36/07/28
تحمیل
الموضوع:- تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في
الحجية -قواعد وفوائد.
الفائدة الثالثة:- تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقة في الحجيّة وعدمها.
هناك بحثٌ لم يشر إليه في الكفاية أو الرسائل وهو أنّ الدلالة المطابقية للدليل اللفظي لو سقطت عن الحجية هل تسقط الدلالة الالتزاميّة عن الحجية أيضاً أو لا ؟ يعني كانت للدليل دلالتان مطابقيّة والتزاميّة وسقطت المطابقيّة عن الحجيّة فهل تسقط الالتزاميّة عن الحجيّة أو لا ؟ وهذا البحث ليس موجوداً في الكفاية ولا في الرسائل وإنما وجد بعد ذلك.
ولتوضيح المطلب نذكر بعض الأمثلة:-
المثال الأوّل:- لو فرض أنّ مكلفاً كان الوضوء يضره فحينئذٍ فيحكم بارتفاع الوجوب عنه لقاعدة لا ضرر أو لا حرج، ولكن تكلّف المكلف الوضوء مع المشقّة التامّة فهل وضوؤه صحيح أو لا ؟
قد يقول قائل:- إنّ الوضوء صحيحٌ باعتبار أنّ قاعدة ( لا ضرر ) أو ( لا حرج ) ترفع الوجوب وأمّا الملاك فلم ترفعه فيمكن آنذاك أن يتقرب بالملاك ويحكم آنذاك بصحة الوضوء.
وهذا الكلام يتمّ بناءً على أنّ الدلالة الالتزاميّة لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجيّة، أمّا إذا قلنا بتبعيتها فلا يتمّ هذا إذ الدال على الملاك هو الأمر، فالأمر حينما يدلّ على الوجوب فلازم الوجوب - أي لازم المدلول المطابقي - هو وجود المصلحة، أمّا بعد أن سقط الوجوب لأجل الضرر فمن قال إنّه يوجد ملاك ؟! إنّه بناءً على فكرة التبعيّة من المناسب عدم الحكم بصحّة الوضوء لعدم وجود ما يدلّ على الملاك، وأما بناءٍ على عدم التبعية فالوضوء صحيح لأنّ الوجوب قد سقط ودلالة الرواية على الوجوب قد سقطت عن الحجيّة بسبب لا ضرر أمّا الدلالة على الملاك فلا موجب لسقوطها.
إذن هذه ثمرة مهمّة، ونتمكن أن نقول إنَّ هذه المسألة هي من القواعد التي يستعان بها في مقام الاستنباط وليست فائدة فحسب.
المثال الثاني:- لو دخل المكلّف المسجد ورأى فيه نجاسة وقدّمنا جانب ( أزل ) على ( صلِّ ) ومن المناسب آنذاك أن يشتغل المكلف بالإزالة ولكنه لم يشتغل بها واشتغل بالصلاة فهل يمكن تصحيح صلاته بالملاك ؟ يعني نقول إنَّ الصلاة كان فيها مصلحة ووجوب والوجوب سقط بسبب ( أزل ) أمّا الملاك فلا موجب لسقوطه فيبقى على حاله، إنّ هذه القاعدة تأتي هنا فبناءً على التبعيّة حيث إنّه سقطت الدلالة على الوجوب عن الحجيّة فيلزم بذلك سقوط دلالته على الملاك، وأمّا بناءً على عدم التبعيّة فمن الوجيه أن نقول إنّه يمكن تصحيحها بالملاك.
وأذكر قضيّة جانبية:- وهي أنّه إذا بنينا على عدم التبعية فمبحث الترتّب سوف لا نحتاج إليه لأنّ الصلاة يمكن تصحيحها بالملاك، وأما إذا قلنا بالتبعيّة فآنذاك نحتاج في تصحيح الصلاة إلى وجود أمرٍ ترتّبي، فالحاجة إلى مبحث الترتب والأمر الترتبي ثابت على تقدير القول بالتبعيّة، إما إذا قلنا بعدم التبعيّة لا نحتاج إليه.
