35/08/09
تحمیل
الموضوع:- مقتضى
القاعدة الثانوية في المتعارضين / أحكام التعارض المستقر.
وإن شئت قلت:- إنّ هذه الطائفة قالت إنّ ما خالف الكتاب لم نقله ولم تقل هو ليس بحجّة فإذا كانت تدلّ على أنّ المخالف لم نقله حيث إنّه ثبت بشهادة الراوي الثقة في الروايات المخالفة للكتاب أنها صادرة إذ الراوي ثقة ويشهد بأنها صادرة فسوف تخرج هذه الروايات التي رواها الثقة وشهد بأنها صادرة من الإمام عن هذه القاعدة الكليّة وتصير النتيجة هي أنّ كلّ خبر يخالف الكتاب لم نقله إلّا هذه الموارد التي شهد فيها الثقة بصدور الخبر المخالف من الامام، فتكون النتيجة هي أنّ هذه الأخبار المخالفة يجوز الأخذ بها وهي مستثناة من قاعدة ( المخالف لم نقله ).
ولكن قد تسأل وتقول:- لماذا كنّا نؤكد على أن المقصود من هذه الطائفة ليس هو نفي الحجيّة بل المقصود أنّه لم يصدر منّا - أي نفي الصدور لا نفي الحجيّة - فما الفرق بينهما عملاً وبحسب النتيجة والأثر ؟
والجواب:- إنّ الأثر العملي هو إنّه إذا كان المقصود هو نفي الحجيّة - أي المخالف ليس بحجّة - فسوف تصير هذه الطائفة مخصّصة لدليل حجيّة خبر الثقة كما إذا كان الدليل هو السيرة أو آية النبأ أو غير لك فتصير النتيجة هي أنّ كلّ خبرٍ حجّة إلا المخالف للكتاب فهو ليس بحجّة أو إلّا غير الموافق فإنه ليس بحجّة، فتصير النتيجة هي سلب الحجيّة عن الخبر المخالف . أمّا بناءً على أنّ المقصود ليس هو نفي الحجيّة وإنما هو نفي الصدور فحينئذٍ سوف نخصّص هذه القاعدة - أي أنّ المخالف لم يصدر منا - ونخرج منها الأخبار التي شهد فيها الراوي الثقة بالصدور، فتصير النتيجة هي حجيّة هذه الأخبار المخالفة ن بينما على الأوّل كانت النتيجة هي نفي الحجيّة أمّا على هذا فصار إثباتٌ للحجيّة، فلذلك كانت هذه المحاولة تصرّ على كون المقصود من هذه الطائفة هو أنّ المخالف لم يصدر فإذا لم يصدر فبالتخصيص بشهادة الثقة سوف يثبت أنّ هذه الأخبار المخالفة قد صدرت، فتصير هذه الأخبار المخالفة تصير حجّة، بينما إذا فسّرنا هذه الطائفة بأن المقصود هو نفي الحجيّة لا نفي الصدور فتصير النتيجة هي العكس - أي نفي الحجيّة - لأنّ هذه الطائفة تقول إنَّ الخالف للكتاب ليس بحجّة فتخصّص دليل حجيّة الخبر فالنتيجة سوف تصير هي أنّ كلّ خبر ثقةٍ حجّة إلّا المخالف، فهذه الأخبار المخالفة التي شهد الثقة بصدورها تصير غير حجّة شرعاً، فالنتيجة سوف تختلف والأثر سوف يختلف تماماً فالتفتوا إلى هذه النكتة، فلذلك يسجّل هذا إشكالٌ على هذا اللسان . إذن هذا اللسان لا نستفيد منه حجيّة الخبر المخالف بل يمكن الوصول إلى الحجيّة بالبيان الذي ذكرناه.
