32/10/20
تحمیل
ومثال الثاني:- وجوب اجتناب المفطرات في باب الصوم فان الوجوب واحد ومتعلق بمجموع المفطرات من حيث المجموع لا أن كل واحد من المفطرات يتعلق به نهي مستقل عن النهي المعلق بالآخر ، كلا بل النهي واحد ، والقرينة على ذلك هي أن المكلف لو ارتكب مفطراً واحداً وترك بقية المفطرات - بأن أكل قطعة صغيرة من الخبز - لعد غير ممتثل رأساً لا أن نبعض ونقول هو غير ممتثل من ناحية الأكل وممتثل من حيث بقية المفطرات ، كلا ، بل نقول له أنت لست بممتثل رأساً ان هذا يدل على أن النهي المتوجه الى المفطرات واحد وليس منحلاً ، فإذا قبلنا بهذا حينئذ نقول لو فرضنا أنا شككنا في شيء بنحو الشبهة الموضوعية أنه مفطر أو لا من قبيل تزريق الإبرة في العضلة هل يصدق عليه أنه أكل وشرب حتى يكون مفطراً أو لا - لو فرضنا هذا - وهنا الشبهة موضوعية لأن ما يصدق عليه الأكل هو مفطر ولا يجوز ارتكابه جزماً ، فالحكم معلوم وإنما الشك في الموضوع والمصداق وان هذا هل يصدق عليه أنه أكل أو ليس بأكل ، ففي مثل هذه الحالة ذكر الشيخ الخراساني(قده) انه يلزم الاحتياط بترك المشكوك ، والوجه في ذلك هو أن ذمتنا قد اشتغلت بترك جميع المفطرات فلا بد من الامتثال اليقيني ولا يحصل إلا بترك الفرد المشكوك وليس الشك شكاً في توجه تكليف جديد وإنما التكليف معلوم وهو واحد - وهو ترك جميع الأفراد للمفطر - فشكنا في امتثاله وليس شكاً في ما اشتغلت به الذمة بل ما اشتغلت به الذمة تكليف واحد معلوم وإنما الشك في امتثال ذلك التكليف الواحد فيلزم تطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني.
إذن هو قد فصَّل والتفت الى أن التكليف أحياناً يكون انحلالياً بعدد أفراد الموضوع وأخرى يكون واحداً وليس انحلالياً.وسيأتي التعليق عليه فيما بعد وإنما الآن أريد بيان الاحتمالات في المقام فقط.
وهناك رأي آخر قد صار إليه علمان وهما الشيخ ميرزا علي الايرواني[1] والسيد أغا حسين البروجردي[2] وحاصل ما صارا إليه هو أنه ينبغي التفصيل بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية ، فالبراءة العقلية لا يمكن تطبيقها في الشبهات الموضوعية لأن وظيفة الشارع هي بيان الحكم الكلي للموضوع الكلي ، يعني أن وظيفة الشرع هي أن يقول مثلاً ( الخمر حرام ) أما أنَّ هذا أو ذاك خمر أو ليس بخمر فليس ذلك وظيفةً للشارع وإنما هو وظيفة المكلف ، فالمكلف هو الذي عليه أن يبحث ليثبت له أن هذا خمر أو ليس بخمر ، وأما الشرع فليس وظيفته.
إذن البيان اللازم على الشارع - وهو الحكم الكلي - قد تحقق بكامله وأما الذي لم يتحقق - والذي هو بيان الموضوع - فليس من وظيفته فلا معنى آنذاك لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ البيان الذي هو وظيفة الشارع قد تم فلا يقبح العقاب من ناحيته والبيان الذي لم يتحقق ليس لازماً عليه حتى يقبح العقاب.
إذن قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يمكن تطبيقها في الشبهات الموضوعية ، ولكن البراءة الشرعية مثل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) حيث أن لسانها مطلق وصالح لشمول الشبهة الموضوعية فيشملها ويثبت البراءة.
وهذا المطلب ذكراه في حالة ما قبل الفحص عن الشبهة الموضوعية وقالوا لا يجوز التمسك بالبراءة العقلية هنا ، ولكن نحن نسحبه الى ما بعد الفحص فانه لو تم قبل الفحص لتم بعده ، فبعد الفحص أيضاً يقال لا مجال لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن البيان اللازم على الشارع قد حصل والذي لم يحصل ليس من وظيفته.
والشيخ النائيني(قده)[3] كأنه أراد أن يرد هذا التفصيل وان لم يصرح به ولم يصرح باسم هذين العملين وحاصل ما ذكره هو أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان قد اشتملت على كلمة ( بيان ) والبيان ماذا يراد به ؟ انه يراد به الظهور لأنه مصدر لـ ( بان ) بمعنى ظهر ، وعلى هذا الأساس يصير المعنى هكذا ( يقبح العقاب بلا ظهور وبلا وضوح للحكم ) ، ثم قال انه إذا كان الموضوع مردداً ومشتبهاً بأن كنا لا نعلم أن هذا خمر أو ليس بخمر فبالتالي يكون الحكم بالتحريم ليس ظاهراً وليس واضحاً فيحكم العقل بقبح العقاب آنذاك.
وهذه الطريقة التي سلكها الشيخ النائيني(قده) ينبغي أن تعد من الغرائب لأن هذه القاعدة لم ترد في لسان دليل لفظي من آية أو رواية ذكرت فيه كلمة ( بيان ) حتى نبقى نسير حول لفظ البيان وما هو البيان ثم نذهب ونبحث عن الفعل ما هو مصدره وإنما هي قاعدة عقلية ، فهذه الطريقة لا معنى لتطبيقها هنا لأنها طريقة خاصة بالألفاظ والنصوص اللفظية ، وما دامت القاعدة عقلية فلا بد من الرجوع الى العقل بقطع النظر عن الألفاظ ونلاحظ بماذا يحكم ؟ هل يحكم بقبح العقاب في خصوص الشبهات الحكمية أو يعمم ذلك للشبهات الموضوعية ؟ هكذا ينبغي أن يكون.
والخلاصة من كل هذا انه قد اتضح أن الاحتمالات في المسألة هي بالشكل التالي:-
الاحتمال الأول:- ما ذهب إليه المشهور وهو جريان البراءة في الشبهة الموضوعية من دون تفصيل.
الاحتمال الثاني:- أنها لا تجري مطلقاً ، فان الشيخ الأنصاري ذكر شبهة لازمها عدم جريان أصل البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقاً.
الاحتمال الثالث:- التفصيل بين ما إذا كان الحكم منحلاً بعدد أفراد الموضوع وبين ما إذا كان واحداً وليس بمنحل وهو ما ذهب إليه الشيخ الخراساني.
والاحتمال الرابع:- التفصيل بين البراءة العقلية فلا تجري وبين البراءة الشرعية فتجري.
هذا من حيث الاحتمالات التي أشرنا إليها.
[1] رسالة الذهب المسكوك في حكم اللباس المشكوك-54.
[2] تقرير درسه في كتاب الصلاة للمقرر الشيخ فاضل اللنكراني 1 -178 .
[3] أجود التقريرات 2 - 199