36/08/06
تحمیل
الموضوع:- تأثير الزمان والمكان على عملية الاستنباط -قواعد وفوائد.
كان كلامنا في مسألة تأثير الزمان أو المكان على عمليّة الاستنباط وقلنا إنَّ بعض الحالات ينبغي أن نتفق فيها على تأثير الزمان والمكان، وحالات ينبغي أن نتفق فيها على أنّ الزمان والمكان لا يكون مؤثراً فيها، وهناك حالات أخرى هي محلّ الكلام والخلاف:-
أما بالنسبة إلى الحالة الأولى فلها موارد:-
المورد الأوّل:- إذا فرض أنّ الشارع صبّ الحكم على مفهومٍ كلّيٍّ وكان ذلك المفهوم الكلّي تتغير أفراده بتغيّر الزمان والمكان - فمن خصوصياته أن تتغير مصاديقه بتغير الزمان أو المكان - ففي مثل هذه الحالة لابد من مراعاة الزمان أو المكان، ونذكر لذلك بعض الأمثلة:-
المثال الأوّل:- قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة )[1] فالآية الكريمة أمرت أن نعدّ للأعداء ما نستعين ونتقوّى به عليهم ومصاديق ذلك تختلف باختلاف الزمان والمكان، ففي الزمن السالف يكون إعداد القوّة بإعداد السيوف السهام والخيل وما شاكل ذلك من الوسائل البدائية المتداولة عندهم، ثم بعد فترة من الزمن صارت القوّة بالمسدّس والبندقيّة، وفي زماننا صار إعداد القوّة يكون بالطائرات وما شاكل ذلك، بل هناك سلاحٌ آخر غير هذا كسلاح الإعلام فإنه نحوٌ من السلاح.
إذن هنا نقول يتغيّر المصداق بتغيّر الزمان أو بتغيّر المكان فلابد من ملاحظة ذلك وأخذه بعين الاعتبار.
أمّا ما هي النكتة الفنّية للرجوع في كلّ زمانٍ أو مكانٍ إلى المصداق في ذلك الزمان أو المكان ؟
لا ينبغي أن تكون النكتة الفنيّة هي الوجدان والقطع بأنّ الشارع لا يمكن أن يجعل المدار على السيوف والخيل بلحاظ كلّ زمانٍ فهذا كلامٌ لا بأس به ولكنّه ليس كلاماً صناعياً وفنيّاً، بل نحن نريد صياغاتٍ صناعيّة وليكن الوجدان سبباً في أن نفكّر في الصيغة الصناعيّة الفنيّة فنقول:- إنّ الشرع أمرنا بإعداد ما به القوّة ولم يحدّد مصداق ذلك ونفس سكوته يدلّ على أنه أحال الأمر إلى الزمان والمكان وهذا ما قد يعبّر عنه بالإطلاق المقامي يعني هو كان في مقام البيان وسكت عن تحديد المصاديق وهذا يعني أنه أرجع تحديد المصداق في كلّ زمانٍ إلى العرف، ففي كلّ زمانٍ ماذا يحكم العرف ؟ فإن حكم بأنّ القوة التي يلزم أن نستعين بها هي كذا فتكون هي المدار.
المثال الثاني:- قوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف )[2]، فالمعاشرة بالمعروف في ذلك الزمان تكون بأن تشتري للزوجة ثوباً في السنة مثلاً وحجرة واحدة في البيت، أمّا مصداق هذا الزمان فهو يختلف إذ لا تكفي الغرفة الواحدة ولعلها تحتاج إلى شقّةٍ كما أنّ الأكل والثياب يختلف، فالسكن قد اختلف والطعام والملبس قد اختلف، فالمعاشرة بالمعروف تختلف بلحاظ الأزمنة الأمكنة والشارع حينما سكت عن تحديد المصاديق يعني أنّه أوكل قضيّة التطبيق إلى العرف فلابد من ملاحظة الزمان والمكان، وهذا ما يصطلح عليه بالإطلاق المقامي.