المثال الثالث:- الصبي إذا أراد أن يصلّي أو يصوم أو غير ذلك هل يمكن تصحيح صلاته أو لا ؟
من أحد الطرق لتصحيح الصلاة هو الأمر بالأمر، يعني ( إذا بلغوا سبعاً أو تسعاً فمروهم بالصلاة ) والأمر بالأمر أمرٌ بذلك الشيء وهذا معناه أنّ الصلاة مأمورٌ بها في حقّ الصبي من قبل الله تعالى فالأمر يكون مصحّحاً للصلاة ودور الأب دور المبلّغ والواسطة لا أنّ الأمر متوجّه إليه وإنما الأمر قد توجه إليه كوسيطٍ وإلا فهو متوجّه إلى الابن إذا بلغ سبعاً.
ويوجد طريق آخر للتصحيح:- وهو أن نقول إنّ قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ﴾ أو ﴿ أقيموا الصلاة ﴾ أو غير ذلك هذه الأوامر نتمسّك بها في حقّ الصبي فإنّ حديث رفع القلم يرفع الوجوب، فالوجوب مرفوعٌ بحديث رفع القلم فزالت الدلالة المطابقيّة وتبقى الدلالة الالتزاميّة - أعني الملاك - على حالها بناءً على عدم التبعيّة، فإذا بنينا على عدم التبعيّة فالملاك يبقى ويمكن التقرّب به، وإذا بنينا على التبعيّة لا يمكن التقرّب بالملاك لعدم الكاشف عنه.
المثال الرابع:- إذا كان عندنا ما يدلّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً وآخر يدلّ على الحرمة فهل يمكن نفي القول الثالث - وهو استحباب صلاة الجمعة في زمن الغيبة - بالقولين ؟ فنقول إنَّ نفس القول بالوجوب ونفس القول بالحرمة هما ينفيان الاستحباب ؟
هنا تظهر ثمرة هذه المسألة، فإنه بناءً على التبعيّة لا يمكن ذلك فإن الأمر بالوجوب حينما يسقط بسبب المعارضة وهكذا النهي التحريمي إذا سقط للمعارضة يعني أنَّ المدلول المطابقي قد سقط وبعد سقوط المدلول المطابقي لا يمكن إثبات المدلول الالتزامي - وهو انتفاء الاحتمال الثالث -، أمّا بناءً على عدم التبعيّة فيمكن حينئذٍ نفي الاحتمال الثالث.
بهذا اتضح أنّ هذه المسألة لها ثمراتها المهمّة كما أوضحنا.
وباتضاح المقصود من هذه المسألة يقع كلامنا في ثلاث قضايا:-
القضية الأولى:- ربّ قائلٍ يقول وإننا قرأنا في المنطق أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقية فكيف وقع الكلام الآن بين الأصوليين في أنها تابعة أو ليست تابعة فهل هذا يعني أنّ للأصوليين رأياً يخالف رأي المناطقة وهل توجد معارضة بين رأي المناطقة ورأي الأصوليين أو لا ؟
والجواب:- إنَّ المناطقة ينظرون إلى شيءٍ والأصوليون ينظرون إلى شيءٍ آخر، فالمناطقة ينظرون إلى أصل الوجود، يعني وجود الدلالة الالتزامية فرع وجود الدلالة المطابقية من حيث أصل الوجود ولا يمكن أن توجد دلالة التزاميّة بلا وجود دلالة مطابقيّة، والنكتة واضحة فإنّ اللفظ لابد في المرحلة الأولى أن يدلّ على معناه حتى بالتالي يدلّ على لازم معناه، أمّا إذا لم يدلّ على معناه فكيف يدلّ على اللازم ؟!! فالدلالة على لازم المعنى فرع الدلالة على أصل المعنى.
