37/03/30
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
في الدرس السابق ذكرنا الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لإثبات وجوب الفحص في الشبهة الحكمية وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، وهو الاستدلال بأخبار التوقف بالبيان الذي نقلناه عنه سابقاً، حيث يقسّم أخبار التوقف إلى قسمين، قسم وارد في ما قبل الفحص، وقسم مطلق، وهذا الوارد في ما قبل الفحص يوجب التوقف في ما قبل الفحص، ويخصص أخبار البراءة؛ لأنّ نسبته إليها نسبة الخاص إلى العام، فيوجب حمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص، فإذا اختصت أخبار البراءة بما بعد الفحص تكون أخص مطلقاً من أخبار التوقف المطلقة، فيوجب حمل أخبار التوقف على ما قبل الفحص؛ وحينئذٍ يثبت المطلوب، وهو أنّ أخبار التوقف إمّا مختصة بما قبل الفحص وهو المطلوب، وتأمر بالتوقف في الشبهة قبل الفحص، وأخبار التوقف المطلقة أيضاً لابدّ من حملها على ذلك بعد انقلاب النسبة بالترتيب الذي ذكره.
ويُلاحظ على هذا المطلب:
الملاحظة الأولى: أنّ أخبار التوقف من القسم الثاني، يعني التي ادُّعي أنّها مختصة بما قبل الفحص، اختصاصها بما قبل الفحص لابدّ من التأمل فيه، فإنّه يُحتمل في هذا الاختصاص احتمالان:
الاحتمال الأول: أنّ اختصاصها بما قبل الفحص باعتبار أنّ حالة ما قبل الفحص هي مورد لها؛ فحينئذٍ حالة ما قبل الفحص تكون بمثابة القدر المتيقن من هذه الأخبار، والاختصاص يُراد به أنّ أخبار التوقف من القسم الثاني موردها حالة ما قبل الفحص، فتكون حالة ما قبل الفحص قدراً متيقناً من هذه الأخبار.
الاحتمال الثاني: أن يكون اختصاصها بما قبل الفحص ليس من جهة أنّها القدر المتيقن منها أو كونها مورداً لها، وإنّما هي مختصة بحالة ما قبل الفحص ومفادها هو وجوب الوقّف قبل الفحص عن الشبهة على غرار(لا تكرم زيداً) بالنسبة إلى(أكرم العلماء)، فلا تكرم زيداً يوجب الاختصاص، هذا ليس من جهة أنّه مورد له وقدر متيقّن منه؛ بل هو مفاده النهي عن إكرام زيد، ويكون أخص من دليل وجوب إكرام العالم. فهذا الاختصاص في المقام بالنسبة إلى النوع الثاني من أخبار التوقف فيه هذان الاحتمالان.
على الاحتمال الأوّل، إذا كانت حالة ما قبل الفحص مجرّد موردٍ لهذا القسم من الأخبار وقدراً متيقناً منها؛ حينئذٍ الصحيح هو أنّ هذا لا يكون منشئاً للقرينية ولا منشئاً لتقديم هذا الدليل على الأخبار الأخرى المعارضة له التي تكون مطلقة؛ لأنه قال بأنّ القسم الثاني من أخبار التوقف تُقدّم بالتخصيص على أخبار البراءة، هذا النوع من الاختصاص لا يكون قرينة على التقديم وعلى هذا الجمع العرفي، مجرّد أنّ هذا قدر متيقن من الدليل لا يكون منشئاً للقرينية التي هي الملاك في تقديم الخاص على العام، فلا يكون منشئاً لتقديم الخاص على الدليل العام، وهذا نظير ما في المثال المعروف(ثمن العذرة سحت) و(لا بأس ببيع العذرة)، لو فرضناً أنّ المتيقن من(ثمن العذرة سحت) هو عذرة