المثال الثالث:- قوله تعالى ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم )[3]، والشاهد هو قوله ( للفقراء ) ومن هو الفقير ؟ هو من كان وارده لا يساوي ما يحتاج إليه - يعني الوارد أقل من الحاجة - فهو يحتاج إلى أمورٍ من الفراش والتلفزيون والثلاجة وما شاكل ذلك فإذا لم يكن عنده بعضها فهذا يعتبر فقيراً في زماننا وليس فقيراً في ذلك الزمان . إذن فقير ذلك الزمان يختلف مصداقاً عن فقير هذا الزمان بلا إشكالٍ فلعلّ الشخص في زماننا عنده أمور كثيرة ولكن مع ذلك يعدّ فقيراً.
بل لعلّه حتى لو كان عنده جميع أمور بيته ولكن يحتاج إلى بعض المال يكون تحت يده للحالة الطارئة فإنّ هذا قد أصبح من الأمور الضرورية فهذا يؤخذ كدخيلٍ في الفقر، وهذا يختلف باختلاف نفسيّة الفقيه.
كما أنّ الأمكنة تختلف ففي الحَضَر يكون مصداق الفقير بشكلٍ وفي القرى والأرياف يكون مصداقه بشكلٍ آخر.
وهكذا عنوان ( وفي سبيل الله ) فسابقاً كانوا يمثّلون لذلك بفتح نهرٍ أو إنشاء جسرٍ، أمّا الآن فهو يكون بفتح موقعٍ على الانترنيت للدفاع عن الحقّ أو بفتح قناةٍ فضائيةٍ للدفاع عن الحقّ، فهذا مصداقٌ من مصاديق في سبيل الله ولا بأس به.
ومن جملة الأمثلة على ذلك غسل الملابس، ففي ذلك الزمن كان الغسل بالطست لكن في هذا الزمن صار المصداق هو الغسالة فهي تدير الملابس فيصدق الغسل عرفاً، فحصل مصداقٌ جديدٌ للغسل في زماننا، فيكفي هذا في تحقّق الغسل والتطهير . إذن أثرت عمليّة الزمان هنا.
وكذلك قضيّة الربا في المكيل أو الموزون، فقد تكون بعض الأشياء مكيلة أو موزونة في بلادٍ ومعدودة في بلادٍ آخر كالسمك والبيض في بعض البلدان، فالبلاد التي يباع فيها بالوزن فسوف يتحقّق الربا أمّا في البلاد التي يباع فيها بالعدد فلا يتحقّق بذلك الربا، فالربا يتحقق بلحاظ بلدٍ دون الآخر.
ومن جملة الأمثلة:- قوله تعالى ( ولا تجسّسوا ) فالتجسس في ذلك الزمن كان مصداقة أن يضع الإنسان ابنه قريباً منهم ليسمع ما يتكلّمون به، والآن وجِدَ مصداقٌ آخر للتجسّس وهو أن يضع آلة تصوير - الكاميرا - مثلاً ويلاحظ ماذا يصنعون، أو من خلال بعض الوسائل التي تمكنه من أن يسترق كلامهم وهو في بيته، هذا نحوٌ من التجسّس، وهذا المصداق لم يكن موجوداً في ذلك الزمن . والأمثلة على هذا المنوال كثيرة.
