33/07/22
تحمیل
الموضوع: شرط جريان البراءة
بلحاظ البراءة الشرعية:
1) نقول بعدم وجوب الفحص لان في الشبهة الموضوعية قد حصل الايتاء للحاكم حتماً ونحن نعلم به ، فكبرى التكليف وأصلة ألينا حسب الفرض ، ولكن الصغرى والموضوع للكبرى لم نقطع به ، بل نشك فيه، وحينئذٍ وصول الكبرى لوحدها من دون القطع بالصغرى لا يؤثر شيئاً ولا ينجز التكليف.
إذن الواجب على المكلّف أن لا يتهرّب من وصول النتجة وعدم غمض العين عن وصول النتيجة .
إما إذا كان عدم الفحص لا يعدّ تهرّباً، فحينئذٍ تجري البراءة بلا فحص، أي لا يجب الفحص الكامل في الشبهة الموضوعية ولا يجب استفراغ الوسع ، إذا قد يتعب الإنسان من الفحص فلا يصدق عليه عنوان التهرب.
2) إذا شككت في نجاسة ماء خارجي، وأحتملت وجود خبر ثقة يخبر عن نجاسة هذا الماء الخارجي ، فهنا لا يجب الفحص عن خبر الثقة، وذلك لوجود مؤمّن يقول بعدم وجود خبر ثقة يخبر عن النجاسة وهو استصحاب عدم وجود خبر ثقة وهذا الاستصحاب لا معارض له لعدم وجود علم إجمالي هنا.
نعم يجب الفحص بمقدار لا يصدق عليه عنوان التهرّب من فهم الحقيقة ووصول الواقع ، وهذا لا يستدعي الاستقصاء الكامل.
3) الموضوعات لا يجب تعلّمها، فالأخبار الدالة على وجوب التعلّم للشريعة منصرفة إلى تعلّم الأحكام، فالشبهة الموضوعية لا يوجد أثر يدل على وجوب تعلّمها فتجري فيها البراءة، ولكن بالحدّ الذي لا يعدّ عدم الفحص تهرّباً من الحقيقة التي هي موضوع حكم المولى.
إذن النتيجة: وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بحدٍّ لا يعدّ تهرباً عن الحقيقة والوصول إليها، وأما الاستقصاء الكامل واستفراغ الوسع للفحص في الشبهات الموضوعية فلا دليل عليه.
ولكن وردت روايات خاصة صريحة في عدم وجوب الفحص حتّى بهذه المرتبة التي تعدّ تهرّباً عن الوصول إلى الحقيقة وهي النظر، إلا أنها مختصة بباب الطهارة والنجاسة وباب الميتة ، فمن الروايات صحيحة زرارة الثانية في باب الاستصحاب القائلة : «فهل عليّ إن شككت في أنه أصابه شيء [من دم رعاف أو منيّ أو شيء آخر من النجاسات] أن انظر فيه؟ فقال: لا ، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك»(
[1]
)، فقد دلت على جواز غمض العين والتهرّب من الوصول إلى الحقيقة.
ومنها: ما ورد في باب الطهارة والنجاسة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث يقول: «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم»(
[2]
)، ومنها ما ورد في الجبن كرواية عبد الله بن سليمان قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»(
[3]
)، فهي لا توجب الفحص ولا بمرتبة التحرك البسيط والسؤال بل تقول: إذا جاءك شاهدان وأنت في مكانك بلا حاجة إلى أي تحرّك وفحص ولو بمرتبة تعدّ تهربا من الوصول إلى الحقيقة.
إذن هذه الروايات تقول: لا يجب الفحص حتّى بمقدار فتح العين والتحرك البسيط في الشبهات الموضوعية إلا أنها مخصوصة بالطهارة والنجاسة والميتة فلا تشمل تمام الشبهات الموضوعية كما في الشكّ في قدرته على الاستطاعة المالية أو وجوب الخمس عليه بالربح الزائد الذي يتوقف على مراجعة دفاتر الصادرات والواردات فيفهم الربح ومقداره.
مقدار الفحص: من حيث السند (النقل) والدلالة:
اما من حيث السند والنقل: فان المولى الحقيقي كانت عادته في تبليغ الأحكام عن طريق أخبار الثقات ، وقال: لا ينبغي التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا . وحينئذٍ لابدّ من الفحص عن كل خبر ثقة ولو فرض وجوده في غير الكتب الأربعة ، أو كان موجوداً في موسوعات أهل السنة أو حتّى كتب اللغة أو التاريخ مثلاً ، لان هذه الكتب قد وصفت فيها الأخبار وهي في معرض وصولها ألينا، فلابدّ من الفحص في كل كتاب يحوي أخبار الثقات المرتبطة بالأحكام وموضوعاتها حتّى يحصل الاطمئنان بالعدم فتجري البراءة.
