32/10/26
تحمیل
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي بحث الفقه 32/10/22 بسم الله الرحمن الرحیم
كان الكلام في المقام الثاني في جواز أخذ الأجرة على القضاء من دون فرق بين أن يكون ذلك من المتخاصمين أو من غيرهما وقلنا إن هذه مسألة مهمة تُبحث عادة في كتاب الإجارة وقبل الدخول في تفاصيل هذه المسألة نذكر أموراً يتشخّص بها موضوع النزاع :
الأمر الأول : إن الكلام أساساً لم يُعقد لبيان الحكم التكليفي وإنما هو في بيان الحكم الوضعي أي استحقاق الأجرة أو قل في صحة الإجارة وعدم صحتها بمعنى أن كون متعلّق الإجارة من الواجبات هل يقتضي بطلان الإجارة أم لا ، نعم .. قد يُفهم ضمناً الحكم التكليفي لكنه ليس مقصوداً أساساً فإن فساد المعاملة وعدم استحقاق الأجرة يُنتجان بطبيعة الحال عدم جواز التصرّف في هذا المال الذي أخذه كأجرة على الواجبات - إذا قلنا بالبطلان والفساد وأن كون متعلّق الإجارة من الواجبات يوجب فساد عقد الإجارة - .
الأمر الثاني : إن محل الكلام لا يختصّ بنوع معيّن من الواجبات بل يشمل جميع أقسام الواجبات العينية والكفائية والتعبّدية والتوصّلية بل يشمل حتى المستحبات وذلك لأن أحد وجوه المنع وعدم الجواز وضعاً في محلّ الكلام هو منافاة أخذ الأجرة لقصد القربة ومن الواضح أن هذا الوجه لو تمّ فهو لا يختصّ بالواجبات العبادية بل يشمل حتى المستحبات .
الأمر الثالث : أن الكلام ينصبّ على تحقيق هذه الجهة وهي أنه هل هناك منافاة بين صحة الإجارة وكون متعلّقها عبادياً - واجباً كان أو مستحباً - أم لا ؟
ومعنى ذلك أننا لا بدّ أن نفترض صحة المعاملة التي نتكلم عنها بلحاظ سائر الجهات بمعنى أنه لا بد أن نفترض استجماع المعاملة التي في محلّ كلامنا للشروط المعتبرة في صحة الإجارة حتى لا تكون المعاملة فاقدة لأحد تلك الشرائط ويستند فسادها إلى تلك الجهة .
ومن هذا البيان يظهر أنه سوف تخرج عن محلّ الكلام جملة من الأمور فلا تدخل في محل النزاع والنقض والإبرام مثل الإجارة على الصلاة أو الصيام واجبين أو مستحبين - عن الأجير نفسه لأن مثل هذه الإجارة لا تشملها أدلة الصحة لكونها معاملة سفهية إذ لا يعود فيها أيّ نفع للمستأجِــــر،
والإجارة لكي تكون عقلائية ومشمولة لأدلة: (أوفوا بالعقود) ونحوها لا بد أن لا تكون من هذا القبيل، وكذلك يخرج عن محلّ النزاع الإجارة على بعض الواجبات بل وبعض المستحبات التي يُفهم من دليلها أو من الخارج لزوم الإتيان بها مجاناً كتجهيز الميت وغسله وتكفينه ودفنه فقالوا إن هذه الأمور يُفهم من دليلها أنها حقّ من حقوق الميت على أخيه المؤمن الحيّ وهذا يستدعي المجانية ، وكذلك الأذان فهو مستحبّ مجاني .
الأمر الرابع : يُعتبر في محلّ الكلام أن تتعلّق الإجارة بنفس ما يتعلّق به الوجوب فإن البحث في منافاة صحة الإجارة لوجوب متعلّقها يستلزم اتّحاد المتعلّق فيهما ، وعلى أساس هذا يمكن أن يقال إنه عندما تتعلّق الإجارة بأحد فردي الواجب التخييري - كما لو استأجره على العتق (مثلاً) في خصال الكفارة المستحقة على الأجير نفسه - فإنه لا يدخل في محلّ الكلام بل ينبغي الحكم بصحة الإجارة فيه لأن الإجارة لم تتعلّق بما تعلّق به الوجوب فإن الوجوب تعلّق بالجامع وأما الإجارة فتعلّقت بالفرد والفرد بحدّه الفردي ليس واجباً ولذا يجوز تركه إلى بدل فليس ثمة إلزام في البين بمتعلّق الوجوب حتى يقال إن هذا الإلزام ينافي صحة الإجارة كما سيأتي في الوجهين الذين يُستدلّ بهما على بطلان الإجارة - .
والكلام نفسه يقال في الواجب الكفائي فإن الوجوب يتعلّق بطبيعي المكلّف وأما الإجارة فتتعلّق بهذا الشخص بعينه فيخرج عن محلّ الكلام فيمكن أن يقال بجواز الإجارة في هذه الموارد وأنه لا نزاع في جوازها فيها بل قد وسّعها بعضهم فقال إنه لو كان للواجب أفراد كثيرة طولية كانت أو عرضية ووقعت الإجارة على فرد من أفراده صحّت .