الإنسان، لكن هذا لا يوجب تخصيص(لا بأس ببيع العذرة)، كما أنّ كون القدر المتيقن من(لا بأس ببيع العذرة) هو عذرة غير الإنسان أيضاً لا يوجب تخصيص الدليل الدال على أنّ ثمن العذرة سحت؛ بل يُتعامل مع هذين الدليلين معاملة الدليلين المتعارضين المتباينين التي تكون النسبة بينهما نسبة التباين، فيما نحن فيه عندنا دليل البراءة مطلق يشمل ما قبل الفحص وما بعد الفحص، القسم الثاني من أخبار التوقف أيضاً مطلق، وإنّما حالة ما قبل الفحص ــــــــ بحسب الفرض ـــــــ هي مورد له وقدر متيقن منه، وهذا لا يوجب أن يكون قرينة على تخصيص دليل البراءة، وتقديمه بالتخصيص على دليل البراءة، ومجرّد كون حالة ما قبل الفحص قدراً متيقناً من القسم الثاني من أخبار التوقف لا يوجب أن يكون هذا الدليل أخص مطلقاً من ذاك؛ بل تبقى النسبة بينهما هي التباين؛ وحينئذٍ لا وجه لهذا التخصيص. هذا إذا فرضنا أنّه كان المقصود الاختصاص هذا، في عبارة السيد الخوئي(قدّس سرّه) ورد أنّ جملة من أخبار التوقف موردها هو الشبهة قبل الفحص، قد يُفسّر، وإن كان بعيد، أنّ (موردها هو الشبهة قبل الفحص) المراد به أنّ هذا مورد له فقط وقدر متيقن منه، فإذا كان هذا هو المقصود، فجوابه هو أنّ هذا ليس ملاكاً للتقديم وليس ملاكاً للقرينية التي تكون موجبة لتقديم الخاص على العام. الاحتمال الثاني يقول أنّ مقصوده هو اختصاص هذا القسم من أخبار التوقف بالشبهة قبل الفحص من جهة أنّ مفاده هو وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص الذي قلنا أنّه على غرار (لا تكرم زيداً) بالنسبة إلى (أكرم العالم) هو مفاده حرمة إكرام زيد، يقول: فيُدّعى حينئذٍ أنّ هذا يكون أخص مطلقاً من أخبار البراءة، فيُخصصها، ويوجب حمل أخبار البراءة بعد التخصيص على ما بعد الفحص. هذا وحده يثبت المطلوب بلا حاجة إلى أن نضم إلى ذلك كبرى انقلاب النسبة. المطلوب عندنا هو إثبات وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، أي وجوب التوقف قبل الفحص. هذا هو محل كلامنا، إذا كان هذا النوع من الأخبار مختص بحالة ما قبل الفحص ويدل على وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص؛ حينئذٍ يكون هذا أخص مطلقاً من أخبار البراءة؛ وحينئذٍ يتم المطلوب ويثبت وجوب التوقف قبل الفحص استناداً إلى هذا الدليل، ولا يمنع منه أخبار البراءة؛ لأنّها خُصصت به وحُملت على ما بعد الفحص.
توضيح هذه النقطة بالخصوص: القسم الثاني من أخبار التوقف الذي ذكره بناءً على أنّ مفاده هو الاختصاص، يعني وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، هذا تارةً نفترض أنّ مفاده هو اختصاص وجوب التوقف بالشبهة قبل الفحص ونفيه عمّا عداه بحيث يكون له ما يشبه المفهوم، فهو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص وينفي وجوب التوقف في الشبهة بعد الفحص. وتارة نفترض أنّ مفاده هو مجرّد إثبات وجوب التوقف قبل الفحص ولا يتعرّض إلى حالة الشبهة بعد الفحص وليس له نظر إلى ذلك.
