37/03/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
ذكرنا في الدرس السابق أنّ المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول: حتى إذا كان متعلّق العلمين هو عنوان واحد لا يوجد انحلال حقيقي للعلم الإجمالي، إلاّ في خصوص حالةٍ واحدة، وهي ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال.نعم، يكون الانحلال حكمياً، لكن بشرط التعاصر، فإذا كان العلم التفصيلي معاصراً للعلم الإجمالي فأنّه يوجب الانحلال الحكمي، بمعنى أنّه يجوز إجراء البراءة في الأطراف الأخرى، ولكنّ هذا الشرط غير موجود في محل كلامنا. وبالتالي لا يوجد انحلال لا حقيقي ولا حكمي.
هذا الكلام في قِباله هناك كلام أيضاً وملاحظات، بالنسبة إلى الانحلال الحقيقي قد يقال بأنّه متحقق في المقام، وذلك باعتبار أنّ الانحلال الحقيقي يتحقق في حالة ما إذا كان كلٌ من العلمين الإجمالي والتفصيلي يتعلّقان بعنوان واحد وكنّا نحتمل تطابق العنوانين، يعني ليس هناك شيء يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ حينئذٍ قد يُدّعى تحقق الانحلال الحقيقي، ولا نشترط في الانحلال الحقيقي ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه لابدّ أن يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى العلم الإجمالي ومُعيّناً لمعلومه، وأنّ ما نعلمه إجمالاً هو هذا. صحيح هذا يحقق الانحلال الحقيقي، لكنّ الانحلال الحقيقي لا يتوقف عليه؛ بل يمكن أن يتحقق حتى في ما إذا لم نقطع بأنّ ما نعلمه تفصيلاً هو ما نعلمه إجمالاً في ما إذا كان متعلّق العلم الإجمالي ومتعلّق العلم التفصيلي عنواناً واحداً واحتملنا تطابق هذين العنوانين، يعني لم يكُن هناك ما يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة أيضاً يتحقق الانحلال الحقيقي. هذا يتحقق في جملة من الأمثلة التي أخرجها المحقق العراقي(قدّس سرّه) عن الانحلال الحقيقي، وقال بعدم تحقق الانحلال الحقيقي فيها، كما إذا فرضنا أننا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالاً، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة أحدهما المُعيّن، هذا الكلام ينطبق عليه، عنوان المعلوم بالإجمال متحد مع عنوان المعلوم بالتفصيل مع احتمال الانطباق، لا يوجد شيء في المعلوم بالإجمال يمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، أو فرضنا وجود خصوصية في المعلوم بالإجمال، لكن نفس هذه الخصوصية أيضاً موجودة في المعلوم بالتفصيل، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين من دم، ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما المُعيّن تفصيلاً من دم أيضاً، هنا أيضاً العنوانان متّحدان ولا مانع من تطابقهما، لا يوجد ما يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة حينئذٍ قد يُدّعى ويقال بتحقق الانحلال الحقيقي في هذه الحالات، بمعنى أننا وجداناً لا يوجد لدينا علم إجمالي متبقٍ بعد حصول العلم التفصيلي، بعد أنّ نعلم تفصيلاً بأنّ هذا الإناء المُعيّن تنجّس من قطرة دم، هذه النجاسة الناشئة من قطرة دم المعلومة بالإجمال تنطبق النجاسة المعلومة بالتفصيل؛ لأنّها أيضاً نجاسة ناشئة من قطرة دم. صحيح، قد تكون هناك خصوصيات في المعلوم بالإجمال تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، لكن هذه الخصوصيات ليست دخيلة في المعلوم بالإجمال من قبيل خصوصية أنّ قطرة الدم هذه من زيد، أو أنّ هذه القطرة من الدم سقطت في مكان مُعيّن، أو في زمان مُعيّن، هذه خصوصيات قد تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لكن هذه الخصوصيات ليست دخيلة في المعلوم بالإجمال، ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن نجاسة ناشئة من قطرة دم، هذا هو الذي عليه التعويل في قِبال أن تكون نجاسة ناشئة من قطرة بول، أو شيء آخر، فهذه الخصوصيات كلّها لا تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن نجاسة ناشئة من قطرة دم مرددة بين الطرفين، وما نعلمه بالتفصيل هو أيضاً نجاسة ناشئة من قطرة دم مُعينة في