ويرد عليه:-
أوّلاً:- لو سلّمنا أنّ هذه الطائفة لا تدلّ على أنّ المخالف ليس بحجّة بل تقول هو لم يصدر ولكن عمليّة التخصيص غير ممكنة رغم أنّ الراوي الثقة يشهد بأنّ هذه الرواية قد صدرت من الإمام، فرغم هذا تكون عملية التخصيص غير ممكنة، والوجه في ذلك هو إنّ عملية التخصيص تكون في حقّ الشخص الواحد بلحاظ كلامين وليس بلحاظ الشخصين في كلامٍ لهذا وكلامٍ لذاك، يعني إذا فرض أنّ هناك شخصاً واحداً وصدر منه كلامان عامّ وخاصّ ولكن كِلا الكلامين قد صدرا من شخصٍ واحد فيكون الخاص مخصّصاً للعام، هكذا جرت سيرة العقلاء على أنّ من حقّ المتكلم أن يخصّص كلامه بكلامه الآخر، وهذا واضحٌ وقرينة نوعيّة، وأمّا أن يكون الكلام الأوّل العام من متكلّمٍ والخاص يكون من شخصٍ آخر فالتخصيص غير ممكنٍ، فالمتكلم الأوّل يقول ( أكرم كلّ فقير ) وأتيت أنا الثاني وأريد أن أخصّص ذلك العام إنه شيء مرفوضٌ والسيرة لم تنعقد عليه ولا أقل نشك، بل لا معنى للتخصيص إذ أنت الثاني أجنبيٌّ فما معنى لأن تخصّص كلام الشخص الأوّل بل الشخص الأوّل هو الذي له الحقّ في أن يخصّصه، وحينئذ نقول في مقامنا إنّ الامام عليه السلام قد صدر منه كلام فقال:- ( المخالف لم نقله ) والمخصّص الذي نريد أن نجعله مخصّصاً هو شهادة الراوي، فشهادة الراوي الثقة بالصدور نريد أن نجعلها مخصّصاً لكلام الإمام عليه السلام، إنّ هذا لا معنى له فإن هذا المخصّص هو من شخصٍ آخر غير الإمام فالتخصيص لا معنى له.
إن قلت:- نجعل المخصّص هو دليل حجيّة خبر الثقة الذي هو صادر من الإمام عليه السلام، فبالتالي صار المخصّص والعام كلاهما من الإمام عليه السلام لا أنّ العام من شخصٍ والمخصّص من شخصٍ آخر.
قلت:- إنّ المفروض في كلامنا هو أننا لا نتعامل مع الحجيّة ولا ندخل الحجيّة أو عدمها في اللسان وإنما نتعامل مع مسألة الصدور وعدم الصدور دون الحجيّة إذ قد فرضنا أنّ هذه الطائفة تقول:- ( المخالف لم نقله ) وفسّرنا عبارة ( لم نقله ) بعدم الصدور، فالمخصّص لابد وأن يكون هو الصدور ولا معنى لإدخال الحجيّة في الحساب بل نتعامل مع مسألة الصدور وعدمه من دون إدخال شيءٍ في الحساب . إذن عمليّة التخصيص هي مرفوضة في حدّ نفسها، فهذا الوجه وهذا البيان مبنيٌّ على أساسٍ فاسد.
ثانياً:- لو سلّمنا أنّ الشخص الثاني يمكنه التخصيص ولكن نقول إنّ العام الذي صدر من الإمام هو آبٍ من حيث لسانه عن التخصيص لأنه يقول ( المخالف للكتاب لم نقله ) وهذا اللسان يأبى عرفاً عن التخصيص لأنّ حيثية رفض المخالف هي حيثيّة المخالفة وحيثيّة المخالفة لا يمكن أن تُخصّص ونقول إنّ المخالف للكتاب ليس بصادرٍ إلّا هذا المخالف، إنّ هذا لا معنى له وهو شيءٌ مرفوضٌ عرفاً.
ثالثاً:- يمكن أن نقول إنّ المقصود من تعبير ( لم نقله ) الكناية عرفاً عن نفي الحجيّة، فحينما يقول الإمام عليه السلام ( لم نقله ) يعني أنّه ليس بحجّة، فإذا كان هذا هو المقصود فتصير هذه الطائفة التي تقول إنّ المخالف ليس بحجّة مخصّصة لدليل حجيّة الخبر العام، فتصير النتيجة هي أنّ خبر الثقة حجّة بشكلٍ عام إلّا إذا كان مخالفاً . فإذن تعبير ( لم نقله ) هو تعبيرٌ عرفيّ عن نفي الحجيّة.