بناءً على الأوّل إذا كان له مفهوم، أي أنّه كما يثبت وجوب التوقف قبل الفحصينفي وجوب التوقف عمّا عدا هذه الحالة؛ حينئذٍ يكون منافياً لنوعين من الأدلة؛ لأنّه كما ينافي أدلة البراءة كذلك ينافي أخبار التوقف المطلقة التي هي القسم الأول من أخبار التوقف، أمّا أنّه ينافي أخبار البراءة؛ فلأنها ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ مطلقة تدل على جريان البراءة قبل الفحص وبعد الفحص في حين هو يثبت وجوب التوقف بعد الفحص. وأمّا أنّه ينافي أخبار التوقف المطلقة، أي القسم الأول من أخبار التوقف؛ فلأنّ أخبار التوقف بمقتضى إطلاقها تثبت وجوب التوقف قبل الفحص وبعد الفحص، في حين أنّ القسم الثاني من أخبار التوقف إذا كان له مفهوم هو ينفي وجوب التوقف بعد الفحص، فيكون منافياً لأخبار التوقف، وهذا معناه أنّ هذا الخبر بمنطوقه يخصص أخبار البراءة، وبمفهومه يخصص أخبار التوقف المطلقة، وبالنتيجة حينئذٍ سوف يكون عندنا أخبار التوقف كلّها لا يمكن أن يُستدل بها إلاّ على وجوب التوقف قبل الفحص، أمّا القسم الثاني؛ فلأنّ المفروض أنّ هذا هو مفاده، وأمّا القسم الأول؛ فلأنه خُصص بأخبار التوقف من النوع الثاني وحُملت أخبار التوقف المطلقة على ما قبل الفحص، فبالنتيجة أخبار التوقف كلّها يكون لها مفاد واحد وهو وجوب التوقف قبل الفحص؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة، في ما هو المقصود لنا هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص؛ وحينئذٍ يمكننا أن نستدل على ذلك بأخبار التوقف من القسم الثاني ومن القسم الأول أيضاً؛ لأنّ أخبار التوقف من القسم الأول أيضاً خُصصت بأخبار التوقف من القسم الثاني إذا كان مفادها هو نفي وجوب التوقف عمّا عدا موردها؛ وحينئذٍ يثبت وجوب التوقف قبل الفحص في محل الكلام، وهذا هو المطلوب بحسب الفرض.
وبعبارة أخرى: هنا يثبت مطلوبنا بلا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة وذلك لأنّه لا يبقى لنا بعد هذا البيان الذي قلناه ما يدل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نلاحظ ما هي النسبة بينه وبين أخبار البراءة بعد تخصيصها بالقسم الثاني من أخبار التوقف، كبرى انقلاب النسبة مبنية على افتراض أنّ أخبار البراءة التي كانت مباينة لأخبار التوقف المطلقة وكانت النسبة بينهما هي التباين، كل منهما كان مطلقاً، بعد تخصيصها بأخبار التوقف من القسم الثاني تنقلب هذه النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقف المطلقة من التباين إلى العموم المطلق، فتكون أخبار البراءة أخص مطلقاً من أخبار التوقف. بناءً على ما ذكرناه لا يبقى عندنا ما يدل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نضطر إلى ملاحظة النسبة بينه وبين أخبار البراءة، ونقول أنّ النسبة بينهما وإن كانت هي التباين إلاّ أنّ هذه النسبة انقلبت بعد تخصيص أخبار البراءة بأخبار التوقف من القسم الثاني، فتنقلب إلى العموم والخصوص المطلق، فتُخصص أخبار التوقف المطلقة بأخبار البراءة بعد تخصيصها بأخبار التوقف من القسم الثاني. لا نحتاج إلى كلّ هذا ؛ لأن غرضنا هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص وهذا يتحقق في محل الكلام ويمكن الاستدلال عليه بأخبار التوقف، سواء كانت من القسم الثاني أو من القسم الأوّل، ومعه لا يبقى دليل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نقول ما هي النسبة بينه وبين أخبار البراءة، وهل تنقلب النسبة أو لا تنقلب النسبة ؟
نعم، إذا كان المقصود في المقام ليس هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص فقط؛ بل إثبات عدم وجوب التوقف بعد الفحص، إذا كان هذا هو المطلوب؛ حينئذٍ نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّ ما يُستدل به عدم وجوب التوقف بعد الفحص، أي على جريان البراءة بعد الفحص هو دليل البراءة، وهو يكون معارضاً بأخبار التوقف المطلقة، دليل البراءة كما يدل على جريان البراءة قبل الفحص وبعد الفحص أخبار التوقف من القسم الأول إذا كانت مطلقة؛ حينئذٍ تدل على وجوب التوقف قبل الفحص وبعد الفحص؛ فحينئذٍ نحتاج إلى تخصيص أخبار التوقف ومنعها من الشمول لما بعد الفحص حتى نستطيع أن نستدل بأخبار البراءة.
