34/08/01
تحمیل
الموضوع:- التفصيل الثاني ( التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
إن المقصود من هذا التفصيل هو أن الشك في بقاء المستصحب تارةً يكون لأجل الشك في حصول الرافع له بعد الجزم بأن له اقتضاءً للبقاء فلولا الرافع لبقي إلى الأبد كما هو الحال في الملكيّة والطهارة والنجاسة والرّقيّة وغير ذلك فإن لها قابلية للبقاء فالملكيّة متى ما حدثت فلها قابليّة لأن تبقى إلى ما شاء الله إلا أن يحصل رافعٌ لها كالفسخ أو ما شاكله فلولا الرافع لبقيت إلى الابد ، وهكذا طهارة الثوب هي صالحة لأنه تبقى إلى الأبد إلا أن تطرأ النجاسة ، وهكذا النجاسة لها قابلية البقاء إلى الأبد لولا طروّ الرافع - أعني التطهير - ... وهكذا ، إن المستصحب - أي في استصحاب الملكيّة أو الطهارة أو النجاسة أو الزوجية أو غير ذلك - في هذه الأمثلة له اقتضاء البقاء إلى الأبد والشك في زواله هو بسبب احتمال طرو الرافع فهنا يجري الاستصحاب وأما إذا كان الشك في أصل المقتضي كالشيخ الكبير فإنه قد نشك بعد سنة في بقائه على قيد الحياة وشكنا لم ينشأ من أن سيارة قد دهسته بل من باب أن الشيخوخة لها فترةٌ واستعداد الإنسان هو إلى فترةٍ معينة فنحتمل أنه قد فارق الحياة بسبب انتهاء استعداده وليس بسبب أنه دهس بسيارة أو حدث زلزال مثلاً أو ما شاكل ذلك إن الشك هنا في بقاء حياة هذا الإنسان هو من أجل الشك في أصل استعداده لا من جهة الرافع ، ومثاله الشرعي هو خيار الغبن فلو انكشف للمغبون أنه مغبون لم يسارع بل تراخى وبعد أن تراخى سوف نشك هل أن خياره باقٍ أو لا وسبب الشك هنا ليس هو الرافع - أي لأجل أنه قد أسقط الخيار - حتى يكون ذلك رافعاً بل من أجل احتمال أن خيار الغبن هو في حدِّ ذاته لا استعداد له للبقاء في فترة الاطلاع على الغبن مع التراخي ، ومن هذا القبيل ما إذا توفيت الزوجة فهناك كلام في أنه إذا توفيت هل الزوجية باقية فيتمكن الزوج حينئذٍ أن يصنع ما يصنع الزوج كأن ينظر إليها لو فرضنا أنه تمكن أن ينظر إليها بعد سنة مثلاً - كما لو كان بدنها محفوظاً في الثلاجة - فهنا الشك في بقاء الزوجية ليس من جهة احتمال الرافع - وهو الطلاق أو الفسخ - بل إن الزوجية لا استعداد لها للبقاء لفترة ما بعد الوفاة وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب عند مثل الشيخ الأعظم والشيخ النائيني.
والخلاصة:- إذا كان المستصحب يجزم بأن له القابلية والاستعداد للبقاء وإنما يشك في بقاءه لاحتمال حصول الرافع فهنا يجري الاستصحاب كاستصحاب الطهارة والنجاسة والرّقيّة والملكيّة ، وأما إذا كان الشك ناشئاً من الشك في أصل الاستعداد والقابلية للبقاء فلا يجري . هذا هو المقصود من هذا التفصيل
وبعد اتضاحه نأتي إلى الحجّة ، وأوّلاً نتكلم في حجّة الشيخ الأعظم ثم نتكلم في حجة الشيخ النائيني:-
حجّة الشيخ الأعظم(قده):- ذكر الشيخ الأعظم في الرسائل في توجيه التفصيل المذكور ما حاصله:- إن روايات الاستصحاب قد اشتملت على كلمة النقض وقالت:- ( لا تنقض اليقين بالشك ) ومن كلمة النقض - أي مادة النقض - استفاد هذا التفصيل لأن النقض لغة عبارة عن حلِّ الأمر المبرم أو بتعبير آخر رفع الهيئة الاتصاليّة كما في الحبل فإن خيوطه مبرمة فالحبل مبرمٌ يعني أن الخيوط بعضها ملتف حول بعضٍ وتوجد هيئة اتصاليّة معيّنة في هذه الخيوط فإذا حُلَّ هذا الإبرام - يعني فتحنا هذا الحبل خيطاً خيطاً - فآنذاك يصدق نقض الحبل ويقال نقضت الحبل أي حللت إبرامه ورفعت الهيئة الاتصاليّة الموجودة فيه ، هذه مقدمة ذكرها وهذا جيد ومقبول . ثم أضاف مقدمة ثانية فقال:- إن هذا المعنى اللغوي يتعذر تطبيقه في المقام لأن المتيقن أو اليقين ليس له هيئة اتصالية وليس له إبرام فإن ذلك من خصائص القضايا الماديّة كالحبل فإن الحبل أمرٌ مادي خارجي فيتصور فيه إبرام ويتصور فيه هيئة اتصالية فإذا رفعت تلك الهيئة الاتصاليّة صدق النقض وأما القضايا التي ليست ماديّة بل هي غير محسوسة كاليقين فإنه أمر قلبيّ وليس من القضايا الماديّة أو المتيقن فإنه كذلك ليس من الأمور الماديّة التي فيها إبرام وهيئة اتصاليّة . فإذن لا يمكن أن يصدق عنوان النقض في مثل اليقين أو المتيقن بالمعنى الحقيقي - يعني أن النقض بمعناه الحقيقي لا يمكن أن يصدق - لعدم وجود إبرام واتصاليّة في