أحد الطرفين، بعد هذا لا يبقى للمكلّف علم إجمالي، وإنّما ينحل علمه الإجمالي انحلالاً حقيقياً إلى علم بالنجاسة الناشئة من دم مُعينة في هذا الطرف وشك في الطرف الآخر، وبهذا ينحل العلم الإجمالي ولا يبقى عند المكلّف علم إجمالي. نعم، لو كانت هناك خصوصية في المعلوم بالإجمال مأخوذة فيه تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة لا نقول بالانحلال الحقيقي، وأمّا في غير هذه الحالة كما إذا لم تكن هناك خصوصية أصلاً مأخوذة في المعلوم بالإجمال واتحد العنوانان، أو كانت هناك خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال، لكنّ هذه الخصوصية بنفسها مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة يتحقق الانحلال الحقيقي ولا يبقى علم إجمالي في هذه الحالة؛ وحينئذٍ نقول أنّ محل الكلام من هذا القبيل؛ لأنّ ما يعلمه المكلّف إجمالاً بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير هو وجود جملة من الأحكام الإلزامية ضمن الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا، هذا نعلمه إجمالاً، لكن من دون التمييز، ما نعلمه بالتفصيل بعد الفحص في الأدلة والمراجعة، المجتهد إذا فحص في الأدلة وراجع سوف يعثر على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن المعلوم بالإجمال، فنفس الخصوصية موجودة فيه؛ لأنّه يعثر على جملة من الأحكام الإلزامية بعد الفحص والتتبع في الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا، وهذا معناه أنّ الخصوصية لو كانت مأخوذة في المعلوم بالإجمال هي أيضاً مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، يعني أنّ متعلّق العلم الإجمالي ومتعلّق العلم التفصيلي عنوان واحد ويُحتمل تطابقهما، يعني لا يوجد مانع يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ فحينئذٍ يتحقق شرط الانحلال الحقيقي، فإذا عثر المجتهد بعد الفحص في الأدلة وفي الكتب على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن عدد المعلوم بالإجمال سوف ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بأحكام إلزامية في ضمن الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا وشك بدوي في غيره، فيتحقق الانحلال الحقيقي؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الانحلال الحكمي. نعم إذا احتملنا أنّ المعلوم بالإجمال في محل كلامنا مقيّد بخصوصية يُحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل، فهذا يمنع من الانحلال الحقيقي، لكن يُدّعى أنّ هذه الخصوصية غير موجودة، وإنّما الموجود هو هذه الخصوصية فقط، أحكام إلزامية موجودة في ضمن الإمارات المبثوثة في الكتب الواصلة إلينا، هذا هو الذي نعلمه إجمالاً، ما نعلمه بالتفصيل بعد الفحص هو نفس هذا، فيكون هذا من قبيل ما إذا علمنا إجمالاً بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، ثمّ علمنا بالتفصيل بسقوط قطرة دم في أحدهما المعين، إن قلنا في هذا المثال بالانحلال الحقيقي؛ حينئذٍ نقول في محل الكلام أيضاً بالانحلال الحقيقي.
نعم، إذا التزمنا بمقالة المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول بأنّ الانحلال الحقيقي لا يتحقق إلاّ في حالة واحدة، وهي حالة ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى العلم الإجمالي بحيث نقطع بأنّ ما نعلمه تفصيلاً هو نفس ما نعلمه إجمالاً، إذا قلنا بهذا؛ حينئذٍ لا يتحقق الانحلال الحقيقي في محل الكلام، وهذا هو الذي ذهب إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) وغيره ممن التزموا في هذه الأمثلة بالانحلال الحقيقي، وأنّه يكفي في الانحلال الحقيقي أن يتحد العنوان المعلوم بالإجمال والعنوان المعلوم بالتفصيل مع عدم وجود ما يمنع من تطابقهما، والمقصود هو أن تكون في المعلوم بالإجمال خصوصية تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، فإذا قلنا بعدم وجود هذه الخصوصية، وإنّما الخصوصية إن وجدت، فهي لا تمنع من انطباقها على المعلوم بالتفصيل؛ وحينئذٍ يتحقق الانحلال الحقيقي.
