32/11/10
تحمیل
والصور الثلاث للترك العمدي هي:-
الصورة الأولى:- أن يعلم المكلف بالحكم والموضوع ورغم ذلك يترك الطواف ، فيعرف أن الطواف واجب كما يعرف أن الطواف الواجب هو حول الكعبة لا حول مقام إبراهيم ولكن رغم ذلك يتركه.
الصورة الثانية:- أن يعلم بالموضوع ، يعني يعلم أن الطواف هو حول الكعبة ولكن لا يدري أنه واجب بل كان يظن أنه مستحب فتركه.
الصورة الثالثة:- أن يعلم بالحكم ولكن لا يعلم بالموضوع ، يعني يعرف أن الطواف واجب ولكن كان يتخيل أنه حول المقام دون الكعبة ، أو كان يتخيل أن الكعبة هي المقام فالطواف حول المقام طواف حول الكعبة.
انه في هذه الصور الثلاث يكون الحج فاسداً بسبب ترك الطواف عن عمد.
وإنما عبر بالعمد باعتبار أن تركه لم ينشأ من نسيان وإلا فليس المقصود من العمد هو أنه كان قاصداً للمخالفة فانه ربما لا يكون قاصداً لها ، ولكن بما أنه لم يأت بالمأمور به عن نسيان فيصطلح على تركه بأنه ترك عن عمد ، وهذا كله واضح وهو مقدمة لما نريد أن نذكره الآن.
والقضية المهمة هي:- ما هو الدليل على بطلان عمرة التمتع عند ترك الطواف عن عمد ؟
والجواب:- استدل غير واحد من الفقهاء بالوجهين التاليين:-
الوجه الأول:- إن البطلان هو لازم الجزئية ومقتضاها ، فانه ما دمنا قد افترضنا أن الطواف جزء فلازم جزئيته بطلان العمل من دونه ، إذ لو لم يبطل كان معنى ذلك أن ما فرضناه جزءاً صار ليس بجزء.
ولك أن تقول بعبارة أخرى:- إن المكلف إذا لم يأت بالطواف فهو لم يأت بالمأمور به على وجهه المقرر ومعه يلزم البطلان .
إذن البطلان هو مقتضى القاعدة بلا حاجة إلى الفحص عن دليل على ذلك
وقد تمسك بهذا صاحب المدارك بقوله ( فان الإخلال بهما أو بأحدهما يقتضي عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه فيبقى المكلف تحت العهدة إلى أن يقوم على الصحة دليل من خارج وهو منتفٍ هنا )[1] وإنما الدليل على الصحة وارد في حالة النسيان التي سنشير إليها فيما بعد إنشاء الله تعالى في مسالة ( 322 ).
وقريب من ذلك جاء في الجواهر حيث قال ( لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه وقاعدة انتفاء المركب بانتفاء جزءه )[2] ، وقريب من هذا ما ذكر السيد الخوئي(قده)[3] .
الوجه الثاني:- الروايات الخاصة من قبيل صحيحة علي بن يقطين ( سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة ، قال:- إن كان على وجه جهالة في الحج أعاد وعليه بدنة )[4] وعلى منوالها رواية علي بن أبي حمزة[5] .
وهما كما ترى مختصتان بالجاهل فكيف نعمم للعالم العامد ؟
يمكن ذلك بطريقين:-
الطريق الأول:- الأولوية ، حيث يقال إذا بطل الحج في حق الجاهل حيث حكم عليه السلام بالإعادة وقال ( أعاد ) فيلزم أن يثبت ذلك في حق العالم بالأولوية ، إذ لا يحتمل أن العمل يبطل في حق الجاهل بترك الطواف ولا يبطل في حق العالم.
أو ببيان أن اختصاص الجزئية بالجاهل شيء مستحيل في حد نفسه ، فإنها لو اختصت به وكان الطواف جزءاً في حقه فقط وليس بجزءٍ في حق العالم للزم من ذلك عدم إمكان العلم بالحكم المذكور - أي العلم بوجوب الطواف - إذ بمجرد العلم تزول الجزئية لأنا فرضنا اختصاصها بالجاهل ، فبالتالي لا يمكن للمكلف أن يتعلم الحكم المذكور - يعني أن الطواف واجب وجزء من العمرة في الإسلام - وتشريع حكم لا يمكن أن يُتَعلم ويُعرف لغو إذ الهدف من التشريع هو العلم ومن ثم العمل.
وبكلمة أخرى:- إن الذي وقع فيه الكلام بين الأصوليين هو احتمال اختصاص الأحكام بخصوص العالمين بها وهل يمكن اختصاص الحكم بالعالم أو لا ؟ أما اختصاصه بخصوص الجاهل فهو شيء غير محتمل وغير ممكن في حد نفسه لما أشرنا إليه من عدم إمكان العلم وبالتالي عدم إمكان العمل فيكون التشريع لغواً.
إذن ما دام قد دلت الرواية على أن الطواف جزء في حق الجاهل حيث حكمت بإعادة الحج فيلزم من ذلك أن يكون جزءاً في حق العالم ، وبذلك يثبت المدعى بكامله.