اليقين أو في المتيقن فإن ذلك من خصائص القضايا الخارجية الماديّة دون القضايا غير المحسوسة التي تكون في القلب مثلاً ، والمقدمة الثالثة:- قال إنه يتعيّن آنذاك الحمل على المعنى المجازي بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي للنقض والمعنى المجازي مردّد بين احتمالين بين أن نفسّر النقض برفع اليد عن الشيء شريطة أن يكون له استعداد للبقاء وبقيد أن يكون له استعداد للبقاء وبين أن نفسّره بمعنىً مجازيٍّ أوسع من ذلك - يعني برفع اليد عن الشيء سواء كان له اقتضاء البقاء أو لم يكن له اقتضاء البقاء - إنه بعد تعذر إرادة المعنى الحقيقي من كلمة النقض في روايات الاستصحاب يتعيّن المصير إلى المعنى المجازي والمعنى المجازي مردّد بين احتمالين ، ثم جاء بمقدمة رابعة الرابعة فقال:- كلما تعذّر حمل اللفظ على معناه الحقيقي وتردّد بين معنيين مجازيّين تعيّن حمله على المعنى المجازي الأقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذّر والأقرب هنا هو أن يكون المراد رفع اليد عن الأمر الذي له اقتضاءٌ للبقاء فإن هذا أقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذّر وبهذا يثبت المطلوب - يعني يثبت أن المقصود من ( لا تنقض اليقين بالشك ) هو ( لا ترفع اليد عن الأمر الذي له اقتضاء البقاء بسبب الشك ) - فتصير هذه الروايات مختصّة بموارد الشك في الرافع بعد الجزم باقتضاء المتيقن للبقاء.
وفيه:- إنه توجد مناقشتان إحداهما ليست مهمة والأخرى مهمّة:-
أما غير المهمة فهي:- إنه أشار في ذيل كلامه وقال إن الأقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذر هو رفع اليد عن الأمر الذي له اقتضاء البقاء والثبات والاستمرار فهذا هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذّر.
ونحن نقول:- إن هذه الأقربيّة هي أقربيّة اعتبارية استحسانيّة دقيّة - إن صح التعبير - وليس أقربيّة عرفيّة والمدار في تعيّن حمل اللفظ على الأقرب إلى المعنى الحقيقي المتعذر هو ما يكون أقرب عرفاً وفي نظر العرف وهذه الأقربيّة التي أشير إليها هي أقربيّة استحسانية اعتبارية وليست عرفيّة فلا عبرة بها.
وأما المناقشة المهمّة فهي:- إنا نسلّم أن المعنى الحقيقي متعذر إرادته في المقام ، ونسلّم أنه لابد من المصير إلى أقرب المجازات ، ونسلّم أن أقرب المجازات هو رفع اليد عن الأمر الذي له قابلية البقاء ، ولكن نقول إن كلمة النقض إلى أيّ شيءٍ أسندت في الحديث ؟ هل أنها أسندت إلى اليقين أو أنها أسندت إلى المتيقّن ؟ إنه لو كانت قد أسندت إلى المتيقن فما أفاده(قده) وجيه فإن المتيقّن على نحوين فقد يكون أمراً له استعداد البقاء إلى الابد وقد يكون شيئاً ليس له الاستعداد المذكور ، ولكن الحديث أسند كلمة النقض إلى اليقين واليقين دائماً هو له استعداد البقاء وليس على نحوين فكلّ يقينٍ هو محكمٌ وقويّ وله استعداد البقاء إلى الأبد ، فعلى هذا الأساس لا يثبت التفصيل الذي أراده بعدما كانت كلمة النقض قد اسندت إلى اليقين دون المتيقّن.
إن قلت:- لم لا نقول إن كلمة النقض اسندت لفظاً إلى اليقين ولكن بحسب الواقع أخذت كمرآة إلى المتيقّن فإن الذي ينقض هو الطهارة التي هي المتيقّن أو النجاسة أو الزوجية أو غير ذلك دون نفس اليقين فاليقين إذن هنا قد أخذ كمرآة إلى المتيقّن وبذلك يتم ما أفاده الشيخ الأعظم(قده).
قلت:- إن كلمة اليقين لا تستعمل كمرآة إلى المتيقّن وإنما هي مرآة إلى أفراد اليقين القائمة في القلب فنحن نستعمل كلمة اليقين ونقول ( كل من كان عنده يقين فليأخذ بيقينه وهو حجة عليه ) وكلمة اليقين هنا نأخذها مرآة مشيرة إلى اليقين القائم في قلبك والقائم في قلب الشخص الثاني - أي إلى أفراد اليقين الحقيقة القائمة في القلوب - فكلمة اليقين تستعمل مرأة إلى أفراد اليقين الحقيقة هذه وليس في لغة العرب ولا شاهد واحد بأنها تستعمل كمشيرٍ إلى المتيقّن - يعني أنت تقول عندي يقين ومقصودك هو أنه عندي طهارة - إنه لا يوجد هكذا وهو اشتباه وإنما تستعمل كمرأة إلى أفراد اليقين القائمة في قلب هذا وذاك ، وعلى هذا الأساس تبقى كلمة اليقين لا يراد منها المتيقّن حتى يأتي تفصيل الشيخ الأعظم(قده) بل تبقى يراد منها اليقين ومادام يراد منها اليقين وهو محكمٌ في حدِّ نفسه دائماً فينهدم هذا التفصيل من الأساس.