وهذا بخلافه في علم الأصول فإنّ الأصولي يسلم أنّ الدلالة الالتزاميّة من حيث الوجود متفرّعة على الدلالة المطابقيّة ولكن الكلام هو في أنّه إذا سقطت المطابقيّة لا عن أصل الوجود بل عن الحجيّة فهل تسقط الالتزاميّة عن الحجيّة ؟ فالمنظور عند الأصولي هو الحجيّة بينما المنظور للمنطقي هو أصل الوجود أما الحجية فهو بعيدٌ عنها، والمنطقي يسلّم التبعيّة في أصل الوجود ويقول إنَّ الأمر دالّ على الوجوب في حقّ الصبي أو المريض فأصل الدلالة موجودة على المدلول المطابقي وهكذا الدلالة على المدلول الالتزامي هي موجودة كوجودٍ، فالدلالة على المدلول الالتزامي ثابتةٌ لأجل وجود الدلالة المطابقيّة، فكلاهما موجودتان، لكن الأصولي يبحث قضية أخرى أجنبية عن المنطقي وهي أنّ الدلالة المطابقيّة التي هي موجودةٌ إذا سقطت عن الحجيّة فإنّ حديث رفع القلم لا يرفع أصل الدلالة على الوجوب وإنما يرفع حجيّة تلك الدلالة فاللفظ يبقى ظاهراً في الوجوب فظهوره في الوجوب موجودٌ ولكن ليس بحجّة فإنّ المخصّص المنفصل أو الحاكم لا يرفع أصل الدلالة على الوجوب بل هي موجودةٌ غاية الأمر هي ليست بحجّة، فيأتي الأصولي ويقول إذا زالت الحجيّة عن المدلول المطابقي بعد فرض وجوده هل يسقط المدلول الالتزامي عن الحجّية أو لا ؟ فكلام الأصولي في جانبٍ وكلام المنطقيّ في جانبٍ آخر.
القضية الثانية:- إنَّ هذه البحث ينبغي تخصيصه وتضييق دائرته بما إذا كان المدلول الالتزامي أعمّ من المدلول المطابقي دون ما إذا كان مساوياً.
فمثلاً الوجوب والملاك، فالملاك مدلول التزاميّ وهو أعمّ بمعنى أنّه كلّما كان هناك وجوبٌ فلابد وأن يكون هناك ملاك حتماً، وليس كلّما كان هناك ملاك كان هناك وجوب، وهذا معناه أنّ الملاك صار أعمّ فإنّ الأعم إذا وجد لا يلزم وجود الأخصّ ولكن إذا وجد الأخص يلزم وجود الأعم، فالملاك أعمّ، فهنا يأتي الكلام وهو أنّه إذا ارتفع الوجوب فلا يلزم تكويناً ارتفاع الملاك لأنّه أعمّ وعليه فهل يبقى على الحجيّة أو لا ؟
أمّا إذا كان مساوياً كما هو الحال في الإنسان والناطق مثلاً، فلو فرض على أنه دلّ الدليل على وجود إنسانٍ في المسجد فبالالتزام الناطقيّة ثابتة في المسجد، وبعد ذلك حصل المعارض للمدلول المطابقي حيث جاء شخصٌ وقال إنَّ الإنسان ليس موجوداً في المسجد فيسقطان عن الحجيّة في المدلول المطابقي لأجل المعارضة، فهنا هل يمكن بقاء المدلول الالتزامي على الحجيّة بأن نقول صحيحٌ أنّنا لا نحكم بوجود الإنسان في المسجد لأجل المعارضة ولكن نحكم بوجود الناطق ؟!! إنّه غير مقبول عقلائياً وعقلاً لأجل المساواة بينهما، وقد يكون هذا مرفوضاً حتى على مستوى التعبّد فلا يصح أن تعبّدني في باب المتساويين بأنّ أحدهما موجودٌ والآخر ليس موجوداً فإنّ هذا مستهجنٌ حتى في مقام التعبّد، وإن كان عندك إشكال في هذا المثال فأتِ بمثالٍ آخر.
إذن محلّ الكلام ينحصر بما إذا فرض أنّ المدلول الالتزامي كان قابلاً للبقاء على تقدير ارتفاع المدلول المطابقي بأن كان المدلول الالتزامي أعم، وأمّا إذا كانا متساويين فلا يمكن أن يحكم بارتفاع المدلول المطابقي مع بقاء المدلول الالتزامي لأنّ ذلك معناه التفكيك بين المتساويين وهو أمرٌ مرفوضٌ عقلائياً بل لعله مرفوض عقلاً.
