10-08-1435
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
35/08/10
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:- مسألة (
429 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
وتلك القرينة هي أنّ صفوان قال للإمام عليه السلام:- ( إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذّة أعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا )، ونضم إلى هذا الكلام مقدّمة من الخارج وهي أن الطواف والسعي يقع عادةً في ليليةٍ واحدةٍ لا أنه يقع في أكثر من ذلك فلو فرض أنّ ترك المبيت ليليةً واحدةً لا يوجب الكفارة وإنما الموجب هو ترك الليالي الثلاث بمجموعها لما كان هنا معنى لتعليل الامام بقوله:- ( ما هذا بمنزلة هذا ) بل كان المناسب أن يقول ( إن هذا إنما المبيت ليلية الواحدة لا مجموع الليالي )، إن المناسب هو التعليل بذلك والحال أنه لم يعلّل بذلك بل علّل بشيءٍ آخر وهو أنّ ( هذا ليس بمنزلة هذا ) يعني أنّ هذا مشغولاً بالطاعة والمشغول بالطاعة ليس كتارك المبيت من دون طاعة، فمقصود الإمام عليه السلام هو هذا، فهو علّل بوجود المانع وليس بعدم المقتضي فلو كان ترك المبيت ليليةً لا يوجب الكفّارة لكان المناسب التعليل بذلك لأنه تعليلٌ بعدم المقتضي وعند عدم المقتضي يكون المناسب التعليل به لا بوجود المانع، وهذا من الأمور الواضحة.
إن قلت:- إنه يمكن أن نفترض انشغاله بالطواف والسعي في الليالي الثلاث، ففي ليلية ينشغل بطواف الحجّ وسعيه وفي الليلة الثانية ينشغل بطوافٍ عن والده[1] مثلاً - أي يأتي بطوافات مستحبّة -.
قلت:- مضافاً إلى أن هذا بعيدٌ في حدّ نفسه لأن الرواية قالت:- ( إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه ) ومن الواضح أنّ شأنه الذي يناسبه هو الطواف والسعي الواجب عليه، فهذه الفقرة لا يبعد أن تكون دالة على إرادة خصوص الطواف والسعي المطلوب عنه بنحو الوجوب في الحج . فمضافاً إلى هذا يمكن أن يقال:- نتمسّك بالاطلاق أو بترك الاستفصال فإن الامام عليه السلام لم يستفصل ولم يقل إنه مشغولٌ بطوافه الواجب فقط في ليلتين أو أعمّ من ذلك في كلّ الليالي بطوافاتٍ وسعيٍ آخر، فلو فرض أنّه كان اللازم هو الانشغال بالطواف والسعي في مجموع الليالي لكان من المناسب للإمام أن يستفصل فيقول له ( إن كان مشغولاً بالطواف والسعي في ليلةٍ واحدةٍ فقط فعليه الكفارة وإذا كان مشغولاً في كلّ الليالي فليس عليه الكفارة )، إنّ عدم استفصال الامام يدلّ على أنّ هذا حكمه لا يختلف باختلاف أن يأتي بذلك في مجموع الليالي أو يأتي به في ليلةٍ واحدةٍ فنتمسّك بعدم الاستفصال - أو بالاطلاق إن صحّ التعبير -.
والخلاصة:- إنّ هذه الرواية لأجل القرينة التي أشرنا إليها تكون دالة على أنّ ترك الاشتغال في ليليةٍ واحدةٍ يكفي لرفع الكفارة لأنه مشغولاً بالطاعة، فيظهر أنّ ترك المبيت ليليةً يوجب الكفارة وإلّا لعلل الإمام بعدم المقتضي لا أنه يعلّل بأنه مشغولٌ بالطاعة.
هذا كلّه بالنسبة إلى الرواية المذكورة.
يبقى شيء:- وهو أنّ غايه ما ثبت بهذا البيان هو أن ترك المبيت ليلةً كترك المبيت مجموع الليالي في أنه يوجب الكفارة لا أن الموجب هو خصوص ترك المبيت ثلاث ليالٍ بل إنّ ترك المبيت ليليةً واحدةً يوجب الكفارة أيضاً.
ولكن يمكن لقائلٍ أن يقول:- إنّ هذا لا يثبت التعدّد، أي لا يثبت أنّه لو ترك ليليتين فعليه شاتان ولو ترك ثلاث فعليه ثلاث بل غاية ما يثبت أنّ تارك المبيت ليليةً كتارك المبيت ثلاثة ليالٍ يعني تثبت عليه الكفارة فلعل الشاة تكون مشتركة بين ترك المبيت ليلةً واحدةً وبين ترك المبيت ثلاث ليالٍ لا أنّ من ترك ثلاث ليالٍ عليه ثلاث كفّارات.
