جلسة 144
كفارات الصوم
ثم أنه توجد نقطة يجدر الالتفات إليها، وهي أنه ورد في كفّارة اليمين لزوم إطعام أوسط ما يطعم به الإنسان عياله، لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) [1]، وذلك قد يفهم منه لزوم إطعام الوسط بحسب الكيف إما شخصاً أو باعتبار النوع، هذا ما يمكن أن يقال في المقام.
ويمكن التعليق على ذلك بأن الروايات في ذلك مختلفة، فبعضها فسّر الأوسط بالأوسط بلحاظ الكم، أي أن بعض الناس قد يأكل كثيراً والبعض الآخر يأكل قليلاً، وقد لوحظ الوسط في مقام تحديد المقدار كماً وعيّن في المدّ، وبعضها الآخر يظهر منه التفسير بالأوسط كيفاً.
فمن الأوّل صحيح الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ: في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قال: «هو كما يكون في البيت من يأكل المدّ ومنهم من يأكل أكثر من المدّ، ومنهم من يأكل أقلّ من المدّ فبين ذلك، وإن شئت جعلت لهم أُدما، والأُدم أدناه ملح، وأوسطه الخلّ والزيت، وأرفعه اللحم» [2].
ومن الثاني صحيحة أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن أوسط ما تطعمون أهليكم؟ قال: «ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك»، قلت: وما أوسط ذلك؟ فقال: «الخلّ والزيت والتمر والخبز، يشبعهم به مرّة واحدة...»[3] .
وعلى هذا الأساس كيف نعين المراد من الأوسط بعد ظهور الآية الكريمة في اعتبار الوسط؟ ومن الطبيعي إذا كان المقصود هو الوسط من حيث الكم فلا مشكلة؛ لأنّه عبارة أُخرى عن المدّ فتكون الآية الكريمة دالة على اعتبار المدّ، وإنما الكلام فيما لو كان المراد منه هو الوسط من حيث الكيف، ومثل هذا الاحتمال كيف ننفي وجوبه؟، ويمكن التخلص منه بثلاثة وجوه:
الأوّل: أن صحيح الحلبي المتقدم ورد فيه التعبير بفقرة: «وإن شئت جعلت لهم أُدما، والأُدم أدناه ملح...»، وهذا يفهم منه أن جعل الأُدم وملاحظته في مقام الإعطاء ليس أمراً لازماً، فالمهم أن يدفع الشخص مقدار المدّ، وأمّا ملاحظة ما يأكله بحسب الغالب ـ حيث قد يأكل اللحم منضماً إلى ذلك المدّ المدفوع ـ فلا تلزم مراعاته، وإنما ذلك أمر راجح لا أكثر، ويصير هذا قرينة على حمل صحيحة أبي بصير على الاستحباب، فصحيحة أبي بصير وإن دلت على لزوم ملاحظة الأوسط بلحاظ الكيف ولكن بقرينة صحيحة الحلبي يلزم حمل ذلك على الاستحباب.
الثاني: أن صحيحة أبي بصير وإن دلت على اعتبار الأوسط من حيث الكيف، ولكنها أرادت الأوسط بحسب الغالب في أكل الناس وليس الأوسط بلحاظ أكل الشخص نفسه، حيث إن السائل بعد ما سأل عن معنى (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)، أجابه ـ عليه السلام ـ بقوله: «ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك...»، ولو كنّا نحن وهذا الجواب ولم تلحظ النتيجة المذكورة بعدُ أمكن أن يفهم من ذلك اعتبار الوسط بلحاظ أكل الإنسان نفسه، ولكن أبا بصير أخذ يسأل ثانية: وما أوسط ذلك؟ فقال ـ عليه السلام ـ: «الخلّ والزيت والتمر والخبز، يشبعهم به مرّة واحدة...»، وهذا يدل على أن المدار في الوسط على ملاحظة الوسط الكيفي بلحاظ الغالب وليس على أكل الشخص نفسه، وإلاّ لقال له ـ عليه السلام ـ: ذلك يختلف باختلاف ما يأكل، ولكنه لم يجب بذلك وإنما أخذ يذكر بعض المصاديق قائلاً: «الخلّ والزيت...»، وعليه فيكون المدار في الوسط الكيفي على ملاحظة الغالب لدى الناس.
وبناءً على هذا يكون النزاع المذكور بلا ثمرة، إذ الحنطة والطحين مثلاً هما من الطعام الغالب لدى الناس، والثمرة إنما تظهر لو كان المدار على ملاحظة حال الشخص نفسه، أمّا بعد لزوم ملاحظة حال النوع والغالب فالثمرة معدومة.
الثالث: مع التنزل عن كل هذا نقول: تحصل معارضة بين الطائفتين، أي بين ما فسر الوسط بالوسط الكمي وبين ما فسره بالوسط الكيفي، وبعد التساقط نشك في اعتبار الوسط الكيفي فنجري البراءة عنه.
وإن شئت قلت: إن الوسط بحسب الكمّ الذي هو عبارة عن المدّ لا إشكال في اعتباره، وإنما الإشكال في اعتبار ما زاد عليه وهو اعتبار الوسطية الكيفية إضافة إلى الوسيطة الكمية، وحيث إن ذلك مشكوك فنجري البراءة عنه، وأمّا الآية الكريمة الدالة على اعتبار الأوسط فقد ذكرنا أنها مرددة بين إرادة الوسط الكمي والوسط الكيفي حسب تفسير بعض الروايات الأُخرى فتصير مجملة من هذه الناحية، ولا معيّن لكون المقصود هو الوسط الكيفي فنرجع إلى البراءة كما قلنا.
مسألة 1017: لا يجزي في الكفّارة إشباع شخص واحد مرتين أو أكثر، أو إعطاؤه مدين أو أكثر، بل لابدّ من ستين نفساً [4].
الحكم المذكور واضح ولا يحتاج إلى نص خاص؛ باعتبار أن اللازم إطعام ستين مسكيناً، والعنوان المذكور لا يصدق إلاّ إذا فرض وجود ستين شخصاً يدفع إلى كل واحد منهم مدّ، أمّا إذا كرر الدفع لشخص واحد فلا يصدق إطعام ستين مسكيناً بل هو إطعام مسكين واحد ستين مرة، والمطلب واضح ولا يحتاج إلى توضيح أكثر من ذلك.
وقد دلت بعض الروايات على ذلك أيضاً، من قبيل موثقة إسحاق المتقدمة، قال: سألت أبا إبراهيم ـ عليه السلام ـ عن إطعام عشرة مساكين، أو إطعام ستّين مسكيناً، أيجمع ذلك لإنسان واحد يعطاه؟ قال: «لا، ولكن يعطي إنساناً إنساناً كما قال الله تعالى»، قلت: فيعطيه الرجل قرابته إن كانوا محتاجين؟ قال: «نعم...» الحديث [5]، ومقصوده ـ عليه السلام ـ من قوله: «كما قال الله تعالى...»، الإشارة إلى الآية الكريمة، وأنه لا يصدق إطعام عشرة مساكين باطعام شخص واحد مكرراً.
____________________________
[1] المائدة: 89.
[2] الوسائل 22: 381، أبواب الكفارات، ب14، ح3.
[3] الوسائل 22: 381، أبواب الكفارات، ب14، ح5.
[4] منهاج الصالحين 1: 271.
[5] الوسائل 22: 386، أبواب الكفارات، ب16، ح2.