37/07/04
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الاعتراضات والمناقشات التي أُثيرت حول الاحتمال الأول من الاحتمالات التي ذُكرت في مدلول ومفاد الجملة التركيبية لحديث (لا ضرر)، وقد تقدّم الاعتراض الأول الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه) في الرسائل، وذكرنا أيضاً ثلاثة أجوبة أجيب بها عن هذا الاعتراض .
لكن المظنون أنّ الشيخ(قدّس سرّه) لا يقنع بهذه الأجوبة؛ لأنّ هذه الأجوبة كلّها لا تحقق الشيء الذي ادّعاه، فالشيخ(قدّس سرّه) يقول أنّ نفي الضرر عرفاً مع وجود الضرر خارجاً ــــــ بحسب الفرض ــــــ لا يكون إلاّ بالتدارك المتحقق في الخارج، هذا هو الشيء الوحيد الذي يراه رافعاً للضرر، التدارك الخارجي، أضرّه بمائة، فإذا أعطاه مائة؛ فحينئذٍ العرف يقول أنّ هذا ينفي الضرر، فنفي الضرر عرفاً في نظر الشيخ(قدّس سرّه) موقوف على تحقق التدارك في الخارج، وكل هذه الأجوبة الثلاثة لم يُفترض فيها تحقق التدارك في الخارج، وإنّما في الجواب الأوّل يفترض أنّ هناك قوة إجرائية تضمن تطبيق الحكم الشرعي.......وهكذا في الثاني والثالث. لعلّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لا يرضى بهذه الأجوبة ويبقى مصرّاً على أنّ نفي الضرر إنّما يصح إذا تحقق التدارك في الخارج، وأمّا بمجرّد تشريع وجوب التدارك، حتى إذا فسّرنا التدارك بالضمان بمعنى اشتغال الذمّة، وافترضنا أنّ المخاطَب بذلك هو العبد المطيع، كلّ هذه الأمور لا تحقق التدارك في الخارج، وبالتالي العرف يرى أنّ هذا تضررّ من دون أن يكون هناك تدارك، فكيف يصحّ نفي الضرر في الحديث الشريف مع وجود الضرر ؟!
لكن يمكن أن يقال: الجواب الأوّل ، خصوصاً إذا طعّمناه بالجواب الثاني لا يبعُد أن يقال في هذه الحال العرف يرى أنّ الضرر متدارك وأنّ الضرر منفي، إذا فرضنا أنّ الشارع حكم بالتدارك، وافترضنا أنّ المراد بالتدارك هو الضمان، بمعنى اشتغال الذمّة، وجعل نفس الحاكم قوة إجرائية لتنفيذ ذلك، لا يبعُد أنّ هذا من وجهة نظر الحاكم يكون التدارك متحققّاً تنزيلاً، أي أنه بحكم المتحقق من وجهة نظر الحاكم؛ لأنّ الحاكم حكم بالتدارك وباشتغال الذمّة ووضع سلطة إجرائية لتنفيذ ذلك؛ فحينئذٍ يكون التدارك مضمون التحقق من وجهة نظر الحاكم، فكأنّه متحقق فعلاً، لكن تنزيلاً لا حقيقة، فكأنّ المتضرر عُوّض وتم تدارك ما فاته من النقص، هنا لا يبعُد أن يقال أنّ نفي الضرر متحقق من وجهة نظر الحاكم الذي حكم بالتدارك وجعل قوة إجرائية لتنفيذه، وأيضاً في نظر العرف، فالعرف أيضاً عندما يفهم هذه القضية أيضاً يقول أنّ هذا لم يتضرر، وإن كان لم يتم التدارك خارجاً بالفعل ، لكن مع وجود هذه الأمور لا يبعُد أنّ العرف في هذه الحالة أيضاً يمكنه أن ينفي الضرر استناداً إلى ذلك. ومن هنا هذا الاعتراض الذي ذكره على الفاضل التوني (قدّس سرّه) لا يكون تامّاً.