إذن كيف تثبت أنّ تارك المبيت ثلاث ليالٍ عليه ثلاث كفارات ؟
قلت:- لا يوجد لدينا مثبتٌ يصلح الاستناد إليه في ذلك إلا رواية جعفر بن ناجية التي قالت:- ( عليه ثلاث من الغنم لو ترك المبيت ثلاث ليال ) ولكنّها ضعيفة السند فلا يمكن الاستناد إليها في مقام الفتوى، ومن هذا يتّضح أن الحكم بتعدّد الكفارة عند ترك أكثر من ليلةٍ واحدةٍ لا يوجد عندنا ما يمكن الاستناد إليه، نعم لا بأس بالحكم بذلك من باب الاحتياط وأما للفتوى بالتعدّد فهو أمرٌ مشكل.
الأمر الخامس:- تارك المبيت جهلاً بالموضوع.
ذكرنا فيما سبق أنّ من ترك المبيت في منى إذا كان عمداً فعليه الكفّارة بلا إشكال وإذا كان نسياناً فلا شيء عليه - خلافاً للمشهور فإنهم قالوا بوجوب الكفارة عليه - تمسكاً بحديث رفع النسيان بالبيان المتقدّم، وذكرنا أيضاً جاهل الحكم - أي يجهل أن المبيت واجبٌ في منى - يمكن أن نقول لا كفارة عليه من باب حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) وصحيحة عبد الصمد بن بشير، وهذا كلّه قد تقدّم فيما سبق.
ولكن لم نشِر فيما سبق إلى تارك المبيت عن جهلٍ بالموضوع كما لو بات في مكانٍ تخيّل أنه من منى ثم اتضح بعد ذلك أنه خارجها فهل تجب الكفارة على مثل هذا المكلف ؟ المناسب لما عليه المشهور هو ثبوت الكفارة في حقّه فإنا قد ذكرنا عبائرهم فيما سبق حيث وكانوا يقولون إنّه لا فرق في ثبوت الكفارة بين العالم والناسي والجاهل والمضطر . ولكن المناسب لما ذكرناه سابقاً هو عدم الثبوت فإن نفس المستند الذي تمسكنا به يأتي هنا حيث أنّ هذا لا يعلم وكلّ ما يصدر بسبب عدم العلم لا تثبت عليه الآثار التي منها الكفّارة، وهذا لم يتحقّق منه المبيت فلا تثبت في حقّه الكفارة بمقتضى إطلاق الحديث . إذن الحديث الذي تمسّكنا به سابقاً يأتي هنا وقد قلنا سابقاً وهنا نقول بأنّا حينما نتمسّك بالحديث لا نريد أن نثبت أنّ هذا قد تحقّق منه المبيت فإنّ حديث الرفع يرفع مالا يعلمون، فحيث إنّه ترك المبيت فيكون هذا الترك مرفوعاً فتكون النتيجة هي الاثبات . كلّا فنحن لا نريد هذا حتى تقول إنّ لازم هذا هو أن يصير الحديث حديث إثباتٍ والمفروض أنّه حديث رفعٍ، بل نريد أن نقول إنَّ كلّ ما يتحقّق أو لا يتحقّق حالة عدم العلم فهو يبقى عليه ولكن تكون الآثار المترتبة عليه - أي على صدوره أو على عدم صدوره - مرفوعة، فهنا نريد أن نرفع الأثر ولا نريد أن نرفع عدم المبيت ونبدله إلى المبيت بل يبقى عدم المبيت كما هو ولكن نقول إنَّ عدم المبيت هذا مادام قد تحقّق بسبب الجهل فالأثر المترتّب عليه مرفوعٌ لا أنّ عدم المبيت يصير مبِيتاً . إذن لا مشكلة من هذه الناحية كما أشرنا سابقاً.