وبعبارة أخرى: أنّ أخبار البراءة التي يُستدل بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص لابدّ أن تُلحظ نسبتها لكي يصح الاستدلال بها إلى أخبار التوقف المطلقة، فنقول ما هي نسبتها ؟ هل هي نسبة العموم المطلق، أو نسبة التباين ؟ إذا كانت هي نسبة التباين، فلا يصح الاستدلال بها على جريان البراءة بعد الفحص؛ إذ النسبة هي التباين وهما متعارضان فيما بينهما، فلا يصح الاستدلال بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص، وإنّما يصح الاستدلال بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص إذا كانت مخصصة لأخبار التوقف المطلقة؛ حينئذٍ لا مانع من الاستدلال بها؛ لأنّها أخص مطلقاً من أخبار التوقف، انقلبت النسبة، فصارت أخص مطلقاً وأخرجنا ما بعد الفحص من أدلة التوقف المطلقة؛ فحينئذٍ يصح الاستدلال بها، فلابدّ من ملاحظة النسبة بين هذين الدليلين.
وأمّا إذا قلنا أنّ المقصود هو فقط إثبات وجوب التوقف قبل الفحص، في هذه الحالة الظاهر أنّه لا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة. هذا كلّه بناءً على الاحتمال الأوّل وهو أن يكون مفاد أخبار التوقف من القسم الثاني لها مفهوم.
على الاحتمال الثاني الذي هو أن يكون مفاد أخبار التوقف من القسم الثاني هو مجرّد إثبات وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص من دون أن يكون لها مفهوم. بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا تكون هذه الأخبار منافية لأخبار التوقف المطلقة من القسم الأول؛ لأنّ هذا يثبت وجوب التوقف مطلقاً وهذا أيضاً يثبت وجوب التوقف في حالة معينة؛ ولذلك لا يكون القسم الثاني من أخبار التوقف مخصصاً لأخبار التوقف من القسم الأول، وإنّما يكون هذا القسم من أخبار التوقف منافياً لأخبار البراءة؛ لأنّ هذا يقول قبل الفحص يجب التوقف، وأخبار البراءة المطلقة تقول أيضاً قبل الفحص لا يجب التوقف، فتكون حينئذٍ أخص مطلقاً من أخبار البراءة وتكون منافية لها وأخص مطلقاً منها؛ وحينئذٍ تكون مخصصة لأخبار البراءة وموجبة لحملها على حالة ما بعد الفحص. هذا المقدار يكفينا لإثبات المطلوب الذي هو وجوب التوقف قبل الفحص، إلى هنا يمكن إثبات المطلوب بلا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّه يمكننا أن نستدل بأخبار التوقف من القسم الثاني على وجوب التوقف قبل الفحص، وما ينافي هذا هو فقط أخبار البراءة ولا تنافيه أخبار التوقف المطلقة، وإنّما الذي ينافيه هو أخبار البراءة، نقيّد أخبار البراءة بهذا النوع من أخبار التوقف، ونحمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص؛ وحينئذٍ تنتهي المشكلة؛ وحينئذٍ يثبت وجوب التوقف قبل الفحص وهذا الدليل في مفاده وفي ما يُراد إثبات التوقف فيه لا تعارضه أخبار التوقف المطلقة، وإنّما الذي يعارضه هو أخبار البراءة، وهو أخص منها مطلقاً؛ فحينئذٍ يخصصها، فيمكن الاستدلال به على وجوب التوقف قبل الفحص.
نعم، إذا كان المقصود ليس هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص؛ بل إثبات عدم وجوب التوقف بعد الفحص؛ فحينئذٍ نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّ دليل البراءة حينئذٍ يكون له معارض وهو أخبار التوقف المطلقة؛ لأننا لم نخصص أخبار التوقف المطلقة بالنوع الثاني من أخبار التوقف، فحتى نستدل بدليل البراءة على عدم وجوب التوقف بعد الفحص لابدّ من علاج معارضته ب أخبار التوقف المطلقة التي تدل على وجوب التوقف حتى بعد الفحص، فإذا كان له معارض؛ فحينئذٍ لا يمكن الاستدلال به على عدم وجوب التوقف بعد الفحص، وعلاج التعارض موقوف على كبرى انقلاب النسبة.
