33/05/25
تحمیل
الموضوع / ضابط مورد البراءة والاشتغال / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
استدراك وتتمة لبحثنا السابق:- ذكرنا فيما سبق أن المحصِّل تارةً يكون شرعياً وأخرى يكون عرفياً ، وإذا كان شرعياً كما في باب الطهارة بناء على أنها واجبة فان محصّلها شرعي فالذمة لا تشتغل بالطهارة المسببَّة فقط بل بالطهارة من خلال هذا السبب باعتبار أن تحديد السبب يلزم أن يكون من قبل الشارع وألا فالمكلف يجهل ولا يقدر على أداء المسبب من غير ناحية السبب فالمناسب عقلاً أو عقلائياً أن يكون الواجب هو المسبّب من خلال هذا السبب فيأتي ما ذكرناه سابقاً من أن الذمة مشتغلةٌ جزماً بالمسبب من خلال التسعة أجزاء وأما المسبّب من خلال عشرة فلا يعلم باشتغال الذمة به فتجري البراءة عنه .
وإذا قبلنا بأن المناسب عقلاً أو عقلائياً ذلك - أي إشغال الذمة بالمسبب من خلال السبب فهو المطلوب -.
وأما إذا أنكرنا ذلك وقال قائل:- إن من الوجيه عقلاً وعقلائياً - رغم كون المحصّل شرعياً - إشغال الذمة بالمسبَّب فقط فان تحديد مركز شغل الذمة أمر راجع إلى المولى ولا محذور في أن يشغل ذمتنا بالمسبّب فقط.
ولو قلنا بهذا فلا يؤثر شيئاً على النتيجة التي انتهينا إليها إذ نقول هكذا:- انه بناءً على هذا سوف يصبح شغل الذمة بالمسبب من خلال السبب محتملاً وكذلك يكون شغل الذمة بالمسبب فقط محتملٌ أيضاً والاحتمال يكفينا للوصول إلى النتيجة المقصودة إذ بالتالي لا نجزم باشتغال ذمتنا بالمسبّب فقط من دون ملاحظة سببه حتى يقال إن الاشتغال اليقيني به يستدعي الفراغ القيني ولا يكون ذلك إلا بالإتيان بالعشرة فان هذا الكلام إنما يكون وجيهاً فيما لو حصل الجزم باشتغال الذمة بالمسبّب وحده من دون ملاحظة تقيّده بالسبب أما لو احتملنا ذلك فلا يتم كما هو واضح . هذا بالنسبة إلى التتمة التي أردنا الإشارة إليها.
ونواصل حديثنا في بيان ضابط مورد البراءة والاشتغال:-
قلنا في بيان ضابط مورد البراءة والاشتغال أنه توجد ثلاثة أمور قيد ومتعلق ومتعلّق المتعلّق الذي يصطلح عليه بالموضوع:-
الشك في القيد:-
أما إذا كان الشك في القيد فيلزم من ذلك الشك في ثبوت أصل التكليف إذ القيد قيدٌ للتكليف فالشك فيه شكٌ في التكليف كما هو واضح ، فوجوب الحج مثلاّ مقيّد بالبلوغ والاستطاعة فلو شك المكلف أنه بالغ أو لا أو شك أنه مستطيع أو لا فهذا يعني الشك في توجّه الوجوب إلى إليه فيصير المورد مورداً للشك في ثبوت أصل التكليف وبالتالي يكون مجرى للبراءة ، وهذا ينبغي أن يكون من الواضحات.
والنتيجة هكذا:- كلما كان الشك شكاً في القيد فلازمه الشك في ثبوت أصل التكليف وبالتالي يكون مجرى للبراءة.
الشك بلحاظ المتعلق:-
وأما الشك بلحاظ المتعلق فله حالات ثلاث:-
الحالة الأولى:- أن يكون التكليف وجوباً ويشك المكلف في المتعلق ، بمعنى هل تحقق منه المتعلق الذي هو واجب أو لم يتحقق ؟ أو فرض أنه شك في انطباق عنوان المتعلّق على ما أتى به ؟ فانه في مثل ذلك يكون الشك شكاً في الامتثال وبالتالي يكون مجرى للاشتغال ، كما لو فرض أن المولى أوجب علينا الدعاء في يوم عرفة مثلاً فالدعاء متعلّق للوجوب ونحن نشك هل دعونا أو لا ؟ انه شك في أصل تحقق المتعلق ولازم ذلك أن يكون الشك شكاً في تحقق امتثال التكليف بعد الجزم بتحقق التكليف فيثبت الاشتغال .
وهكذا لو فرض أنا قرءنا شيئاً ولكن شككنا هل ينطبق عليه أنه دعاء أو لا ؟ كما لو قرءنا زيارة عاشوراء وشككنا هل ينطبق عليها عنوان الدعاء أو لا ؟ إن هذا أيضا شك في الامتثال بعد الجزم بتحقق التكليف - أي هو شك في الإتيان بالمتعلق - فيكون مجرى للاشتغال.
إذن القانون الذي نخرج به في هذه الحالة الأولى هو:- كلما كان الحكم وجوبياً وكان الشك في تحقق المتعلق أو في انطباق المتعلق على المأتي به فذلك يرجع إلى الشك في الامتثال بعد الجزم بتحقق التكليف.
