32/10/14
تحمیل
ان قلت:- هذا صحيح بيد أن مسألة اللسان ليست مهمة فان الحجية تنشأ من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر أو بالأحرى أحد الحكمين على الآخر عند التزاحم بينهما ثبوتاً ، فالمولى يرجح أحد الاحتمالين على الآخر وهذا هو معنى الحجية ويبقى اللسان مجرد آلة ووسيلة والتقيد به ليس أمراً مهماً.
قلت:- صحيح أن اللسان ليس شيئاً مهما ولكن بعض الألسنة قد تكون أنسب من الأخرى ، ففي مثل ذلك لا مجال للتقيد باللسان الخاص ما دام أن الكل جائز ووجيه غايته أن البعض أوجه من البعض الآخر كما هو الحال في باب حجية الخبر فانه يمكن جعل الحجية بلسان جعل العلمية ويمكن بلسان جعل المنجزية والمعذرية ويمكن بلسان جعل الحكم المماثل ، ان هذه الألسنة جميعاً مؤدية للغرض غايته قد يكون لسان جعل العلمية أشد ملائمة ، فلو عبر باللسان الآخر فلا يضر استكشاف جعل الحجية مادام الجميع وافياً بجعل الحجية ، وهذا بخلافه في مقامنا فانه صرح بأنه لك الثواب وان كان الأمر على خلاف الواقع ان هذا لا يتلاءم مع جعل الحجية لا أنه يتلاءم معها إلا أن غيره أشد ملائمة منه ، بل هو كما قلنا يتنافى مع جعل الحجية فان الشيء يجعل حجة عند الشك لا أن يجعل حجة حتى عند الخطأ فيقال أنا جعلته حجة ويلزم إتباعه ، وعليه فاستكشاف جعل الحجية من لسان أخبار من بلغ شيء صعب.
ولعلك تقول:- هناك جواب آخر يمكن الاستعانة به في المقام وذلك بأن يقال ان هذا البيان كان يقول ان أخبار من بلغ تحث على العمل وفق البلوغ ، ونحن يمكن لنا أن ننكر استفادة الحث من الأساس ونقول لا يستفاد من أخبار من بلغ الحث على العمل وفق البلوغ فهي قالت ( من بلغه ثواب على عمل فعمله كان له ذلك الثواب وان لم يكن الأمر كلك ) فأين اللفظة التي يستفاد منها الحث على العمل وفق البلوغ حتى يقال لازم الحث عرفاً هو جعل الحجية كالحث على العمل بخبر الثقة فكما يستفاد منه الحجية كذلك الحث في المقام ؟ فنحن في المقام ننكر وجود لفظ يمكن أن نستفيد منه الحث . فهذا الاحتمال من أساسه باطل.
وفي الجواب نقول:- ان ما أفيد شيء وجيه لو تسايرنا مع الدلالة المطابقية ، فنسلم بعدم وجود لفظ يدل بالمطابقة على الحث ولكن اللغة بشكل عام أو لغة العرب قد تكون لها مداليل التزامية وهنا يمكن أن ندعي وجودها ، فالعرف يفهم من أخبار من بلغ الحث على العمل وفق ما بلغ فصحيح أنه لا يوجد لفظ يستفاد منه الحث بالدلالة المطابقية ولكن العرف يفهم ذلك بالدلالة الالتزامية نظير ما إذا قيل ( من قضى لي هذه الحاجة وسعى لها فانا أعطيه كذا مقدار ) فهنا لا يوجد لفظ يستفاد منه الحث على السعي وراء هذه الحاجة ولكن العرف يفهم وستفيد من هذا القول الحث وأن المتكلم يريد السعي لتحقيق هذه الحاجة والأمر هنا كذلك ، فالحديث حينما قال ( كان له ذلك الثواب وان كان الأمر ليس كذلك ) يفهم منه أن اسْعَ أيها المؤمن لتنفيذ ما بلغ ، وهذه دلالة الالتزامية عرفية وليست مطابقية.
وعليه يكون الجواب المناسب لهذا الاحتمال أو بالأحرى توجيه هذا الاحتمال هو أن الحث على العمل على وفق ما بلغ وان كان ثابتاً إلا أنه مقترن بقرينة تمنع من استفادة جعل الحجية وهي الذيل الذي أشرنا إليه.
توجيه الاحتمال الثاني:- وأما توجيه الاحتمال الثاني - أعني الاستحباب النفسي لعنوان البلوغ الذي هو عنوان ثانوي - فقد يوجه بأحد البيانات الثلاثة التالية:-
الأول:- ما ذكره الشيخ النائيني[1] وحاصله ان أخبار من بلغ أثبتت الثواب حتى في صورة الخطأ ولا معنى لثبوت الثواب حتى في صورة الخطأ إلا إذا افترضنا أن البلوغ بنفسه يولد استحباباً نفسياً للفعل إذ مع عدم الاستحباب النفسي لعنوان البلوغ كيف يكون الثواب في صورة الخطأ.
