33/12/25
تحمیل
(بحث يوم السبت 25 ذ ح 1433 هـ 192)
الموضوع : الكلام في المسألة السادسة والخمسين : في مدى جواز التقاصّ من مال الوديعة / علاج التعارض بين الروايات المانعة والمجوّزة / الشروع في المسألة السابعة والخمسين / ذكر ما لم يذكره السيد الماتن (قده) من أمور مهمة متعلقة بالمقام / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
كان الكلام في المسألة (56) وبعد الفراغ عن جواز التقاصّ في الموارد التي دلّ الدليل على جوازه فيها يقع البحث في مدى جواز التقاصّ من المال الذي هو وديعة عند المدّعي الفقهاء (رض) ذكرنا أن آراء الفقهاء (رض) مختلفة فمنهم من ذهب إلى الجواز ومنهم من ذهب إلى عدم الجواز إلا أن القائلين بالجواز لم يقولوا بالجواز مطلقاً وإنما قيّدوه بالكراهة فيلتزمون بالجواز على كراهة ، وذكرنا أن الأدلة في المقام متعددة ويبدو أنها متعارضة لأن هناك روايات صحيحة مفادها الجواز وأهمها صحيحة البقباق المتقدمة وفي مقابل ذلك هناك بعض الأدلة الخاصة التي تدل على التحريم كصحيحة معاوية بن عمّار وغيرها مضافاً إلى الأدلة العامة القاضية بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الخيانة ويمكن تطبيقها في المقام لإثبات وجوب ردّ هذه الوديعة وعدم جواز التقاصّ منها .
هاهنا وجوه لعلاج هذا التعارض الموجود بين الأدلة :
الوجه الأول : ما ذهب إليه أكثر القائلين بالجواز من حمل الأخبار المانعة من التقاصّ من الوديعة على الكراهة .
وهذا الجمع من ناحية كبروية جمع دلالي صحيح ولا إشكال فيه ولكن قد يُناقش في تطبيقه في محلّ الكلام من جهة أنه يُشترط في مثل هذا الجمع العرفي بين الأدلة أن تكون هناك روايات صريحة في الجواز ونصّ فيه وفي مقابلها روايات ظاهرة في النهي والمنع وحينئذ يقال بأنه يمكن التصرف في ما هو ظاهر لصالح ما هو نصّ فيُتصرّف في ظهور الدليل الدال على المنع بحمله على الكراهة لصالح الدليل الذي هو نصّ في الجواز وهذا جمع عرفي لا غبار عليه .. ولكن هذا الأمر مما يشكل تطبيقه في المقام من جهة أن بعض الروايات المجوّزة هي صريحة في الرجحان
[1]
كما في قوله (عليه السلام) في صحيحة البقباق : (أما أنا فأحبّ لك أن تأخذ) ، وأما الأدلة الناهية مثل صحيحة معاوية بن عمّار فهي وإن كانت ظاهرة في التحريم إلا أنها صريحة في المرجوحية
[2]
ولا جمع عرفياً بين ما يدل على الرجحان وما يدل على المرجوحية لأن المرجوحية تعني عدم الرجحان فتكون النسبة بين الدليلين هي التباين فالتعارض يكون مستقراً فلا طريق للجمع بينهما بحمل دليل المنع على الكراهة لأنه ليس ظاهراً في المرجوحية وإنما هو صريح فيها فلا سبيل إلى التصرف بينهما بالجمع العرفي حينئذ لأن كلاً منهما صريح في مدلوله .
وأجيب عن هذا الإشكال لتأكيد ما ذهب إليه المشهور من حمل الأدلة المانعة على الكراهة بما حاصله أن الروايات المانعة هي مانعة بلسان النهي عن الخيانة - كما مر - والخيانة تعني التصرف بمال الغير من دون إذن ولا ولاية ، ومن الواضح أنه مع جريان أدلة جواز التقاصّ في المقام وتماميتها - لولا المعارض - لا يكون تصرف الودعي في ما تحت يده من الوديعة بالتقاصّ خيانة لأنه تصرف باستحقاق وتحت سقف الإذن الشرعي ولذلك يُحمَل التعبير بالخيانة المذكور في الروايات المانعة على الخيانة الصورية لا الواقعية - التي دلّت الأدلة على حرمتها وذلك من جهة إرادة تنفير الشخص الذي تحت يده الوديعة من التصرف فيها وتنزيهه عن ذلك حتى ولو كان تصرّفه جائزاً شرعاً من جهة استنقاذ حقّه من أموال ذلك الشخص المفروض كونه جاحداً أو ممتنعاً عن الأداء .. وهذا
[3]
هو معنى الكراهة التي حُملت الروايات المانعة عليها في المقام
[4]
.