ولك أن تقول بعبارة أخرى:- إنّ تعبير ( لم نقله ) له دلالتان عرفيّتان إحداهما لم نقله والثانية أنه ليس بحجّة، فنفي الحجيّة هو مدلولٌ لهذا الكلام ودلالةٌ لهذا الكلام، فالمفهوم من لسان ( المخالف لم نقله ) يعني أنّه مضافاً إلى أنّه لم نقله فهو أنه ليس بحجّة، وإذا كان نفي الحجيّة مقصوداً أيضاً ودلالةً اضافيةً إلى جنب تلك الدلالة فحينئذٍ يلزم تخصيص دليل حجيّة خبر الثقة من حيث هذه الدلالة الثانية فتصير النتيجة هي أنَّ كلّ خبر ثقةٍ حجّة إلّا إذا كان مخالفاً فهو ليس بحجّة . فإذن لزم التخصيص ولكن من ناحية هذه الدلالة الثانية.
والخلاصة من كلّ هذا:- إنّ هذه الطائفة لا بأس بأن تصير مخصصّة لدليل حجيّة الخبر، يعني أنَّ خبر الثقة حجّة إلّا إذا كان مخالفاً للكتاب الكريم فإنه ساقط عن الحجية حتى إذا لم يكن له معارض، فإذا جاءنا الآن خبر مخالف للكتاب الكريم فهو ليس بحجّة ولو من دون معارضٍ لأجل أنّ شرط الحجيّة هو عدم المخالفة للكتاب الكريم، وهذه نتيجة واضحة.
ولكن هنا مطلبان:-
المطب الأوّل:- هل العبرة في حجية الخبر على أن لا يكون الخبر مخالفاً أو أنّ العبرة هي أن يكون موافقاً ؟ فهل المخالفة مانعة من الحجيّة أو أنَّ الموافقة شرطٌ في الحجيّة فالمدار على ماذا ؟
والفارق بينهما يظهر فيما لو فرض أنّ مضمون الخبر لم يكن مذكوراً في الكتاب الكريم مثل الشك في الصلاة الثنائية أو في الأوليين من الرباعية فالصلاة باطلة حينئذٍ فهل هذا المضمون مذكورٌ في الكتاب الكريم ولو بالعموم من قربٍ أو من بُعدٍ ؟ كلّا إنه ليس مذكوراً، فإذا كان المدار على اشتراط الموافقة فهذا ليس موافقاً فإن شرط صدق الموافقة أن يكون مضمون الخبر ثابتاً في الكتاب الكريم ولو بالعموم فإذا لم يكن مذكوراً فلا يصدق عنوان الموافقة، وأمّا إذا كان المدار على عنوان أن لا يكون مخالفاً فهذا الخبر لا يصدق عليه المخالفة للكتاب الكريم لأن المخالفة فرع أن يتعرّض الكتاب الكريم لمضمون هذا الخبر والخبر يخالفه، فإذن الكتاب الكريم ليس متعرّضاً لمضمون هذا الخبر من قربٍ أو من بُعدٍ فلا يصدق على هذا الخبر أنّه مخالفٌ للكتاب الكريم، فالخبر الدال على أنّ الشك في الصلاة الثنائية مبطلٌ لها لا يصدق عليه أنّه مخالفٌ للكتاب الكريم، نعم لا يصدق عليه أنه موافقٌ، فإذا كان المدار في الحجيّة على الموافقة فهذا ليس موافقاً وبالتالي يكون ساقطاً عن الحجيّة، أمّا إذا كان المدار على المخالفة فهذا ليس بمخالفٍ فيكون حجّة، فالمدار على ماذا فهل شرط الحجيّة أن يكون موافقاً أو أنّ شرطها أن لا يكون مخالفاً ؟
والجواب:- يمكن أن نقول إنّ المدار على أن لا يكون مخالفاً، وذلك لوجهين:-
الوجه الأوّل:- إنّ كثيراً من الأخبار لا يصدق عليها عنوان أنها موافقة للكتاب كما مثلنا بشكوك الصلاة فإن الأخبار المتعرّضة إلى ذلك وما شاكله - وهي كثيرة - لا يصدق عليها أنّها موافقة للكتاب لعدم إشارة الكتاب إلى مضمونها فلو كان المدار على الموافقة فيلزم أن هذه الأخبار ليست حجّة، بينما إذا كان المدار على أن لا يكون مخالفاً فهذه يصدق عليها أنّها ليست مخالفة فتكون حجّة . فإذن اللازم من اعتبار الموافقة هو سقوط مجموعة كبيرة من الأخبار عن الحجيّة.