وهناك مشكلة أخرى قد تخطر إلى الذهن وهي أنه قد يقال:- إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) رفعٌ ظاهريّ وليس رفعاً واقعياً فإنه لابد من التفكيك بين فقرات الحديث[2] - أي بين فقرة رفع النسيان وما اضطروا إليه وما لا يطيقون ...... وبين فقرة ما لا يعلمون - فإن الرفع في بقيّة الفقرات - أي في النسيان وما لا يطيقون وغيرهما - هو رفعٌ واقعيّ، وهذا بخلاف الرفع في ما لا يعلمون فإنه ظاهريٌّ رغم أنّ السياق واحدٌ لكن الدليل الخارجي يدعونا إلى ذلك ويحتّم علينا ذلك، أمّا أنّ الرفع واقعيّ في فقرة رفع النساين وغيرها فوجهه أنّه تمسّكٌ بظاهر الحديث فإن ظاهر رفع الشيء هو رفعٌ لنفس الشيء فيكون رفعاً واقعياً وليس رفعاً لوجوب الاحتياط بلحاظه مثلاً حتى يكون رفعاً ظاهرياً، كلّا بل هو رفعٌ له، ففي حالة النسيان يكون نفس الحكم مرفوعاً وهكذا في حالة الاضطرار، مضافاً إلى أنّ الناسي لا يمكن تكليفه واقعاً وهكذا المضطر وهكذا البقية، وهذا بخلافه في فقرة ( ما لا يعلمون ) فإنه رفعٌ ظاهريّ للقرينة، وما هي القرينة ؟ هي أنه لو كان الرفع واقعياً فمعناه أنّ الجاهل لا توجد في حقّه أحكام واقعيّة إذ هي مرفوعة وإذا لم تكن موجودة فهذا معناه اختصاص الأحكام واقعاً بالعالمين وهذا لازمه التصويب ولازمه أنّه لا يلزم أن نتعلّم إذ ما تريد أن تتعلم ؟ إنّه لا يوجد حكمٌ في حقّك واقعاً ما دمت جاهلاً حتى تتعلمه !! فلذلك يقال إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) هو ظاهريّ أي أن وجوب الاحتياط مرفوعٌ عنك مادمت جاهلاً فإذا علمت فيثبت في حقّك الحكم حينئذٍ، فالجاهل إذا ترك الواجب فمادام هو جاهل فحينئذٍ لا شيء عليه ولكن إذا صار عالماً فيثبت حينئذٍ وجوب القضاء في حقّه لأنّ الحكم ثابتٌ في حقّه واقعاً فوجوب القضاء وباقي الأمور الأخرى تثبت في حقّه، وفي مقامنا نقول هكذا أي نقول إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) حيث إنّه ظاهريّ فعلى هذا الأساس يكون لازمه أنّه حينما يلتفت المكلف فيلزم أن يرتّب الآثار التي منها وجوب الكفارة لأنّ الوجوب ثابتٌ في حقّه واقعاً، فالرفع رفعٌ ماداميّ - أي ما دمت جاهلاً - فلو عَلِم لزمه أن يرتّب الآثار ومنها الكفارة، هكذا قد يقال بالنسبة إلى الجاهل بالحكم أو الجاهل بالموضوع فلا يفرقٍ بينما هنا.
والجواب:- نحن نسلّم أنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) ظاهريّ ولكن نفس الحكم الذي لا يُعلَم يكون مرفوعاً رفعاً ظاهرياً وأمّا الحكم الآخر المترتّب على ( ما لا يعلمون ) والذي نحن نريد أن نرفعه فالرفع بلحاظه واقعيّ وليس ظاهرياً، وفي المقام نقول:- إن الذي لا يعلمه المكلّف هو وجوب المبيت في منى سواء كان بنحو الحكم أن بنحو الموضوع ولكن الذي نريد أن نرفعه ليس هذا فإن هذا ثابت في حقّه وإنما الذي نريد أن نرفعه هو وجوب الكفارة، يعني هو حكمٌ آخر غير الحكم الذي لا يُعلَم، فالذي لا يُعلَم نحن لسنا بصدد رفعه، فنحن لسنا بصدد رفع وجوب المبيت ولا نريد أن نقول إنّه لا يجب عليك المبيت بمنى أيّها الجاهل، بل نقول له:- يجب عليك المبيت بمنى واقعاً وحكمك حكم العالم لكنّه مادام قد تركت المبيت عن جهلٍ بالحكم أو بالموضوع فالكفارة يرتفع وجوبها عنك، أي يرتفع وجوب شيءٍ آخرَ وذلك الشيء الآخر هو ليس بجاهلٍ به بل هو عالمٌ به إذ المكلف يعلم أنّ تارك المبيت في منى تجب عليه الكفّارة ولكنّه جاهل بشيءٍ آخر أي هو جاهلٌ بوجوب المبيت في منى بنحو الحكم أو بنحو الموضوع والذي نريد أن نرفعه هو شيء آخر وهو وجوب الكفّارة ولا محذور في أن يكون رفع وجوب الكفارة رفعاً واقعيّاً لأنه مترتّب على ترك المبيت والمفروض أنّ هذا المكلف قد ترك المبيت عن جهلٍ ومادام قد تركه عن جهلٍ فيرتفع وجوب الكفّارة حقيقةً وواقعاً من دون أن يلزم محذور اختصاص الأحكام بالعالِمِين . نعم إذا قلنا إنّ وجوب الكفّارة ثابتٌ في حقّ من يعلم بوجوب الكفّارة فهنا يلزم التصويب، أمّا إذا قلنا إنّ وجوب الكفارة يرتفع بمن لا يعلم بوجوب المبيت - أي بحكمٍ آخر - فهذا لا يلزم منه محذور التصويب ولا إشكال من هذه الناحية.
