35/05/03
تحمیل
الموضوع:- التنبيه الثامن ( وجه تقديم الأمارات
على الأصول ) / تنبيهات / الاستصحاب / الأصول العملية.
ولتوضيح المطلب أكثر نقول:- إن الدليلين إذا تعارضا في مادّة الاجتماع فتقدّم أحدهما على الآخر عرفاً له عدّة ملاكات، وأنا الآن أذكر أربعة ملاكات للتقدّم:-
الملاك الأول:- أن يفترض أن تقديم أحدهما على الآخر يوجب أن يصير الآخر ذا أفرادٍ نادرةٍ بخلاف العكس فإنه لو قدّم ذاك لا يلزم محذور الفرد النادر، إنه في مثل هذه الحالة يقدّم العرف - وهذه قضية عرفية وعقلائية - ما لا يلزم منه المحذور المذكور، وهذا واضحٌ ولا كلام لنا فيه.
الملاك الثاني:- أن يكون تقديم أحدهما على الآخر موجباً للغوية تشريع الآخر من الأساس بخلاف العكس، والعرف هنا يقدّم ما لا يلزم منه المحذور المذكور، من قبيل أصالة الصحّة والاستصحاب فإن مدرك أصالة الصحّة يقول ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو ) ولكن منشأ الشك في صحّة هذا الشيء هو أنه هل أتيت به بشرائطه أو لا ؟ فالركوع أتيت به مع الاستقرار أو لا ؟ مع الذكر أو لا ؟ ... وهكذا، إن منشأ الشك في الصحة لا بد وإن يكون اختلال جزء أو شرط وإلا فلا موجب للشك في الصحّة، فحينئذ يقال إن مقتضى الاستصحاب أنه لم يتحقّق ذلك الجزء أو الشرط، بينما مقتضى أصالة الصحة أنه تحقّق، فيحصل تعارضٌ بينهما، وأيهما يقدَّم ؟ تقدَّم أصالة الصحة إذ لو قدّمنا الاستصحاب لا يبقى موردٌ لأصالة الصحّة وتشريعها سوف يصير لغواً.
وهكذا قاعدة التجاوز يعني إذا شككنا في أصل الاتيان بالجزء السابق بعد أن دخلنا في الجزء اللاحق فإن الاستصحاب يقول إنك لم تأتِ بالجزء السابق، بينما قاعدة التجاوز تقول ( يا زرارة إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ) يقتضي أنه قد تحقّق - أو بالأحرى لا يعتنى بالشك - فهنا لو قدّمنا الاستصحاب فلا يبقى لقاعدة التجاوز موضوع ويلزم لغويّة تشريعها . إذن هنا نقدّم قاعدة الفراغ خوفاً من لزوم محذور لغويّة التشريع، وهذا واضح ايضاً.
وهذا بخلاف العكس فلو قدّمنا قاعدة التجاوز أو الصحّة على الاستصحاب لا يلزم لغويّة تشريع الاستصحاب لأن الاستصحاب تبقى له مجالات أخرى منها ما لو شككنا في أن الوقت دخل أو لا ؟ فالاستصحاب يقول إن الوقت بعدُ لم يدخل، وإذا شككنا في أن الوقت خرج أو لا ؟ فالاستصحاب يقول هو بعدُ لم يخرج، وهناك مجالات كثيرة للاستصحاب.