إن قلت:- كيف يصلح أن يكون هذا دليلاً - يعني القول بأنه يلزم سقوط مجموعة من الأخبار عن الحجيّة - فإن هذا ليس دليلاً علميّاً ؟
قلت:-
أوّلاً:- كما أشرت سابقاً بأنّ الفقيه أو الأصولي يطمئن بأنّ هذا الكمّ الهائل من الأخبار لا يحتمل أنه لا عبرة به شرعاً - بحيث يكون نصف الوسائل مثلاً من أخبار الثقاة لا عبرة به - فإذا كان المدار على عنوان الموافقة فنصف أخبار الوسائل مثلاً يلزم أن تسقط عن الحجيّة . فإذن هذا غير محتمل في حدّ نفسه.
وثانياً:- لو رجعنا إلى صحيحة هشام بن الحكم أمكن أن نستفيد منها أنّ المدار على أن لا يكون الخبر مخالفاً حيث جاء فيها:- ( خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال:- أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله )، إنه صلى الله عليه وآله جمع بين عنوان الموافقة وعنوان المخالفة فقال ما كان موافقاً فأنا قلته وما كان مخالفاً فلم أقله فهو قد جعل بينهما مقابلةً وهذا يدلّ على أنّ المقصود من عنوان الموافق يعني غير المخالف وإلّا يلزم التهافت في كلامه صلى الله عليه وآله لأن الميران سوف يصير غير معلومٍ ومادام هو غير معلومٍ فلماذا يجعل ميزانين متقابلين ؟! إنّ هذا لا يحتمل، فالميزان واحدٌ فلابد من إرجاع أحدهما إلى الآخر والذي يقبل عرفاً هو إرجاع أن يكون المقصود من الموافقة هو عدم المخالفة، أمّا العكس فحيث إنّه غير محتملٍ فيكون الصحيح إذن هو أنّ المدار على أن لا يكون الخبر مخالفاً.
وإن شئت قلت:- إنّ هذه الطائفة قالت إنّ ما خالف الكتاب لم نقله ولم تقل هو ليس بحجّة فإذا كانت تدلّ على أنّ المخالف لم نقله حيث إنّه ثبت بشهادة الراوي الثقة في الروايات المخالفة للكتاب أنها صادرة إذ الراوي ثقة ويشهد بأنها صادرة فسوف تخرج هذه الروايات التي رواها الثقة وشهد بأنها صادرة من الإمام عن هذه القاعدة الكليّة وتصير النتيجة هي أنّ كلّ خبر يخالف الكتاب لم نقله إلّا هذه الموارد التي شهد فيها الثقة بصدور الخبر المخالف من الامام، فتكون النتيجة هي أنّ هذه الأخبار المخالفة يجوز الأخذ بها وهي مستثناة من قاعدة ( المخالف لم نقله ).
