37/06/10
تحمیل
الموضوع:- الولاية للجائر – مسألة ( 36 ) – المكاسب المحرمة.
الاستثناء الثالث[1] :-
المعروف في كلمات الفقهاء أنّ الذي يستثنى من حرمة الولاية للسلطان الجائر موردان هما مصالح العباد وحالة الاكراه ، وهناك حالة ثالثة استثناؤها ليس معروفاً في كلماتهم ولكن جاءت الإشارة إليها في رواية ، وهي ما إذا فرض أنّ الإنسان وقع في ضيقٍ من ناحية معاشه وأمر دنياه وتوقّف أمره على أن يتولى للجائر ، إنّ هذه الحالة يظهر من بعض الروايات استثناؤها أيضاً من حرمة التولّي للسلطان الجائر ، وعلى هذا الأساس تصير موارد الاستثناء من حرمة الولاية للجائر ثلاثة - إذا قبلنا بذلك -.
والرواية التي تشير إلى هذه الحالة هي موثقة عمّار الساباطي التي رواها الشيخ(قده) بأسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن الحسن عليّ عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل ، قال:- لا ، إلا أن لا يقدر على شيءٍ يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلةٍ فإن فعل فصار في يده شيءٌ فليبعث بخمسه إلى أهل البيت عليهم السلام )[2] .
ودلالتها واضحة حيث استثنى عليه السلام وقال:- ( إلا أن لا يقدر على شيءٍ يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة ) ، يعني انحصر أمره بطريق الولاية عن الجائر وقد جوّز له الإمام عليه السلام ذلك بعد أن يبعث بالخمس.
والسند موثّق ، فطريق الشيخ إلى محمد بن أحمد بن يحيى معتبر كما يتضح من خلال مراجعة المشيخة أو الفهرست[3] ، فمحمد بن أحمد بن يحيى هو صاحب كتاب نوادر الحكمة – المعروف بدبّة شبيب - وهو من الثقات والطريق معتبر ، أمّا أحمد بن الحسن بن عليّ فهو بن فضّال وهو فطحي ثقة ، أمّا عمرو بن سعيد فهو المدائني وهو فطحي ثقة ، وأما مصدق بن صدقة فهو فطحي ثقة ، وكذلك عمّار الساباطي فهو فطحي ثقة.
إذن الرواية معتبرةٌ سنداً وواضحةٌ دلالة.
هذا وقد يشكل عليها بإشكالات ثلاثة:-
الاشكال الأوّل:- إنها معرض عنها بين الأصحاب ، فإن الأصحاب ذكروا استثناءين من الولاية المحرّمة ولم يذكروا هذا الاستثناء الثالث ، وعلى هذا الأساس يكون هذا إعراضاً والإعراض مسقطٌ للرواية عن الاعتبار
وقد بينا أكثر من مرّة أنه لماذا يكون الإعراض مسقطاً للرواية عن الاعتبار حيث قلت إنّه يمكن أن يبني ذلك بوجهين:-
الوجه الأول:- حصول الاطمئنان بأن فيها خلل حيث أعرض عنها جميع أصحاب الخبرة ، فإعراضهم هذا يكشف على وجود خللٍ فيها ، كما لو فرض أن شخصاً جاء بخبر سياسي ولكن لم تذكره قناة فضائية أو إذاعة ولم يعر له أحد أهمية فهنا يحصل اطمئنان بأنّ هذا الخبر ليس صحيحاً ، وإذا حصل اطمئنانٌ بذلك فسوف يسقط عن الاعتبار من باب حجية الاطمئنان.
ولا يلزم أن يعرض عنه الجميع ، بل يكفي أن يعرض عنه أصحاب الخبرة ، فليس من البعيد هنا حصول الاطمئنان بعدم حجّيته.
الوجه الثاني:- أن يقال إنّ دليل حجية الخبر المهم الذي هو السيرة قاصر عن الشمول لمثل هذا ، لأنّ السيرة ليست دليلاً لفظياً حتى يتمسّك بإطلاقه وإنما هي دليل لبّي ولا نجزم بأنّ العقلاء يتمسّكون بخبرٍ من هذا القبيل.
ونفس هذين الوجين نذكرهما لإثبات دعم الخبر الضعيف بشهرة العمل إذا فرض أنّ المشهور عملوا به فحينئذٍ يأتي الكلام فنقول إنه يدخل في دليل الحجية لنفس الوجهين - أي لنفس الاطمئنان أو لأجل أنّ دليل الحجية وهو السيرة تشمل مثل ذلك -.
