جلسة 31
المفطرات
والترديد بين كونها صحيحة أو رواية هو باعتبار مسعدة، فأنّه لم يرد فيه توثيق خاص، لكنه ورد في إسناد (تفسّير القمّي) أو (كامل الزيارات)، فبناءً على وثاقة كلّ من ورد في إسناد أحد هذين الكتابين تثبت وثاقة الرجل وتكون الرواية معتبرة وإلاّ تعود ضعيفة السند، هذا من حيث السند.
وأمّا من حيث الدلالة فقد يُناقش فيها من خلال وجهين:
الوجه الأوّل: أنّ المقصود من الحلق هو الفم، فالذباب دخل الفم ولم يفترض دخوله إلى الجوف، والإمام ـ عليه السلام ـ أجاب بأنّ مجرد الدخول في الفم ليس طعاماً أي ليس أكلاً.
الوجه الثاني: أنّ الذباب حينما يدخل إلى الجوف فهو يدخل من غير اختيار، وابتلاعه وإن كان أكلاً إلاّ أنّه ليس أكلاً مفطّراً؛ لأنّ الأكل المفطّر هو الأكل المنتسب إلى الآكل، والانتساب لا يتحقّق إلاّ مع الاختيار، والإمام ـ عليه السلام ـ حينما قال: «لأنّه ليس طعام»[1] ، يريد أن يقول: هو ليس بأكل منتسب على الآكل وليس المقصود نفي الأكل رأساً بل نفي نسبته الاختيارية، هكذا قد يجاب عن الرواية.
ولكن كلا هذين الوجهين لا يخلو عن تكلّف، ويبقى ظهور الرواية في كون المدار على عنوان الطعام، أي ما يتداول أكلّه أمراً قويّاً.
وسواءً عاد ظهور الرواية في اعتبار كون المأكول معتاداً أمراً قوياً أم لا، فذلك لا يضرّنا بعدما ذكرنا سابقاً من أنّ المقتضي للتعميم ضعيف في نفسه.
وقد يقال لإثبات تعميم المقتضي أو بالأحرى تعميم المفطّرية لغير المعتاد أيضاً بأنّ من الممكن التمسك بالارتكاز المتشرّعي، فأنّ ارتكاز المتشرّعة قاضٍ بأنّ لا فرق بين كون المأكول معتاداً أو لا، وهل ترى أنّ من أكل نصف كيلو من الذباب لا يكون بذلك قد أفطر، وهكذا الحامل التي قد تأكل الطين بلهفة لا يكون ذلك مفطّراً لها وإن ملئت به معدتها؟ كلا أنّه أمر بعيدٌ، وهذا بنفسه منبّه على تمامية الارتكاز المتشرّعي على عدم الفرق بين المعتاد وغيره، هكذا قد يخطر إلى الذهن.
وجوابه: أنّ الارتكاز المذكور وإن كان مسلّماً به في زماننا المتأخر ولكننا نحتمل نشؤه بسبب فتوى الفقهاء على التعميم، وأمّا الارتكاز الموجود عند الطبقة المتقدّمة من المتشرّعة فلا نجزم بانعقاده على التعميم، وعلى هذا الأساس لا محذور في أن يلتزم بكون أكل غير المعتاد ليس مفطّراً.
وقد يتمسّك لإثبات التعميم أيضاً بفكرة مناسبات الحكم والموضوع، فيقال: إنّ الشخص لو أجرى عملية جراحية فالطبيب قد يمنعه من الأكل ويقول له لا تأكل، ولا إشكال في أنّ النهي ناظر في مثل ذلك إلى ما يُعتاد أكله، فمقصود الطبيب لا تأكل ما يُعتاد أكله كالخبز وغيره، ولكن بالرغم من ذلك يحكم بالتعميم لمناسبات الحكم والموضوع فأنّ المناسب بعد العملية الجراحية عدم دخول شيء إلى الجوف وإن لم يكن مما يُعتاد أكله، فالنهي وإن كان خاصاً بخصوص المعتاد من حيث اللفظ، ولكن من حيث الروح هو عام للقرينة المذكورة.
وكذلك الحال في المقام فيقال: صحيح أنّ النهي خاص بالمعتاد ولكن بمناسبات الحكم والموضوع يفهم أنّ الصائم لابدّ أن لا يدخل شيء إلى جوفه، ولا خصوصية للمعتاد، وتخصيص النهي به هو من باب كونه الفرد الغالب والبارز في محل الابتلاء، هكذا قد يخطر إلى الذهن.
وجوابه: أننا نسلّم بما ذُكر في مثال العملية الجراحية ولكن الجزم بتعميمه لمقامنا أمر مشكل، فيُحتمل أنّ الشريعة تريد تهذيب الإنسان وتقوية إرادته وذلك يتأتى بمنعه عن خصوص ما تشتهيه النفس ويُعتاد أكله، وهذا أو ما شاكله من النكات الاُخرى لا نريد أن نجزم به وإنّما ندعيه كاحتمال ومعه فلا يمكن الجزم بالتعميم.