المورد الثاني:- من قبيل ما إذا فرض أنّ الحكم صُبَّ على بعض الأفراد وكانت القرائن وبعض النكات تساعد على أنّ هذه الأفراد لا خصوصيّة لها فنتعدّى من تلك الأفراد إلى أفرادٍ أخرى رغم أنّ الشارع المقدّس قد صبّ الحكم على هذه الأفراد لكن نحن نتجاوز هذا التحديد الشرعي ونعمّم الحكم إلى أفرادٍ أخرى، كما في قضيّة محرّمات الإحرام فإنّه ورد صحيحة معاوية بن عمّار:- ( إنما يحرم عليك من الطيب أربعة أشياء المسك والعنبر والورس والزعفران )[4]، إنّ الشارع صبّ الحكم على هذه الأفراد الأربعة وهل هي من أنحاء الطيب في زماننا ؟! إنّه وجدت عطور أخرى فهل نبقى على هذه الأفراد التي نصّ عليها الشرع أو نتعدّى إلى غيرها ؟ نقول إنّ هذه الأفراد ذكرت من باب أنها هي الأفراد المتداولة البارزة في تلك الفترة الزمنيّة، فهو ناظر إلى تلك الفترة الزمنيّة وأما في زماننا فقد أصبحت هذه العطور مهجورة، فهل تحتمل أنّ الفقيه يبقى جامداً على النصّ وبالتالي يحكم بحليّة هذه الروائح الجديدة على المحرِم لأنّ الشرع قال ( إنما يحرم من الطيب أربعة ) ؟!! كلّا إنّ هذا شيء مرفوض.
إذن ينبغي أن تتفق معي على أنّه رغم أنّ الشرع قد نصّ على هذه الأفراد الأربعة وصبّ الحكم عليها ولكن نحن نتجاوزها.
ومن هذا القبيل قوله عليه السلام:- ( لا سَبَقَ[5]إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نصل )[6]، إنّ هذا الحديث الشريف حلّل الرهان في باب السباق في هذه الموارد الثلاثة، وهل نقتصر على هذه الثلاثة ونقول يحرم المسابقة بالوسائل الحربيّة الحديثة كالدبّابات والطائرات وغير ذلك ؟!! إنّه شيء غير محتمل وذلك إمّا أن نقول بأن الشارع يقول عطلّوا الحرب واتركوا العدو يدخل بلادكم أو نقول الاسلام يقول أدخل الحرب بلا تدريبٍ وبلا مسابقة، وهل يحتمل هذا الشي ؟!! إنّه غير محتمل . إذن يتعيّن أن نقول بأنه يجوز أن نتجاوز النصّ إلى الوسائل الحديثة البارزة فإنّ الثلاثة التي ذكرها النصّ كانت هي الوسائل البارزة في ذلك الزمان فنتعدّى إلى الوسائل البارزة في زماننا.
ولو كانت هناك مناقشة فهي مناقشة في المثال، ولكن يمكن أن نجد أمثلة أخرى من هذا القبيل نصّ الشارع فيها على أفرادٍ ولكن نحن نتجاوز تلك الأفراد من باب بعض القرائن.
المورد الثالث:- ما إذا فرض أنّ الشرع صبّ الحكم على مفهومٍ معيّن ونحن فهمنا من خلال بعض القرائن والنكات أنّ هذا الحكم يختلف باختلاف الزمان:-
من قبيل الآية الكريمة التي تقول:- ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عوراتٍ لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن .. )[7]، إنّ الآية الكريمة أمرت باستئذان الأطفال والعبيد في هذه الأوقات الثلاثة التي قد يختلي فيها الزوج بزوجته، وهل يبقى هذا الحكم سارياً في حدود هذه الأوقات ؟! فالآن نحن لا ننام في الظهيرة - أي الفترة التي تكون قبل الظهر -، فعلى هذا الأساس هل يلزم حينئذٍ الاستئذان في هذا الوقت أو لا ؟ ولو افترضنا أنّه تغيّر وقت المنام فالمدار حينئذٍ يكون على ماذا ؟ إنّ المدار هو على الوقت الجديد ولا نبقى متمسكين بذلك الوقت القديم، فرغم أنّ الآية الكريمة نصّت على الوقت ولكن نفهم من القرائن أنّ التعدّي هو شيءٌ جائزٌ فإنها قالت ( ثلاث عورات ) لكنها بيّنت النكتة فحينئذٍ لو تغيّر وقت الاختلاء بالزوجة فحينئذٍ يتغيّر هذا الحكم أيضاً.