وأمّا الانحلال الحكمي، فله تقريبان:
التقريب الأوّل: الذي يذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) في تقريرات بحثه[1] وحاصله هو: أنّ منجّزية العلم الإجمالي ـــــــ على رأيه المبني على مسلك الاقتضاء ــــــ تابعة لتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، والعلم الإجمالي بقطع النظر عن تعارض الأصول لا ينجّز، وحيث أنّه لا معنى لجريان الأصل المؤمّن في المعلوم بالتفصيل، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، وهذا هو معنى الانحلال الحكمي. يعني في مثال الإناءين إذا علمنا بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين إجمالاً، ثمّ علمنا بالتفصيل بأنّ هذا الإناء الأيسر سقطت فيه قطرة دم، فهذا لا يجري فيه الأصل المؤمّن، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وحيث أنّ المنجّزية تابعة لتعارض الأصول وتساقطها؛ فحينئذٍ مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنى الانحلال الحكمي.
من الواضح أنّ هذا التقريب مبني على مسلك الاقتضاء ولا يجري على مسلك العلّية؛ لأنّ مسلك العلّية يمنع من جريان الأصل في أحد الطرفين حتى لو لم يكن له معارض، هو يرى أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لتنجيز كلا الطرفين.
وبعبارة أخرى: إنّ الذي ينجّز الطرف هو احتمال انطباق الواقع المنجّز بالعلم الإجمالي عليه، العلم الإجمالي ينجّز الواقع، احتمال انطباق الواقع على هذا الطف هو ينجّزه، سواء كان له معارض أو لم يكن له معارض، يمنع من الأصل، فلا يجري فيه الأصل، سواء كان له معارض أو لم يكن له معارض، فلنفترض أنّ المعلوم بالتفصيل لا يجري فيه الأصل المؤمّن، لكن هذا لا يعني أنّ الأصل في الطرف الآخر يجري؛ لأنّه تنجّز بالعلم الإجمالي، والعلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فهو يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين حتى إذا لم يكن له معارض، فلا يجري هذا التقريب. ومن هنا يصار إلى التقريب الثاني الذي هو مبني على مسلّك العلّية.
التقريب الثاني: في هذا التقريب يُدّعى بأنّ ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ منجّزية العلم الإجمالي لأطرافه مشروطة بشرط وهو أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، يعني سواء كان معلومه في هذا الطرف هو ينجّزه، وفي ذاك الطرف أيضاً ينجّزه؛ حينئذٍ إذا فرضنا أنّ أحد الطرفين المعيّن كان منجّزاً بالعلم التفصيلي، هو يقول: أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ يسقط عن المنجّزية، فلا مانع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ الشرط تخلّف؛ لأنّ شرط منجّزية العلم الإجمالي هو أن يكون منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، والعلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي بأحد الطرفين لا ينجّز معلومه على تقدير أن يكون معلومه في الطرف الذي علمنا به تفصيلاً؛ لأنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فالعلم الإجمالي على تقدير أن يكون معلومه في الطرف الآخر ينجّزه، لكن على تقدير أن يكون معلومه في هذا الطرف الذي علمنا به تفصيلاً لا ينجّزه؛ لأنّه تنجّز بالعلم التفصيلي. إذن: هو لا ينجّز معلومه على كل تقدير، فيختل شرط المنجّزية للعلم الإجمالي، فيسقط عن المنجّزية؛ وحينئذٍ يمكن إجراء الأصل في الطرف الآخر بلا محذور، وهذا هو معنى الانحلال الحكمي. فالتقريب الأوّل كان يقول يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، أمّا المحقق العراقي(قدّس سرّه) فيقول يجري الأصل في الطرف الآخر بلا محذور؛ لأنّ العلم الإجمالي قد سقط عن المنجّزية؛ لأنّه لا ينجّز معلومه على كل تقدير.