الفائدة الثالثة:- تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقة في الحجيّة وعدمها.
هناك بحثٌ لم يشر إليه في الكفاية أو الرسائل وهو أنّ الدلالة المطابقية للدليل اللفظي لو سقطت عن الحجية هل تسقط الدلالة الالتزاميّة عن الحجية أيضاً أو لا ؟ يعني كانت للدليل دلالتان مطابقيّة والتزاميّة وسقطت المطابقيّة عن الحجيّة فهل تسقط الالتزاميّة عن الحجيّة أو لا ؟ وهذا البحث ليس موجوداً في الكفاية ولا في الرسائل وإنما وجد بعد ذلك.
ولتوضيح المطلب نذكر بعض الأمثلة:-
المثال الأوّل:- لو فرض أنّ مكلفاً كان الوضوء يضره فحينئذٍ فيحكم بارتفاع الوجوب عنه لقاعدة لا ضرر أو لا حرج، ولكن تكلّف المكلف الوضوء مع المشقّة التامّة فهل وضوؤه صحيح أو لا ؟
قد يقول قائل:- إنّ الوضوء صحيحٌ باعتبار أنّ قاعدة ( لا ضرر ) أو ( لا حرج ) ترفع الوجوب وأمّا الملاك فلم ترفعه فيمكن آنذاك أن يتقرب بالملاك ويحكم آنذاك بصحة الوضوء.
وهذا الكلام يتمّ بناءً على أنّ الدلالة الالتزاميّة لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجيّة، أمّا إذا قلنا بتبعيتها فلا يتمّ هذا إذ الدال على الملاك هو الأمر، فالأمر حينما يدلّ على الوجوب فلازم الوجوب - أي لازم المدلول المطابقي - هو وجود المصلحة، أمّا بعد أن سقط الوجوب لأجل الضرر فمن قال إنّه يوجد ملاك ؟! إنّه بناءً على فكرة التبعيّة من المناسب عدم الحكم بصحّة الوضوء لعدم وجود ما يدلّ على الملاك، وأما بناءٍ على عدم التبعية فالوضوء صحيح لأنّ الوجوب قد سقط ودلالة الرواية على الوجوب قد سقطت عن الحجيّة بسبب لا ضرر أمّا الدلالة على الملاك فلا موجب لسقوطها.
إذن هذه ثمرة مهمّة، ونتمكن أن نقول إنَّ هذه المسألة هي من القواعد التي يستعان بها في مقام الاستنباط وليست فائدة فحسب.
المثال الثاني:- لو دخل المكلّف المسجد ورأى فيه نجاسة وقدّمنا جانب ( أزل ) على ( صلِّ ) ومن المناسب آنذاك أن يشتغل المكلف بالإزالة ولكنه لم يشتغل بها واشتغل بالصلاة فهل يمكن تصحيح صلاته بالملاك ؟ يعني نقول إنَّ الصلاة كان فيها مصلحة ووجوب والوجوب سقط بسبب ( أزل ) أمّا الملاك فلا موجب لسقوطه فيبقى على حاله، إنّ هذه القاعدة تأتي هنا فبناءً على التبعيّة حيث إنّه سقطت الدلالة على الوجوب عن الحجيّة فيلزم بذلك سقوط دلالته على الملاك، وأمّا بناءً على عدم التبعيّة فمن الوجيه أن نقول إنّه يمكن تصحيحها بالملاك.
وأذكر قضيّة جانبية:- وهي أنّه إذا بنينا على عدم التبعية فمبحث الترتّب سوف لا نحتاج إليه لأنّ الصلاة يمكن تصحيحها بالملاك، وأما إذا قلنا بالتبعيّة فآنذاك نحتاج في تصحيح الصلاة إلى وجود أمرٍ ترتّبي، فالحاجة إلى مبحث الترتب والأمر الترتبي ثابت على تقدير القول بالتبعيّة، إما إذا قلنا بعدم التبعيّة لا نحتاج إليه.