ولعلّ منه قوله تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق )[8]، إنها دلّت على أنّه إذا فرض أننا أردنا أن ندخل بيت النبي صلى الله عليه وآله فالدخول لابد وأن لا يكون قبل فترةٍ طويلةٍ من وقت الطعام وننتظر حتى يُطبَخ بل لابدّ من المجيء قبل وقت الطعام بقليلٍ ثم نذهب بعد تناوله بقليلٍ ولا تبقى جالسين لفترةٍ طويلةٍ مستأنسين بالحديث مع الأصحاب - وهذا من الآداب الشرعيّة -، ولكن رغم أنّ هذه الآية الكريمة واردة في النبي صلى الله عليه وآله ولكن نتعدّى منها إلى المرجع، فعند زيارة بيت المرجع تكون المسألة كذلك، بل نتعدّى إلى بيت الإنسان الذي لديه أعمال كالمدرس وغيره فإنّه يأتي نفس هذا الكلام فنتعدّى.
ولكن الذي نريد أن نقوله:- هو أنّ هذه الآية الكريمة وإن قالت لابد من الخروج بعد الطعام ولكن هذا يختلف باختلاف الموارد، فلعلّ نفس الشخص هو يستأنس بوجودكم فهذا لا بأس به، أو فرضنا أنّ العرف في بلدٍ يقتضي البقاء بعد الطعام لفترةٍ معيّنة، أو أن يأتي المدعوّ قبل الطعام بفترةٍ احتراماً لصاحب الدار، فهذه القضايا يلزم أن تلحظ وتؤخذ بعين الاعتبار رغم أنّ الآية الكريمة قد وردت بهذا الشكل ولكن نحن نتجاوز ونلحظ عنصر الزمان والمكان بالشكل الذي أشرنا إليه.
كان كلامنا في مسألة تأثير الزمان أو المكان على عمليّة الاستنباط وقلنا إنَّ بعض الحالات ينبغي أن نتفق فيها على تأثير الزمان والمكان، وحالات ينبغي أن نتفق فيها على أنّ الزمان والمكان لا يكون مؤثراً فيها، وهناك حالات أخرى هي محلّ الكلام والخلاف:-
أما بالنسبة إلى الحالة الأولى فلها موارد:-
المورد الأوّل:- إذا فرض أنّ الشارع صبّ الحكم على مفهومٍ كلّيٍّ وكان ذلك المفهوم الكلّي تتغير أفراده بتغيّر الزمان والمكان - فمن خصوصياته أن تتغير مصاديقه بتغير الزمان أو المكان - ففي مثل هذه الحالة لابد من مراعاة الزمان أو المكان، ونذكر لذلك بعض الأمثلة:-
المثال الأوّل:- قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة )[1] فالآية الكريمة أمرت أن نعدّ للأعداء ما نستعين ونتقوّى به عليهم ومصاديق ذلك تختلف باختلاف الزمان والمكان، ففي الزمن السالف يكون إعداد القوّة بإعداد السيوف السهام والخيل وما شاكل ذلك من الوسائل البدائية المتداولة عندهم، ثم بعد فترة من الزمن صارت القوّة بالمسدّس والبندقيّة، وفي زماننا صار إعداد القوّة يكون بالطائرات وما شاكل ذلك، بل هناك سلاحٌ آخر غير هذا كسلاح الإعلام فإنه نحوٌ من السلاح.
إذن هنا نقول يتغيّر المصداق بتغيّر الزمان أو بتغيّر المكان فلابد من ملاحظة ذلك وأخذه بعين الاعتبار.