الاعتراض الثاني: ما أشار إليه في الكفاية، حيث تعرّض إلى ما ذكره الفاضل التوني (قدّس سرّه) بعبارة مختصرة، ويظهر منه أنه يريد أن يقول: الضرر المنفي في (لا ضرر) هو خصوص الضرر الغير المتدارك، يعني لا يوجد ضرر خارجاً غير متدارك، وهذا معناه أنّ كل ضررٍ في الخارج متدارك، وهذا مرجعه كناية عن تشريع وجوب التدارك، فإذن: هو عندما يقول(لا ضرر) فهو يريد حصّة خاصّة من الضرر، ولا يريد أن ينفي الضرر مطلقاً، وإنّما يريد أن ينفي الضرر غير المتدارك؛ لأنّ الضرر المتدارك بمنزلة العدم، فيصح له أن يقول لا يوجد في الخارج ضرر غير متدارك؛ لأنّ كل ضررٍ في الخارج هو متدارك، وقلنا أنّ هذا أسلوب من أساليب تشريع التدارك. صاحب الكفاية (قدّس سرّه) يقول إنّ إرادة خصوص الضرر غير المتدارك ليس صحيحاً، فعبارة (لا ضرر) مطلقة، وحمل الضرر المطلقة على حصّة خاصّة من الضرر وهي خصوص الضرر غير المتدارك، يُعبّر عنه بأنه (هذا الحمل لا يخلو من بشاعة) خصوصاً إذا فرضنا أنه بلا قرينة؛ إذ ليس هناك قرينة تدلّ على هذا التخصيص، ولا موجب لتخصيص الضرر بالضرر غير المتدارك، هذا لا وجه له، ومستهجن مع عدم وجود قرينة تدل على ذلك، سواء قلنا أنّ هذا من باب التجوّز في الكلمة بأن يُستعمل الضرر في حصّة خاصّة من حصصه، أو قلنا أنّه من باب تعدد الدال والمدلول، على كلا التقديرين هو مجاز بحاجة إلى قرينة، وحيث لا قرينة، فالالتزام بأنّ المراد بالضرر خصوص الضرر غير المتدارك لا وجه له .[1]
هذا الاعتراض الثاني إنّما يرِد على التقريب الأول من التقريبين المتقدمين لهذا الاحتمال، حيث قلنا أنّ الاحتمال الأوّل له تقريبان، التقريب الأوّل أن نلتزم بأنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك، والمراد بالضرر المنفي في (لا ضرر) ليس هو مطلق الضرر، وإنّما هو خصوص الضرر غير المتدارك، فيرِد هذا الاعتراض، ويقال: بأي وجهٍ تحملون الضرر وهو مطلق على حصّةٍ من حصصه مع عدم وجود قرينةٍ على ذلك ؟
وأمّا إذا قرّرنا الاحتمال الأوّل بالتقريب الثاني؛ حينئذٍ لا يلزم هذا المحذور؛ لأنّه بحسب التقريب الثاني المنفي هو طبيعي الضرر وليس حصّة خاصّة من الضرر، فالضرر لم يستعمل إلاّ في معناه الحقيقي وليس هناك تجوّز، لا في الكلمة ولا تعدد دال ومدلول. غاية الأمر أنّ المصحح لنفي الضرر مطلقاً هو ما تقدّم سابقاً من أنّ المصحح هو تشريع وجوب التدارك، بمعنى أنّ الشارع حكم بوجوب التدارك، فإذا حكم بوجوب التدارك؛ فحينئذٍ يستطيع أن يقول لا يوجد ضرر في الخارج مطلقاً، لا أنه ينفي خصوص الضرر غير المتدارك، وإنّما يقول لا ضرر في الخارج بلحاظ تشريع وجوب التدارك، فإذن: كل ضرر في الخارج هو متدارك ، باعتبار حكم الشارع بوجوب التدارك، وقلنا أنّ هذا يسوّغ نفي الضرر مطلقاً، مع وجود سلطة إجرائية على تنفيذ هذا الحكم، والمراد بالتدارك هو الضمان واشتغال الذمّة، فمع كل هذه الخصوصيات، إذن: لا يوجد ضرر في الخارج؛ لأنّ كل ضرر يكون متداركاً.
بناءً على هذا التقريب إذا تم ـــــ وسيأتي الكلام فيه ـــــ لا يرد عليه الاعتراض الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه)؛ لأنّه هنا لم يُستعمل الضرر في حصّةٍ من حصصه، لا على نحو التجوّز في الكلمة ولا على نحو تعدد الدال والمدلول، وإنّما المنفي هو طبيعي الضرر، لكن بلحاظ تشريع التدارك مع وجود سلطة تنفيذية لإجرائه. فإّن: هذا الإيراد إنّما يرِد على التقريب الأوّل لهذا الاحتمال.