هذا ما يمكن أن تقرب به هاتان الروايتان.
وكلا الوجهين قد يعلق عليهما:-
أما الوجه الأول:- أعني التمسك بالقاعدة وهو أن لازم الجزئية بطلان العمل بلا دليل ، فلأنا نسلم أن الشيء إذا كان جزءاً فلازم جزئيته بطلان العمل إذا لم يتحقق ذلك الجزء ، بيد أن الكلام هو في أنه جزء أو لا ؟ فان كونه جزءاً في حالة الجهل بالحكم أو بالموضوع هو أول الكلام ، فلابد إذن من إثبات عموم الجزئية في المرحلة الأولى وبعد هذا يقال انه إذا كان جزءاً للصور الثلاث للترك العمدي فيلزم البطلان إذا لم يتحقق الطواف ، أما أن نسكت عن إثبات عموم الجزئية للصور الثلاث ونقتصر على القضية الأخرى - يعني أن لازم الجزئية هو البطلان إذا لم يتحقق الجزء - فهذا ليس فنياً.
إذن كان من المناسب لأصحاب هذا الوجه إثبات عموم الجزئية في المرحلة الأولى وتسليط الأضواء على ذلك .
وحينئذ نقول إذا رجعنا إلى دليل الجزئية فربما يشكك في استفادة العموم منه ، فان مدرك الجزئية هو أحد أمور ثلاثة على ما تقدم ، فأما هو السيرة القطعية أو بالأحرى الضرورة القطعية بين المسلمين على وجوب الطواف في العمرة والحج ، أو هو الآية الكريمة ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ، أو هو الروايات كصحيحة معاوية بن عمار ( إن الرمي سنة والطواف فريضة) وما كان على شاكلة ذلك.
أما الأول أعني الضرورة فإنها دليل لبي والقدر المتيقن منها هو الجزئية في حالة الالتفات ، أما إذا كان الشخص جاهلاً بالحكم أو بالموضوع فلا يجزم بعموم الضرورة لذلك.
إذن من الضرورة لا يمكن استفادة العموم ككل دليل لبي.
وأما الآية الكريمة فهي إنما قالت ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) فإنها ناظرة إلى الحج ( وأذن بالناس في الحج ) وقد يشكك في شمول ذلك للعمرة.
وبغض النظر عن ذلك يمكن أن يقال:- هي واردة في مقام أصل التشريع ، يعني أنها تبين أن الطواف بالبيت العتيق واجب في الحج والعمرة ، أما أن وجوبه وجزئيته يعمان حالة الجهل بالموضوع فهو أول الكلام.
وأما بالنسبة إلى الرواية ، أعني ( إن الطواف فريضة ) فيمكن أن يقال هي بصدد بيان أصل الوجوب وان الطواف فريضة من الله في مقابل الرمي الذي هو سنة من الرسول صلى الله عليه وآله ، أما أن الطواف فريضة في جميع الحالات أو في بعضها فالرواية ليست بصدد بيانها.
وعليه تكون استفادة عموم الجزئية لكل الصور الثلاث محلاً للإشكال.
وأما الوجه الثاني:- أعني التمسك بصحيحة علي بن يقطين وما كان على شاكلتها ، فقد يشكل على ذلك بأن الصحيحة دلت على لزوم الإعادة في حق الجاهل في باب الحج ، ويمكن أن يشكل على ذلك بإشكالين نقلهما صاحب الحدائق(قده)[6] عن الشيخ الأردبيلي(قده):-
الإشكال الأول:- إن الصحيحة دلت على لزوم الإعادة في حق الجاهل فان موردها هو الجاهل حيث قالت ( أعاد ) كما أنها دلت على لزوم البدنة ، وهذا مناف للروايات المتعددة التي دلت على أن الجاهل لا شيء عليه إلا في قتل الصيد فلاحظ صحيحة عبد الصمد بن بشير ( أيما رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه )[7] .
وعلى منوالها صحيحة معاوية بن عمار ( اعلم أنه ليس عليك فداء شيء أتيته أنت جاهل به وأنت محرم في حجك ولا في عمرتك إلا الصيد فان عليك فيه الفداء بجهالة كان أو بعمد )[8] ، ونحوهما غيرهما.
ومقتضى الجمع حمل الأمر بالإعادة في صحيحة علي بن يقطين على الاستحباب ، فالإعادة في حق الجاهل مستحبة لأجل الروايات الأخرى الدالة على أنه لا شيء في حق الجاهل ، وإذا كانت الإعادة مستحبة في حق الجاهل فلا يمكن أن نثبت وجوب الإعادة في حق العالم كما هو واضح.
[1] المدارك 8 172.
[2] الجواهر 19 370 .
[3] المعتمد 4 288.
[4] الوسائل 13- 414 56 أبواب الطواف ح1.
[5] المصدر السابق ح2.
[6] الحدائق 16 159 .
[7] الوسائل 12 488 45 تروك الإحرام ح3.
[8] الوسائل 13 70 32 كفارات الصيد ح4.