الوجه الثاني : حمل الأخبار المانعة على صورة الحلف والأخبار المجوزة على صورة عدم الحلف ، والمقصود بالحلف في المقام كما أشير إليه في بعض الروايات هو الحلف أمام الحاكم فإذا طلب الحاكم من المدّعي البيّنة ولم تكن عنده ووصلت النوبة إلى يمين المدّعى عليه فإذا حلف المدّعى عليه ذهبت الدعوى وسقط الحقّ كما دلّت على ذلك الروايات التي مرت سابقاً ومنها صحيحة عبد الله بن أبي يعفور فيكون التقاصّ بعد يمين الخصم أمام الحاكم غير جائز بلا إشكال وحينئذ يمكن الجمع بينهما بحمل الأخبار المانعة على التقاصّ بعد يمين المدّعى عليه وحمل الروايات المجوّزة على التقاصّ قبل يمين المدّعى عليه والنتيجة الالتزام بالجواز في محل الكلام الذي هو التقاصّ قبل حلف المدّعى عليه ، وهذا الجمع هو مختار الشيخ الطوسي في التهذيب ، وتؤيده الروايات التي تقدّمت كروايتي عبد الله بن يعفور وعبد الله بن وضّاح وهي مذكورة في أبواب كيفية القضاء من الوسائل .
هذا ولكن الصحيح هو الجمع الأول كما فهمه المشهور من علمائنا .
ثم قال (قده) في المسألة (57) :
" لا يختص جواز المقاصة بمباشرة من له الحق فيجوز له أن يوكّل غيره فيها بل يجوز ذلك للولي أيضاً فلو كان للصغير أو المجنون مال عند آخر فجحده جاز لوليّهما المقاصة منه وعلى ذلك يجوز للحاكم الشرعي أن يقتصّ من أموال من يمتنع عن أداء الحقوق الشرعية من خمس أو زكاة " .
السرّ في ما ذكره (قده) من جواز التوكيل في المقاصة هو أن التقاصّ عمل يقبل التوكيل كسائر الأعمال الأخرى
[5]
فيكون العمل الصادر من الوكيل بمثابة العمل الصادر من الموكّل ، نعم .. لا بد من الالتفات هنا إلى أنه يلزم على الوكيل أن يُحرز قبل التقاصّ استحقاق الموكِّل لذلك المال بمعنى أنه لا بد أن يُحرز ثبوت الحق للموكل أولاً حتى يجوز له التقاصّ وإلا لم يجز له هذا العمل لأن التقاصّ تصرف في مال الغير والأصل فيه عدم الجواز ما لم يُحرز المجوّز الشرعي أو الولاية الشرعية على التصرف فمع الشك في ذلك فضلاً عن العلم بعدم الاستحقاق فلا يجوز التصرف .
ثم إن جواز التقاصّ عن الغير لا ينحصر بالوكيل بل يشمل الولي أيضاً عن الصبي أو المجنون إذا كان هو صاحب الحق وهذا ما أشار إليه السيد الماتن (قده) بقوله : (بل يجوز ذلك للولي أيضاً) كما أشار (قده) إلى ما يترتب عليه من الأثر بقوله : (وعلى ذلك يجوز للحاكم الشرعي أن يقتصّ من أموال من يمتنع عن أداء الحقوق الشرعية من خمس أو زكاة) وذلك باعتبار أن الحاكم الشرعي وليّ على المستحق للزكاة والخمس وهما دين في ذمة من تعلّقا به فبإمكان الحاكم أن يقتصّ من المدين بهما بمقدارهما في ما إذا وقعت في يده أموال له بعد عدم إمكان إجباره على الأداء - وإلا فلا تصل النوبة إلى المقاصة حينئذ - .