الاعتراض الثالث: ما هو موجود في كلمات المحقق النائيني (قدّس سرّه) في قاعدة لا ضرر حسب نقل المقرر لبحثه، وحاصل ما ذكر المحقق النائيني (قدّس سرّه) في هذه القاعدة هو: ما يُفهم من كلام الفاضل التوني (قدّس سرّه) من أنّ مفاد لا ضرر هو لزوم التدارك، ويجعل لزوم التدارك مفاداً كنائياً للا ضرر، فتدل عليه كمدلول التزامي، لزوم التدارك الذي جعله كناية ومعنىً كنائي للا ضرر، تارةً يُفسّره على أنه مجرّد حكمٍ تكليفي(وجوب التدارك) أي أنّ الذي يضر غيره يجب عليه التدارك، فإذا كان هذا مقصوده؛ فحينئذٍ يرِد عليه ما تقدّم، أي يرِد عليه الاعتراض الأوّل للشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) بأنّ مجرّد تشريع التدارك لا يكفي لنفي الضرر، وإنّما الذي يكفي لنفي الضرر هو التدارك المتحقق في الخارج، هذا هو الذي يصحح نفي الضرر، أمّا مجرّد تشريع وجوب التدارك تكليفاً، فلا يصحح نفي الضرر. إذن: لا يصح نفي الضرر استناداً إلى تشريع وجوب التدارك تكليفاً، فلا نستطيع أن نقول لا ضرر؛ لأنّ هذا تضرر ودخله نقص ولم يحصل على شيء، مجرّد أنّ الشارع شرّع وجوب التدارك تكليفاً، هذا لا يفيده شيئاً ولا يسد عليه النقص حتى يقال أنّه لم يتضرر، فكيف يُنفى الضرر في الحديث ؟!
وأمّا إذا كان مراده من وجوب التدارك ليس وجوب التدارك تكليفاً، وإنّما مقصوده من وجوب التدارك هو الحكم الوضعي، أي الضمان واشتغال ذمّة الضامن للمضمون له ، فإذا كان هذا مقصوده، فهذا فيه بناءً على هذا الكلام سوف تكون قاعدة(لا ضرر) مدركاً لقاعدة فقهية لا عين لها ولا أثر في كلمات الفقهاء، باعتبار أنّ الفقهاء لم يذكروا الإضرار من أسباب الضمان إطلاقاً، ذكروا الاتلاف من أسباب الضمان، وذكروا التلف من اسباب الضمان، لكن الإضرار لم يُذكر كسببٍ من اسباب الضمان، ويؤكد هذا المطلب أنّ هناك روايات صحيحة ومعتبرة تقول أنّ في حالة الإضرار هناك ضمان(من أضرّ بطريق المسلمين شيئاً فهو ضامن)[2] ومضمون هذا الحديث موجود في روايات صحيحة، وحتى لو كانوا ـــــ مثلاً ـــــ في غفلةٍ عن كون الإضرار من أسباب الضمان، لكان المفروض أنّ هذا الحديث وأمثاله يُنبههم على أنّ أسباب الضمان ليست منحصرة بالإتلاف وأمثاله، وإنّما هي تشمل الإضرار، بالرغم من هذا نجدهم مصرّين على أنّ الإضرار ليس من أسباب الضمان، الإضرار بعنوانه ليس من أسباب الضمان، حتى في باب مسألة(من حفر بئراً في طريق المسلمين يكون ضامناً) يلتزمون بالضمان، لكن يخرّجوه على أساس الإتلاف بالتسبيب لا على أساس الإضرار، باعتبار أنّ التلف الحاصل هنا يُنسب إلى هذا السبب ولا يستند إلى المباشر، والمباشر غير السبب، لكن في هذه الحالة التلف يستند إلى السبب، فكأنّ الذي حفر البئر في طريق المسلمين يكون هو السبب، وقد أتلف مال غيره، فإذا أتلف يكون هناك ضمان، فخرّجوا الضمان حتى في مسألةٍ يمكن تطبيق هذا الحديث عليها(من أضر بطريق المسلمين فهو له ضامن) خرّجوا الضمان على أساس الإتلاف لا على اساس الإضرار، فمن هنا يُفهم أنّه في كلمات الفقهاء لا يوجد لا عين ولا اثر لكون الإضرار من أسباب الضمان بحيث يكون حاله حال الإتلاف، بينما بناءً على ما يقوله الفاضل التوني (قدّس سرّه) من أنّ المراد من لزوم التدارك هو الضمان واشتغال الذمّة؛ حينئذٍ سوف يكون الإضرار من اسباب الضمان واشتغال الذمّة، وهذا مما لم يلتزم به الفقهاء.