37/08/10
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الجواب الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) عن الإشكال في كيفية تخريج الأمر بقلع النخلة، وكان حاصله هو أنّ القاعدة لم تُذكر كتعليل للأمر بقلع النخلة، فهو يمنع من كون القاعدة وردت كتعليل للأمر بقلع النخلة، وإنما القاعدة وردت كتعليل للمنع من الدخول بلا استئذان، يعني منعت سمرة من الدخول بلا استئذان، وعللّت ذلك بالقاعدة، وهذا تعليل واضح كما هو المعروف والمشهور من أنّ جواز دخول سمرة إلى عذقه بلا استئذان ضرري، فيُنفى هذا الجواز الضرري بقاعدة لا ضرر، فإذا نفينا هذا الجواز؛ حينئذٍ يحرم عليه الدخول بلا استئذان، وهذا على القاعدة ولا إشكال فيه. أما الأمر بقلع النخلة، فهو حكم ولائي، صادر من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باعتباره ولي أمر المسلمين.
الجماعة لاحظوا على هذا الجواب بأنه خلاف ظاهر الأحاديث الواردة في هذه القضية والمعتبرة سنداً، يعني دعوى أنّ حديث لا ضرر ولا ضرار ورد في مقام تعليل المنع من الدخول بلا استئذان هو خلاف ظاهر الأحاديث؛ بل ظاهر الأحاديث أنّ القاعدة وردت في مقام تعليل الأمر بقلع النخلة؛ بل قال بعضهم أنّ هذا هو صريح الأحاديث، مثلاً: في الرواية المعتبرة التي هي رواية ابن بكير المروية في الكافي، ورد فيها: (فقال رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" للأنصاري: أذهب فاقلعها وارمِ بها إليه، فأنه لا ضرر ولا ضرار)[1] . ونفس الرواية بنقل الفقيه ورد فيها: (فأمر رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" الأنصاري أن يقلع النخلة، فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار)[2] .
نعم، ذكروا بأنه في رواية ابن مسكان الغير تامة سنداً والتي تنقل هذه القضية، هناك يمكن أن يقال ليس لها ظهور في تعليل الأمر بقلع النخلة بلا ضرر، باعتبار أنه في هذه الرواية ورد: (فقال له رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" أنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. قال: ثمّ أمر بها رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" فقُلعت ثمّ رمى بها إليه)[3] . فكأنّ الأمر بالقلع صار متأخراً عن قاعدة لا ضرر، فليس فيها ظهور في تعليل القلع بالقاعدة. لكن هذه الرواية ليست تامة سنداً، وليست هي المعتمدة، إلاّ أنه يمكن أن يقال أنّ هذا التقديم أيضاً من باب التوطئة والتمهيد للحكم الذي يأتي بعدها.
ومن هذا الكلام يظهر أنّ دعوى المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ التعليل ورد في الروايات لتعليل المنع من الدخول بلا استئذان هو خلاف الظاهر.
الجواب الثالث: هو الالتزام بصحة تعليل الأمر بقلع النخلة بلا ضرر ولا ضرار، وذُكر لتقريب هذا الجواب وجوه لبيان صحة التعليل للأمر بقلع النخلة :
الوجه الأول: ما تقدم في الوجه الرابع الذي نقلناه عن بعض الأعلام، وكان حاصله : أنّ أصل هذا الإشكال إنما يرد بناءً على تفسير الحديث بالنهي الإلهي، أو بناءً على تفسير الحديث بنفي الأحكام الضررية. يقول صاحب الوجه الرابع المتقدّم: وأمّا إذا قلنا بأنّ النهي نهي سلطاني ولايتي؛ حينئذٍ لا يرد هذا الإشكال، فنحن ندفع الإشكال بما نبني عليه من أنّ النهي نهي سلطاني، وذلك باعتبار أنّ النهي عن الضرر والضرار إذا كان نهياً سلطانياً يكون مدرك ومستند الأمر بقلع النخلة هو هذا النهي السلطاني عن الضرر والضرار؛ وحينئذٍ يصح جعل هذا النهي السلطاني تعليلاً للأمر بقلع النخلة، فيرتفع بذلك الإشكال.
