37/03/28
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
كان الكلام في الاعتراض الثاني على الاستدلال على وجوب الفحص بأخبار وجوب التعلّم وقد تقدّم الجواب الأول عن هذا الاعتراض.
الجواب الثاني:حاصله: أنّ هذا الاعتراض يتلاءم فيما إذا كان مفاد هذه الأخبار هو عدم جواز إهمال الوظيفة العملية للمكلف ولزوم الفحص عنها ووجوب تعلمها، إذا كان مفاد هذه الأخبار ناظراً إلى الوظيفة العملية للمكلف الشك ولزوم الفحص عن هذه الوظيفة ووجوب تعلّمها من دون فرق بين أن تكون هذه الوظيفة هي عبارة عن نفس التكليف الواقعي المشكوك، أو تكليف آخر يثبت بإمارة أو يثبت بأصلٍ عملي؛ لأنّه على كل هذه التقادير تتشخص الوظيفة العملية لهذا المكلف الشاك، كأنّ هذه الأخبار تأمر المكلف بعدم إهمال الوظيفة الفعلية العملية ولزوم التصدي لمعرفتها ووجوب الفحص عنها، إذا كان هذا هو مفاد هذه الأخبار؛ حينئذٍ يكون هناك وجه لكلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) باعتبار أنّ دليل البراءة مع افتراض أنّ له إطلاق يشمل حالة ما قبل الفحص وما بعد الفحص يكون دليلاً على تعيين الوظيفة العملية للمكلّف في هذه الحالة، ومن هنا يكون إطلاق دليل البراءة وارداً على هذه الأدلة؛ لأنّه يعيّن ما هي الوظيفة العملية، هذه الأدلة تقول يجب عليك الفحص عن الوظيفة العملية، ماذا تعمل اتجاه التكليف المشكوك ؟ أدلة البراءة تقول أنّ وظيفة المكلف هي البراءة؛ فحينئذٍ تكون واردة ورافعة لموضوع أدلة وجوب التعلّم؛ لأنّ اخبار وجوب التعلم تدل على عدم جواز إهمال الوظيفة العملية، المكلّف الذي وصل إليه إطلاق دليل البراءة لم يُهمل الوظيفة العملية؛ بل عمل بها؛ لأنّ أخبار البراءة تشخص له أنّ وظيفته العملية هي البراءة، فالورود يكون له معنىً مقبولاً؛ وحينئذٍ لا يصح الاستدلال بأخبار وجوب التعلّم على وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّ إطلاق دليل البراءة يكون وارداً عليها ومانعاً من الاستدلال بها.
وأمّا إذا فرضنا أنّ مفاد أدلة وجوب التعلّم ليس هو هذا، وإنّما هو ناظر إلى التكاليف الواقعية المشكوكة لدى المكلف ــــــ بحسب الفرض ــــــ هو ناظر إلى عدم جواز إهمال التكليف الواقعي المشكوك لا عدم جواز الوظيفة العملية للمكلف الشاك، وإنّما هو يقول يجب على المكلف أن يتعلم التكاليف الواقعية المشكوكة وأن يفحص عنها.