وفيه:-
أولاً:- لو كان يوجد استحباب نفسي في عنوان البلوغ فيلزم ان يكون مقدار الثواب واحداً وبدرجة واحدة لا أن من بلغه كذا يثبت له هذا المقدار وذاك الثاني الذي بلغه كذا يثبت له ذاك المقدار ، ان هذا التفاوت في مقدار الثواب لا معنى له ما دام العنوان الموجب للثواب واحداً فيلزم أن يكون معلول ذلك الثواب واحداً ، أي يلزم أن تكون درجة الثواب واحدة في جميع موارد البلوغ ، بل بما أن البلوغ عنوان واحد فيلزم أن تكون نتيجة هذا العنوان الواحد واحدة والاختلاف يكشف لنا عن كون النكتة شيئاً آخر غير الاستحباب النفسي لعنوان البلوغ.
وثانياً:- يمكن أن نفسر ثبوت الثواب في صورة الخطأ من خلال شيء آخر غير مسألة الاستحباب النفسي لعنوان البلوغ وذلك بأن نقول ان هذا تفضل من الله عز وجل بهدف التحفظ على المستحبات الواقعية ، فالله عز وجل يريد المكلف أن يؤدي المستحبات الواقعية ولا تفوت عليه ولأجل تحقيق هذا الهدف يقول أنا أعطيك الثواب بمقدار ما بلغك . إذن هذا الجواب ليس لأجل أن عنوان البلوغ يولد ملاكاً واستحباباً نفسياً بل الملاك هو التحفظ على المستحبات الواقعية.
البيان الثاني:- ما ذكره الشيخ النائيني[2] وحاصله أن أخبار من بلغ قالت ( من بلغه ثواب على عمل فعمله ) ونؤكد ( فعمله ) وهذه الجملة وان كانت فعلاً ماضياً وجملة خبرية ولكن يمكن تفسيرها بالإنشاء والجملة الطلبية - أي فاعملوا - نظير ( من زاد في صلاته أعاد ) فان كلمة ( أعاد ) بمعنى أنه يلزمه أن يعيد فالصورة صورة اِخبار إلا أنه يقصد منه الطلب والإنشاء في الواقع وهنا الأمر كذلك.
وفيه:- ان تفسير الماضي والجملة الخبرية بالإنشاء والطلب شيء يحتاج الى قرينة وإلا كان تفسيراً مخالفاً للظاهر فيكون مرفوضاً ولكن إذا دلت القرينة عليه لزم الأخذ به لأجل القرينة ، وفي مثل ( من زاد في صلاته أعاد ) يلزم تفسير كلمة ( أعاد ) بالأمر وإلا لو أبقينا الماضي على ماضويته يلزم من ذلك الكذب لأنه خلاف الواقع ولا معنى أن يخبر الإمام عن الماضي فالمقصود ( يلزم الإعادة ) ولا يوجد احتمال آخر فالقرينة موجودة ، وهذا بخلافه في مقامنا فان فقرة ( فعمله ) لا موجب لتفسيرها بالأمر بل يمكن إبقاؤها على ظاهرها.
بل يمكن أن نصعد اللهجة ونقول ان تفسير الماضي بالطلب وجيه فيما إذا وقع جواباً للشرط كما في المثال السابق فان فقرة ( أعاد ) وقعت جواباً للشرط ، وأما فعل الشرط - يعني جملة زاد في المثال السابق - فلا معنى لتفسيره بالطلب فانه لا يقصد من ذلك الطلب ومقامنا من هذا القبيل ، أي أن فقرة ( فعمله ) هي جزء من فعل الشرط ومن توابعه فان فعل الشرط هو ( بلغ ) ثم قيل ( فعمله ) والفاء هنا فاء العطف أي ( وعمله ) فهي متمم لفعل الشرط والمقصود من ( فعمله ) هو جعله فعل للشرط فلا معنى لتفسير فعل الشرط بالطلب والإنشاء وإنما ذلك يصح في جواب الشرط وهذا من المطالب الواضحة.
البيان الثالث:- للشيخ النائيني أيضاً[3] وحاصله ان أخبار من بلغ يستفاد منها الحث على العمل وفق البلوغ ، فلابد وأن يكون البلوغ مستحباً حتى يصح هذا الحث . وبتعبير آخر ان الحث على العمل وفق البلوغ يستفاد منه عرفاً استحباب البلوغ وثبوت ملاكٍ لنفس البلوغ.
وفيه:- ان الحث على العمل وفق البلوغ كما يمكن أن يكون ناشئاً من استحباب عنوان البلوغ كذلك يمكن أًن يكون ناشئا من الاهتمام بالاستحبابات الواقعية كما ذكرنا قبل قليل ، فلأجل التحفظ عليها يحث المولى على العمل وفق البلوغ ولكن لا لأجل أن عنوان البلوغ هو بنفسه مستحب ويشتمل على ملاك الاستحباب وإنما ذلك ناشئ من التحفظ على المستحبات الواقعية ، والدلالة العرفية كما تلتئم مع هذا تلتئم مع ذاك فيحصل الإجمال من هذه الناحية.
[1] المصدر السابق.
[2] فوائد الأصول 3 412.
[3] فوائد الأصول.