37/08/06
تحمیل
الموضوع:- مبحث الضد.
وفي مقام الجواب نقول:- أمّا بالنسبة إلى المحذور الأوّل - يعني يلزم إجراء البراءة لمن شك في قدرته - فنسلّم بذلك - يعني لا بأس بإجراء البراءة - فيما إذا لم يقم دليل مقدّم على أصل البراءة ، ولكن عادةً يوجد دليل مقدّم على أصل البراءة فلا تصل النوبة إلى أصل البراءة ، وهذا الدليل المقدّم له طريقان:-
الطريق الأوّل:- الاستصحاب الاستقبالي وذلك بأن يقال هكذا:- إني الآن إذا كنت صحيحاً سالماً جزماً أشك إذا دخلت في الصلاة هل تبقى قدرتي موجودةً أو أنه يدركني الموت أو شيئاً آخر قبل نهاية الصلاة كأن يموت أو يجنّ في الركعة الثالثة أو غير ذلك ، فالآن مادام هو قادر فيجري استصحاب بقاء القدرة إلى نهاية الصلاة ، فزمان اليقين الآن وزمان الشك هو في المستقبل وهذا ما يعبّر عنه بالاستصحاب الاستقبالي ، في مقابل الاستصحاب العادي المتعارف فزمان اليقين فيه ليس هو الآن وإنما الآن يوجد شك وإنما زمان اليقين هو قد مضى ، فإذا قلنا إنّ روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) تشمله بإطلاقها وليس من البعيد أنّ يبنى على ذلك خصوصاً البعض الذين مذاقهم في باب الاطلاق وسيع كالسيد الخوئي(قده) فيقال حينئذٍ إنّ روايات الاستصحاب قالت ( لا تنقض اليقين بالشك )[1] ولم تقل لا تنقض اليقين الثابت في الزمان الحالي بالشك الثابت في الزمان الحالي بل قالت ( لا تنقض اليقين ) يعني في أيّ زمان كان ( بالشك ) يعني في أيّ زمانٍ كان ، فهي مطلقة فتشمل الاستصحاب الاستقبالي ، فإذا بنينا على هذا ففي مثل هذه الحالة نبني على بقاء الحياة والقدرة إلى نهاية العمل للاستصحاب الاستقبالي ، وحينئذٍ أصل البراءة لا يحصل له مجال ، فلولا هذا الاستصحاب الاستقبالي عندنا شكٌّ في أصل القدرة ومقتضى أصل البراء نفي التكليف لأني بالتالي احتمل أنّ القدرة لا تبقى وبالتالي لا تكليف في حقّي فالمناسب إجراء البراءة في حقّي ولكن بعد وجود هذا الاستصحاب الاستقبالي الذي يحرز لي بقاء القدرة لا تصل النوبة إلى البراءة.
الطريق الثاني:- التمسّك بالسيرة العقلائية بأن يقال:- إنه حتى لو قطعنا النظر عن الاستصحاب الاستقبالي وافترضناه ليس بحجة يوجد عندنا بديلٌ آخر وهو السيرة العقلائية ، بمعنى أن الإنسان مادام صحيحاً سالماً الآن فيبني على أنّ هذه الصحّة والسلامة موجودة إلى ما بعد ساعة أو شهر أو سنة ، ولذلك ترانا نعمّر بيوتاً ونتزوّج وغير ذلك وهذا دليل على أنّ هناك سيرة عقلائية في البناء على بقاء القدرة بشكلها التام ، ولولا أنّ الله تعالى أودع في الإنسان هذا المعنى فسوف لا يتزوّج ولا يبني ولا غير ذلك ، فإذن توجد سيرة عقلائية على هذا ، وما هو منشأ هذه السيرة ؟ إنه شيءٌ ليس بمهم ، والمهم أنه توجد سيرة على ذلك وهي ممضاة من قبل الشرع ويسير عليها الشرع أيضاً ، فإنّ أئمتنا عليهم السلام كانوا أيضاً كذلك ، فإذن الصلاة تجب علينا ولا يعار أهمية لاحتمال طروّ الموت قبل نهاية العمل أو الجنون أو غير لك فإنّ هذه الاحتمالات ملغيّة بالسيرة العقلائية الممضاة ، وهذه الطريق بقطع النظر عن الاستصحاب الاستقبالي فإنه حتى إذا لم تكن روايات الاستصحاب موجودةً فهذه السيرة موجودة عندنا وهي سيرة ليست خاصّة بنا كما قلنا بل هي سيرة للأئمة عليهم السلام فإنهم يصنعون كذلك فتصير ممضاةً ، وبذلك لا تصل النوبة إلى أصل البراءة إمّا لوجود الاستصحاب الاستقبالي في الروايات أو لوجود هذه السيرة أو للاثنين معاً .