وبعبارة أخرى: يريد أن يقول أنّ التكاليف الواقعية بالرغم من الشك فيها لا يجوز إهمالها؛ بل لابدّ من التصدّي لمعرفتها، وأنّ مخالفة التكليف الواقعي على تقدير عدم الفحص هي مخالفة يستحق المكلّف العقاب عليها؛ لأنّ التكليف الواقعي يكون منجّزا على المكلّف، فيجب على المكلف التصدي لمعرفته والفحص عنه وتعلمه ولا يجوز له إهماله والرجوع إلى البراءة، إذا كان مفاد هذه الأخبار هو هذا المفاد؛ حينئذٍ يصعب علينا تصديق ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ إطلاق دليل البراءة يكون وارداً على أخبار التعلّم؛ بل يكون مفادهما في عرض واحد، أحدهما يدل على عدم جواز إهمال التكاليف الواقعية والمشكوكة، والآخر يدل على جواز إهمالها، دليل البراءة إذا كان له إطلاق يشمل حالة ما قبل الفحص ومرجعه في الحقيقة إلى جواز إهمال التكاليف الواقعية المشكوكة وعدم الاعتناء بها والرجوع إلى البراءة، وهذا معناه أنّ التكاليف الواقعية ما دمت تشك فيها أنت لست مسئولاً تجاهها، فيجوز لك إهمالها والرجوع إلى البراءة. هذا هو مفاد أدلة البراءة، بينما أخبار التعلّم إذا قلنا أنّها ناظرة إلى التكاليف الواقعية المشكوكة يكون مفادها هو عدم جواز إهمال التكاليف الواقعية المشكوكة، ويجب الفحص عنها وتعلمها، التكليف الواقعي منجز على المكلّف في ما لو خالفه بترك الفحص، هذان مفادان متنافيان، لكنّهما في عرضٍ واحد من دون أن يكون أحدهما وارداً على الآخر؛ بل هما في عرضٍ واحد متنافيان، هذا يقول لا تعتنِ بالتكليف الواقعي المشكوك، بينما الآخر يقول يجب عليك الاعتناء به بالفحص والتعلم والسؤال، كون أدلة البراءة تكون واردة على هذه الأخبار، هذا غير واضح، وإنّما يكون واضحاً فيما لو قلنا أنّ مفاد أدلة التعلّم هو ناظر إلى تشخيص الوظيفة العملية للمكلّف وأنّه لا يجوز لك إهمال وظيفتك العملية أعم من أن تكون الوظيفة العملية هي نفس التكليف الواقعي، أو تكليف مستفاد من إمارة، أو من أصل عملي، في هذه الحالة يكون للورود معنىً مقبولاً؛ حينئذٍ يقال(تتمّة الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني) أنّ الظاهر من أدلّة وجوب التعلّم هو المفاد الثاني لا المفاد الأول، بمعنى أنّ ظاهر أدلّة وجوب التعلّم، خصوص ما كان بلسان(طلب العلم فريضة على كل مسلم) واضح أنّ هذا ناظر إلى التكليف الواقعي، طلب العلم هو طلب العلم بالواقع الذي لا تعلمه وتشك فيه وليس فيها ما يشير إلى أنّ المقصود هو وجوب تعلّم الوظيفة العملية للمكلف، وإنّما ظاهرها هو النظر إلى الواقع، يعني إلى التكاليف الواقعية المشكوكة، فكأنها تقول عند الشك في التكاليف الواقعية يجب عليك التعرّض للفحص عنها ومعرفتها وتعلّمها ولا يجوز لك إهمالها، فالمفاد الثاني هو الأقرب إلى هذه الروايات من المفاد الأول.
نعم، بعض الروايات يمكن أن يُشكك في كونها كذلك، يعني كون مفادها هو المفاد الثاني، من قبيل معتبرة مسعدة بن زياد المتقدّمة، فيقال أنّ مفادها هو المفاد الأول، ظاهرها هو التوبيخ والاحتجاج على هذا المكلف، هذه الرواية وردت في تفسير قوله تعالى:﴿فلله الحجّة البالغة﴾.[1] في هذه الرواية يقول الإمام(عليه السلام):(فتلك هي الحجّة البالغة). أنّ هذا الاحتجاج والتوبيخ للمكلّف التارك للتعلم يبدو أنّه ليس توبيخاً على أمر تعبّدي، وإنّما الظاهر أنّه توبيخ على أمر عقلي، أو عقلائي مرتكز في أذهان الناس، وإلاّ لو كان توبيخاً على أمرٍ تعبّدي كان من المناسب جداً أن يقال له حينما يقول لم أعلم: ألم يصلك وجوب تعلّم الأحكام الشرعية ؟! وهناك حكم شرعي يقول بوجوب التعلّم، وهو حكم شرعي تعبّدي إلهي، لماذا لم تعمل به ؟ الرواية لم تقل هكذا، وإنّما قيل هلاّ تعلمت، المناسب لهذا التوبيخ أن يكون توبيخاً بأمر عقلي مرتكز في أذهان الناس حتى يكون توبيخاً مقبولاً، ليس معنى ذلك أنّ التعلّم واجب تعبّدي شرعي، وإنّما هو واجب عقلي، والعقل يحكم بوجوب التعلّم ووجوب الفحص، هنا يقال أنّ وجوب التعلّم كحكم يدركه العقل هو يناسب المفاد الأول لا المفاد الثاني؛ لأنّ لزوم تعلّم الوظيفة العملية للمكلف هذا يدركه العقل، أمّا وجوب تعلّم الأحكام الواقعية المشكوكة وعدم جواز إهمالها وتنجّزها على المكلف هذا قد يقال بأنّه ممّا لا يحكم به العقل، فباعتبار ظهور هذه الرواية في أنّ التوبيخ إنّما هو لأمر ليس تعبدياً، وإنما هو بأمر عقلي مرتكز في أذهان الناس يُخاطب به الجميع ويعرفه الجميع، هذا حينئذٍ يناسب أن تكون الروايات ناظرة إلى تشخيص الوظيفة العملية، بأنّ الوظيفة العملية مطلقاً سواء كانت هي التكليف الواقعي، أو مستفادة من إمارة، أو من أصل عملي العقل يدرك أنه لابدّ من معرفتها، فلا يجوز أن لا يتصدى المكلف لمعرفة ما هي وظيفته العملية عندما يشك في التكليف الواقعي، فلابدّ أن يتصدى لمعرفة ما هي وظيفته العملية، هذا أمر يدركه العقل، بينما لزوم التصدي لمعرفة الحكم الواقعي عد الشك به لا يكون حكماً عقلياً، وإنّما يكون حكماً تعبّدياً شرعياً، باعتبار أنّ المناسب أن يعلل التوبيخ بأمر ليس تعبدياً، فالأقرب هو أن يكون مفاد هذه الرواية هو المفاد الأول لا المفاد الثاني.
ما نريد أن نقوله هو أنّه ليس كل الروايات مفادها هو المفاد الثاني. نعم، بعض الروايات ظاهرها أنّها ناظرة إلى التكليف الواقعي وعدم جواز إهماله؛ وحينئذٍ تكون أخبار التعلّم في عرض أخبار البراءة من دون أن تكون أخبار البراءة واردة عليها.
الاعتراض الثالث: على أصل الاستدلال بأخبار التعلّم، وهو أيضاً ما ورد عن المحقق العراقي(قدّس سرّه)[2] وحاصله هو: أنّ هذه الأخبار قاصرة عن إفادة تمام المطلوب وكأنّها أخص من المدّعى، وذلك باعتبار أنّ هذه الأخبار ظاهرة في الاختصاص بصورة تمكن المكلّف من الفحص المؤدي إلى العلم بالواقع، عندما يكون الفحص مؤدياً إلى العلم بالواقع هي تدل على وجوب الفحص ووجوب التعلّم، بينما المطلوب في المقام ليس هو إثبات وجوب الفحص في هذه الحالة، يعني يجب عليك أن تفحص إذا كان فحصك مؤدياً إلى العلم بالواقع، بينما نحن نريد أن نثبت الفحص سواء كان فحصه مؤدي إلى العلم بالواقع، أو كان غير مؤدي إلى العلم بالواقع، حتى على تقدير أن يكون الفحص غير مؤدي إلى العلم بالواقع. إذن: ما نريد إثباته هو وجوب الفحص مطلقاً، سواء كان الفحص مؤدياً إلى العلم بالواقع، أو كان الفحص غير مؤدي إلى العلم بالواقع، بينما هذه الأدلة لاختصاصها بصورة إداء الفحص إلى العلم بالواقع تكون أخص من المدّعى. لكنّه لم يبيّن لماذا تكون أخبار التعلم ظاهرة في أنّ الفحص يؤدي إلى العلم بالواقع. لعلّه في رواية مسعدة بن زياد من جهة أنّ الرواية فيها توبيخ ولوم على المكلف الذي يترك الفحص، وهذا التوبيخ لابدّ أن يكون على أمر مقدور للمكلف. إذن: لابدّ من افتراض أنّ المكلف يتمكن من الوصول إلى الواقع؛ وحينئذٍ وجب عليه الفحص، فإذا ترك الفحص يُلام ويوبخ؛ لأنّه قادر على الوصول إلى الواقع، ومع قدرته على الوصول إلى الواقع بالفحص، وإذا تركه يوبخ، فالتوبيخ يكون في محله جداً، أمّا حيث لا يكون قادراً على الوصول إلى الواقع توبيخه حينئذٍ يكون بلا وجه. لعل مقصوده هو هذا المعنى. على كل حال، هذا الكلام الذي نقلناه عن المحقق العراقي(قدّس سرّه) ليس واضحاً ما هو المقصود به.
