33/01/16
تحمیل
(بحث يوم الاثنين 16 محرم الحرام 1433 ه 42)
كان الكلام في تحقيق من له حقّ تعيين القاضي من المتخاصِمَين في ما إذا كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً .. وذكرنا أن المشهور ذهب إلى أن حقّ التعيين يثبت للمدعي مستدلاً عليه في المستند بما حاصله : أن المدّعي هو المطالب بالحق ولا حقّ للمنكر أولاً
[1]
وعلى ذلك فيجوز للمدعي أن يرفع دعواه إلى قاضٍ يختاره هو ويَلْزَم عليه
[2]
أن ينظر في الدعوى ويرتّب الآثار عليها وليس من حقّ المنكر أن يرفض الرجوع إلى هذا القاضي
[3]
.
هذا .. ولكن السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها اعترض على هذا الدليل وذكر أنه إن كان المراد أن ثبوت حقّ التعيين للمدّعي باعتباره صاحب الحقّ فهذا أول الكلام إذ لم يثبت أنه كذلك قبل الفصل
[4]
غاية الأمر أنه يدّعي ذلك وهو غير مؤثّر في المقام ، وإن كان المراد أن ثبوته له باعتبار أن حقّ الدعوى له بمعنى أن من حقّه أن يُقيمها أو يتركها فهذا المقدار لا يوجب اختصاصه بحقّ التعيين لأن المنكر بعد إقامة الدعوى يكون له حقّ الجواب أيضاً فإذا كان ملاك حقّ التعيين يكمن في من يكون ذا حقّ فيتساويان حينئذ ولا موجب لاختصاص ذلك بالمدّعي ، وكونُ حقّ المدّعي في إقامة الدعوى وحقّ المنكر في الجواب عنها غير فارق في ما نحن فيه إذ يصدق على كلّ منهما أنه ذو حقّ
[5]
.
وأقول : يمكن الخدش في ما ذُكر من جهة عدم صدق الحقّ على جواب المنكر إقراراً أو إنكاراً - وإنما هو
[6]
حكم شرعي مترتّب على رجوع المدّعي إلى القاضي فإنه عندما يرفع المدّعي دعواه إلى القاضي وهو بدوره يتقبّلها وينظر في مقدماتها ويطالب المنكر بالجواب عنها فيتوجّه حينئذ إلى المنكر حكم شرعي بلزوم الامتثال لذلك والجواب من قبله إقراراً أو إنكاراً .
هذا .. ويمكّن أن يقرّب دليل صاحب المستند بوجهٍ يسلم فيه عن الإشكال المتقدّم ولا يبعد أن يكون هذا المعنى هو مقصوده بما حاصله :
أنه قد ذُكر في مقام تمييز المدّعي عن المنكر أن المدّعي هو صاحب الخصومة والدعوى الذي يُعبّر عنه بأنه : (الذي يُترك لو ترك) أي أنه إذا ترك القضية فيُترك ولا يُجبَر على إقامتها وأما المنكر فإنه لو ترك
[7]
لا يُترك بل يُلزم بالجواب فإذا بنى المدّعي على عدم ترك الدعوى والمطالبة باستنقاذ حقّه الثابت له - بحسب اعتقاده - فلا إشكال حينئذ في أنه يجوز له أن يرفع دعواه إلى قاضٍ يختاره هو كما لا إشكال في أنه يجوز لهذا القاضي أن يتقبّل النظر في هذه الدعوى فإذا نظر فيها وأرسل خلف المنكر فليس للمنكر أن يمتنع ويطالب بأن تقام الدعوى عند قاضٍ آخر لأنه ليس هو صاحب الخصومة والمطالب باستنقاذ حقّه إذ الفرض أن أحد الطرفين مدّعٍ والآخر منكر ولم يُفرض التداعي بينهما كما سيأتي وعلى ذلك فيثبت حقّ تعيين القاضي للمطالِب باستنقاذ حقّه ولا قصور في شمول أدلة المشروعية والنفوذ لهذا الفرض
[8]
.
والحاصل أن المدّعي لا يُلزم بالتحاكم إلى غير مَن اختاره لأنه هو صاحب الخصومة والمطالِب بالحقّ فيحقّ له تعيين القاضي ليفصل في دعواه وأما المنكر فليس له هذه المثابة إذ لا خصومة من طرفه أولاً تجاه المدّعي فحينئذ ليس له فرض قاضٍ آخر عليه .
هذا ظاهراً مراد صاحب المستند من دليله وهو تام مُثبت للمطلوب .
هذا .. وقد ذكر السيد الخوئي (قده) دليلاً آخر لإثبات أن حقّ التعيين في هذه الصورة
[9]
بيد المدّعي ومحصّله : أن المدّعي هو المُلزَم بإثبات دعواه بأيّ طريق شاء وليس للمنكر أيّ حقّ في تعيين الطريق له أو منعه من إثبات دعواه بطريق خاص فيكون حقّ التعيين بيد المدّعي .
وأقول : يمكن إرجاع هذا المضمون إلى ما ذكره صاحب المستند فلا يكون دليلاً في مقابله بأن يكون مقصوده من أن المدّعي هو المُلزم بإثبات دعواه أنه هو المطالِب بالحقّ وإلا فلو لم يرجع إليه وكان دليلاً في مقابله فلا يتّضح حينئذ المقصود بقوله : (إثبات دعواه بأيّ طريق شاء) فهل المراد منه هو إثبات الدعوى بطريق القضاء أم بغيره من الطرق - في حدود المسموح به شرعاً - أم أن مراده الإشارة إلى وسائل الإثبات المستخدمة في مقام إثبات الدعوى أم أن مراده بالطريق ردّ اليمين على المنكر في ما إذا لم تكن له بيّنة عادلة يُقيمها أم أن المقصود بالطريق هو القاضي الذي يكون في الحقيقة طريقاً للمدّعي لإثبات دعواه فقوله: (بأيّ طريق شاء) يعني بأي قاضٍ شاء فتأمّل !