في الدرس السابق ذكرنا الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لإثبات وجوب الفحص في الشبهة الحكمية وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، وهو الاستدلال بأخبار التوقف بالبيان الذي نقلناه عنه سابقاً، حيث يقسّم أخبار التوقف إلى قسمين، قسم وارد في ما قبل الفحص، وقسم مطلق، وهذا الوارد في ما قبل الفحص يوجب التوقف في ما قبل الفحص، ويخصص أخبار البراءة؛ لأنّ نسبته إليها نسبة الخاص إلى العام، فيوجب حمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص، فإذا اختصت أخبار البراءة بما بعد الفحص تكون أخص مطلقاً من أخبار التوقف المطلقة، فيوجب حمل أخبار التوقف على ما قبل الفحص؛ وحينئذٍ يثبت المطلوب، وهو أنّ أخبار التوقف إمّا مختصة بما قبل الفحص وهو المطلوب، وتأمر بالتوقف في الشبهة قبل الفحص، وأخبار التوقف المطلقة أيضاً لابدّ من حملها على ذلك بعد انقلاب النسبة بالترتيب الذي ذكره.
ويُلاحظ على هذا المطلب:
الملاحظة الأولى: أنّ أخبار التوقف من القسم الثاني، يعني التي ادُّعي أنّها مختصة بما قبل الفحص، اختصاصها بما قبل الفحص لابدّ من التأمل فيه، فإنّه يُحتمل في هذا الاختصاص احتمالان:
الاحتمال الأول: أنّ اختصاصها بما قبل الفحص باعتبار أنّ حالة ما قبل الفحص هي مورد لها؛ فحينئذٍ حالة ما قبل الفحص تكون بمثابة القدر المتيقن من هذه الأخبار، والاختصاص يُراد به أنّ أخبار التوقف من القسم الثاني موردها حالة ما قبل الفحص، فتكون حالة ما قبل الفحص قدراً متيقناً من هذه الأخبار.
الاحتمال الثاني: أن يكون اختصاصها بما قبل الفحص ليس من جهة أنّها القدر المتيقن منها أو كونها مورداً لها، وإنّما هي مختصة بحالة ما قبل الفحص ومفادها هو وجوب الوقّف قبل الفحص عن الشبهة على غرار(لا تكرم زيداً) بالنسبة إلى(أكرم العلماء)، فلا تكرم زيداً يوجب الاختصاص، هذا ليس من جهة أنّه مورد له وقدر متيقّن منه؛ بل هو مفاده النهي عن إكرام زيد، ويكون أخص من دليل وجوب إكرام العالم. فهذا الاختصاص في المقام بالنسبة إلى النوع الثاني من أخبار التوقف فيه هذان الاحتمالان.
على الاحتمال الأوّل، إذا كانت حالة ما قبل الفحص مجرّد موردٍ لهذا القسم من الأخبار وقدراً متيقناً منها؛ حينئذٍ الصحيح هو أنّ هذا لا يكون منشئاً للقرينية ولا منشئاً لتقديم هذا الدليل على الأخبار الأخرى المعارضة له التي تكون مطلقة؛ لأنه قال بأنّ القسم الثاني من أخبار التوقف تُقدّم بالتخصيص على أخبار البراءة، هذا النوع من الاختصاص لا يكون قرينة على التقديم وعلى هذا الجمع العرفي، مجرّد أنّ هذا قدر متيقن من الدليل لا يكون منشئاً للقرينية التي هي الملاك في تقديم الخاص على العام، فلا يكون منشئاً لتقديم الخاص على الدليل العام، وهذا نظير ما في المثال المعروف(ثمن العذرة سحت) و(لا بأس ببيع العذرة)، لو فرضناً أنّ المتيقن من(ثمن العذرة سحت) هو عذرة الإنسان، لكن هذا لا يوجب تخصيص(لا