يمكن أن يُفسّر كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) بأحد تفسيرين:
التفسير الأول: أنّه ناظر إلى حالنا نحن الموجودين في هذه العصور المتأخرة إلى الموجودين في عصر النص، ويقول بأنّ الأخبار مختصة بأولئك الموجودين في عصر النص، باعتبار أنّ وجوب الفحص ووجوب التعلّم أُخذ فيه العلم وأنّ الفحص يؤدي إلى الوصول إلى العلم بالواقع، إذا كان هذا هو المقصود؛ فحينئذٍ سوف لا يشملنا نحن؛ لأننا في هذا الزمان لا نعلم بأنّ فحصنا يؤدي إلى الوصول إلى العلم بالواقع، بينما يشمل المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام)؛ لأنّه بإمكانه أن يسأل الإمام(عليه السلام) فيصل إلى العلم بالواقع، هو يعلم أنّه لو فحص لكان فحصه مؤدياً إلى العلم بالواقع، فالوجوب يختص بهم؛ ولذا تختص هذه الروايات بأولئك المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام) ولا تشملنا نحن؛ بل نحن نكون خارجين عن هذه الروايات موضوعاً، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوب الفحص بالنسبة إلينا.
التفسير الثاني: ولعلّه هو الأقرب إلى عبارته، وهو أن يقال: أنّه يريد أن يقول لا يجوز الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّ هذا تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية له، وذلك بأنّ المأخوذ في أدلة وجوب الفحص ووجوب التعلّم ليس هو العلم بأن يكون الفحص مؤدياً إلى معرفة الواقع، وإنّما المأخوذ هو نفس انكشاف الواقع، فموضوع وجوب الفحص مأخوذ فيه نفس الوصول إلى الواقع، ولكن كيف يمكن لنا أن نحرز الوصول إلى الواقع قبل الفحص ؟ بالفحص يمكن أن نقول أننا نصل إلى الواقع، أما قبل الفحص فلا يمكن إحراز الوصول إلى الواقع وإحراز انكشافه ولا طريق لنا لذلك قبل الفحص، وإنّما قبل الفحص نشك بأنّ هذا الفحص هل يؤدي بنا إلى معرفة الواقع وانكشافه، أو لا يؤدي إلى ذلك ؟ ومن هنا يكون التمسك بالدليل تمسّكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له، أي أنّ التمسك بأخبار التعلم يكون تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية له؛ لأنه أُخذ في موضوع هذا الدليل انكشاف الواقع ومعرفته. وبعبارة أخرى: أُخذ فيه وجود إمارة تدل على التكليف الواقعي في معرض الوصول إذا فحص المكلّف يصل إلى هذه الإمارة التي توصله إلى التكليف الواقعي، وبالفحص يمكن أن نعلم بوجود إمارة تدل على التكليف الواقعي، أمّا قبل الفحص فلدينا شك في أنّه توجد إمارة أو لا توجد إمارة، فالتمسك بالدليل الدال على وجوب الفحص المقيّد موضوعه بوجود إمارة في معرض الوصول أو بانكشاف الواقع، يكون تمسّكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له؛ لأنّ هذا الدليل الذي يدل على وجوب الفحص مقيد بأن يكون الفحص موصلاً إلى معرفة الواقع وينكشف الواقع به بأن تكون هناك إمارة في معرض الوصول إذا فحص المكلف يصل إليها؛ وحينئذٍ يعرف التكليف الواقعي.
إذن: وجوب الفحص مقيد بوجود إمارة، فإذا شككنا في وجود إمارة أو عدم وجودها قبل الفحص يكون التمسك بهذا الدليل تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له. فهو إشارة إلى أنّ التمسك بهذه الأدلة هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية له، أي لنفس العام الذي هو عبارة عن أخبار الفحص والتعلم؛ وحينئذٍ يقال: لا يمكن التمسك بهذه الأخبار لإثبات وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له.
