في إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون، ونقول أنّه ليس مسنداً إلى ما لا يعلمون، وإنّما هو مسند إلى وجوب الاحتياط، وأسند مسامحة إلى ما لا يعلمون، لكن مع الحفاظ على الرفع الحقيقي، فيبقى على حاله وليس فيه مسامحة؛ لأنّ وجوب الاحتياط يرتفع حقيقة، وليس ظاهريّاً ومسامحة. وأمّا أنْ نقول: نحافظ على أنْ يكون الإسناد إلى ما لا يعلمون اسناداً حقيقياً، لكن تكون العناية في جانب الرفع، فنقول أنّ المرفوع هو التكليف الواقعي المشكوك، لكنّ رفعه ليس رفعاً حقيقياً، وإنّما هو رفع تجوّزي، فالعناية لازمة على كلا التقديرين، وكأنّه بذلك ـــــ مثلاً ـــــ يتمّ الإشكال، الذي هو أنّ تقريب الاستدلال الذي ذُكر يتوقّف على أنْ يكون الرفع رفعاً ظاهرياً، بينما ظاهر الحديث هو أنّ الرفع رفع حقيقي، وأنّ الرفع الظاهري يحتاج إلى عناية إثباتيّة، إمّا في إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون، وإمّا في نفس الرفع، بأنْ يكون الرفع مجازياً، وليس حقيقيّاً.
إذن: العناية لازمة على كل تقدير إذا كان الرفع رفعاً ظاهريّاً، بينما لا يلزم بذل عناية عندما يكون الرفع رفعاً حقيقيّاً. هذا هو الإشكال على التقريب المذكور.
جواب الإشكال: أنّ العناية لازمة حتّى على تقدير أنْ يكون المراد هو الرفع الحقيقي، وذلك باعتبار أنّه لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي؛ بل هو محال كما ذكرو؛ لأنّه يعني تقييد الحكم بالعلم به، ومعناه اختصاص الأحكام بالعالمين، فأنّ معنى أنّ التكليف الذي تجهل به يكون مرتفعاً عنك واقعاً هو أنّ التكاليف الواقعيّة مختصّة بمن يعلم بها، الرفع الواقعي في حال الجهل بالتكليف مستلزم لاختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها، وتقييد الحكم بالعلم به، وهذا محال،
فإذن: لا يمكن أنْ نقول بإمكانّ الرفع الواقعي؛ بل هو محال. نعم، الشيء الذي ليس محالاً، والذي يمكن أنْ يقال هو مسألة تقييد أصل العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول، أي التفرقة بين الجعل والمجعول، ليس أنّ الجعل مقيّد بالعلم به، هذا محال، وإنّما يقال أنّ الجاهل بالجعل لا يرتفع عنه الجعل، وإنّما يرتفع عنه فعليّة الحكم، ووصول الحكم إلى مرتبة الفعليّة ـــــ بأي معنى فسرناها ـــــ هذا هو الذي يرتفع عن الجاهل.