الذي يُلاحظ على هذين التقريبين ـــــــ بقطع النظر عن هذه التفاصيل والمباني التي يبتني عليها التقريب الأول أو التقريب الثاني؛ لأنّها تقدمت سابقاً في بحث العلم الإجمالي ـــــــ ما أشار إليه المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ الانحلال الحكمي دائماً هو مشروط بعدم تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، وهذا ليس شرطاً في الانحلال الحقيقي حتى لو كان العلم التفصيلي متأخراً عن العلم الإجمالي، إذا توفرت شروط الانحلال الحقيقي فأنّه يتحقق ولا يُشترط فيه عدم التأخّر والمعاصرة، لكن في الانحلال الحكمي يُشترط المعاصرة وعدم التأخّر، ولابدّ أن يكون العلم الإجمالي والعلم التفصيلي متعاصرين حتى ينحل العلم الإجمالي انحلالاً حكمياً، وإلاّ إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي متأخر زماناً عن العلم التفصيلي؛ حينئذٍ لا يتحقق الانحلال الحكمي. أمّا على التقريب الأوّل المبني على مسلك الاقتضاء، فلا يتحقق الانحلال الحكمي باعتبار أنّ الأصل في الطرف الآخر يكون مُعارَضاً بالأصل المؤمّن في هذا الطرف الذي هو مورد العلم التفصيلي، لكن بلحاظ فترة ما قبل حدوث العلم التفصيلي، فالأصل في الطرف الآخر بلحاظ الفترة الزمنية الممتدة إلى آخره يكون مُعارَضاً بالأصل في هذا الطرف الذي هو مورد للعلم الإجمالي، لكن بلحاظ الفترة الزمنية قبل حدوث العلم التفصيلي، فإذا حصلت المعارضة؛ فحينئذٍ لا ينحل العلم الإجمالي ولا يسقط عن المنجّزية؛ إذ أنّ المنجّزية فرع التعارض والتساقط، وهنا تعارضت الأصول في الأطراف وتساقطت، فتوجد المنجّزية وهذه المنجّزية تمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه مُعارَض بأصلٍ في هذا الطرف، غاية الأمر أنّ الفترات الزمنية تختلف، يعني إذا أخذنا من هذا الطرف ــــــــ الذي هو مورد العلم التفصيلي ــــــــ فترة ما قبل حصول العلم الإجمالي، وأخذنا من الطرف الآخر الفترة الزمنية على امتدادها سنجد أنّ الأصول فيهما متعارضان ومتساقطان، فيتنجّز العلم الإجمالي وهذا التنجيز يمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه أصل معارض، والمفروض أنّ المنجّزية تابعة لتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها. إذن: لابدّ من المعاصرة، وإذا لم نفترض المعاصرة؛ حينئذٍ لا انحلال حكمي، وهكذا الأمر بالنسبة إلى التقريب الثاني.
ذكرنا في الدرس السابق أنّ المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول: حتى إذا كان متعلّق العلمين هو عنوان واحد لا يوجد انحلال حقيقي للعلم الإجمالي، إلاّ في خصوص حالةٍ واحدة، وهي ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال.نعم، يكون الانحلال حكمياً، لكن بشرط التعاصر، فإذا كان العلم التفصيلي معاصراً للعلم الإجمالي فأنّه يوجب الانحلال الحكمي، بمعنى أنّه يجوز إجراء البراءة في الأطراف الأخرى، ولكنّ هذا الشرط غير موجود في محل كلامنا. وبالتالي لا يوجد انحلال لا حقيقي ولا حكمي.
هذا الكلام في قِباله هناك كلام أيضاً وملاحظات، بالنسبة إلى الانحلال الحقيقي قد يقال بأنّه متحقق في المقام، وذلك باعتبار أنّ الانحلال الحقيقي يتحقق في حالة ما إذا كان كلٌ من العلمين الإجمالي والتفصيلي يتعلّقان بعنوان واحد وكنّا نحتمل تطابق العنوانين، يعني ليس هناك شيء يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ حينئذٍ قد يُدّعى تحقق الانحلال الحقيقي، ولا نشترط في الانحلال الحقيقي ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه لابدّ أن يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى العلم الإجمالي ومُعيّناً لمعلومه، وأنّ ما نعلمه إجمالاً هو هذا. صحيح هذا يحقق الانحلال الحقيقي، لكنّ الانحلال الحقيقي لا يتوقف عليه؛ بل يمكن أن يتحقق حتى في ما إذا لم نقطع بأنّ ما نعلمه تفصيلاً هو ما نعلمه إجمالاً في ما إذا كان متعلّق العلم الإجمالي ومتعلّق العلم التفصيلي عنواناً واحداً واحتملنا تطابق هذين العنوانين، يعني لم يكُن هناك ما يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة أيضاً يتحقق الانحلال الحقيقي. هذا يتحقق في جملة من الأمثلة التي أخرجها المحقق العراقي(قدّس سرّه) عن الانحلال الحقيقي، وقال بعدم تحقق الانحلال الحقيقي فيها، كما إذا فرضنا أننا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالاً، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة أحدهما المُعيّن، هذا الكلام ينطبق عليه، عنوان المعلوم بالإجمال متحد مع عنوان المعلوم بالتفصيل مع احتمال الانطباق، لا يوجد شيء في المعلوم بالإجمال يمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، أو فرضنا وجود خصوصية