المثال الثالث:- الصبي إذا أراد أن يصلّي أو يصوم أو غير ذلك هل يمكن تصحيح صلاته أو لا ؟
من أحد الطرق لتصحيح الصلاة هو الأمر بالأمر، يعني ( إذا بلغوا سبعاً أو تسعاً فمروهم بالصلاة ) والأمر بالأمر أمرٌ بذلك الشيء وهذا معناه أنّ الصلاة مأمورٌ بها في حقّ الصبي من قبل الله تعالى فالأمر يكون مصحّحاً للصلاة ودور الأب دور المبلّغ والواسطة لا أنّ الأمر متوجّه إليه وإنما الأمر قد توجه إليه كوسيطٍ وإلا فهو متوجّه إلى الابن إذا بلغ سبعاً.
ويوجد طريق آخر للتصحيح:- وهو أن نقول إنّ قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ﴾ أو ﴿ أقيموا الصلاة ﴾ أو غير ذلك هذه الأوامر نتمسّك بها في حقّ الصبي فإنّ حديث رفع القلم يرفع الوجوب، فالوجوب مرفوعٌ بحديث رفع القلم فزالت الدلالة المطابقيّة وتبقى الدلالة الالتزاميّة - أعني الملاك - على حالها بناءً على عدم التبعيّة، فإذا بنينا على عدم التبعيّة فالملاك يبقى ويمكن التقرّب به، وإذا بنينا على التبعيّة لا يمكن التقرّب بالملاك لعدم الكاشف عنه.
المثال الرابع:- إذا كان عندنا ما يدلّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً وآخر يدلّ على الحرمة فهل يمكن نفي القول الثالث - وهو استحباب صلاة الجمعة في زمن الغيبة - بالقولين ؟ فنقول إنَّ نفس القول بالوجوب ونفس القول بالحرمة هما ينفيان الاستحباب ؟
هنا تظهر ثمرة هذه المسألة، فإنه بناءً على التبعيّة لا يمكن ذلك فإن الأمر بالوجوب حينما يسقط بسبب المعارضة وهكذا النهي التحريمي إذا سقط للمعارضة يعني أنَّ المدلول المطابقي قد سقط وبعد سقوط المدلول المطابقي لا يمكن إثبات المدلول الالتزامي - وهو انتفاء الاحتمال الثالث -، أمّا بناءً على عدم التبعيّة فيمكن حينئذٍ نفي الاحتمال الثالث.
بهذا اتضح أنّ هذه المسألة لها ثمراتها المهمّة كما أوضحنا.
وباتضاح المقصود من هذه المسألة يقع كلامنا في ثلاث قضايا:-
القضية الأولى:- ربّ قائلٍ يقول وإننا قرأنا في المنطق أنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقية فكيف وقع الكلام الآن بين الأصوليين في أنها تابعة أو ليست تابعة فهل هذا يعني أنّ للأصوليين رأياً يخالف رأي المناطقة وهل توجد معارضة بين رأي المناطقة ورأي الأصوليين أو لا ؟
والجواب:- إنَّ المناطقة ينظرون إلى شيءٍ والأصوليون ينظرون إلى شيءٍ آخر، فالمناطقة ينظرون إلى أصل الوجود، يعني وجود الدلالة الالتزامية فرع وجود الدلالة المطابقية من حيث أصل الوجود ولا يمكن أن توجد دلالة التزاميّة بلا وجود دلالة مطابقيّة، والنكتة واضحة فإنّ اللفظ لابد في المرحلة الأولى أن يدلّ على معناه حتى بالتالي يدلّ على لازم معناه، أمّا إذا لم يدلّ على معناه فكيف يدلّ على اللازم ؟!! فالدلالة على لازم المعنى فرع الدلالة على أصل المعنى.