الملاك الثالث:- أن يكون تقديم أحد الدليلين موجباً لإلغاء خصوصيّة العنوان الذي أخذ في الدليل الثاني بأن نفترض أنه قد أخذ عنوان خاصّ في أحد الدليلين وتقديم ذاك يوجب إلغاء خصوصيّة هذا العنوان فهنا نقدّم ما لا يلزم منه المحذور المذكور، من قبيل ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه )، ويوجد دليل آخر يقول ( لا بأس ببول وخرء الطائر )، والسؤال:- إذا فرض أن طائراً كان لا يؤكل لحمه كالنسر، وإنما خصصّنا بكونه لا يؤكل لحمه لأنه إذا كان يؤكل لحمه فتوجد موافقه بينهما فذاك يقول لا يجب الغسل منه وهذا أيضاً يدلّ على أنه طاهر ولا توجد معارضة بل كلامنا فيما إذا كان الطاهر لا يؤكل لحمه كالنسر مثلاً ففي مثل هذه الحالة تحصل معارضة لأن المناسب على الدليل الأوّل هو نجاسة هذا الحيوان لأنه لا يؤكل لحمه ومقتضى الدليل الثاني وهو الطائر لا بأس ببوله وهذا طائرٌ فحينئذٍ بوله وخرؤه طاهر، فحينئذ ماذا نصنع ؟ نقول في مثل هذه الحالة:- لو قدّمنا الدليل الأوّل فيلزم أن عنوان الطائر كعنوانٍ ليس له أيّ تأثيرٍ، والحال أن الدليل حينما يسلّط الأضواء على عنوان الطائر يعني أن له مدخليّة ؛ إذ لو قدمنا الدليل الأوّل فالنتيجة هي أنه سوف يصير المدار على أنه إذا كان يؤكل لحمه فهذا مورد اتفاقٍ فحينئذٍ هو طاهر لأنه مورد الاتفاق، وإذا فرض أنه لا يؤكل لحمه فنحكم بالنجاسة، فبالتالي لم ينفعنا عنوان الطائر بشيءٍ على كلا التقديرين لأنه على التقدير الأوّل إذا كان يؤكل فالخصوصيّة لكونه يؤكل وقد دلّ الدليل الأوّل بأنه إذا كان يؤكل فبوله طاهر، وإذا فرضنا أنه لا يؤكل وقدّمنا الدليل الأوّل فذلك يعني أنه بقي طاهراً بلا خصوصيّة أبداً، فتحفظاً عن المحذور المذكور نقدّم الدليل الثاني الذي يقول ( لابأس ببول وخرء الطائر ) خوفاً من هذا المحذور.
الملاك الرابع:- وهو محلّ كلامنا - وهو أن نفترض أنه يوجد دليلان وأحدهما قد شُرّع في مورد الآخر جزماً بخلاف العكس، فإنه توجد عندنا روايات كثيرة تدلّ على تحريم أو وجوب بعض الأشياء بل بعضها يدلّ على استحبابِ أو كراهةِ بعض الأشياء، فهل تجزم بأن الشارع جعل الحجيّة لهذه الروايات - التي لعلّها نصف أخبار الوسائل - ؟ فإذن صدرت منه هذه الروايات وجزماً هو قد أمرنا بالأخذ بها والسير على طبقها وهذا مسلّمٌ والمفروض أنه يوجد في موردها الاستصحاب لأنه بالتالي كانت الحالة السابقة - أي في بداية الشريعة - هي عدم التحريم فاستصحاب عدم جعل الحرمة أو استصحاب عدم جعل الوجوب أو استصحاب عدم جعل الكراهة إما أن تذهب إلى ذلك الوقت أو تذهب إلى فترة ما قبل البلوغ أو قبل تحقّق الشرط إذا كان مؤقتاً كالصلاة فنشكّ هل وجبت أو لم تجب ؟ فهي قبل تحقّق الوقت كانت غير واجبة جزماً وبعد تحقّق الوقت نشكّ هل تحقق الوجوب أو لا ؟ فالاستصحاب في مورد هذه الروايات موجودٌ بشكلٍ وآخر جزماً، وهذا معناه أن الشرع قد أمرنا بالأخذ بهذه الروايات في مورد جريان الاستصحاب، إنها قضيّة ليست قابلة للتشكيك . وهذا بخلاف العكس لأنه لا جزم لنا بأن الشارع حينما أمرنا بالاستصحاب أمرنا بالأخذ به في مورد وجود هذه الروايات الدالة على الوجوب أو التحريم.