بأس ببيع العذرة)، كما أنّ كون القدر المتيقن من(لا بأس ببيع العذرة) هو عذرة غير الإنسان أيضاً لا يوجب تخصيص الدليل الدال على أنّ ثمن العذرة سحت؛ بل يُتعامل مع هذين الدليلين معاملة الدليلين المتعارضين المتباينين التي تكون النسبة بينهما نسبة التباين، فيما نحن فيه عندنا دليل البراءة مطلق يشمل ما قبل الفحص وما بعد الفحص، القسم الثاني من أخبار التوقف أيضاً مطلق، وإنّما حالة ما قبل الفحص ــــــــ بحسب الفرض ـــــــ هي مورد له وقدر متيقن منه، وهذا لا يوجب أن يكون قرينة على تخصيص دليل البراءة، وتقديمه بالتخصيص على دليل البراءة، ومجرّد كون حالة ما قبل الفحص قدراً متيقناً من القسم الثاني من أخبار التوقف لا يوجب أن يكون هذا الدليل أخص مطلقاً من ذاك؛ بل تبقى النسبة بينهما هي التباين؛ وحينئذٍ لا وجه لهذا التخصيص. هذا إذا فرضنا أنّه كان المقصود الاختصاص هذا، في عبارة السيد الخوئي(قدّس سرّه) ورد أنّ جملة من أخبار التوقف موردها هو الشبهة قبل الفحص، قد يُفسّر، وإن كان بعيد، أنّ (موردها هو الشبهة قبل الفحص) المراد به أنّ هذا مورد له فقط وقدر متيقن منه، فإذا كان هذا هو المقصود، فجوابه هو أنّ هذا ليس ملاكاً للتقديم وليس ملاكاً للقرينية التي تكون موجبة لتقديم الخاص على العام. الاحتمال الثاني يقول أنّ مقصوده هو اختصاص هذا القسم من أخبار التوقف بالشبهة قبل الفحص من جهة أنّ مفاده هو وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص الذي قلنا أنّه على غرار (لا تكرم زيداً) بالنسبة إلى (أكرم العالم) هو مفاده حرمة إكرام زيد، يقول: فيُدّعى حينئذٍ أنّ هذا يكون أخص مطلقاً من أخبار البراءة، فيُخصصها، ويوجب حمل أخبار البراءة بعد التخصيص على ما بعد الفحص. هذا وحده يثبت المطلوب بلا حاجة إلى أن نضم إلى ذلك كبرى انقلاب النسبة. المطلوب عندنا هو إثبات وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، أي وجوب التوقف قبل الفحص. هذا هو محل كلامنا، إذا كان هذا النوع من الأخبار مختص بحالة ما قبل الفحص ويدل على وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص؛ حينئذٍ يكون هذا أخص مطلقاً من أخبار البراءة؛ وحينئذٍ يتم المطلوب ويثبت وجوب التوقف قبل الفحص استناداً إلى هذا الدليل، ولا يمنع منه أخبار البراءة؛ لأنّها خُصصت به وحُملت على ما بعد الفحص.
توضيح هذه النقطة بالخصوص: القسم الثاني من أخبار التوقف الذي ذكره بناءً على أنّ مفاده هو الاختصاص، يعني وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، هذا تارةً نفترض أنّ مفاده هو اختصاص وجوب التوقف بالشبهة قبل الفحص ونفيه عمّا عداه بحيث يكون له ما يشبه المفهوم، فهو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص وينفي وجوب التوقف في الشبهة بعد الفحص. وتارة نفترض أنّ مفاده هو مجرّد إثبات وجوب التوقف قبل الفحص ولا يتعرّض إلى حالة الشبهة بعد الفحص وليس له نظر إلى ذلك.
