33/11/23
تحمیل
الموضوع / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
مناقشة رأي الشيخ النائيني:-
ذكرنا أن الشيخ النائيني(قده) قد تمسك ببيان يرجع حاصله إلى مقدمتين
الأولى:- إنه في باب الأسباب والمسبّبات التوليدية يصح استعمال اللفظ الدال على المسبب التوليدي ويكون المقصود منه السبب ويكون الاستعمال بذلك حقيقياً لا مجازياً ، ومثّل لذلك بمثالين أحدهما ( أحرقه ) والحال أن المقصود ( ألقه في النار ) فالآمر يريد أن يقول ( ألقه في النار ) ولكنه لم يستعمل هذا اللفظ بل استعمل الفظ الدال على المسـبّب وأراد منـه ( ألقه في النار ) أو يقول ( أقتله ) ويريد بذلك ( أطلق الرصاصة عليه ) ، إنه في كلا هذين المثالين قد استعمل اللفظ الدال على المسبّب التوليدي والحال أن المقصود هو السبب والاستعمال في هذين حقيقي.
الثانية :- قد تقول:- إنه في باب الشرعيات قد تتوسط ارادة المكلف بين الحكم الشرعي وبين ما صدر بعد ذلك ، فالشارع حينما أمر بالوضوء فمجرد الأمر به لا يتحقق معه الوضوء الضرري خارجاً فان ارادة المكلف واختياره له الدور الفعال ، فالمورد إذن ليس من الأسباب والمسبّبات الشرعية - أي في باب الشرعيـات - . أجاب(قده):- بأن ارادة المكلف حيث أنها مقهورة في مقابل الحكم والخطــاب الشـرعي فيكون وجودهـا كالعــدم فيكـون هـذا المـورد شبيهــاً بمــورد ( أحرقه ) التي كان المقصود منها ( ألقه في النار ) فإذا كان ذاك حقيقياً فليكن هذا حقيق أيضاً ، يعني أنه يستعمل كلمة ( ضرر ) ويراد بذلك الحكم الشرعي فان الارادة حيث أنها مقهورة فلا أثر لها في البين.
ونحن في مقام التعليق نقول:- كلتا المقدمتين قابلتان للمناقشة:-
أما الأولى:- فنسلم أنه في باب المسببات التوليدية قد يقال ( أحرقه ) والحال ان المقصود الحقيقي هو ( ألقه في النار ) ولكن من قال إن هذا الاستعمال حقيقي فلعله مجازي فإن الاستعمال أعم من الحقيقة ولا دليل لك على أنه حقيقي والمهم هو إثبات كونه حقيقياً أما مجرد تحقق الاستعمال من دون إثبات كونه حقيقياً فلا يسمن ولا يغني من جوع.
وأما المقدمة الثانية:- لو سلمنا أن ذلك تام في باب المسببات التوليدية فكيف نسحبه إلى باب الشرعيات ؟ فأنه لا يوجد مسبّب وسبب توليديان في باب الشرعيات بحيث لا تكون الارادة متوسطة في البين.
وإذا أجاب الشيخ النائيني وقال:- هذا صحيح ولكن حيث أن الارادة مقهورة فيكون باب الشرعيات ملحقاً وشبيهاً بباب المسببات التوليدية الحقيقية.
أجبناه:- بأن هذا وحده لا يكفي إلا أن يثبت أن الأمر كذلك في باب الشرعيات أيضاً ومجرد ثبوته في التكوينيات كالإحراق والالقاء لا يكفي لتعميمه في باب الشرعيات بل لابد وأن تأتي لنا بشواهد في باب الشرعيات ولا يكفي الاتيان بها في باب التكوينيات فقط أما أن باب الشرعيات كذلك فمن أين لك ذلك ؟!
هذا مضافاً إلى أنه لو سلمنا أن الاستعمال المذكور صحيح في باب التكوينيات وفي باب الشرعيات بأن جاء لنا الشيخ النائيني ببعض الشواهد من الشرع ولكن نقول:- إن غاية ما تثبته هذه الشواهد هو صحة الاستعمال في مواردها أما الصحة في غيره فهو أمر قابل للتشكيك ، يعني بالعبارة الصريحة:- إن استعمال كلمة ( ضرر ) واردة الحكم الشرعي بنحو الحقيقة شيء لا يساعد عليه وجاننا وحسّنا العرفي فصحيـح أن كلمــة ( أحرقـه ) قد نتقبـل استعمالهــا وإرادة ( ألقه في النار ) أما أن نستعمل كلمة ( ضرر ) ونريد بها الحكم الشرعي بنحو الحقيقة فهو شيء مرفوض بحسب وجداننا وحسِّنا العرفي ، وهذه نكتة جميلة جداً . يعني أريد ان أقول:- حتى لو أتى الشيخ النائيني(قده) بشواهد فهي لا تثبت العموم بل أقصى ما تثبته هو أنه أحياناً يصح استعمال المسبّب ويراد منه السبب بنحو الحقيقة ولكن لا تثبت قاعدة كليّة في كل الموارد وأن الذوق يتأبى ذلك ، وموردنا من هذا القبيل فإن الذوق يتأبى من استعمال كلمة ( ضرر ) قاصدين منها الحكم الشرعي فان الشيخ النائينــي(قده) يريـد أن يقـول هنــا هكـذا - أي أن كلمـة ( ضرر ) استعملت والمراد منها الحكم الشرعي بنحو الحقيقة - إن هذا مما يتأبّى عنه الحسّ العرفي . وعليه فحتى لو أتى لنا بشواهد عرفية في باب الشرع لا تنفعه في هذا المجال.