بل أصعّد اللهجة وقول:- إن لازم الجزم الأوّل أن يحصل لنا جزمٌ ثانٍ بأن حجيّة الاستصحاب مختصّة بغير مورد وجود الروايات ؛ لأنه في الجزم الأوّل فرضنا أن الشرع أمرنا جزماً بالأخذ بهذه الروايات الدالة على الوجوبات والتحريمات واتباعها والأخذ بها في مورد الاستصحاب ولازمه أنه سوف نجزم بأنه حينما أمرنا بالاستصحاب أمرنا به فيما إذا لم تكن هناك روايات دالّة على التحريم والوجوب . إذن هذا يصلح وجهاً للتقديم بقطع النظر عن مسألة العنوان وأنه يلزم إلغاء خصوصيّة العنوان أو يلزم محذور لغويّة التشريع، كلّا بل هذا محذورٌ بنفسه، وبهذا يثبت مطلوبنا، وأنت سمّه تخصيصاً أو الجزم بحجيّة الأمارة في مورد الاستصحاب أو غير ذلك فالتعبير ليس بمهمّ.
وجه تقدّم الأمارات على البراءة:-
إن ما تقدّم كان ناظراً إلى وجه تقدّم الأمارات على الاستصحاب، والآن نريد أن نتكلم عن وجه تقدّم الأمارات على أصل البراءة بعد اتفاق الكلمة على تقدم الأمارة على البراءة، وإنما الكلام في التخريج الفنّي لذلك؟
والجواب:- إن نفس ما ذكرناه من وجهٍ لتقديم الأمارة على الاستصحاب يأتي بنفسه هنا، فيقال:- إن الروايات الدالة على الوجوب أو على التحريم هي واردة في مورد أصل البراءة لأن أصل البراءة مورده هو عند احتمال الوجوب أو عند احتمال التحريم، وهذا الكمّ الهائل من الروايات الدالة على الوجوب والتحريم نجزم بأنه وارد في مورد جريان أصل البراءة، وهذا بخلاف العكس فيكفينا . إذن هذا هو الوجه لتقديم الأمارة على البراءة بلا كلام زائد.
وربما يضاف ويقال:- إنه يوجد وجه آخر، وهو أنه لو لم نقد الأمارة على البراءة بل عكسنا فيلزم لغويّة تشريع حجيّة خبر الثقة مثلاً ؛ لأنه إذا كان مؤدّاه موافقاً لأصل البراءة كفانا أصل البراءة لرفع الوجوب بلا حاجة إلى تشريع الحجيّة للخبر، وإذا فرض أن مؤدّاها كان مخالفاً فالمفروض أنه قلنا بتقديم البراءة فيلزم آنذاك لغويّة تشريع الحجيّة للأخبار ويعود بلا فائدة، وهذا وجهٌ لا بأس به.
وجه تقدّم الأمارة على أصل الاحتياط والتخيير[1]:-
وأما وجه تقدّم الأمارات على أصل التخيير والاحتياط فيمكن أن يقال:- إن التخيير والاحتياط يحكم بهما العقل عادةً دون الشرع وما يصدر من الشرع إن كان فهو إمضائيّ، والعقل إنما يحكم بالتخيير في مورد الدوران بين المحذورين إذا لم يكن مرجّح ومع وجود الأمارة تكون مرجّحاً ويرفع العقل يده عن الحكم بالتخيير، وهكذا بالنسب إلى الاحتياط فإنه يحكم بالاحتياط إذا لم يتنازل صاحب الحقّ عن حقّه ولم يكن هناك ما يدلّ من الشرع على عدم لزوم الاحتياط، أما إذا دلّ فالعقل لا يبقى مصرّاً على الاحتياط ويقول إنه عند الشك في المكلّف به يلزم الاحتياط حتى وإن حكم الشرع بالبراءة، كلّا لا يوجد ذلك . فإذن حكم العقل معلّق على عدم مخالفة الشرع وعدم ورود ما يدلّ من الشرع على عدم لزوم الاحتياط، أما بعد وروده فالعقل يرفع يده عن حكمه.
بهذا اتّضح أن الأمارات مقدّمة على جميع الأصول العمليّة.