في المعلوم بالإجمال، لكن نفس هذه الخصوصية أيضاً موجودة في المعلوم بالتفصيل، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين من دم، ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما المُعيّن تفصيلاً من دم أيضاً، هنا أيضاً العنوانان متّحدان ولا مانع من تطابقهما، لا يوجد ما يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة حينئذٍ قد يُدّعى ويقال بتحقق الانحلال الحقيقي في هذه الحالات، بمعنى أننا وجداناً لا يوجد لدينا علم إجمالي متبقٍ بعد حصول العلم التفصيلي، بعد أنّ نعلم تفصيلاً بأنّ هذا الإناء المُعيّن تنجّس من قطرة دم، هذه النجاسة الناشئة من قطرة دم المعلومة بالإجمال تنطبق النجاسة المعلومة بالتفصيل؛ لأنّها أيضاً نجاسة ناشئة من قطرة دم. صحيح، قد تكون هناك خصوصيات في المعلوم بالإجمال تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، لكن هذه الخصوصيات ليست دخيلة في المعلوم بالإجمال من قبيل خصوصية أنّ قطرة الدم هذه من زيد، أو أنّ هذه القطرة من الدم سقطت في مكان مُعيّن، أو في زمان مُعيّن، هذه خصوصيات قد تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لكن هذه الخصوصيات ليست دخيلة في المعلوم بالإجمال، ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن نجاسة ناشئة من قطرة دم، هذا هو الذي عليه التعويل في قِبال أن تكون نجاسة ناشئة من قطرة بول، أو شيء آخر، فهذه الخصوصيات كلّها لا تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، ما نعلمه إجمالاً هو عبارة عن نجاسة ناشئة من قطرة دم مرددة بين الطرفين، وما نعلمه بالتفصيل هو أيضاً نجاسة ناشئة من قطرة دم مُعينة في أحد الطرفين، بعد هذا لا يبقى للمكلّف علم إجمالي، وإنّما ينحل علمه الإجمالي انحلالاً حقيقياً إلى علم بالنجاسة الناشئة من دم مُعينة في هذا الطرف وشك في الطرف الآخر، وبهذا ينحل العلم الإجمالي ولا يبقى عند المكلّف علم إجمالي. نعم، لو كانت هناك خصوصية في المعلوم بالإجمال مأخوذة فيه تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة لا نقول بالانحلال الحقيقي، وأمّا في غير هذه الحالة كما إذا لم تكن هناك خصوصية أصلاً مأخوذة في المعلوم بالإجمال واتحد العنوانان، أو كانت هناك خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال، لكنّ هذه الخصوصية بنفسها مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة يتحقق الانحلال الحقيقي ولا يبقى علم إجمالي في هذه الحالة؛ وحينئذٍ نقول أنّ محل الكلام من هذا القبيل؛ لأنّ ما يعلمه المكلّف إجمالاً بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير هو وجود جملة من الأحكام الإلزامية ضمن الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا، هذا نعلمه إجمالاً، لكن من دون التمييز، ما نعلمه بالتفصيل بعد الفحص في الأدلة والمراجعة، المجتهد إذا فحص في الأدلة وراجع سوف يعثر على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن المعلوم بالإجمال، فنفس الخصوصية موجودة فيه؛ لأنّه يعثر على جملة من الأحكام الإلزامية بعد الفحص والتتبع في الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا، وهذا معناه أنّ الخصوصية لو كانت مأخوذة في المعلوم بالإجمال هي أيضاً مأخوذة في المعلوم بالتفصيل، يعني أنّ متعلّق العلم الإجمالي ومتعلّق العلم التفصيلي عنوان واحد ويُحتمل تطابقهما، يعني لا يوجد مانع يمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ فحينئذٍ يتحقق شرط الانحلال الحقيقي، فإذا عثر المجتهد بعد الفحص في الأدلة وفي الكتب على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن عدد المعلوم بالإجمال سوف ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بأحكام إلزامية في ضمن الإمارات الموجودة في الكتب الواصلة إلينا وشك بدوي في غيره، فيتحقق الانحلال الحقيقي؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الانحلال الحكمي. نعم إذا احتملنا أنّ المعلوم بالإجمال في محل كلامنا مقيّد بخصوصية يُحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل، فهذا يمنع من الانحلال الحقيقي، لكن يُدّعى أنّ هذه الخصوصية غير موجودة، وإنّما الموجود هو هذه الخصوصية فقط، أحكام إلزامية موجودة في ضمن الإمارات المبثوثة في الكتب الواصلة إلينا، هذا هو الذي نعلمه إجمالاً، ما نعلمه بالتفصيل بعد الفحص هو نفس هذا، فيكون هذا من قبيل ما إذا علمنا إجمالاً بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين، ثمّ علمنا بالتفصيل بسقوط قطرة دم في أحدهما المعين، إن قلنا في هذا المثال بالانحلال الحقيقي؛ حينئذٍ نقول في محل الكلام أيضاً بالانحلال الحقيقي.