الحالة الثانية:- أن يكون التكليف تحريمياً ويشك في صدق عنوان المتعلق على المورد الخاص ، كما هو الحال في باب الصوم فان الواجب هو ترك الأكل فان الشرب والأكل محرّمان على الصائم فلو فرض أن المكلف لم يتناول الماء من فمه وإنما تناوله من أنفه أو أذنه - إن أمكنه ذلك - أو من طريق التزريق كالمغذي فإنا نشك هل هذا شرب أو ليس بشرب ؟ فان كان شرباً فهو محرّم جزماً وإذا جزمنا بأنه ليس بشرب فهو جائز جزماً ، أما إذا شككنا فهنا الشك هل يكون شكاً في الامتثال أو في أصل التكليف ؟
يمكن أن يقال:- إن الشك في مثل ذلك شك في أصل التكليف فيكون مجرى للبراءة ، ببيان:- إن المولى حينما حرّم الشرب علينا فالمقصود أنه متى ما صدق عنوان الشرب كان حراماً ، فالحرمة منوطة بصدق القضية الشرطية - يعني بكون هذا شرباً وصدق عليه عنوان الشرب - والمفروض أنا نشك في صدق عنوان الشرب فبالتالي نشك في تحقق الحرمة فالمورد يصير من موارد الشك في ثبوت التكليف وليس من موارد الشك في الامتثال فان الشك في الامتثال إنما يكون فيما لو جزمنا بتحقق التكليف وهنا لا نجزم بتحققه.
نعم قد تسأل وتقول:- من أين لك أن صدق القضية الشرطية من ناحية المتعلق أخذ قيداً في التحريم ؟ يعني من أين لك حينما يقول المولى ( يحرم على الصائم شرب الماء ) أن هذا يرجع إلى ( إن صدق على المورد عنوان الشرب فآنذاك تثبت الحرمة ) ؟
قلت:- العرب والعرف والعقلاء ببابك فإنهم يفهمون هكذا ، وأنت راجع وجدانك فعندما تقول لشخص ( لا تشرب الماء ) فالمقصود هو أنه ( إذا صدق الشرب فآنذاك يحرم عليك ) وهذه قضية عرفيّة عقلائية لا تحتاج إلى دليل .
نعم ربما مناسبات الحكم والموضوع أحياناً تقتضي أن المقصود من الشرب ليس عنوان الشرب وإنما هو الوصول إلى الجوف بأي شكلٍ كان ، ولكن هذه قضية لسنا بصددها.
ولكن لو فرضنا أنا فهمنا من الدليل أن المدار على عنوان الشرب كما فهم الفقهاء ذلك ففي مثل هذه الحالة قد أخذ صدق القضية الشرطية قيداً بفهم العقلاء والعرف فيكون ذلك مجرى للبراءة . ومن هنا قال الفقهاء لا باس بتزريق الإبرة في العضلة أو لا بأس بتناول الطعام والشراب من خلال الوريد وما شاكل ذلك فان الوجه في ذلك هو كفاية الشك في صدق عنوان الشرب فإذا شككنا في صدق عنوان الشرب كان ذلك موجباً للشك في ثبوت الحرمة فيكون مجرى للبراءة.
ومن هذا القبيل:- النهي عن الكذب فالدليل قد دلّ على أنه يحرم الكذب وأنا أردت أن أخبر بخبرٍ كما لو أردت أن أخبر بأن زيداً جاء من السفر ولكن لا أدري هل جاء من السفر حقاً حتى لا يلزم محذور الكذب أو هو أنه لم يأتِ فيلزم أن يكون إخباري كاذباً ؟ إن المناسب ما هو هل البراءة أو الاشتغال ؟ يعني هل هذا شك في أصل التكليف أو شك في الامتثال ؟
انه شك في أصل ثبوت التكليف فان مرجع تحريم الكذب إلى أنه إن صدق على الإخبار أنه مخالفٌ للواقع وكذبٌ فهو حرامٌ وأنا أشك في المقام في صدق عنوان الكذب على هذا الإخبار فالمناسب هو البراءة ، وهذا من الأشياء الظريفة . إذن المناسب فنيّاً هو البراءة لكون الشك شكاً في ثبوت التكليف.
أجل يمكن أن نحكم بالحرمة من طريق آخر وذلك بأن يقال هكذا:- أنا علم إجمالاً إما أن إخباري بمجيء زيد هو كاذبٌ أو أن إخباري بنقيض ذلك - أي بعدم مجيئه - هو كاذبٌ فأحد الاخبارين كاذب ٌجزماً فيحصل علم إجمالي وبالتالي يحرم الإخبار عن المجيء ويحرم الإخبار عن عدم المجيء أيضاً فلابد أن اسكت ، ولكن هذه الحرمة ولزوم السكوت هي من ناحية العلم الإجمالي ولولا تشكل هذا العلم الإجمالي لما حكمنا بالحرمة ، ولذلك لا تثبت الحرمة في المورد الذي لا يتشكل فيه هذا العلم الإجمالي كما في مثال الشرب فانه لا يتشكل فيه علم إجمالي فلا محذور في التناول من الأنف ، أما في مثال الكذب لخصوصية فيه حيث يتشكل العلم الإجمالي فيحرم الإخبار عن المجيء وهكذا الإخبار عن عدم المجيء لأجل خصوصية العلم الإجمالي في خصوص هذا المثال وما شاكله.
إذن القانون الذي نخرج به في هذه الحالة هو:- كلما كان الحكم تحريمياً وشُك في صدق عنوان المتعلّق على المورد فالمناسب أن يكون الشك شكاً في ثبوت التكليف وبالتالي يكون مجرى للبراءة إلا أن يتشكل في خصوص المورد والمثال علم إجمالي.