بناءً على الأوّل إذا كان له مفهوم، أي أنّه كما يثبت وجوب التوقف قبل الفحصينفي وجوب التوقف عمّا عدا هذه الحالة؛ حينئذٍ يكون منافياً لنوعين من الأدلة؛ لأنّه كما ينافي أدلة البراءة كذلك ينافي أخبار التوقف المطلقة التي هي القسم الأول من أخبار التوقف، أمّا أنّه ينافي أخبار البراءة؛ فلأنها ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ مطلقة تدل على جريان البراءة قبل الفحص وبعد الفحص في حين هو يثبت وجوب التوقف بعد الفحص. وأمّا أنّه ينافي أخبار التوقف المطلقة، أي القسم الأول من أخبار التوقف؛ فلأنّ أخبار التوقف بمقتضى إطلاقها تثبت وجوب التوقف قبل الفحص وبعد الفحص، في حين أنّ القسم الثاني من أخبار التوقف إذا كان له مفهوم هو ينفي وجوب التوقف بعد الفحص، فيكون منافياً لأخبار التوقف، وهذا معناه أنّ هذا الخبر بمنطوقه يخصص أخبار البراءة، وبمفهومه يخصص أخبار التوقف المطلقة، وبالنتيجة حينئذٍ سوف يكون عندنا أخبار التوقف كلّها لا يمكن أن يُستدل بها إلاّ على وجوب التوقف قبل الفحص، أمّا القسم الثاني؛ فلأنّ المفروض أنّ هذا هو مفاده، وأمّا القسم الأول؛ فلأنه خُصص بأخبار التوقف من النوع الثاني وحُملت أخبار التوقف المطلقة على ما قبل الفحص، فبالنتيجة أخبار التوقف كلّها يكون لها مفاد واحد وهو وجوب التوقف قبل الفحص؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة، في ما هو المقصود لنا هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص؛ وحينئذٍ يمكننا أن نستدل على ذلك بأخبار التوقف من القسم الثاني ومن القسم الأول أيضاً؛ لأنّ أخبار التوقف من القسم الأول أيضاً خُصصت بأخبار التوقف من القسم الثاني إذا كان مفادها هو نفي وجوب التوقف عمّا عدا موردها؛ وحينئذٍ يثبت وجوب التوقف قبل الفحص في محل الكلام، وهذا هو المطلوب بحسب الفرض.
وبعبارة أخرى: هنا يثبت مطلوبنا بلا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة وذلك لأنّه لا يبقى لنا بعد هذا البيان الذي قلناه ما يدل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نلاحظ ما هي النسبة بينه وبين أخبار البراءة بعد تخصيصها بالقسم الثاني من أخبار التوقف، كبرى انقلاب النسبة مبنية على افتراض أنّ أخبار البراءة التي كانت مباينة لأخبار التوقف المطلقة وكانت النسبة بينهما هي التباين، كل منهما كان مطلقاً، بعد تخصيصها بأخبار التوقف من القسم الثاني تنقلب هذه النسبة بين أخبار البراءة وأخبار التوقف المطلقة من التباين إلى العموم المطلق، فتكون أخبار البراءة أخص مطلقاً من أخبار التوقف. بناءً على ما ذكرناه لا يبقى عندنا ما يدل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نضطر إلى ملاحظة النسبة بينه وبين أخبار البراءة، ونقول أنّ النسبة بينهما وإن كانت هي التباين إلاّ أنّ هذه النسبة انقلبت بعد تخصيص أخبار البراءة بأخبار التوقف من القسم الثاني، فتنقلب إلى العموم والخصوص المطلق، فتُخصص أخبار التوقف المطلقة بأخبار البراءة بعد تخصيصها بأخبار التوقف من القسم الثاني. لا نحتاج إلى كلّ هذا ؛ لأن غرضنا هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص وهذا يتحقق في محل الكلام ويمكن الاستدلال عليه بأخبار التوقف، سواء كانت من القسم الثاني أو من القسم الأوّل، ومعه لا يبقى دليل على وجوب التوقف مطلقاً حتى نقول ما هي النسبة بينه وبين أخبار البراءة، وهل تنقلب النسبة أو لا تنقلب النسبة ؟
نعم، إذا كان المقصود في المقام ليس هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص فقط؛ بل إثبات عدم وجوب التوقف بعد الفحص، إذا كان هذا هو المطلوب؛ حينئذٍ نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّ ما يُستدل به عدم وجوب التوقف بعد الفحص، أي على جريان البراءة بعد الفحص هو دليل البراءة، وهو يكون معارضاً بأخبار التوقف المطلقة، دليل البراءة كما يدل على جريان البراءة قبل الفحص وبعد الفحص أخبار التوقف من القسم الأول إذا كانت مطلقة؛ حينئذٍ تدل على وجوب التوقف قبل الفحص وبعد الفحص؛ فحينئذٍ نحتاج إلى تخصيص أخبار التوقف ومنعها من الشمول لما بعد الفحص حتى نستطيع أن نستدل بأخبار البراءة.