نعم، إذا التزمنا بمقالة المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول بأنّ الانحلال الحقيقي لا يتحقق إلاّ في حالة واحدة، وهي حالة ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى العلم الإجمالي بحيث نقطع بأنّ ما نعلمه تفصيلاً هو نفس ما نعلمه إجمالاً، إذا قلنا بهذا؛ حينئذٍ لا يتحقق الانحلال الحقيقي في محل الكلام، وهذا هو الذي ذهب إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) وغيره ممن التزموا في هذه الأمثلة بالانحلال الحقيقي، وأنّه يكفي في الانحلال الحقيقي أن يتحد العنوان المعلوم بالإجمال والعنوان المعلوم بالتفصيل مع عدم وجود ما يمنع من تطابقهما، والمقصود هو أن تكون في المعلوم بالإجمال خصوصية تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل، فإذا قلنا بعدم وجود هذه الخصوصية، وإنّما الخصوصية إن وجدت، فهي لا تمنع من انطباقها على المعلوم بالتفصيل؛ وحينئذٍ يتحقق الانحلال الحقيقي.
وأمّا الانحلال الحكمي، فله تقريبان:
التقريب الأوّل: الذي يذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) في تقريرات بحثه[1] وحاصله هو: أنّ منجّزية العلم الإجمالي ـــــــ على رأيه المبني على مسلك الاقتضاء ــــــ تابعة لتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، والعلم الإجمالي بقطع النظر عن تعارض الأصول لا ينجّز، وحيث أنّه لا معنى لجريان الأصل المؤمّن في المعلوم بالتفصيل، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، وهذا هو معنى الانحلال الحكمي. يعني في مثال الإناءين إذا علمنا بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين إجمالاً، ثمّ علمنا بالتفصيل بأنّ هذا الإناء الأيسر سقطت فيه قطرة دم، فهذا لا يجري فيه الأصل المؤمّن، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وحيث أنّ المنجّزية تابعة لتعارض الأصول وتساقطها؛ فحينئذٍ مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنى الانحلال الحكمي.
من الواضح أنّ هذا التقريب مبني على مسلك الاقتضاء ولا يجري على مسلك العلّية؛ لأنّ مسلك العلّية يمنع من جريان الأصل في أحد الطرفين حتى لو لم يكن له معارض، هو يرى أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لتنجيز كلا الطرفين.
وبعبارة أخرى: إنّ الذي ينجّز الطرف هو احتمال انطباق الواقع المنجّز بالعلم الإجمالي عليه، العلم الإجمالي ينجّز الواقع، احتمال انطباق الواقع على هذا الطف هو ينجّزه، سواء كان له معارض أو لم يكن له معارض، يمنع من الأصل، فلا يجري فيه الأصل، سواء كان له معارض أو لم يكن له معارض، فلنفترض أنّ المعلوم بالتفصيل لا يجري فيه الأصل المؤمّن، لكن هذا لا يعني أنّ الأصل في الطرف الآخر يجري؛ لأنّه تنجّز بالعلم الإجمالي، والعلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فهو يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين حتى إذا لم يكن له معارض، فلا يجري هذا التقريب. ومن هنا يصار إلى التقريب الثاني الذي هو مبني على مسلّك العلّية.