أمّا ما هي النكتة الفنّية للرجوع في كلّ زمانٍ أو مكانٍ إلى المصداق في ذلك الزمان أو المكان ؟
لا ينبغي أن تكون النكتة الفنيّة هي الوجدان والقطع بأنّ الشارع لا يمكن أن يجعل المدار على السيوف والخيل بلحاظ كلّ زمانٍ فهذا كلامٌ لا بأس به ولكنّه ليس كلاماً صناعياً وفنيّاً، بل نحن نريد صياغاتٍ صناعيّة وليكن الوجدان سبباً في أن نفكّر في الصيغة الصناعيّة الفنيّة فنقول:- إنّ الشرع أمرنا بإعداد ما به القوّة ولم يحدّد مصداق ذلك ونفس سكوته يدلّ على أنه أحال الأمر إلى الزمان والمكان وهذا ما قد يعبّر عنه بالإطلاق المقامي يعني هو كان في مقام البيان وسكت عن تحديد المصاديق وهذا يعني أنه أرجع تحديد المصداق في كلّ زمانٍ إلى العرف، ففي كلّ زمانٍ ماذا يحكم العرف ؟ فإن حكم بأنّ القوة التي يلزم أن نستعين بها هي كذا فتكون هي المدار.
المثال الثاني:- قوله تعالى ( وعاشروهن بالمعروف )[2]، فالمعاشرة بالمعروف في ذلك الزمان تكون بأن تشتري للزوجة ثوباً في السنة مثلاً وحجرة واحدة في البيت، أمّا مصداق هذا الزمان فهو يختلف إذ لا تكفي الغرفة الواحدة ولعلها تحتاج إلى شقّةٍ كما أنّ الأكل والثياب يختلف، فالسكن قد اختلف والطعام والملبس قد اختلف، فالمعاشرة بالمعروف تختلف بلحاظ الأزمنة الأمكنة والشارع حينما سكت عن تحديد المصاديق يعني أنّه أوكل قضيّة التطبيق إلى العرف فلابد من ملاحظة الزمان والمكان، وهذا ما يصطلح عليه بالإطلاق المقامي.
المثال الثالث:- قوله تعالى ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم )[3]، والشاهد هو قوله ( للفقراء ) ومن هو الفقير ؟ هو من كان وارده لا يساوي ما يحتاج إليه - يعني الوارد أقل من الحاجة - فهو يحتاج إلى أمورٍ من الفراش والتلفزيون والثلاجة وما شاكل ذلك فإذا لم يكن عنده بعضها فهذا يعتبر فقيراً في زماننا وليس فقيراً في ذلك الزمان . إذن فقير ذلك الزمان يختلف مصداقاً عن فقير هذا الزمان بلا إشكالٍ فلعلّ الشخص في زماننا عنده أمور كثيرة ولكن مع ذلك يعدّ فقيراً.
بل لعلّه حتى لو كان عنده جميع أمور بيته ولكن يحتاج إلى بعض المال يكون تحت يده للحالة الطارئة فإنّ هذا قد أصبح من الأمور الضرورية فهذا يؤخذ كدخيلٍ في الفقر، وهذا يختلف باختلاف نفسيّة الفقيه.
كما أنّ الأمكنة تختلف ففي الحَضَر يكون مصداق الفقير بشكلٍ وفي القرى والأرياف يكون مصداقه بشكلٍ آخر.
وهكذا عنوان ( وفي سبيل الله ) فسابقاً كانوا يمثّلون لذلك بفتح نهرٍ أو إنشاء جسرٍ، أمّا الآن فهو يكون بفتح موقعٍ على الانترنيت للدفاع عن الحقّ أو بفتح قناةٍ فضائيةٍ للدفاع عن الحقّ، فهذا مصداقٌ من مصاديق في سبيل الله ولا بأس به.