وتلك القرينة هي أنّ صفوان قال للإمام عليه السلام:- ( إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذّة أعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا )، ونضم إلى هذا الكلام مقدّمة من الخارج وهي أن الطواف والسعي يقع عادةً في ليليةٍ واحدةٍ لا أنه يقع في أكثر من ذلك فلو فرض أنّ ترك المبيت ليليةً واحدةً لا يوجب الكفارة وإنما الموجب هو ترك الليالي الثلاث بمجموعها لما كان هنا معنى لتعليل الامام بقوله:- ( ما هذا بمنزلة هذا ) بل كان المناسب أن يقول ( إن هذا إنما المبيت ليلية الواحدة لا مجموع الليالي )، إن المناسب هو التعليل بذلك والحال أنه لم يعلّل بذلك بل علّل بشيءٍ آخر وهو أنّ ( هذا ليس بمنزلة هذا ) يعني أنّ هذا مشغولاً بالطاعة والمشغول بالطاعة ليس كتارك المبيت من دون طاعة، فمقصود الإمام عليه السلام هو هذا، فهو علّل بوجود المانع وليس بعدم المقتضي فلو كان ترك المبيت ليليةً لا يوجب الكفّارة لكان المناسب التعليل بذلك لأنه تعليلٌ بعدم المقتضي وعند عدم المقتضي يكون المناسب التعليل به لا بوجود المانع، وهذا من الأمور الواضحة.
إن قلت:- إنه يمكن أن نفترض انشغاله بالطواف والسعي في الليالي الثلاث، ففي ليلية ينشغل بطواف الحجّ وسعيه وفي الليلة الثانية ينشغل بطوافٍ عن والده[1] مثلاً - أي يأتي بطوافات مستحبّة -.
قلت:- مضافاً إلى أن هذا بعيدٌ في حدّ نفسه لأن الرواية قالت:- ( إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه ) ومن الواضح أنّ شأنه الذي يناسبه هو الطواف والسعي الواجب عليه، فهذه الفقرة لا يبعد أن تكون دالة على إرادة خصوص الطواف والسعي المطلوب عنه بنحو الوجوب في الحج . فمضافاً إلى هذا يمكن أن يقال:- نتمسّك بالاطلاق أو بترك الاستفصال فإن الامام عليه السلام لم يستفصل ولم يقل إنه مشغولٌ بطوافه الواجب فقط في ليلتين أو أعمّ من ذلك في كلّ الليالي بطوافاتٍ وسعيٍ آخر، فلو فرض أنّه كان اللازم هو الانشغال بالطواف والسعي في مجموع الليالي لكان من المناسب للإمام أن يستفصل فيقول له ( إن كان مشغولاً بالطواف والسعي في ليلةٍ واحدةٍ فقط فعليه الكفارة وإذا كان مشغولاً في كلّ الليالي فليس عليه الكفارة )، إنّ عدم استفصال الامام يدلّ على أنّ هذا حكمه لا يختلف باختلاف أن يأتي بذلك في مجموع الليالي أو يأتي به في ليلةٍ واحدةٍ فنتمسّك بعدم الاستفصال - أو بالاطلاق إن صحّ التعبير -.
والخلاصة:- إنّ هذه الرواية لأجل القرينة التي أشرنا إليها تكون دالة على أنّ ترك الاشتغال في ليليةٍ واحدةٍ يكفي لرفع الكفارة لأنه مشغولاً بالطاعة، فيظهر أنّ ترك المبيت ليليةً يوجب الكفارة وإلّا لعلل الإمام بعدم المقتضي لا أنه يعلّل بأنه مشغولٌ بالطاعة.
هذا كلّه بالنسبة إلى الرواية المذكورة.
يبقى شيء:- وهو أنّ غايه ما ثبت بهذا البيان هو أن ترك المبيت ليلةً كترك المبيت مجموع الليالي في أنه يوجب الكفارة لا أن الموجب هو خصوص ترك المبيت ثلاث ليالٍ بل إنّ ترك المبيت ليليةً واحدةً يوجب الكفارة أيضاً.