التقريب الثاني: في هذا التقريب يُدّعى بأنّ ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ منجّزية العلم الإجمالي لأطرافه مشروطة بشرط وهو أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، يعني سواء كان معلومه في هذا الطرف هو ينجّزه، وفي ذاك الطرف أيضاً ينجّزه؛ حينئذٍ إذا فرضنا أنّ أحد الطرفين المعيّن كان منجّزاً بالعلم التفصيلي، هو يقول: أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ يسقط عن المنجّزية، فلا مانع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ الشرط تخلّف؛ لأنّ شرط منجّزية العلم الإجمالي هو أن يكون منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، والعلم الإجمالي بعد العلم التفصيلي بأحد الطرفين لا ينجّز معلومه على تقدير أن يكون معلومه في الطرف الذي علمنا به تفصيلاً؛ لأنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فالعلم الإجمالي على تقدير أن يكون معلومه في الطرف الآخر ينجّزه، لكن على تقدير أن يكون معلومه في هذا الطرف الذي علمنا به تفصيلاً لا ينجّزه؛ لأنّه تنجّز بالعلم التفصيلي. إذن: هو لا ينجّز معلومه على كل تقدير، فيختل شرط المنجّزية للعلم الإجمالي، فيسقط عن المنجّزية؛ وحينئذٍ يمكن إجراء الأصل في الطرف الآخر بلا محذور، وهذا هو معنى الانحلال الحكمي. فالتقريب الأوّل كان يقول يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، أمّا المحقق العراقي(قدّس سرّه) فيقول يجري الأصل في الطرف الآخر بلا محذور؛ لأنّ العلم الإجمالي قد سقط عن المنجّزية؛ لأنّه لا ينجّز معلومه على كل تقدير.
الذي يُلاحظ على هذين التقريبين ـــــــ بقطع النظر عن هذه التفاصيل والمباني التي يبتني عليها التقريب الأول أو التقريب الثاني؛ لأنّها تقدمت سابقاً في بحث العلم الإجمالي ـــــــ ما أشار إليه المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ الانحلال الحكمي دائماً هو مشروط بعدم تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي، وهذا ليس شرطاً في الانحلال الحقيقي حتى لو كان العلم التفصيلي متأخراً عن العلم الإجمالي، إذا توفرت شروط الانحلال الحقيقي فأنّه يتحقق ولا يُشترط فيه عدم التأخّر والمعاصرة، لكن في الانحلال الحكمي يُشترط المعاصرة وعدم التأخّر، ولابدّ أن يكون العلم الإجمالي والعلم التفصيلي متعاصرين حتى ينحل العلم الإجمالي انحلالاً حكمياً، وإلاّ إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي متأخر زماناً عن العلم التفصيلي؛ حينئذٍ لا يتحقق الانحلال الحكمي. أمّا على التقريب الأوّل المبني على مسلك الاقتضاء، فلا يتحقق الانحلال الحكمي باعتبار أنّ الأصل في الطرف الآخر يكون مُعارَضاً بالأصل المؤمّن في هذا الطرف الذي هو مورد العلم التفصيلي، لكن بلحاظ فترة ما قبل حدوث العلم التفصيلي، فالأصل في الطرف الآخر بلحاظ الفترة الزمنية الممتدة إلى آخره يكون مُعارَضاً بالأصل في هذا الطرف الذي هو مورد للعلم الإجمالي، لكن بلحاظ الفترة الزمنية قبل حدوث العلم التفصيلي، فإذا حصلت المعارضة؛ فحينئذٍ لا ينحل العلم الإجمالي ولا يسقط عن المنجّزية؛ إذ أنّ المنجّزية فرع التعارض والتساقط، وهنا تعارضت الأصول في الأطراف وتساقطت، فتوجد المنجّزية وهذه المنجّزية تمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه مُعارَض بأصلٍ في هذا الطرف، غاية الأمر أنّ الفترات الزمنية تختلف، يعني إذا أخذنا من هذا الطرف ــــــــ الذي هو مورد العلم التفصيلي ــــــــ فترة ما قبل حصول العلم الإجمالي، وأخذنا من الطرف الآخر الفترة الزمنية على امتدادها سنجد أنّ الأصول فيهما متعارضان ومتساقطان، فيتنجّز العلم الإجمالي وهذا التنجيز يمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه أصل معارض، والمفروض أنّ المنجّزية تابعة لتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها. إذن: لابدّ من المعاصرة، وإذا لم نفترض المعاصرة؛ حينئذٍ لا انحلال حكمي، وهكذا الأمر بالنسبة إلى التقريب الثاني.