ولتوضيح المطلب أكثر نقول:- إن الدليلين إذا تعارضا في مادّة الاجتماع فتقدّم أحدهما على الآخر عرفاً له عدّة ملاكات، وأنا الآن أذكر أربعة ملاكات للتقدّم:-
الملاك الأول:- أن يفترض أن تقديم أحدهما على الآخر يوجب أن يصير الآخر ذا أفرادٍ نادرةٍ بخلاف العكس فإنه لو قدّم ذاك لا يلزم محذور الفرد النادر، إنه في مثل هذه الحالة يقدّم العرف - وهذه قضية عرفية وعقلائية - ما لا يلزم منه المحذور المذكور، وهذا واضحٌ ولا كلام لنا فيه.
الملاك الثاني:- أن يكون تقديم أحدهما على الآخر موجباً للغوية تشريع الآخر من الأساس بخلاف العكس، والعرف هنا يقدّم ما لا يلزم منه المحذور المذكور، من قبيل أصالة الصحّة والاستصحاب فإن مدرك أصالة الصحّة يقول ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو ) ولكن منشأ الشك في صحّة هذا الشيء هو أنه هل أتيت به بشرائطه أو لا ؟ فالركوع أتيت به مع الاستقرار أو لا ؟ مع الذكر أو لا ؟ ... وهكذا، إن منشأ الشك في الصحة لا بد وإن يكون اختلال جزء أو شرط وإلا فلا موجب للشك في الصحّة، فحينئذ يقال إن مقتضى الاستصحاب أنه لم يتحقّق ذلك الجزء أو الشرط، بينما مقتضى أصالة الصحة أنه تحقّق، فيحصل تعارضٌ بينهما، وأيهما يقدَّم ؟ تقدَّم أصالة الصحة إذ لو قدّمنا الاستصحاب لا يبقى موردٌ لأصالة الصحّة وتشريعها سوف يصير لغواً.
وهكذا قاعدة التجاوز يعني إذا شككنا في أصل الاتيان بالجزء السابق بعد أن دخلنا في الجزء اللاحق فإن الاستصحاب يقول إنك لم تأتِ بالجزء السابق، بينما قاعدة التجاوز تقول ( يا زرارة إذا شككت في شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ) يقتضي أنه قد تحقّق - أو بالأحرى لا يعتنى بالشك - فهنا لو قدّمنا الاستصحاب فلا يبقى لقاعدة التجاوز موضوع ويلزم لغويّة تشريعها . إذن هنا نقدّم قاعدة الفراغ خوفاً من لزوم محذور لغويّة التشريع، وهذا واضح ايضاً.
وهذا بخلاف العكس فلو قدّمنا قاعدة التجاوز أو الصحّة على الاستصحاب لا يلزم لغويّة تشريع الاستصحاب لأن الاستصحاب تبقى له مجالات أخرى منها ما لو شككنا في أن الوقت دخل أو لا ؟ فالاستصحاب يقول إن الوقت بعدُ لم يدخل، وإذا شككنا في أن الوقت خرج أو لا ؟ فالاستصحاب يقول هو بعدُ لم يخرج، وهناك مجالات كثيرة للاستصحاب.