ولكن قد تسأل وتقول:- لماذا كنّا نؤكد على أن المقصود من هذه الطائفة ليس هو نفي الحجيّة بل المقصود أنّه لم يصدر منّا - أي نفي الصدور لا نفي الحجيّة - فما الفرق بينهما عملاً وبحسب النتيجة والأثر ؟
والجواب:- إنّ الأثر العملي هو إنّه إذا كان المقصود هو نفي الحجيّة - أي المخالف ليس بحجّة - فسوف تصير هذه الطائفة مخصّصة لدليل حجيّة خبر الثقة كما إذا كان الدليل هو السيرة أو آية النبأ أو غير لك فتصير النتيجة هي أنّ كلّ خبرٍ حجّة إلا المخالف للكتاب فهو ليس بحجّة أو إلّا غير الموافق فإنه ليس بحجّة، فتصير النتيجة هي سلب الحجيّة عن الخبر المخالف . أمّا بناءً على أنّ المقصود ليس هو نفي الحجيّة وإنما هو نفي الصدور فحينئذٍ سوف نخصّص هذه القاعدة - أي أنّ المخالف لم يصدر منا - ونخرج منها الأخبار التي شهد فيها الراوي الثقة بالصدور، فتصير النتيجة هي حجيّة هذه الأخبار المخالفة ن بينما على الأوّل كانت النتيجة هي نفي الحجيّة أمّا على هذا فصار إثباتٌ للحجيّة، فلذلك كانت هذه المحاولة تصرّ على كون المقصود من هذه الطائفة هو أنّ المخالف لم يصدر فإذا لم يصدر فبالتخصيص بشهادة الثقة سوف يثبت أنّ هذه الأخبار المخالفة قد صدرت، فتصير هذه الأخبار المخالفة تصير حجّة، بينما إذا فسّرنا هذه الطائفة بأن المقصود هو نفي الحجيّة لا نفي الصدور فتصير النتيجة هي العكس - أي نفي الحجيّة - لأنّ هذه الطائفة تقول إنَّ الخالف للكتاب ليس بحجّة فتخصّص دليل حجيّة الخبر فالنتيجة سوف تصير هي أنّ كلّ خبر ثقةٍ حجّة إلّا المخالف، فهذه الأخبار المخالفة التي شهد الثقة بصدورها تصير غير حجّة شرعاً، فالنتيجة سوف تختلف والأثر سوف يختلف تماماً فالتفتوا إلى هذه النكتة، فلذلك يسجّل هذا إشكالٌ على هذا اللسان . إذن هذا اللسان لا نستفيد منه حجيّة الخبر المخالف بل يمكن الوصول إلى الحجيّة بالبيان الذي ذكرناه.
ويرد عليه:-
أوّلاً:- لو سلّمنا أنّ هذه الطائفة لا تدلّ على أنّ المخالف ليس بحجّة بل تقول هو لم يصدر ولكن عمليّة التخصيص غير ممكنة رغم أنّ الراوي الثقة يشهد بأنّ هذه الرواية قد صدرت من الإمام، فرغم هذا تكون عملية التخصيص غير ممكنة، والوجه في ذلك هو إنّ عملية التخصيص تكون في حقّ الشخص الواحد بلحاظ كلامين وليس بلحاظ الشخصين في كلامٍ لهذا وكلامٍ لذاك، يعني إذا فرض أنّ هناك شخصاً واحداً وصدر منه كلامان عامّ وخاصّ ولكن كِلا الكلامين قد صدرا من شخصٍ واحد فيكون الخاص مخصّصاً للعام، هكذا جرت سيرة العقلاء على أنّ من حقّ المتكلم أن يخصّص كلامه بكلامه الآخر، وهذا واضحٌ وقرينة نوعيّة، وأمّا أن يكون الكلام الأوّل العام من متكلّمٍ والخاص يكون من شخصٍ آخر فالتخصيص غير ممكنٍ، فالمتكلم الأوّل يقول ( أكرم كلّ فقير ) وأتيت أنا الثاني وأريد أن أخصّص ذلك العام إنه شيء مرفوضٌ والسيرة لم تنعقد عليه ولا أقل نشك، بل لا معنى للتخصيص إذ أنت الثاني أجنبيٌّ فما معنى لأن تخصّص كلام الشخص الأوّل بل الشخص الأوّل هو الذي له الحقّ في أن يخصّصه، وحينئذ نقول في مقامنا إنّ الامام عليه السلام قد صدر منه كلام فقال:- ( المخالف لم نقله ) والمخصّص الذي نريد أن نجعله مخصّصاً هو شهادة الراوي، فشهادة الراوي الثقة بالصدور نريد أن نجعلها مخصّصاً لكلام الإمام عليه السلام، إنّ هذا لا معنى له فإن هذا المخصّص هو من شخصٍ آخر غير الإمام فالتخصيص لا معنى له.
إن قلت:- نجعل المخصّص هو دليل حجيّة خبر الثقة الذي هو صادر من الإمام عليه السلام، فبالتالي صار المخصّص والعام كلاهما من الإمام عليه السلام لا أنّ العام من شخصٍ والمخصّص من شخصٍ آخر.