كان الكلام في الاعتراض الثاني على الاستدلال على وجوب الفحص بأخبار وجوب التعلّم وقد تقدّم الجواب الأول عن هذا الاعتراض.
الجواب الثاني:حاصله: أنّ هذا الاعتراض يتلاءم فيما إذا كان مفاد هذه الأخبار هو عدم جواز إهمال الوظيفة العملية للمكلف ولزوم الفحص عنها ووجوب تعلمها، إذا كان مفاد هذه الأخبار ناظراً إلى الوظيفة العملية للمكلف الشك ولزوم الفحص عن هذه الوظيفة ووجوب تعلّمها من دون فرق بين أن تكون هذه الوظيفة هي عبارة عن نفس التكليف الواقعي المشكوك، أو تكليف آخر يثبت بإمارة أو يثبت بأصلٍ عملي؛ لأنّه على كل هذه التقادير تتشخص الوظيفة العملية لهذا المكلف الشاك، كأنّ هذه الأخبار تأمر المكلف بعدم إهمال الوظيفة الفعلية العملية ولزوم التصدي لمعرفتها ووجوب الفحص عنها، إذا كان هذا هو مفاد هذه الأخبار؛ حينئذٍ يكون هناك وجه لكلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) باعتبار أنّ دليل البراءة مع افتراض أنّ له إطلاق يشمل حالة ما قبل الفحص وما بعد الفحص يكون دليلاً على تعيين الوظيفة العملية للمكلّف في هذه الحالة، ومن هنا يكون إطلاق دليل البراءة وارداً على هذه الأدلة؛ لأنّه يعيّن ما هي الوظيفة العملية، هذه الأدلة تقول يجب عليك الفحص عن الوظيفة العملية، ماذا تعمل اتجاه التكليف المشكوك ؟ أدلة البراءة تقول أنّ وظيفة المكلف هي البراءة؛ فحينئذٍ تكون واردة ورافعة لموضوع أدلة وجوب التعلّم؛ لأنّ اخبار وجوب التعلم تدل على عدم جواز إهمال الوظيفة العملية، المكلّف الذي وصل إليه إطلاق دليل البراءة لم يُهمل الوظيفة العملية؛ بل عمل بها؛ لأنّ أخبار البراءة تشخص له أنّ وظيفته العملية هي البراءة، فالورود يكون له معنىً مقبولاً؛ وحينئذٍ لا يصح الاستدلال بأخبار وجوب التعلّم على وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّ إطلاق دليل البراءة يكون وارداً عليها ومانعاً من الاستدلال بها.
وأمّا إذا فرضنا أنّ مفاد أدلة وجوب التعلّم ليس هو هذا، وإنّما هو ناظر إلى التكاليف الواقعية المشكوكة لدى المكلف ــــــ بحسب الفرض ــــــ هو ناظر إلى عدم جواز إهمال التكليف الواقعي المشكوك لا عدم جواز الوظيفة العملية للمكلف الشاك، وإنّما هو يقول يجب على المكلف أن يتعلم التكاليف الواقعية المشكوكة وأن يفحص عنها.