الملاك الثالث:- أن يكون تقديم أحد الدليلين موجباً لإلغاء خصوصيّة العنوان الذي أخذ في الدليل الثاني بأن نفترض أنه قد أخذ عنوان خاصّ في أحد الدليلين وتقديم ذاك يوجب إلغاء خصوصيّة هذا العنوان فهنا نقدّم ما لا يلزم منه المحذور المذكور، من قبيل ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه )، ويوجد دليل آخر يقول ( لا بأس ببول وخرء الطائر )، والسؤال:- إذا فرض أن طائراً كان لا يؤكل لحمه كالنسر، وإنما خصصّنا بكونه لا يؤكل لحمه لأنه إذا كان يؤكل لحمه فتوجد موافقه بينهما فذاك يقول لا يجب الغسل منه وهذا أيضاً يدلّ على أنه طاهر ولا توجد معارضة بل كلامنا فيما إذا كان الطاهر لا يؤكل لحمه كالنسر مثلاً ففي مثل هذه الحالة تحصل معارضة لأن المناسب على الدليل الأوّل هو نجاسة هذا الحيوان لأنه لا يؤكل لحمه ومقتضى الدليل الثاني وهو الطائر لا بأس ببوله وهذا طائرٌ فحينئذٍ بوله وخرؤه طاهر، فحينئذ ماذا نصنع ؟ نقول في مثل هذه الحالة:- لو قدّمنا الدليل الأوّل فيلزم أن عنوان الطائر كعنوانٍ ليس له أيّ تأثيرٍ، والحال أن الدليل حينما يسلّط الأضواء على عنوان الطائر يعني أن له مدخليّة ؛ إذ لو قدمنا الدليل الأوّل فالنتيجة هي أنه سوف يصير المدار على أنه إذا كان يؤكل لحمه فهذا مورد اتفاقٍ فحينئذٍ هو طاهر لأنه مورد الاتفاق، وإذا فرض أنه لا يؤكل لحمه فنحكم بالنجاسة، فبالتالي لم ينفعنا عنوان الطائر بشيءٍ على كلا التقديرين لأنه على التقدير الأوّل إذا كان يؤكل فالخصوصيّة لكونه يؤكل وقد دلّ الدليل الأوّل بأنه إذا كان يؤكل فبوله طاهر، وإذا فرضنا أنه لا يؤكل وقدّمنا الدليل الأوّل فذلك يعني أنه بقي طاهراً بلا خصوصيّة أبداً، فتحفظاً عن المحذور المذكور نقدّم الدليل الثاني الذي يقول ( لابأس ببول وخرء الطائر ) خوفاً من هذا المحذور.
الملاك الرابع:- وهو محلّ كلامنا - وهو أن نفترض أنه يوجد دليلان وأحدهما قد شُرّع في مورد الآخر جزماً بخلاف العكس، فإنه توجد عندنا روايات كثيرة تدلّ على تحريم أو وجوب بعض الأشياء بل بعضها يدلّ على استحبابِ أو كراهةِ بعض الأشياء، فهل تجزم بأن الشارع جعل الحجيّة لهذه الروايات - التي لعلّها نصف أخبار الوسائل - ؟ فإذن صدرت منه هذه الروايات وجزماً هو قد أمرنا بالأخذ بها والسير على طبقها وهذا مسلّمٌ والمفروض أنه يوجد في موردها الاستصحاب لأنه بالتالي كانت الحالة السابقة - أي في بداية الشريعة - هي عدم التحريم فاستصحاب عدم جعل الحرمة أو استصحاب عدم جعل الوجوب أو استصحاب عدم جعل الكراهة إما أن تذهب إلى ذلك الوقت أو تذهب إلى فترة ما قبل البلوغ أو قبل تحقّق الشرط إذا كان مؤقتاً كالصلاة فنشكّ هل وجبت أو لم تجب ؟ فهي قبل تحقّق الوقت كانت غير واجبة جزماً وبعد تحقّق الوقت نشكّ هل تحقق الوجوب أو لا ؟ فالاستصحاب في مورد هذه الروايات موجودٌ بشكلٍ وآخر جزماً، وهذا معناه أن الشرع قد أمرنا بالأخذ بهذه الروايات في مورد جريان الاستصحاب، إنها قضيّة ليست قابلة للتشكيك . وهذا بخلاف العكس لأنه لا جزم لنا بأن الشارع حينما أمرنا بالاستصحاب أمرنا بالأخذ به في مورد وجود هذه الروايات الدالة على الوجوب أو التحريم.