ويرِد عليه ما تقدّم من عدم الفرق بين كون النهي سلطانياً وبين كونه نهياً إلهياً في عدم صحة تعليل الأمر بقلع النخلة به؛ لأنّه على كلا التقديرين مفاده هو حرمة الإضرار بالغير، فحتى لو كان النهي سلطانياً، كيف ينتج الأمر بقلع النخلة ؟ وإذا فرضنا صحة هذا التعليل بلحاظ كون النهي نهياً سلطانياً، فأيضاً يصح هذا التعليل إذا كان هذا النهي نهياً إلهياً، مصدر النهي لا يوجب صحة التعليل وعدمه، إذا كان النهي عن الإضرار يصح تعليل الأمر بقلع النخلة به، فإذن: يصح هذا النهي، سواء كان مصدره هو الله(سبحانه وتعالى) أو كان مصدره الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما هو حاكم وبما أنّ له الولاية على المسلمين، فالظاهر أنّ هذا الجواب أيضاً غير تام.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً، حيث ذكر في رسالته جوابين عن هذا الإشكال، الجواب الأول الذي نقلناه عنه من أنّ لا ضرر وردت تعليلاً للمنع من الدخول بلا استئذان لا للأمر بقلع النخلة. والجواب الثاني يحاول توجيه تعليل الأمر بقلع النخلة بلا ضرر ولا ضرار، وحاصل ما ذكره أنه يقول: أنّ حديث لا ضرر حاكم على قاعدة السلطنة ويقدّم عليها، قاعدة السلطنة يتفرّع عليها احترام مال المسلم الذي هو عبارة عن سلطنة المسلم على منع غيره من التصرف بماله دون أذنه، وبالنتيجة إذا قلنا أنّ قاعدة لا ضرر حاكمة على السلطنة، بطبيعة الحال سوف ينتج من ذلك رفع الاحترام؛ لأنّ المفروض أنّ الاحترام متفرّع على السلطنة، فكما ترتفع السلطنة يرتفع احترام المال، ومعناه في محل الكلام أنّ سمرة ليس له السلطنة على منع الغير من التصرّف في ماله؛ لأنّ ماله أصبح غير محترم برفع الاحترام عنه؛ وحينئذٍ يجوز قلعه، فالأمر بقلعه بعد رفع احترام هذا المال؛ وحينئذٍ يصح الأمر بقلع النخلة بقاعدة لا ضرر؛ لأنّ قاعدة لا ضرر رفعت السلطنة، والاحترام من فروع السلطنة، فيرتفع الاحترام؛ وعندئذٍ يكون قلع النخلة جائزاً ومبرراً، فيصح هذا التعليل.
أورد على نفسه بأنّ قاعدة السلطنة مركّبة من أمرين: أمر وجودي، وأمر سلبي، الأمر الوجودي هو كون المالك مسلطاً على التصرف في ماله بما يشاء، والأمر السلبي هو سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله بدون أذنه. يقول(قدّس سرّه) والأمر الضرري من هذين الأمرين هو الأمر الأول، بمعنى أنّ سلطنة سمرة على التصرف في عذقه كيفما يشاء هو الذي يوجب إيقاع الضرر بالأنصاري، وأمّا سلطنته على منع الغير من التصرّف في ماله فليس ضررياً، فقاعدة لا ضرر ترفع الحكم الضرري، يعني ترفع الأمر الوجودي، فترفع سلطنة سمرة على الدخول إلى عذقه متى شاء، فلا سلطنة له عليه، ويحرم عليه الدخول بلا استئذان. أمّا الجانب السلبي، فيبقى على حاله؛ لأنّه ليس ضررياً، فلا داعي لرفعه، فيبقى سمرة مسلطاً على منع الغير من التصرف بماله؛ وحينئذٍ لا يجوز تعليل الأمر بقلع النخلة بقاعدة لا ضرر ولا ضرار، لو كان مفاد القاعدة هو فقط الجانب السلبي هذا الكلام يكون متيناً؛ لأنّ المعترض على المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول: لأنّ الجانب السلبي هو سبب الضرر، فيرتفع بقاعدة لا ضرر، فيسقط الاحترام ويجوز الأمر بقلع النخلة، لكن القاعدة تشتمل على جانبين والضرري هو الجانب الوجودي لا الجانب السلبي.