نعم قد يحصل للمجتهد اطمئنان من مراجعة الروايات الموجودة في كتب أصحابنا لان احتمال غفلتهم عن أحكام الله مع تمام حرصهم على الاستيعاب والتتبع جيلا بعد جيل بعيد جداً ولكن لو لم يحصل للمجتهد اطمئنان من مراجعة رواياتنا فيجب عليه ان يراجع موارد أخبار الثقات في كتب العامة وأهل اللغة والتاريخ إذا احتمل وجود أحكام فيها بواسطة أخبار الثقات.
فائدة: نبّه عليها المحقق النائيني وهي ان كتاب وسائل الشيعة مرتبّ على حسب ترتيب كتاب الشرائع، فالمسالة الموجودة في الشرائع يتعرض لها صاحب الوسائل ويذكر رواياتها لو كانت فيها روايات ، فان لم يذكر لها روايات في الباب المناسب لها يحصل الاطمئنان بعدم وجود رواية في هذه المسألة. نعم الفروع التي لم توجد في كتاب الشرائع ، فعدم وجود رواية في بابه المناسب له قد لا يوجب الاطمئنان بالعدم.
اما من ناحية الدلالة: لابدّ للمجتهد أن يفحص بمقدار خبرته الذاتية وقدراته في فهم المعنى من اللفظ بالنحو المتعارف بين الخبراء في تلك المادة ، وقد يستفيد من خبرات السابقين في فهم المعنى «كم ترك الأول للأخر» وهذا هو الذي يكون مرتكزاً في الأذهان العقلائية للفحص لا أكثر، ولا يجب عليه أن يراجع العلماء الذين هم أعلم منه لأنّ أخبار التعلّم منصرفة إلى التعلمّ بالنحو المتعارف والتأمل بالمقدار المتعارف من دون الرجوع إلى الأعلم لمجرد احتمال التفاته إلى نكتة لم يلتفت إليها المتعلّم.
البحث الثالث: هل يشترط في جريان البراءة عدم استلزامها للضرر على مسلم آخر؟ فقد ذكر الفاضل التوني ذلك من شرائط جريان البراءة وقد أشكل عليه : ان سلم أن في مورد البراءة ضرر على مسلم فقاعدة لا ضرر حاكمة على الإمارات فضلا عن البراءة ، فلا يكون هذا شرط مستقل لجريان البراءة ، بل لا يكون مورد لأصل البراءة إذا حصل ضرر منها على فرد مسلم.
وقد نقول >كما قال السيد الخوئي< بان قاعدة لا ضرر حتّى وان لم تكن تامة فلا تجري البراءة مع وجود ضرر على مسلم لان البراءة أصل امتناني، ولا منة إذا كان فيها ضرر على مسلم لان البراءة أصل امتناني على الأمة : رفع عنها أمتي ما لا يعلمون، فان كان فيها ضرر على مسلم فلا منة على الأمة، بل ستكون البراءة خلاف الامتنان على الآخرين.
ولكن قد يقال: ان البراءة العقلية التي منشؤها قبح العقاب بلا بيان وهي حكم عقلي يمكن تقييدها بعدم ضرر على مسلم آخر وكذا بقيّة أدلة البراءة من القرآن الكريم كآية: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } فهي دالة على البراءة الشرعية وكذا صحيحة عبد الصمد أيما رجل ارتكب أمراً بجهالة فلا شيء عليه، وعبد الأعلى من لا يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال لا، الدالة على البراءة الشرعية فيمكن ان يقال بتقييدها بعدم وجود ضرر على مسلم آخر لأنها ترفع العقاب عن مجريها الا أنها لا يمكن أن توجب ضرراً على غير المجري. فلاحظ.
هذا آخر ما يُبين في تنبيهات البراءة من عدم جواز العمل بالبراءة إلا بعد الفحص في الشبهات الحكمية والموضوعية إذا كان عدم الفحص يعدّ تهرباً من معرفة الحقيقة التي يترتب عليها حكم الله تعالى.
والحمد لله أولاً وأخراً
22/ رجب1433هـ
[1] () الوسائل: ج2، باب37 من النجاسات: ح1.
[2] () نفس المصدر السابق: ح5.
[3] () الوسائل: ج17، باب61 من الأطعمة المباحة: ح2.