قلت:- إنّ المفروض في كلامنا هو أننا لا نتعامل مع الحجيّة ولا ندخل الحجيّة أو عدمها في اللسان وإنما نتعامل مع مسألة الصدور وعدم الصدور دون الحجيّة إذ قد فرضنا أنّ هذه الطائفة تقول:- ( المخالف لم نقله ) وفسّرنا عبارة ( لم نقله ) بعدم الصدور، فالمخصّص لابد وأن يكون هو الصدور ولا معنى لإدخال الحجيّة في الحساب بل نتعامل مع مسألة الصدور وعدمه من دون إدخال شيءٍ في الحساب . إذن عمليّة التخصيص هي مرفوضة في حدّ نفسها، فهذا الوجه وهذا البيان مبنيٌّ على أساسٍ فاسد.
ثانياً:- لو سلّمنا أنّ الشخص الثاني يمكنه التخصيص ولكن نقول إنّ العام الذي صدر من الإمام هو آبٍ من حيث لسانه عن التخصيص لأنه يقول ( المخالف للكتاب لم نقله ) وهذا اللسان يأبى عرفاً عن التخصيص لأنّ حيثية رفض المخالف هي حيثيّة المخالفة وحيثيّة المخالفة لا يمكن أن تُخصّص ونقول إنّ المخالف للكتاب ليس بصادرٍ إلّا هذا المخالف، إنّ هذا لا معنى له وهو شيءٌ مرفوضٌ عرفاً.
ثالثاً:- يمكن أن نقول إنّ المقصود من تعبير ( لم نقله ) الكناية عرفاً عن نفي الحجيّة، فحينما يقول الإمام عليه السلام ( لم نقله ) يعني أنّه ليس بحجّة، فإذا كان هذا هو المقصود فتصير هذه الطائفة التي تقول إنّ المخالف ليس بحجّة مخصّصة لدليل حجيّة الخبر العام، فتصير النتيجة هي أنّ خبر الثقة حجّة بشكلٍ عام إلّا إذا كان مخالفاً . فإذن تعبير ( لم نقله ) هو تعبيرٌ عرفيّ عن نفي الحجيّة.
ولك أن تقول بعبارة أخرى:- إنّ تعبير ( لم نقله ) له دلالتان عرفيّتان إحداهما لم نقله والثانية أنه ليس بحجّة، فنفي الحجيّة هو مدلولٌ لهذا الكلام ودلالةٌ لهذا الكلام، فالمفهوم من لسان ( المخالف لم نقله ) يعني أنّه مضافاً إلى أنّه لم نقله فهو أنه ليس بحجّة، وإذا كان نفي الحجيّة مقصوداً أيضاً ودلالةً اضافيةً إلى جنب تلك الدلالة فحينئذٍ يلزم تخصيص دليل حجيّة خبر الثقة من حيث هذه الدلالة الثانية فتصير النتيجة هي أنَّ كلّ خبر ثقةٍ حجّة إلّا إذا كان مخالفاً فهو ليس بحجّة . فإذن لزم التخصيص ولكن من ناحية هذه الدلالة الثانية.
والخلاصة من كلّ هذا:- إنّ هذه الطائفة لا بأس بأن تصير مخصصّة لدليل حجيّة الخبر، يعني أنَّ خبر الثقة حجّة إلّا إذا كان مخالفاً للكتاب الكريم فإنه ساقط عن الحجية حتى إذا لم يكن له معارض، فإذا جاءنا الآن خبر مخالف للكتاب الكريم فهو ليس بحجّة ولو من دون معارضٍ لأجل أنّ شرط الحجيّة هو عدم المخالفة للكتاب الكريم، وهذه نتيجة واضحة.