أجاب المحقق النائيني(قدّس سرّه) عن هذا الاعتراض: صحيح أنّ قاعدة السلطنة وإن انحلّت إلى أمرين كما ذُكر، لكن هذا مجرّد تحليل عقلي وليس لدينا أمرين مستقلين واحد نعبّر عنه بالسلطنة على التصرف في ماله كيفما يشاء، والثاني هو السلطنة على منع الغير من التصرّف في ماله بغير أذنه. لا نستطيع أن نقول أنّ قاعدة السلطنة مركبة من حكمين، هذا حكم مستقل، وهذا حكم مستقل، وإنّما هي شيء واحد وليست مركبة من حكمين حتى نقول لا ضرر تنفي أحد الحكمين دون الحكم الآخر، تنفي الحكم الضرري الذي هو الأول، أمّا الثاني، فيبقى على حاله، أي يبقى مسلطاً على منع غيره من التصرّف في ما يملكه، يقول: ليس هكذا.
نعم، الشيء الذي يعترف به هو أنه يقول: لا إشكال أنّ الجزء الأخير من علّة الضرر هو الدخول بلا استئذان، السبب المباشر للإضرار بالأنصاري هو دخول سمرة إلى عذقه بلا استئذان، هذا هو الذي يضر بالأنصاري، لكن جواز الدخول إلى ملكه كيفما يشاء وبلا استئذان متفرّع على بقاء عذقه في البستان، علّة العلل هو بقاء عذقه في البستان ومنه نشأ دخول سمرة إلى حائط الأنصاري بلا استئذان، فأوجب هذا الضرر للأنصاري. صحيح، الضرر للأنصاري حصل بشكل مباشر وبلا واسطة من دخول سمرة بلا استئذان، لكن دخوله بلا استئذان أصلاً نشأ من بقاء نخلته في حائط الأنصاري، فبالتالي الضرر ينتهي إلى ما يسميه بعلّة العلل الذي هو حقّ إبقاء النخلة في حائط الأنصاري، فإذا قلنا أنّ الحديث يرفع ما هو متفرّع عن علّة العلل، فهو يرفع العلل أيضاً، فإذا كان حديث نفي الضرر يرفع حق الدخول إلى العذق بلا استئذان، وقلنا أنّ هذا أسماه الجانب الإيجابي ولا مشكلة في أنه يرفعه، فإذا رفع هذا، فهو يرفع حق إبقاء النخلة في حائط الأنصاري والذي يتفرّع عنها الجانب السلبي الذي هو أنه مسلط على منع الغير من التصرف في هذا العذق، هذا يتفرّع على أنه يملك حق إبقاء هذه النخلة في حائط الأنصاري، فإذا قلنا أنّه ليس له هذا الحق، أي حق بقاء النخلة في حائط الأنصاري، باعتبار أنّه هو السبب الرئيسي وعلّة العلل للضرر، فحديث لا ضرر إذا رفع جواز الدخول بلا استئذان، فهو يرفع بالتالي ما هو علّة له وهو بقاء النخلة في أرض الأنصاري، وبالتالي لا يكون مسلطاً على أن يمنع الغير من التصرّف في ماله؛ فالأمر بقلع النخلة حينئذٍ يكون مبرراً ويصح تعليله بقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
وبالجملة، الضرر في الحقيقة نشأ من استحقاق سمرة لإبقاء العذق في الأرض؛ لأنّ جواز الدخول بلا استئذان من فروع هذا الاستحقاق، والقاعدة ترفع هذا الاستحقاق، ليس من حقه إبقاء النخلة في أرض الأنصاري، يعني ليس من حقه أن يمنع الغير من التصرف فيه، فيؤمر بالقلع.
ثمّ ينبّه على نكتة، يقول: تفرّع جواز الدخول بلا استئذان على إبقاء النخلة في الحائط، هذا نظير تفرّع وجوب المقدّمة على وجوب ذيها، ولا شبهة أنّ وجوب المقدمة إذا كان ضررياً وارتفع بلا ضرر، فأنّ هذا يوجب رفع وجوب ذي المقدمة، فإذا فرضنا، جواز الدخول إلى العذق بلا استئذان بالنسبة إلى حق إبقاء النخلة في الحائط هو من هذا القبيل، فإذا كان جواز الدخول بلا استئذان ضررياً ويرتفع بحديث لا ضرر، هذا أيضاً يوجب رفع حق الإبقاء، وإذا ارتفع حق الإبقاء؛ فحينئذٍ لا يكون مسلطاً على منع غيره من التصرّف بهذا المال، فيجوز القلع، ويؤمر بالقلع؛ وحينئذٍ يمكن توجيه وتعليل الأمر بالقلع بحديث لا ضرر ولا ضرار.