وبعبارة أخرى: يريد أن يقول أنّ التكاليف الواقعية بالرغم من الشك فيها لا يجوز إهمالها؛ بل لابدّ من التصدّي لمعرفتها، وأنّ مخالفة التكليف الواقعي على تقدير عدم الفحص هي مخالفة يستحق المكلّف العقاب عليها؛ لأنّ التكليف الواقعي يكون منجّزا على المكلّف، فيجب على المكلف التصدي لمعرفته والفحص عنه وتعلمه ولا يجوز له إهماله والرجوع إلى البراءة، إذا كان مفاد هذه الأخبار هو هذا المفاد؛ حينئذٍ يصعب علينا تصديق ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ إطلاق دليل البراءة يكون وارداً على أخبار التعلّم؛ بل يكون مفادهما في عرض واحد، أحدهما يدل على عدم جواز إهمال التكاليف الواقعية والمشكوكة، والآخر يدل على جواز إهمالها، دليل البراءة إذا كان له إطلاق يشمل حالة ما قبل الفحص ومرجعه في الحقيقة إلى جواز إهمال التكاليف الواقعية المشكوكة وعدم الاعتناء بها والرجوع إلى البراءة، وهذا معناه أنّ التكاليف الواقعية ما دمت تشك فيها أنت لست مسئولاً تجاهها، فيجوز لك إهمالها والرجوع إلى البراءة. هذا هو مفاد أدلة البراءة، بينما أخبار التعلّم إذا قلنا أنّها ناظرة إلى التكاليف الواقعية المشكوكة يكون مفادها هو عدم جواز إهمال التكاليف الواقعية المشكوكة، ويجب الفحص عنها وتعلمها، التكليف الواقعي منجز على المكلّف في ما لو خالفه بترك الفحص، هذان مفادان متنافيان، لكنّهما في عرضٍ واحد من دون أن يكون أحدهما وارداً على الآخر؛ بل هما في عرضٍ واحد متنافيان، هذا يقول لا تعتنِ بالتكليف الواقعي المشكوك، بينما الآخر يقول يجب عليك الاعتناء به بالفحص والتعلم والسؤال، كون أدلة البراءة تكون واردة على هذه الأخبار، هذا غير واضح، وإنّما يكون واضحاً فيما لو قلنا أنّ مفاد أدلة التعلّم هو ناظر إلى تشخيص الوظيفة العملية للمكلّف وأنّه لا يجوز لك إهمال وظيفتك العملية أعم من أن تكون الوظيفة العملية هي نفس التكليف الواقعي، أو تكليف مستفاد من إمارة، أو من أصل عملي، في هذه الحالة يكون للورود معنىً مقبولاً؛ حينئذٍ يقال(تتمّة الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني) أنّ الظاهر من أدلّة وجوب التعلّم هو المفاد الثاني لا المفاد الأول، بمعنى أنّ ظاهر أدلّة وجوب التعلّم، خصوص ما كان بلسان(طلب العلم فريضة على كل مسلم) واضح أنّ هذا ناظر إلى التكليف الواقعي، طلب العلم هو طلب العلم بالواقع الذي لا تعلمه وتشك فيه وليس فيها ما يشير إلى أنّ المقصود هو وجوب تعلّم الوظيفة العملية للمكلف، وإنّما ظاهرها هو النظر إلى الواقع، يعني إلى التكاليف الواقعية المشكوكة، فكأنها تقول عند الشك في التكاليف الواقعية يجب عليك التعرّض للفحص عنها ومعرفتها وتعلّمها ولا يجوز لك إهمالها، فالمفاد الثاني هو الأقرب إلى هذه الروايات من المفاد الأول.
نعم، بعض الروايات يمكن أن يُشكك في كونها كذلك، يعني كون مفادها هو المفاد الثاني، من قبيل معتبرة مسعدة بن زياد المتقدّمة، فيقال أنّ مفادها هو المفاد الأول، ظاهرها هو التوبيخ والاحتجاج على هذا المكلف، هذه الرواية وردت في تفسير قوله تعالى:﴿فلله الحجّة البالغة﴾.[1] في هذه الرواية يقول الإمام(عليه السلام):(فتلك هي الحجّة البالغة). أنّ هذا الاحتجاج والتوبيخ للمكلّف التارك للتعلم يبدو أنّه ليس توبيخاً على أمر تعبّدي، وإنّما الظاهر أنّه توبيخ على أمر عقلي، أو عقلائي مرتكز في أذهان الناس، وإلاّ لو كان توبيخاً على أمرٍ تعبّدي كان من المناسب جداً أن يقال له حينما يقول لم أعلم: ألم يصلك وجوب تعلّم الأحكام الشرعية ؟! وهناك حكم شرعي يقول بوجوب التعلّم، وهو حكم شرعي تعبّدي إلهي، لماذا لم تعمل به ؟ الرواية لم تقل هكذا، وإنّما قيل هلاّ تعلمت، المناسب لهذا التوبيخ أن يكون توبيخاً بأمر عقلي مرتكز في أذهان الناس حتى يكون توبيخاً مقبولاً، ليس معنى ذلك أنّ التعلّم واجب تعبّدي شرعي، وإنّما هو واجب عقلي، والعقل يحكم بوجوب التعلّم ووجوب الفحص، هنا يقال أنّ وجوب التعلّم كحكم يدركه العقل هو يناسب المفاد الأول لا المفاد الثاني؛ لأنّ لزوم تعلّم الوظيفة العملية للمكلف هذا يدركه العقل، أمّا وجوب تعلّم الأحكام الواقعية المشكوكة وعدم جواز إهمالها وتنجّزها على المكلف هذا قد يقال بأنّه ممّا لا يحكم به العقل، فباعتبار ظهور هذه الرواية في أنّ التوبيخ إنّما هو لأمر ليس تعبدياً، وإنما هو بأمر عقلي مرتكز في أذهان الناس يُخاطب به الجميع ويعرفه الجميع، هذا حينئذٍ يناسب أن تكون الروايات ناظرة إلى تشخيص الوظيفة العملية، بأنّ الوظيفة العملية مطلقاً سواء كانت هي التكليف الواقعي، أو مستفادة من إمارة، أو من أصل عملي العقل يدرك أنه لابدّ من معرفتها، فلا يجوز أن لا يتصدى المكلف لمعرفة ما هي وظيفته العملية عندما يشك في التكليف الواقعي، فلابدّ أن يتصدى لمعرفة ما هي وظيفته العملية، هذا أمر يدركه العقل، بينما لزوم التصدي لمعرفة الحكم الواقعي عد الشك به لا يكون حكماً عقلياً، وإنّما يكون حكماً تعبّدياً شرعياً، باعتبار أنّ المناسب أن يعلل التوبيخ بأمر ليس تعبدياً، فالأقرب هو أن يكون مفاد هذه الرواية هو المفاد الأول لا المفاد الثاني.
ما نريد أن نقوله هو أنّه ليس كل الروايات مفادها هو المفاد الثاني. نعم، بعض الروايات ظاهرها أنّها ناظرة إلى التكليف الواقعي وعدم جواز إهماله؛ وحينئذٍ تكون أخبار التعلّم في عرض أخبار البراءة من دون أن تكون أخبار البراءة واردة عليها.
الاعتراض الثالث: على أصل الاستدلال بأخبار التعلّم، وهو أيضاً ما ورد عن المحقق العراقي(قدّس سرّه)[2] وحاصله هو: أنّ هذه الأخبار قاصرة عن إفادة تمام المطلوب وكأنّها أخص من المدّعى، وذلك باعتبار أنّ هذه الأخبار ظاهرة في الاختصاص بصورة تمكن المكلّف من الفحص المؤدي إلى العلم بالواقع، عندما يكون الفحص مؤدياً إلى العلم بالواقع هي تدل على وجوب الفحص ووجوب التعلّم، بينما المطلوب في المقام ليس هو إثبات وجوب الفحص في هذه الحالة، يعني يجب عليك أن تفحص إذا كان فحصك مؤدياً إلى العلم بالواقع، بينما نحن نريد أن نثبت الفحص سواء كان فحصه مؤدي إلى العلم بالواقع، أو كان غير مؤدي إلى العلم بالواقع، حتى على تقدير أن يكون الفحص غير مؤدي إلى العلم بالواقع. إذن: ما نريد إثباته هو وجوب الفحص مطلقاً، سواء كان الفحص مؤدياً إلى العلم بالواقع، أو كان الفحص غير مؤدي إلى العلم بالواقع، بينما هذه الأدلة لاختصاصها بصورة إداء الفحص إلى العلم بالواقع تكون أخص من المدّعى. لكنّه لم يبيّن لماذا تكون أخبار التعلم ظاهرة في أنّ الفحص يؤدي إلى العلم بالواقع. لعلّه في رواية مسعدة بن زياد من جهة أنّ الرواية فيها توبيخ ولوم على المكلف الذي يترك الفحص، وهذا التوبيخ لابدّ أن يكون على أمر مقدور للمكلف. إذن: لابدّ من افتراض أنّ المكلف يتمكن من الوصول إلى الواقع؛ وحينئذٍ وجب عليه الفحص، فإذا ترك الفحص يُلام ويوبخ؛ لأنّه قادر على الوصول إلى الواقع، ومع قدرته على الوصول إلى الواقع بالفحص، وإذا تركه يوبخ، فالتوبيخ يكون في محله جداً، أمّا حيث لا يكون قادراً على الوصول إلى الواقع توبيخه حينئذٍ يكون بلا وجه. لعل مقصوده هو هذا المعنى. على كل حال، هذا الكلام الذي نقلناه عن المحقق العراقي(قدّس سرّه) ليس واضحاً ما هو المقصود به.