نعم .. إذا لم يكن للطبيعي إلا فرد واحد وتعلّقت الإجارة بذلك الفرد فهذا يدخل في محلّ النزاع بالرغم من أننا قد نستشكل في صدق الواجب على الفرد لأن الفرد بحدّه الفردي ليس واجباً وإنما الواجب هو الطبيعي ولكن حيث قلنا إن الدليل في محلّ الكلام على المنع هو لزوم الإتيان بما تعلّقت به الإجارة فإذا كان متعلّق الإجارة بقطع النظر عنها مما يلزم المكلّف الإتيان به فهنا يقال بأنه لا معنى لتعلّق الإجارة به بالرغم من أنه قد لا يصحّ لنا أن نقول إنه قد تعلّق به الوجوب لأن الوجوب كما أشرنــا
لا يتعلّق بالفرد بخصوصياته وإنما يتعلّق بالطبيعي ولكن لمّا كان الطبيعي منحصراً بهذا الفرد كان المكلّف ملزماً بالإتيان به فيقال - بحسب الدليل - إن هناك منافاة بين الوجوب والإجارة فنكتة المنع الآتية تكون جارية في محلّ الكلام فيقع الكلام في أنها تامة أو ليست بتامة فنقول :
استدلّ القائلون بعدم صحة الإجارة على الواجبات بوجوه عديدة عُدّت مانعةً عن العمل بما دلّ على صحة الإجارة فلو تمّت نفقد حينئذ الدليل على صحة الإجارة فيُحكم بفسادها :
الوجه الأول
[1]
: دعوى المنافاة بين الوجوب - بما هو وجوب - وأخذ الأجرة .
ولهذا الوجه تقريبات عديدة مستفادة من كلماتهم :
التقريب الأول وهو المستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري (قده) في مكاسبه - : وهو أنه يُعتبر في صحة الإجارة أن يكون متعلّقها مملوكاً ومستحقاً للأجير حتى يستطيع هذا الأجير بتوسّط الإجارة أن ينقل ملكيته إلى المستأجِر وإلا فلو كان لا يملك هذا العمل فلا معنى لأن يُستأجَر عليه وحينئذ يقال بأن هذا الشرط غير متحقق في محلّ كلامنا لأن العمل بمجرد افتراض كونه واجباً عليه فلا يكون مملوكاً له وإنما يكون مملوكاً ومستحقّاً لله سبحانه وتعالى فلا تصحّ الإجارة حينئذ .
وهذا الوجه اعتُرض باعتراضات كثيرة أهمّها اعتراضان :
الأول : أنّا لا نسلّم أن الوجوب يقتضي مملوكية العمل لله سبحانه وتعالى فإن الوجوب لا يقتضي إلا الإلزام بالعمل خارجاً وأما أن يكون مملوكاً للموجِب ومستحقّاً له بحيث يمنع من تمليكه لغيره بتوسّط الإجارة فهو غير مسلّم ولا ضير في أن يكون هناك إلزامان بالعمل : إلزام من قبل الله سبحانه وتعالى وإلزام باعتبار الإجارة فالوجوب إذاً لا يُفهم منه التمليك والاستحقاق بل غاية ما يُفهم منه الإلزام واستحقاق العقاب على تقدير الترك .
الثاني : سلمّنا أن الوجوب يقتضي الملكية لكن ملكية الله تعالى واستحقاقه هي من نوع خاص تختلف عمّا هي عليه عند الناس فما نُسلّمه إنما هو بطلان تمليك ما يكون ملكاً للناس بمعنى أن ما يكون مملوكاً لشخص لا يستطيع غيرُه تمليكه لآخر ولذا لو آجر نفسه لعمل معيّن لزيد - مثلاً - فلا يكون قادراً على تأجير نفسه للعمل نفسه ثانية من عمرو لأنه بالإجارة يكون العمل مستحقاً لزيد ومملوكاً له فلا يستطيع هذا الشخص أن يُملّك ما هو مملوك لزيد لشخص آخر بإجارة ثانية ، وأما أن يُمنَع أن يُملّك أحدٌ لآخر ما هو مملوك مطلقاً - سواء كان مملوكاً للناس أو كان مملوكاً لله تعالى - فهذا غير واضح فإن ملكيته تعالى ليست ملكية اعتبارية كملكيتنا التي واقعها وحقيقتها بالاعتبار بل هي ملكية تكوينية وواقعية لا تنافي ملكية سائر الأشخاص ولذا فإنه في عين الوقت الذي يكون هذا الشيء مملوكاً لله سبحانه وتعالى بالملكية الحقيقية يكون مملوكاً بالملكية الاعتبارية لأحد من الناس فلا مانع من الجمع بين الملكيتين .. إذاً فكون الشيء مملوكاً لله سبحانه وتعالى لا ينافي جواز نقله إلى غيره وتمليكه له بالملكية الاعتبارية عن طريق الإجارة .
ومن هنا يتبيّن أن هذا التقريب للوجه الأول ليس بتام . [1] وهو يختصّ بالواجبات فلا يشمل المستحبات ولكنه في الوقت نفسه يشمل جميع أصناف الواجبات حتى التوصّلية منها . (منه دامت بركاته) | ||