وحينئذ يمكن أن يقال إنه هل يُفهم منه أن آحاد الفقراء يجوز لهم أيضاً المقاصة باعتبار أن ما ثبت للحاكم الشرعي من الولاية على الفقراء جوّز له المقاصة عنهم وهذا يقتضي افتراض أنه جائز للمُولّى عليه في رتبة سابقة والمُولّى عليه في محل الكلام هو آحاد الفقراء لأن جوازه له فرع جوازه لهم أولاً ؟
الظاهر هو الجواز ولكن مقيّداً بإذن الحاكم الشرعي ، ولعل السرّ في هذا التقييد أن الفقير والمسكين في بابي الزكاة والخمس هما مصرف للزكاة والخمس وليسا مالكين لهما ليستقلّا بالتصرّف من دونه ، وإن أُصِرّ على الملكية في المقام فالمالك ليس هو آحاد الفقراء بل هو الجهة والعنوان حيث إنه في باب الزكاة تُقسّم الزكاة على ثمانية عناوين لا بمعنى أن كل قسم منهم يختص بثُمْن من كل زكاة بل بمعنى أن الجهة المعيّنة كعنوان الفقير تملك هذا الثمن وأما آحاد الفقراء فهم مصرف له يصرفه الحاكم الشرعي عليهم ولذا لو تعذّر المصداق لإحدى تلك الجهات والعناوين - كعنوان الرقاب في هذا الزمان فلا يعزل الحاكم له سهمه ، ومن هنا يُحتاج إلى إجازة الحاكم الشرعي فإنه هو الذي له الولاية على هذه العناوين ويترتب على ذلك عدم جواز التقاصّ بالنسبة إلى آحاد الفقراء من أموال من يمتنع من الخمس والزكاة أو غيرهما من الحقوق الشرعية .
هذا .. والسيد الماتن (قده) لم يتعرض إلى هذا الفرض بل تعرض إلى جواز التقاصّ بالنسبة إلى الحاكم الشرعي نفسه .
إلى هنا يتم الكلام على بحث المقاصة وهناك فروع كثيرة لها ذُكرت في الكتب الاستدلالية المطوّلة والسيد الماتن (قده) اختصر المطلب جداً وذكر بعضها ونحن نشير إلى بعض ما لم يُذكر من تلك الأمور التي نعتقد أنها مهمة جداً :
الأول : تقدّم أن التقاصّ إنما يجوز قبل يمين المدّعى عليه وإلا فمع حلفه أمام الحاكم الشرعي بإنكار الدعوى يسقط الحق ولا يجوز للمدّعي بعد الحلف أن يأخذ من أمواله مقاصة ولكن ورد في رواية واحدة ما يدل على جواز التقاصّ بعد الحلف ومن هنا حاولوا علاج هذه الرواية لرفع هذا التعارض وهي معتبرة الحضرمي :
" قال : قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي ؟ قال : فقال : نعم ولكن لهذا كلام .. إلى آخر الرواية "
[6]
.
ففي هذه الرواية وقع السؤال من قبل الراوي عن التقاصّ بعد فرض الجحود والحلف فأجابه الإمام (عليه السلام) بـ :(نعم) - أي هو جائز - وهذا مخالف بظاهره لما صرنا إليه من عدم الجواز بعد الحلف .
ولكن قد أجيب عنه بأن المقصود من الحلف الذي لا يجوز التقاصّ بعده هو الحلف الذي يُطلب من المدّعى عليه بعد عدم وجود بيّنة للمدّعي فتُحمل رواية الحضرمي على غير هذا المورد أي تُحمل على الحلف من غير استحلاف وهو الحلف تبرّعاً .
الأمر الثاني : ما ورد في ذيل معتبرة الحضرمي من الدعاء وهو قوله (عليه السلام) : (ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو؟ قال : تقول : اللهم إني لا آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد عليه شيئاً) ، وفي نقل آخر : (يقول : اللهم إني آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني واني لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلماً)
[7]
فهل يُلتزم بظاهر هذه الرواية من وجوب قراءة هذا الدعاء أم لا ؟
المشهور عدم الوجوب .. وللكلام تتمة سيأتي التعرّض لها في البحث اللاحق إن شاء الله تعالى .
[1] أي في أن التقاصّ أرجح .
[2] أي في أن التقاصّ أمر مرجوح حتى لو بُني على عدم كونه حراماً .
[3] أي التنفير والتنزيه عن التصرّف حتى مع جوازه شرعاً .
[4] أقول : هذه المحاولة لا تحل المشكلة إذ يبقى التعارض قائماً بين ما دلّ على الرجحان المستفاد من قوله (عليه السلام) : (أحبّ لك) وبين المرجوحية التي هي مفاد الكراهة التي حُمل النهي عليها .
[5] لأن المرجع بعد أن لم يقم دليل على بطلان الوكالة فيه - هو الأصل المقتضي للصحة .
[6] التهذيب مج6 ص348 ، الوسائل الباب 83 أبواب ما يُكتسب به الحديث 4 مج17 ص273 .
[7] الكافي مج5 ص98 ، الوسائل الباب 83 أبواب ما يُكتسب به الحديث 5 مج17 ص274 .