يمكن أن يُفسّر كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) بأحد تفسيرين:
التفسير الأول: أنّه ناظر إلى حالنا نحن الموجودين في هذه العصور المتأخرة إلى الموجودين في عصر النص، ويقول بأنّ الأخبار مختصة بأولئك الموجودين في عصر النص، باعتبار أنّ وجوب الفحص ووجوب التعلّم أُخذ فيه العلم وأنّ الفحص يؤدي إلى الوصول إلى العلم بالواقع، إذا كان هذا هو المقصود؛ فحينئذٍ سوف لا يشملنا نحن؛ لأننا في هذا الزمان لا نعلم بأنّ فحصنا يؤدي إلى الوصول إلى العلم بالواقع، بينما يشمل المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام)؛ لأنّه بإمكانه أن يسأل الإمام(عليه السلام) فيصل إلى العلم بالواقع، هو يعلم أنّه لو فحص لكان فحصه مؤدياً إلى العلم بالواقع، فالوجوب يختص بهم؛ ولذا تختص هذه الروايات بأولئك المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام) ولا تشملنا نحن؛ بل نحن نكون خارجين عن هذه الروايات موضوعاً، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوب الفحص بالنسبة إلينا.
التفسير الثاني: ولعلّه هو الأقرب إلى عبارته، وهو أن يقال: أنّه يريد أن يقول لا يجوز الاستدلال بهذه الأخبار على وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّ هذا تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له ولا إشكال في عدم جواز التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية له، وذلك بأنّ المأخوذ في أدلة وجوب الفحص ووجوب التعلّم ليس هو العلم بأن يكون الفحص مؤدياً إلى معرفة الواقع، وإنّما المأخوذ هو نفس انكشاف الواقع، فموضوع وجوب الفحص مأخوذ فيه نفس الوصول إلى الواقع، ولكن كيف يمكن لنا أن نحرز الوصول إلى الواقع قبل الفحص ؟ بالفحص يمكن أن نقول أننا نصل إلى الواقع، أما قبل الفحص فلا يمكن إحراز الوصول إلى الواقع وإحراز انكشافه ولا طريق لنا لذلك قبل الفحص، وإنّما قبل الفحص نشك بأنّ هذا الفحص هل يؤدي بنا إلى معرفة الواقع وانكشافه، أو لا يؤدي إلى ذلك ؟ ومن هنا يكون التمسك بالدليل تمسّكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له، أي أنّ التمسك بأخبار التعلم يكون تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية له؛ لأنه أُخذ في موضوع هذا الدليل انكشاف الواقع ومعرفته. وبعبارة أخرى: أُخذ فيه وجود إمارة تدل على التكليف الواقعي في معرض الوصول إذا فحص المكلّف يصل إلى هذه الإمارة التي توصله إلى التكليف الواقعي، وبالفحص يمكن أن نعلم بوجود إمارة تدل على التكليف الواقعي، أمّا قبل الفحص فلدينا شك في أنّه توجد إمارة أو لا توجد إمارة، فالتمسك بالدليل الدال على وجوب الفحص المقيّد موضوعه بوجود إمارة في معرض الوصول أو بانكشاف الواقع، يكون تمسّكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له؛ لأنّ هذا الدليل الذي يدل على وجوب الفحص مقيد بأن يكون الفحص موصلاً إلى معرفة الواقع وينكشف الواقع به بأن تكون هناك إمارة في معرض الوصول إذا فحص المكلف يصل إليها؛ وحينئذٍ يعرف التكليف الواقعي.
إذن: وجوب الفحص مقيد بوجود إمارة، فإذا شككنا في وجود إمارة أو عدم وجودها قبل الفحص يكون التمسك بهذا الدليل تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية له. فهو إشارة إلى أنّ التمسك بهذه الأدلة هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية له، أي لنفس العام الذي هو عبارة عن أخبار الفحص والتعلم؛ وحينئذٍ يقال: لا يمكن التمسك بهذه الأخبار لإثبات وجوب الفحص في محل الكلام؛ لأنّه تمسك بالدليل في الشبهة المصداقية له.