وهذا بخلافه في علم الأصول فإنّ الأصولي يسلم أنّ الدلالة الالتزاميّة من حيث الوجود متفرّعة على الدلالة المطابقيّة ولكن الكلام هو في أنّه إذا سقطت المطابقيّة لا عن أصل الوجود بل عن الحجيّة فهل تسقط الالتزاميّة عن الحجيّة ؟ فالمنظور عند الأصولي هو الحجيّة بينما المنظور للمنطقي هو أصل الوجود أما الحجية فهو بعيدٌ عنها، والمنطقي يسلّم التبعيّة في أصل الوجود ويقول إنَّ الأمر دالّ على الوجوب في حقّ الصبي أو المريض فأصل الدلالة موجودة على المدلول المطابقي وهكذا الدلالة على المدلول الالتزامي هي موجودة كوجودٍ، فالدلالة على المدلول الالتزامي ثابتةٌ لأجل وجود الدلالة المطابقيّة، فكلاهما موجودتان، لكن الأصولي يبحث قضية أخرى أجنبية عن المنطقي وهي أنّ الدلالة المطابقيّة التي هي موجودةٌ إذا سقطت عن الحجيّة فإنّ حديث رفع القلم لا يرفع أصل الدلالة على الوجوب وإنما يرفع حجيّة تلك الدلالة فاللفظ يبقى ظاهراً في الوجوب فظهوره في الوجوب موجودٌ ولكن ليس بحجّة فإنّ المخصّص المنفصل أو الحاكم لا يرفع أصل الدلالة على الوجوب بل هي موجودةٌ غاية الأمر هي ليست بحجّة، فيأتي الأصولي ويقول إذا زالت الحجيّة عن المدلول المطابقي بعد فرض وجوده هل يسقط المدلول الالتزامي عن الحجّية أو لا ؟ فكلام الأصولي في جانبٍ وكلام المنطقيّ في جانبٍ آخر.
القضية الثانية:- إنَّ هذه البحث ينبغي تخصيصه وتضييق دائرته بما إذا كان المدلول الالتزامي أعمّ من المدلول المطابقي دون ما إذا كان مساوياً.
فمثلاً الوجوب والملاك، فالملاك مدلول التزاميّ وهو أعمّ بمعنى أنّه كلّما كان هناك وجوبٌ فلابد وأن يكون هناك ملاك حتماً، وليس كلّما كان هناك ملاك كان هناك وجوب، وهذا معناه أنّ الملاك صار أعمّ فإنّ الأعم إذا وجد لا يلزم وجود الأخصّ ولكن إذا وجد الأخص يلزم وجود الأعم، فالملاك أعمّ، فهنا يأتي الكلام وهو أنّه إذا ارتفع الوجوب فلا يلزم تكويناً ارتفاع الملاك لأنّه أعمّ وعليه فهل يبقى على الحجيّة أو لا ؟
أمّا إذا كان مساوياً كما هو الحال في الإنسان والناطق مثلاً، فلو فرض على أنه دلّ الدليل على وجود إنسانٍ في المسجد فبالالتزام الناطقيّة ثابتة في المسجد، وبعد ذلك حصل المعارض للمدلول المطابقي حيث جاء شخصٌ وقال إنَّ الإنسان ليس موجوداً في المسجد فيسقطان عن الحجيّة في المدلول المطابقي لأجل المعارضة، فهنا هل يمكن بقاء المدلول الالتزامي على الحجيّة بأن نقول صحيحٌ أنّنا لا نحكم بوجود الإنسان في المسجد لأجل المعارضة ولكن نحكم بوجود الناطق ؟!! إنّه غير مقبول عقلائياً وعقلاً لأجل المساواة بينهما، وقد يكون هذا مرفوضاً حتى على مستوى التعبّد فلا يصح أن تعبّدني في باب المتساويين بأنّ أحدهما موجودٌ والآخر ليس موجوداً فإنّ هذا مستهجنٌ حتى في مقام التعبّد، وإن كان عندك إشكال في هذا المثال فأتِ بمثالٍ آخر.
إذن محلّ الكلام ينحصر بما إذا فرض أنّ المدلول الالتزامي كان قابلاً للبقاء على تقدير ارتفاع المدلول المطابقي بأن كان المدلول الالتزامي أعم، وأمّا إذا كانا متساويين فلا يمكن أن يحكم بارتفاع المدلول المطابقي مع بقاء المدلول الالتزامي لأنّ ذلك معناه التفكيك بين المتساويين وهو أمرٌ مرفوضٌ عقلائياً بل لعله مرفوض عقلاً.