وفيه:- إنه لم يثبت اعراض المتقدّمين من أعلامنا عن ذلك ، نعم المعروف بين المتأخرين أنهم استثنوا موردين ولم يستثنوا هذا المورد ، ولكن المهم الذي يحصّل الاطمئنان هو إعراض الطبقة المتقدّمة من العمل به ، وحصول مثل ذلك شيء ليس بالسهل . وعلى هذا الأساس شهرة الإعراض بالنحو الذي يكون معتبراً - أي موجباً للاطمئنان أو لخروج الخبر عن دليل الحجية - لم يثبت تحقّقها فإنّ القدر المتيقّن أنّ هذه الشهرة هي بين المتأخّرين أما المتقدّمين فلم يثبت ذلك في حقّهم.
ولو تنزلنا وسلمنا بذلك فنقول:- إنّ شهرة الإعراض تكون موجبة لسقوط الخبر عن الحجّية فيما إذا كان الإعراض المشهور إعراضا تعبّدياً لا ما إذا احتمل أنه ناشئ من إعمال النظر والاجتهاد ، وهنا نحتمل أنه ناشئ من النظر والاجتهاد باعتبار أنه توجد روايات معارضة - وسنذكر ثلاث روايات في هذا المجال أشرنا إلى بعضها فيما سبق - تدلّ على أنه لا يجوز التولي للجائر حتى في حال الضيق ، فلعلّهم قدّموا بنظرٍ اجتهاديٍّ تلك الروايات على هذه الرواية ، أما إذا تمكنّا نحن من أن نجمع بشكلٍ آخر لا يوجب تقديم تلك الروايات كما سوف يأتي فحينئذٍ لا عبرة بمثل هذا الإعراض . نعم إذا كان إعراضهم تعبّدي وليس اجتهادي فنتمكن أن نقول إنّ هذا قد وصل إليهم يداً بيد ، أما إذا احتملنا أن إعراضهم كان اجتهادياً فهذا لا عبرة به ، وهذه نكتة مهمّة يجدر الالتفات إليها . وهكذا الحال في باب الجبر ، فالعمل بالخبر الضعيف إذا كان عن اجتهادٍ فهو لا ينفع ، أما إذا كان العمل به تعبّدياً فهذا هو الذي يجدي.
الاشكال الثاني:- إنّها منافيه لأصلٍ من أصولنا الاعتقادية وهو حسن الظن بالله عزّ وجلّ ، فمن صفات المؤمن أنه لابد وأن يحسن الظن بالله عزّ وجلّ ، وهذا من أدبيّات الإسلام الواضحة المسلّمة ، والشخص الذي يذهب إلى الجائر ويعمل له يعني أنه لا يوجد عنده حسن ظنٍ بالله عزّ وجلّ فيسلك الطريق المحرّم ، فهذه الرواية إذن منافية لأصول الاسلام فتكون مطروحة.
وفيه:- إنّ المحرّم والمنافي لأصولنا الاعتقادية المسلّمة هو عدم حسن الظن بالله على مستوى الاعتقاد ، أمّا أنيّ لا أحسن الظن بالله على مستوى العمل والسلوك لا على مستوى العقيدة فهذا لم تثبت حرمته ، بل لعلّ سيرة الكثير منّا على ذلك ، وهذا في الحقيقة يتنافى مع حسن الظن بالله عملاً لا اعتقاداً ، والمفروض في الرواية هو أنه من هذا القبيل ، يعني هو يريد أن يعمل مع السلطان حتى يحصل على رزقه ، وهذا ليس معناه أنه لا يحسن الظن بالله على مستوى العقيدة بل على مستوى العمل وهذا لا مشكلة فيه.
الإشكال الثالث:- إنه توجد عدّة روايات منافية لهذه الرواية ونذكر في هذا المجال ثلاث روايات:-
الرواية الأولى:- ما تقدّمت الاشارة إليه فيما سبق ، أعني صحيحة أو رواية ابن أبي يعفور التي ورد في سندها بشير ، وبشير قد روى عنه ابن أبي عمير في نفس سند هذه الرواية بسندٍ معتبرٍ ، فبناءً على كبرى وثاقة كلّ من روى عنه أحد الثلاثة تصير صحيحةً ، وبناءً على الرفض تصير روايةً ، ولذلك ردّدت بين كونها صحيحة أو رواية للإشارة إلى المبنيين ولكي ألفت النظر إلى أنّ هذا يرتبط بالمبنى ، ونحن نميل إلى تماميّة هذه الكبرى ، ونصّها:- ( كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له:- جعلت فداك إنه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها فما تقول في ذلك ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام:- ما أحبُّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً وأنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم ، أنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد )[4] .
فقد يقال بأنّها تنافي تلك الرواية ، وحينئذٍ لا يمكن العمل بالرواية السابقة لأجل معارضتها بهذه الرواية.