وقبل أن نختم حديثنا مع الشيخ النائيني نقول:- هل يوجد فارق عملي بين رأيه وراي الشيخ الأعظم فنحن فيما سبق ذكرنا فارقاً عملياً بين رأي الشيخ الأعظم ورأي الشيخ الخراساني أما بين رأي الشيخ الأعظم ورأي الشيخ النائيني فهل يوجد فارق ؟ والجواب:- لا يخطر في الذهن فارق عملي وإنما الفارق علمي لا أكثر فالشيخ النائيني يقول إن كلمة ( ضرر ) يقصد منها الحكم بنحو الحقيقة بينما الشيخ النائيني يقول لا يقصـد منهــا الحكــم الشرعـي بـل تبقــى كلمــة ( ضرر ) تدل على الضرر ولكن نقيدها بأنه ( لا ضرر ينشأ من الشرع ومن أحكامه ) وهذا التقييد قرينته معه كما قلنا . وبهذا نختم حديثنا عن الاتجاه الأول بآرائه الثلاثة وقد اتضح أن الوجيه هو الرأي الأول - أعني رأي الشيخ الأعظم -.
وأما الاتجاه الثاني الذي يفسر النفي بالنهي:- فيوجد فيه رايان:-
الرأي الأول:- تفسير النفي بالنهي المولوي الإلهي ، فمعنى ( لا ضرر ) هو ( لا تضر ) -يعني نفسك أو الآخرين - ويكون حكماً شرعياً نظير ( لا تشرب الخمر ) و ( لا تغصب ) وما شاكل ذلك ، وهذا ما صار إليه شيخ الشريعة(قده) كما ذكرنا.
الرأي الثاني:- أن يفسر بالنهي الولائي - أو بتعبير آخر ( الحكومتي ) أو ( النهي السلطاني ) - وهذا ما صار إليه السيد الخميني(قده) كما نوضح ذلك فيما بعد.
النهي الإلهي:-
أما بالنسبة إلى الرأي الأول فقد صار إليه شيخ الشريعة(قده) كما ذكرنا وليس هو أول روّاده بل سبقه إلى ذلك السيد المراغي في عناوينه
[1]
، أما كيف يستعمل النفي ويراد به النهي ؟ ذلك إما بأن يفترض أن كلمة ( لا ) النافية تستعمل بمعنى ( لا ) الناهية فتصير المجازية في استعمال كلمة ( لا ) ، أو أن نفترض أن كلمة ( لا ) تبقى نافية ولكن يفترض وجود مقدّر ويكون المعنى هكذا ( لا ضرر جائزاً - أو مباحاً أو سائغاً - ) فالضرر السائغ والمباح منفي في الإسلام فتكون المسامحة من حيث وجود تقدير ، أو أن نفترض أن كلمة ( لا ) تبقى على حالها كما لا يوجد تقدير أيضاً ولكن ( لا ضرر ) جملة خبرية يقصد بها جداً الانشاءُ يعني ( لا تضرّ ) فالمقصود الجدي هو النهي بينما المعنى الاستعمالي هو الإخبار والنفي.
هذه ثلاثة وسائل لإرادة النهي أما أيهما هو الأرجح فلعله ليس بمهم في هذا المجال ، والمهم هو أن نعرف أنه بم استدل شيخ الشريعة(قد) على إثبات مطلوبه وأن المقصود هو النهي ؟
[1] والسيد المراغي هو السيد مير عبد الفتاح المراغي تلميذ العلمين الشيخ موسى كاشف الغطاء والشيخ علي كاشف الغطاء ولدي الشيخ جعفر الكبير وقد توفي سنة 1250 هـ أي قبل شيخ الشريعة بمائة سنة تقريباً فان شيخ الشريعة توفي سنة 1339هـ وللسيد المراغي كتاب في القواعد الاصولية باسم ( العناوين ) وقد طبع مؤخراً في مجلدين وهو قد يذكر هذا المعنى في هذا الكتاب فلاحظ العناوين ج1 ص 311.