بل أصعّد اللهجة وقول:- إن لازم الجزم الأوّل أن يحصل لنا جزمٌ ثانٍ بأن حجيّة الاستصحاب مختصّة بغير مورد وجود الروايات ؛ لأنه في الجزم الأوّل فرضنا أن الشرع أمرنا جزماً بالأخذ بهذه الروايات الدالة على الوجوبات والتحريمات واتباعها والأخذ بها في مورد الاستصحاب ولازمه أنه سوف نجزم بأنه حينما أمرنا بالاستصحاب أمرنا به فيما إذا لم تكن هناك روايات دالّة على التحريم والوجوب . إذن هذا يصلح وجهاً للتقديم بقطع النظر عن مسألة العنوان وأنه يلزم إلغاء خصوصيّة العنوان أو يلزم محذور لغويّة التشريع، كلّا بل هذا محذورٌ بنفسه، وبهذا يثبت مطلوبنا، وأنت سمّه تخصيصاً أو الجزم بحجيّة الأمارة في مورد الاستصحاب أو غير ذلك فالتعبير ليس بمهمّ.
وجه تقدّم الأمارات على البراءة:-
إن ما تقدّم كان ناظراً إلى وجه تقدّم الأمارات على الاستصحاب، والآن نريد أن نتكلم عن وجه تقدّم الأمارات على أصل البراءة بعد اتفاق الكلمة على تقدم الأمارة على البراءة، وإنما الكلام في التخريج الفنّي لذلك؟
والجواب:- إن نفس ما ذكرناه من وجهٍ لتقديم الأمارة على الاستصحاب يأتي بنفسه هنا، فيقال:- إن الروايات الدالة على الوجوب أو على التحريم هي واردة في مورد أصل البراءة لأن أصل البراءة مورده هو عند احتمال الوجوب أو عند احتمال التحريم، وهذا الكمّ الهائل من الروايات الدالة على الوجوب والتحريم نجزم بأنه وارد في مورد جريان أصل البراءة، وهذا بخلاف العكس فيكفينا . إذن هذا هو الوجه لتقديم الأمارة على البراءة بلا كلام زائد.
وربما يضاف ويقال:- إنه يوجد وجه آخر، وهو أنه لو لم نقد الأمارة على البراءة بل عكسنا فيلزم لغويّة تشريع حجيّة خبر الثقة مثلاً ؛ لأنه إذا كان مؤدّاه موافقاً لأصل البراءة كفانا أصل البراءة لرفع الوجوب بلا حاجة إلى تشريع الحجيّة للخبر، وإذا فرض أن مؤدّاها كان مخالفاً فالمفروض أنه قلنا بتقديم البراءة فيلزم آنذاك لغويّة تشريع الحجيّة للأخبار ويعود بلا فائدة، وهذا وجهٌ لا بأس به.
وجه تقدّم الأمارة على أصل الاحتياط والتخيير[1]:-
وأما وجه تقدّم الأمارات على أصل التخيير والاحتياط فيمكن أن يقال:- إن التخيير والاحتياط يحكم بهما العقل عادةً دون الشرع وما يصدر من الشرع إن كان فهو إمضائيّ، والعقل إنما يحكم بالتخيير في مورد الدوران بين المحذورين إذا لم يكن مرجّح ومع وجود الأمارة تكون مرجّحاً ويرفع العقل يده عن الحكم بالتخيير، وهكذا بالنسب إلى الاحتياط فإنه يحكم بالاحتياط إذا لم يتنازل صاحب الحقّ عن حقّه ولم يكن هناك ما يدلّ من الشرع على عدم لزوم الاحتياط، أما إذا دلّ فالعقل لا يبقى مصرّاً على الاحتياط ويقول إنه عند الشك في المكلّف به يلزم الاحتياط حتى وإن حكم الشرع بالبراءة، كلّا لا يوجد ذلك . فإذن حكم العقل معلّق على عدم مخالفة الشرع وعدم ورود ما يدلّ من الشرع على عدم لزوم الاحتياط، أما بعد وروده فالعقل يرفع يده عن حكمه.
بهذا اتّضح أن الأمارات مقدّمة على جميع الأصول العمليّة.
[1]
وواضحٌ إن كلامنا
وإن كان في باب الاستصحاب وليس في البراءة ولا الاحتياط ولكن نذكر ذلك. من باب الكلام يجر الكلام.