ومن جملة الأمثلة على ذلك غسل الملابس، ففي ذلك الزمن كان الغسل بالطست لكن في هذا الزمن صار المصداق هو الغسالة فهي تدير الملابس فيصدق الغسل عرفاً، فحصل مصداقٌ جديدٌ للغسل في زماننا، فيكفي هذا في تحقّق الغسل والتطهير . إذن أثرت عمليّة الزمان هنا.
وكذلك قضيّة الربا في المكيل أو الموزون، فقد تكون بعض الأشياء مكيلة أو موزونة في بلادٍ ومعدودة في بلادٍ آخر كالسمك والبيض في بعض البلدان، فالبلاد التي يباع فيها بالوزن فسوف يتحقّق الربا أمّا في البلاد التي يباع فيها بالعدد فلا يتحقّق بذلك الربا، فالربا يتحقق بلحاظ بلدٍ دون الآخر.
ومن جملة الأمثلة:- قوله تعالى ( ولا تجسّسوا ) فالتجسس في ذلك الزمن كان مصداقة أن يضع الإنسان ابنه قريباً منهم ليسمع ما يتكلّمون به، والآن وجِدَ مصداقٌ آخر للتجسّس وهو أن يضع آلة تصوير - الكاميرا - مثلاً ويلاحظ ماذا يصنعون، أو من خلال بعض الوسائل التي تمكنه من أن يسترق كلامهم وهو في بيته، هذا نحوٌ من التجسّس، وهذا المصداق لم يكن موجوداً في ذلك الزمن . والأمثلة على هذا المنوال كثيرة.
المورد الثاني:- من قبيل ما إذا فرض أنّ الحكم صُبَّ على بعض الأفراد وكانت القرائن وبعض النكات تساعد على أنّ هذه الأفراد لا خصوصيّة لها فنتعدّى من تلك الأفراد إلى أفرادٍ أخرى رغم أنّ الشارع المقدّس قد صبّ الحكم على هذه الأفراد لكن نحن نتجاوز هذا التحديد الشرعي ونعمّم الحكم إلى أفرادٍ أخرى، كما في قضيّة محرّمات الإحرام فإنّه ورد صحيحة معاوية بن عمّار:- ( إنما يحرم عليك من الطيب أربعة أشياء المسك والعنبر والورس والزعفران )[4]، إنّ الشارع صبّ الحكم على هذه الأفراد الأربعة وهل هي من أنحاء الطيب في زماننا ؟! إنّه وجدت عطور أخرى فهل نبقى على هذه الأفراد التي نصّ عليها الشرع أو نتعدّى إلى غيرها ؟ نقول إنّ هذه الأفراد ذكرت من باب أنها هي الأفراد المتداولة البارزة في تلك الفترة الزمنيّة، فهو ناظر إلى تلك الفترة الزمنيّة وأما في زماننا فقد أصبحت هذه العطور مهجورة، فهل تحتمل أنّ الفقيه يبقى جامداً على النصّ وبالتالي يحكم بحليّة هذه الروائح الجديدة على المحرِم لأنّ الشرع قال ( إنما يحرم من الطيب أربعة ) ؟!! كلّا إنّ هذا شيء مرفوض.
إذن ينبغي أن تتفق معي على أنّه رغم أنّ الشرع قد نصّ على هذه الأفراد الأربعة وصبّ الحكم عليها ولكن نحن نتجاوزها.
ومن هذا القبيل قوله عليه السلام:- ( لا سَبَقَ[5]إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نصل )[6]، إنّ هذا الحديث الشريف حلّل الرهان في باب السباق في هذه الموارد الثلاثة، وهل نقتصر على هذه الثلاثة ونقول يحرم المسابقة بالوسائل الحربيّة الحديثة كالدبّابات والطائرات وغير ذلك ؟!! إنّه شيء غير محتمل وذلك إمّا أن نقول بأن الشارع يقول عطلّوا الحرب واتركوا العدو يدخل بلادكم أو نقول الاسلام يقول أدخل الحرب بلا تدريبٍ وبلا مسابقة، وهل يحتمل هذا الشي ؟!! إنّه غير محتمل . إذن يتعيّن أن نقول بأنه يجوز أن نتجاوز النصّ إلى الوسائل الحديثة البارزة فإنّ الثلاثة التي ذكرها النصّ كانت هي الوسائل البارزة في ذلك الزمان فنتعدّى إلى الوسائل البارزة في زماننا.