وبعبارة أخرى: أنّ أخبار البراءة التي يُستدل بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص لابدّ أن تُلحظ نسبتها لكي يصح الاستدلال بها إلى أخبار التوقف المطلقة، فنقول ما هي نسبتها ؟ هل هي نسبة العموم المطلق، أو نسبة التباين ؟ إذا كانت هي نسبة التباين، فلا يصح الاستدلال بها على جريان البراءة بعد الفحص؛ إذ النسبة هي التباين وهما متعارضان فيما بينهما، فلا يصح الاستدلال بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص، وإنّما يصح الاستدلال بها على عدم وجوب التوقف بعد الفحص إذا كانت مخصصة لأخبار التوقف المطلقة؛ حينئذٍ لا مانع من الاستدلال بها؛ لأنّها أخص مطلقاً من أخبار التوقف، انقلبت النسبة، فصارت أخص مطلقاً وأخرجنا ما بعد الفحص من أدلة التوقف المطلقة؛ فحينئذٍ يصح الاستدلال بها، فلابدّ من ملاحظة النسبة بين هذين الدليلين.
وأمّا إذا قلنا أنّ المقصود هو فقط إثبات وجوب التوقف قبل الفحص، في هذه الحالة الظاهر أنّه لا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة. هذا كلّه بناءً على الاحتمال الأوّل وهو أن يكون مفاد أخبار التوقف من القسم الثاني لها مفهوم.
على الاحتمال الثاني الذي هو أن يكون مفاد أخبار التوقف من القسم الثاني هو مجرّد إثبات وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص من دون أن يكون لها مفهوم. بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا تكون هذه الأخبار منافية لأخبار التوقف المطلقة من القسم الأول؛ لأنّ هذا يثبت وجوب التوقف مطلقاً وهذا أيضاً يثبت وجوب التوقف في حالة معينة؛ ولذلك لا يكون القسم الثاني من أخبار التوقف مخصصاً لأخبار التوقف من القسم الأول، وإنّما يكون هذا القسم من أخبار التوقف منافياً لأخبار البراءة؛ لأنّ هذا يقول قبل الفحص يجب التوقف، وأخبار البراءة المطلقة تقول أيضاً قبل الفحص لا يجب التوقف، فتكون حينئذٍ أخص مطلقاً من أخبار البراءة وتكون منافية لها وأخص مطلقاً منها؛ وحينئذٍ تكون مخصصة لأخبار البراءة وموجبة لحملها على حالة ما بعد الفحص. هذا المقدار يكفينا لإثبات المطلوب الذي هو وجوب التوقف قبل الفحص، إلى هنا يمكن إثبات المطلوب بلا حاجة إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّه يمكننا أن نستدل بأخبار التوقف من القسم الثاني على وجوب التوقف قبل الفحص، وما ينافي هذا هو فقط أخبار البراءة ولا تنافيه أخبار التوقف المطلقة، وإنّما الذي ينافيه هو أخبار البراءة، نقيّد أخبار البراءة بهذا النوع من أخبار التوقف، ونحمل أخبار البراءة على ما بعد الفحص؛ وحينئذٍ تنتهي المشكلة؛ وحينئذٍ يثبت وجوب التوقف قبل الفحص وهذا الدليل في مفاده وفي ما يُراد إثبات التوقف فيه لا تعارضه أخبار التوقف المطلقة، وإنّما الذي يعارضه هو أخبار البراءة، وهو أخص منها مطلقاً؛ فحينئذٍ يخصصها، فيمكن الاستدلال به على وجوب التوقف قبل الفحص.
نعم، إذا كان المقصود ليس هو إثبات وجوب التوقف قبل الفحص؛ بل إثبات عدم وجوب التوقف بعد الفحص؛ فحينئذٍ نحتاج إلى كبرى انقلاب النسبة؛ لأنّ دليل البراءة حينئذٍ يكون له معارض وهو أخبار التوقف المطلقة؛ لأننا لم نخصص أخبار التوقف المطلقة بالنوع الثاني من أخبار التوقف، فحتى نستدل بدليل البراءة على عدم وجوب التوقف بعد الفحص لابدّ من علاج معارضته ب أخبار التوقف المطلقة التي تدل على وجوب التوقف حتى بعد الفحص، فإذا كان له معارض؛ فحينئذٍ لا يمكن الاستدلال به على عدم وجوب التوقف بعد الفحص، وعلاج التعارض موقوف على كبرى انقلاب النسبة.