الخلاصة من كلّ هذا أنّ المقتضي للتعميم قاصر وضعيف؛ لأنّ المستند له إمّا الآية الكريمة، أو صحيحة محمّد بن مسلم، أو الارتكاز المتشرّعي أو مناسبات الحكم الموضوع، وكلّ هذه الأربعة لا يصلح التمسّك به، مضافاً إلى إمكان إبراز المانع وهو رواية الذباب على تقدير تمامية المقتضي، وعليه فالفتوى بعموم المفطّرية لغير المعتاد أمر مشكل، ولكن يبقى الاحتياط أمر مناسباً تحفظاً من مخالفة المشهور بل الإجماع المدعى في المسألة.
وأمّا الجهة الثالثة فالمعروف أنّ الأكل يصدق بتناول الشيء المتعارف حتّى لو لم يكن عن طريق الفم، لكن السيّد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ نسب إلى جدّنا الفاضل الإيرواني ـ قدّس سرّه ـ تخصيص المفطّرية بالتناول عن طريق الفم، فلو صبّ الطعام عن طريق الأنف مثلاً ودخل إلى الجوف لم يكن ذلك مفطّراً، ثمّ ذكر إننا لم نعرف خلافاً في المسألة من غيره[2].
والمسألة ترتبط بتحقيق معنى الأكل عرفاً وأنّه ماذا يراد من الأكل فهل هو مطلق الدخول إلى الجوف، أو هو الدخول إلى الجوف عن طريق الحلق ـ البلعوم ـ سواءً كان من الفم أم من الأنف؟
فالاحتمالات إذاً في معنى الأكل عرفاً ثلاثة، ولا يبعد أنّ خيرها أوسطها، فالأكل عرفاً عبارة عن ابتلاع الشيء أعم من كون بداية دخوله هو الفم أو هو الأنف، فإذا تمكّن إنسان أن يُدخل الماء أو الطعام من أنفه ويمر بالبلعوم صدق عليه أنه أكل.
نعم، لو أدخله من فتحة اُخرى من دون اجتياز بالبلعوم فلا يصدق ذلك إلاّ إذا صار موضعاً معتاداً فإنّه ربما يصدق ذلك . وعليه فيكفي المرور بالبلعوم ولو من خلال الأنف.
وربّما يؤيد ذلك بعض الروايات الواردة في صب الدواء في الاُذن أو وضع الكحل في العين فأنّه اشترط عدم تذوّق المادة في الحلق، وهذا قد يستفاد منه عدم اشتراط التناول من طريق الفم وإلاّ فلماذا اشترط ذلك؟
فلاحظ صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما السلام ـ: أنّه سُئل عن المرأة، تكتحل وهي صائمة؟ فقال: «إذا لم يكن كحلاً تجد له طعماً في حلقها فلا بأس» [3].
وصحيحة علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ قال: سألته عن الصائم، هل يصلح له أن يصّب في أُذنه الدهن؟ قال: «إذا لم يدخل حلقه فلا بأس» [4]، ولكن التمسّك بهما مشكل باعتبار أنّ من المحتمل أن لا يكون ذلك من باب الأكل فأنّه بعيد في نفسه، فصبُّ الدهن في الأُذن لا يصدق عليه عنوان الأكل، ومن المحتمل أن يكون ذلك أمراً تعبدياً وممنوعاً عنه في نفسه وليس من جهة صدق عنوان الأكل، فأنّ الروايتين لم تعللا بصدق الأكل إذا ظهر الطعم في الحلق بل أقصى ما في الأمر أنّها قالت: إذا لم يدخل حلقه فلا بأس، ولعلّ البأس ليس من جهة صدق الأكل بل لأنّ ذلك ممنوع في نفسه، ومن هنا لا يصح أيضاً التمسّك بهذه الروايات لإثبات تعميم المفطّرية لما هو غير معتاد.
فإنّه قد تقدّم ـ في الجهة السابقة ـ البحث عن تمامية المقتضي للتعميم وعدمها، وقد يتمسّك بهذه الروايات لإثبات التعميم، وقد اتضح أنّه غير ممكن لاحتمال أن يكون ذلك للمنع النفسي وليس من جهة صدق عنوان الأكل إذا لم تعلّل الروايات بعنوان الأكل.
________________________
[1] الوسائل 10: 109، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب 39، ح2.
[2] مستند العروة الوثقى 1: 91.
[3] الوسائل 10: أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 25، ح5.
[4] الوسائل 10: 73، أبواب ما يمسك عنه الصائم...، ب 24، ح5.