المورد الثاني : ما إذا كلّ من المتخاصمين مدّعياً وقد يُعرف بباب التداعي - .
ومُثّل لذلك بما إذا زوّجت البالغة الرشيدة الباكر نفسها من شخص وزوّجها أبوها من آخر - باعتبار ولاية الأب على الباكر - فحصل النزاع بين الشخصين فادّعى كلّ منهما زوجية المرأة ، ومُثّل له أيضاً بما إذا تنازع شخصان في ملكية شيء بيد ثالث مع افتراض إنكاره لملكيتهما وعدم إقراره لأيّ منهما بالملكية .. فالشخصان في المثالين يدخلان في باب التداعي والمعروف بينهم في هذا الباب أن حقّ تعيين الحاكم والقاضي يكون بالقرعة في ما إذا أصرّ كل من المتداعيان على من اختاره قاضياً ولم يتوافقا على واحد .
وقد اختار السيد الماتن (قده) ذلك
[12]
إلا أن ثمة مشكلة في الرجوع إلى القرعة - التي سيأتي بحثها في بعض مسائل التداعي ومدى اعتبارها وسيلة من وسائل الإثبات في باب القضاء وتكمن في أنه ماذا يُستفاد من أدلّتها فثمة اتّجاه بأن المستفاد منها أن القرعة معيِّنة لكل أمر مشكل ، وثمة اتّجاه آخر بأن المستفاد منها أنها للأمر المجهول عندنا المعيَّن في الواقع فتشخّص القرعة لنا أن الواقع هو هذا دون ذاك ، وأما الأمور التي لا تعيّن لها أصلاً ففي هذه الحالة يُدّعى أن هناك قصوراً في أدلة القرعة عن شمولها إذ أننا لا نريد هنا أن نعيّن أن هذه المرأة هي زوجة لهذا أو أن هذا المال لفلان حتى يقال إن المال في الواقع له تعيّن لأحد الشخصين بالخصوص بل المقصود بالقرعة تعيين القاضي من بين قاضيين اختار كلاًّ منهما كلّ من المتداعيين ولا يمكن الجمع - كما لا يخفى - بين الحقّين ، ومن الواضح أنه ليس للقاضي تعيّن في الواقع ليُفرَض كونه مجهولاً عندنا ومن ثمّ يقال إن القرعة تكون دليلاً لتعيينه ظاهراً فلا بد لاندراج المقام تحت أدلة القرعة من أن نفهم من هذه الأدلة الشمول لكل مشكل مطلقاً - سواء كان له تعيّن في الواقع أو لم يكن .
ثم لو فُرض عدم شمول هذه الأدلة لما لا تعيّن له في الواقع الذي هو محلّ الكلام - فاستبعدنا احتمال الرجوع إلى القرعة فحينئذ يقال إنه تارة يُفرض أن أحد القاضيين سبق الآخر بقبول الدعوى والنظر في مقدماتها وإصدار الحكم فيها فلا ريب هنا في نفوذ الحكم الصادر منه وعدم جواز أن ينظر القاضي الآخر في الدعوى لأن القضية بُتّ فيها من قبل قاض شرعي ولا يجوز استئنافها بعد ذلك من قبل آخر فإن من الواضح أن أدلة نفوذ قضاء القاضي المنصوب ليس لها اختصاص بصورة كون أحد الطرفين مدّعياً والآخر منكراً حيث يكون حقّ تعيين القاضي بيد المدّعي بل هي شاملة أيضاً لصورة ما إذا كان كل منهما مدّعياً واختار كل منهما قاضياً وسبق أحد القاضيين بالحكم .
نعم .. مع فرض عدم السبق تشكل المسألة ومع عدم القول بالقرعة ولو بدعوى قصور أدلتها عن الشمول لما لا تعيّن له واقعاً ينغلق الباب ولا حلّ إلا بتوافق المتداعيين على قاض بعينه ممّن اختاراه أو تَرْكهما والرجوع إلى ثالث .
هذا تمام الكلام في المسألة السادسة .
[1] أي قبل الدعوى .
[2] أي على القاضي المختار .
[3] قد تقدّم بسط الكلام في هذا الدليل في البحث السابق فراجع .
[4] أي فصل القاضي بالحكم .
[5] قال (قده) في العروة : " وفيه : أن كون الحق له غير معلوم ; وإن أريد أن حق الدعوى له حيث إن له أن يدّعي وله أن يترك ففيه : أن مجرد هذا لا يوجب تقدم مختاره إذ بعد الدعوى يكون للآخر أيضا حق الجواب ، مع أنه يمكن أن يسبق المُدّعى عليه بعد الدعوى إلى حاكم ويطلب منه تخليصه من دعوى المدّعي " العروة الوثقى مج6 ص432 .
[6] أي الجواب من قبل المنكر .
[7] أي امتنع عن الجواب على دعوى المدّعي .
[8] أي للقاضي المعيّن من قبل المدّعي .
[9] يعني صورة كون أحد الطرفين مدعياً وكون الآخر منكراً .
[10] وهو كون أحد المتخاصمين مدّعياً والآخر منكراً .
[11] وهو القاضي المنصوب .
[12] أي التعيين بالقرعة .