ولكن هنا مطلبان:-
المطب الأوّل:- هل العبرة في حجية الخبر على أن لا يكون الخبر مخالفاً أو أنّ العبرة هي أن يكون موافقاً ؟ فهل المخالفة مانعة من الحجيّة أو أنَّ الموافقة شرطٌ في الحجيّة فالمدار على ماذا ؟
والفارق بينهما يظهر فيما لو فرض أنّ مضمون الخبر لم يكن مذكوراً في الكتاب الكريم مثل الشك في الصلاة الثنائية أو في الأوليين من الرباعية فالصلاة باطلة حينئذٍ فهل هذا المضمون مذكورٌ في الكتاب الكريم ولو بالعموم من قربٍ أو من بُعدٍ ؟ كلّا إنه ليس مذكوراً، فإذا كان المدار على اشتراط الموافقة فهذا ليس موافقاً فإن شرط صدق الموافقة أن يكون مضمون الخبر ثابتاً في الكتاب الكريم ولو بالعموم فإذا لم يكن مذكوراً فلا يصدق عنوان الموافقة، وأمّا إذا كان المدار على عنوان أن لا يكون مخالفاً فهذا الخبر لا يصدق عليه المخالفة للكتاب الكريم لأن المخالفة فرع أن يتعرّض الكتاب الكريم لمضمون هذا الخبر والخبر يخالفه، فإذن الكتاب الكريم ليس متعرّضاً لمضمون هذا الخبر من قربٍ أو من بُعدٍ فلا يصدق على هذا الخبر أنّه مخالفٌ للكتاب الكريم، فالخبر الدال على أنّ الشك في الصلاة الثنائية مبطلٌ لها لا يصدق عليه أنّه مخالفٌ للكتاب الكريم، نعم لا يصدق عليه أنه موافقٌ، فإذا كان المدار في الحجيّة على الموافقة فهذا ليس موافقاً وبالتالي يكون ساقطاً عن الحجيّة، أمّا إذا كان المدار على المخالفة فهذا ليس بمخالفٍ فيكون حجّة، فالمدار على ماذا فهل شرط الحجيّة أن يكون موافقاً أو أنّ شرطها أن لا يكون مخالفاً ؟
والجواب:- يمكن أن نقول إنّ المدار على أن لا يكون مخالفاً، وذلك لوجهين:-
الوجه الأوّل:- إنّ كثيراً من الأخبار لا يصدق عليها عنوان أنها موافقة للكتاب كما مثلنا بشكوك الصلاة فإن الأخبار المتعرّضة إلى ذلك وما شاكله - وهي كثيرة - لا يصدق عليها أنّها موافقة للكتاب لعدم إشارة الكتاب إلى مضمونها فلو كان المدار على الموافقة فيلزم أن هذه الأخبار ليست حجّة، بينما إذا كان المدار على أن لا يكون مخالفاً فهذه يصدق عليها أنّها ليست مخالفة فتكون حجّة . فإذن اللازم من اعتبار الموافقة هو سقوط مجموعة كبيرة من الأخبار عن الحجيّة.
إن قلت:- كيف يصلح أن يكون هذا دليلاً - يعني القول بأنه يلزم سقوط مجموعة من الأخبار عن الحجيّة - فإن هذا ليس دليلاً علميّاً ؟
قلت:-
أوّلاً:- كما أشرت سابقاً بأنّ الفقيه أو الأصولي يطمئن بأنّ هذا الكمّ الهائل من الأخبار لا يحتمل أنه لا عبرة به شرعاً - بحيث يكون نصف الوسائل مثلاً من أخبار الثقاة لا عبرة به - فإذا كان المدار على عنوان الموافقة فنصف أخبار الوسائل مثلاً يلزم أن تسقط عن الحجيّة . فإذن هذا غير محتمل في حدّ نفسه.
وثانياً:- لو رجعنا إلى صحيحة هشام بن الحكم أمكن أن نستفيد منها أنّ المدار على أن لا يكون الخبر مخالفاً حيث جاء فيها:- ( خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال:- أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله )، إنه صلى الله عليه وآله جمع بين عنوان الموافقة وعنوان المخالفة فقال ما كان موافقاً فأنا قلته وما كان مخالفاً فلم أقله فهو قد جعل بينهما مقابلةً وهذا يدلّ على أنّ المقصود من عنوان الموافق يعني غير المخالف وإلّا يلزم التهافت في كلامه صلى الله عليه وآله لأن الميران سوف يصير غير معلومٍ ومادام هو غير معلومٍ فلماذا يجعل ميزانين متقابلين ؟! إنّ هذا لا يحتمل، فالميزان واحدٌ فلابد من إرجاع أحدهما إلى الآخر والذي يقبل عرفاً هو إرجاع أن يكون المقصود من الموافقة هو عدم المخالفة، أمّا العكس فحيث إنّه غير محتملٍ فيكون الصحيح إذن هو أنّ المدار على أن لا يكون الخبر مخالفاً.