هذا هو التفسير المنطقي الحقيقي، وهو أنْ يقال: ليس المقصود هو تقييد الحكم والجعل بالعلم به حتّى يلزم محال، وإنّما يكون المقصود هو تقييد الأحكام، وتقييد المجعول، ووصول الحكم إلى حدّ الفعلية بالعلم بالجعل، كما في رواية التقصير في موضع الإتمام، حيث يقول(عليه السلام) في الرواية(إذا قرأت عليه آية التقصير)
[3]
فالمجعول يكون فعليّاً في حقّه، وتجب عليه الإعادة إذا صلّى تماماً في موضع القصر، ومفهومها هو إذا لم تقرأ عليه آية التقصير، يعني إذا لم يكن عالماً بالجعل، فالجاهل بالجعل لا تُرفع في حقّه آية التقصير بما تمثّله من جعلٍ؛ لأنّ الجعل ثابت في حق العالم والجاهل، والأحكام مشتركة بين العالم والجاهل، وإنّما المجعول لا يكون فعليّاً في حقّه، فيكون المرفوع هو المجعول، وما لا يعلم به هو الجعل، إذن: حتّى على تقدير أنْ يكون الرفع رفعاً واقعيّاً، وليس ظاهرياً، أيضاً يلزم بذل عناية؛ لأنّه لا يمكن الالتزام بالرفع الواقعي للتكليف المشكوك واقعاً؛ وإلاّ يلزم محذور اختصاص الأحكام بالعالمين بها، ومحذور تقييد الحكم بالعلم به، وهذا محال، وإنّما الشيء المتصوّر للرفع الواقعي للتكليف المشكوك في حال الجهل هو رفع المجعول، فيختلف متعلّق العلم مع متعلّق الرفع، فيكون المرفوع هو المجعول، بينما(ما لا أعلم به) هو الجعل. فإذن: يبقى إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون ليس رفعاً حقيقياً؛ لأنّ ما لا أعلم به هو الجعل، وهو غير مرفوع بناءً على هذا الطرح، وليس هو الذي يُرفع، وإنّما الذي يُرفع هو فعليّة المجعول، فالعناية لازمة على كل تقدير، سواء كان الرفع واقعي، أو كان الرفع ظاهري فالعناية لابدّ منها؛ وحينئذٍ تبقى القضيّة قضيّة استظهار، أي ما هو الذي يُستظهر من هذا الحديث الشريف؟ هل الرفع هو رفع واقعي؟ أو أنّه رفع ظاهري؟ ولا إشكال أنّ الأظهر، والأقرب بمناسبات الحكم والموضوع، باعتبار أخذ عدم العلم في هذا الحديث الشريف، هو أنْ يكون الرفع رفعاً ظاهريّاً للتكليف الواقعي المشكوك، هذا هو المناسب لهذا الحديث الشريف، فتكون المسألة استظهاريّة، ولا يمكن إقامة قرائن غير القرائن السابقة لإثبات أنّ الرفع رفع واقعي، وليس رفعاً ظاهريّاً.
نعم هناك محاولة لإثبات أنّ الرفع ظاهري لقرائن، وأوّل قرينة هي مسألة الامتنان، باعتبار أنّ سياق الحديث الشريف سياق امتناني، فهذا الامتنان جُعل قرينة على أنّ الرفع هو رفع ظاهري، وليس رفعاً واقعيّاً.
وبعبارة أخرى: جُعل قرينة على أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط، وليس هو التكليف الواقعي المشكوك، باعتبار أنّ قرينة الامتنان تقيّدنا بأنْ نقول أنّ ما يُرفع لابدّ أنْ يكون في رفعه امتناناً على الأمّة، وفي عدم رفعه خلاف الامتنان، وأنّ الذي يبقى ولا يُرفع لابدّ أنْ لا يكون فيه كلفة، وضيق على الأمّة. ومن يستدل بهذه القرينة على أنّ الرفع رفع ظاهري، يقول: هذا يمكن تطبيقه بشكلٍ واضحٍ جدّاً على وجوب الاحتياط، فرفع وجوب الاحتياط فيه امتنان على الأمّة، وعدم رفعه فيه كلفة ومشقّة على الأمّة. وأمّا إذا كان الرفع رفعاً واقعيّاً فلا يمكن تطبيق هذا؛ لأنّ الرفع هو رفع للتكليف الواقعي المشكوك، والتكليف الواقعي المشكوك في حدّ نفسه، وبقطع النظر عن وجوب الاحتياط ليس في وضعه كلفة على العباد، ولا في رفعه امتنان عليهم، فهذه تكون قرينة على أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط، وليس المرفوع هو التكليف الواقعي المشكوك.
يبقى أنّه لماذا يكون التكليف الواقعي المحتمل، وبوجوده الاحتمالي ليس في بقائه كلفة ومشقّة ؟ ولا في رفعه منّة ؟ هناك ملازمة بين كون الشيء في بقائه كلفة ومشقّة، وبين كون في رفعه امتنان، وحيث أنّ بقاء التكليف الواقعي بقطع النظر عن وجوب الاحتياط ليس فيه مشقّة على العباد، فرفعه لا يكون فيه امتنان، لماذا؟ الظاهر أنّ هذا مبني على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيّد الخوئي للسيد الشاهرودي،ج3، ص 232.
[2] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 15، ص 369، باب جملة ممّا عفي عنه، ح 1.
[3] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 3، ص 226.