ولو كانت هناك مناقشة فهي مناقشة في المثال، ولكن يمكن أن نجد أمثلة أخرى من هذا القبيل نصّ الشارع فيها على أفرادٍ ولكن نحن نتجاوز تلك الأفراد من باب بعض القرائن.
المورد الثالث:- ما إذا فرض أنّ الشرع صبّ الحكم على مفهومٍ معيّن ونحن فهمنا من خلال بعض القرائن والنكات أنّ هذا الحكم يختلف باختلاف الزمان:-
من قبيل الآية الكريمة التي تقول:- ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عوراتٍ لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن .. )[7]، إنّ الآية الكريمة أمرت باستئذان الأطفال والعبيد في هذه الأوقات الثلاثة التي قد يختلي فيها الزوج بزوجته، وهل يبقى هذا الحكم سارياً في حدود هذه الأوقات ؟! فالآن نحن لا ننام في الظهيرة - أي الفترة التي تكون قبل الظهر -، فعلى هذا الأساس هل يلزم حينئذٍ الاستئذان في هذا الوقت أو لا ؟ ولو افترضنا أنّه تغيّر وقت المنام فالمدار حينئذٍ يكون على ماذا ؟ إنّ المدار هو على الوقت الجديد ولا نبقى متمسكين بذلك الوقت القديم، فرغم أنّ الآية الكريمة نصّت على الوقت ولكن نفهم من القرائن أنّ التعدّي هو شيءٌ جائزٌ فإنها قالت ( ثلاث عورات ) لكنها بيّنت النكتة فحينئذٍ لو تغيّر وقت الاختلاء بالزوجة فحينئذٍ يتغيّر هذا الحكم أيضاً.
ولعلّ منه قوله تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق )[8]، إنها دلّت على أنّه إذا فرض أننا أردنا أن ندخل بيت النبي صلى الله عليه وآله فالدخول لابد وأن لا يكون قبل فترةٍ طويلةٍ من وقت الطعام وننتظر حتى يُطبَخ بل لابدّ من المجيء قبل وقت الطعام بقليلٍ ثم نذهب بعد تناوله بقليلٍ ولا تبقى جالسين لفترةٍ طويلةٍ مستأنسين بالحديث مع الأصحاب - وهذا من الآداب الشرعيّة -، ولكن رغم أنّ هذه الآية الكريمة واردة في النبي صلى الله عليه وآله ولكن نتعدّى منها إلى المرجع، فعند زيارة بيت المرجع تكون المسألة كذلك، بل نتعدّى إلى بيت الإنسان الذي لديه أعمال كالمدرس وغيره فإنّه يأتي نفس هذا الكلام فنتعدّى.
ولكن الذي نريد أن نقوله:- هو أنّ هذه الآية الكريمة وإن قالت لابد من الخروج بعد الطعام ولكن هذا يختلف باختلاف الموارد، فلعلّ نفس الشخص هو يستأنس بوجودكم فهذا لا بأس به، أو فرضنا أنّ العرف في بلدٍ يقتضي البقاء بعد الطعام لفترةٍ معيّنة، أو أن يأتي المدعوّ قبل الطعام بفترةٍ احتراماً لصاحب الدار، فهذه القضايا يلزم أن تلحظ وتؤخذ بعين الاعتبار رغم أنّ الآية الكريمة قد وردت بهذا الشكل ولكن نحن نتجاوز ونلحظ عنصر الزمان والمكان بالشكل الذي أشرنا إليه.