وأما بالنسبة إلى المحذور الثاني - أعني أنه بناءً على شرطية القدرة في متعلّق التكليف يلزم جواز إزالة القدرة - فجوابه:- نحن نفصّل بين ما إذا كان ذلك قبل حلول زمان التكلف وبين ما إذا كان ذلك بعد حلول زمان التكليف ، فإن كان قبل حلول زمان التكليف كأن تشرب المرأة دواءً قبل حلول صلاة الظهر فتأتيها الدورة الشهرية فلا تتمكن آنذاك من الصوم أو الصلاة فإنه لا محذور في ذلك ، أو يشرب الشخص دواءً للنوم فينام إلى فترة يوم أو يومين مثلاً فهذا أيضاً لا محذور فيه ، بل نقول أكثر كما لو كان يسهر في الليل إلى قبل أذان الفجر بربع ساعة ويعلم أنه إذا نام فوف لا يستيقظ حتماً إلا بعد طلوع الشمس فهل يتمكّن من النوم أو لا ؟ إنه بقطع النظر عن مسألة التوفيق يجوز له النوم ولو قبل دخول الوقت بدقيقة فإنه لا محذور فيه لأنّ الوجوب لم يحلّ بَعدُ عليه فينام وما بعد ذلك فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ فلا توجد قدرة ، وعليه فلا يوجد أيّ محذورٍ فنلتزم به فنّياً ولا مشكلة فيه ، نعم بعد دخول الوقت لا يجوز النوم لأنه قد حلّ وقت الوجوب وصار الملاك في حقّه فعلياً وهو فوّت على نفسه الملاك الفعلي وعجّزها عن امتثال التكليف الفعلي وهو لا يجوز ، بخلافه قبل الوقت بدقيقة أو ثلاث دقائق مثلاً فهو عجّز نفسه عن امتثال التكليف الذي ليس هو بفعلي وهذا لا محذور فيه.
وأمّا بالنسبة إلى المحذور الثالث - وهو أنه يلزم اعتبار العلم في متعلّق التكاليف كالقدرة إذ لا فرق بينهما - فيمكن الجواب:- بأنّ الفارق موجود بين غير العالم وبين غير القادر ، ومن الواضح أنّ كلامنا في غير العالم أنه ليس المقصود هو الجاهل المركّب بل الجاهل البسيط ، فالإنسان قد يكون غافلاً أصلاً فهو لا يعلم أنّ هذا واجب لكن ليس بمعنى أنه شاك بل يعتقد أنه جائز فهذا جهلٌ مركّب ، ومرّة لا يدري أنّ هذا واجب بمعنى أنه لا يجزم بأنه واجب فيحتمل أنه واجب ويحتمل أنه ليس بواجب وهذا جهلٌ أيضاً لكنّه بسط ، وكلامنا في الجهل البسيط ، وحينئذٍ نقول يوجد فارقٌ بين الجاهل البسيط وبين غير القادر ، فإن غير القادر لا يتمكّن أن يزيل عدم القدرة ويبدله إلى القدرة فإنّ القدرة بيد الله عزّ وجلّ ، فإزالة عدم القدرة وتبديلها إلى القدرة لا يمكن فلذلك صار التكليف مشروطاً بالقدرة ، وهذا بخلافه في غير العالم - أي الجاهل البسيط - فهو قادر على إزالة جهله بالسؤال عن هذا الحكم مثلاً أو عن ذاك ، فهو في الحقيقة قادر على امتثال التكليف من خلال الفحص والسؤال والمراجعة ، فقياس غير العالم على غير القادر في غير محلّه وهو مع الفارق ، نعم إذا كان غير العالم بمعنى الجاهل المركّب أي كان يجزم بأنّ هذا الشيء ليس بواجب فهناك مجال أن يقال لا يوجد في حقّه تكليف ، ولكن لا يلزم المحذور في جميع أفراد غير العالم ، فغير العالم بمعنى الجاهل البسيط لا يلزم في حقّه محذور لأنه يتمكّن من إزالة عدم العلم وتبديله إلى العلم.
هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده في الدليل الأوّل من مناقشة جميع محاذيره الثلاثة.
الدليل الثاني:- إنّ الخطابات الشرعية ليست خطابات شخصية إنما هي خطابات كلّية حقيقة ، فلو كانت شخصية بمعنى أنه خطاب لك وخطاب لي وخطاب للثالث ...... وهكذا - ( يا فلان أقم الصلاة و يا فلان الثاني أقم الصلاة .... وهكذا ) فهنا إذا كانت الخطابات الشخصية بهذا الشكل فيمكن أن نقول إنَّ القدرة شرطاً معتبراً؛ إذ كيف تقول لشخصٍ يا فلان صلِّ من قيام وهو لا يستطيع الصلاة من قيام ؟!! أو تقول له صُم وهو لا يستطيع الصيام ؟!! ، أما إذا فرض أنّ الخطابات كانت كلّية حقيقة بلسان ﴿ يا أيها الذين أمنوا كتب عليم الصيام ﴾[2] فهذا خطابٌ للعنوان الكلّي الذي يجمع كلّ الأفراد وليس خطاباً إلى هذا الفرد بخصوصه أو ذاك بخصوصه ، وإذا كان كذلك يكفي قدرة البعض ولا يلزم قدرة الكلّ.
فإن قلت:- صحيحٌ أنّ الخطابات الشرعية هي كلّية وبلسان ( يا أيها الذين آمنوا ) ولكن هي انحلالية بعدد الأشخاص ولكن جمعت من حيث اللسان بلسانٍ واحدٍ وإلا فالمقصود من قوله ( يا أيها الذين آمنوا ) يعني يا أيها المؤمن فلان تجب عليك الصلاة و يا أيها المؤمن فلان الثاني تجب عليك الصلاة ..... وهكذا ولكن هذه جمعت وصيغت بلسان يا أيها الذين آمنوا فيلزم اعتبار القدرة في حقّ كلّ شخصٍ مادام هذا الخطاب الكلّي هو خطاب انحلالي ؟
قلت:- ليس هو انحلالياً إذ لو كان انحلالياً يلزم أن يكون الخبر انحلالياً أيضاً ، مثل خبر ( النار حارّة والثلج بارد ) فيلزم أن يكون هذا الإخبار انحلالياً كالإنشاء ، وحيث إنّ الإخبار لا يمكن أن يكون انحلالياً فالإنشاء أيضأً كذلك.
أما لماذا لا يكون الإخبار انحلالياً ؟ قال:- لو فرض أنّ الإنسان قال ( النار باردة ) فهذا الشخص قد كذب ، فلو كان هذ الخبر انحلالياً بعدد أفراد النار فلو كانت ألف فردٍ فيلزم أن يكون عندنا ألف خبر يعني قد صدرت منه ألف كذبة ، وهل تلتزم بذلك ؟!! إنّه لا يمكن الالتزام بذلك ، بل يقولون هو قد كذب كذبةً واحدةً وهذا يدلّ على أنّ الخبر ليس انحلالياً ، وإذا لم يكن انحلالياً فالإنشاء أيضاً لا يكون انحلالياً.