ولكن يمكن لقائلٍ أن يقول:- إنّ هذا لا يثبت التعدّد، أي لا يثبت أنّه لو ترك ليليتين فعليه شاتان ولو ترك ثلاث فعليه ثلاث بل غاية ما يثبت أنّ تارك المبيت ليليةً كتارك المبيت ثلاثة ليالٍ يعني تثبت عليه الكفارة فلعل الشاة تكون مشتركة بين ترك المبيت ليلةً واحدةً وبين ترك المبيت ثلاث ليالٍ لا أنّ من ترك ثلاث ليالٍ عليه ثلاث كفّارات.
إذن كيف تثبت أنّ تارك المبيت ثلاث ليالٍ عليه ثلاث كفارات ؟
قلت:- لا يوجد لدينا مثبتٌ يصلح الاستناد إليه في ذلك إلا رواية جعفر بن ناجية التي قالت:- ( عليه ثلاث من الغنم لو ترك المبيت ثلاث ليال ) ولكنّها ضعيفة السند فلا يمكن الاستناد إليها في مقام الفتوى، ومن هذا يتّضح أن الحكم بتعدّد الكفارة عند ترك أكثر من ليلةٍ واحدةٍ لا يوجد عندنا ما يمكن الاستناد إليه، نعم لا بأس بالحكم بذلك من باب الاحتياط وأما للفتوى بالتعدّد فهو أمرٌ مشكل.
الأمر الخامس:- تارك المبيت جهلاً بالموضوع.
ذكرنا فيما سبق أنّ من ترك المبيت في منى إذا كان عمداً فعليه الكفّارة بلا إشكال وإذا كان نسياناً فلا شيء عليه - خلافاً للمشهور فإنهم قالوا بوجوب الكفارة عليه - تمسكاً بحديث رفع النسيان بالبيان المتقدّم، وذكرنا أيضاً جاهل الحكم - أي يجهل أن المبيت واجبٌ في منى - يمكن أن نقول لا كفارة عليه من باب حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) وصحيحة عبد الصمد بن بشير، وهذا كلّه قد تقدّم فيما سبق.
ولكن لم نشِر فيما سبق إلى تارك المبيت عن جهلٍ بالموضوع كما لو بات في مكانٍ تخيّل أنه من منى ثم اتضح بعد ذلك أنه خارجها فهل تجب الكفارة على مثل هذا المكلف ؟ المناسب لما عليه المشهور هو ثبوت الكفارة في حقّه فإنا قد ذكرنا عبائرهم فيما سبق حيث وكانوا يقولون إنّه لا فرق في ثبوت الكفارة بين العالم والناسي والجاهل والمضطر . ولكن المناسب لما ذكرناه سابقاً هو عدم الثبوت فإن نفس المستند الذي تمسكنا به يأتي هنا حيث أنّ هذا لا يعلم وكلّ ما يصدر بسبب عدم العلم لا تثبت عليه الآثار التي منها الكفّارة، وهذا لم يتحقّق منه المبيت فلا تثبت في حقّه الكفارة بمقتضى إطلاق الحديث . إذن الحديث الذي تمسّكنا به سابقاً يأتي هنا وقد قلنا سابقاً وهنا نقول بأنّا حينما نتمسّك بالحديث لا نريد أن نثبت أنّ هذا قد تحقّق منه المبيت فإنّ حديث الرفع يرفع مالا يعلمون، فحيث إنّه ترك المبيت فيكون هذا الترك مرفوعاً فتكون النتيجة هي الاثبات . كلّا فنحن لا نريد هذا حتى تقول إنّ لازم هذا هو أن يصير الحديث حديث إثباتٍ والمفروض أنّه حديث رفعٍ، بل نريد أن نقول إنَّ كلّ ما يتحقّق أو لا يتحقّق حالة عدم العلم فهو يبقى عليه ولكن تكون الآثار المترتبة عليه - أي على صدوره أو على عدم صدوره - مرفوعة، فهنا نريد أن نرفع الأثر ولا نريد أن نرفع عدم المبيت ونبدله إلى المبيت بل يبقى عدم المبيت كما هو ولكن نقول إنَّ عدم المبيت هذا مادام قد تحقّق بسبب الجهل فالأثر المترتّب عليه مرفوعٌ لا أنّ عدم المبيت يصير مبِيتاً . إذن لا مشكلة من هذه الناحية كما أشرنا سابقاً.
وهناك مشكلة أخرى قد تخطر إلى الذهن وهي أنه قد يقال:- إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) رفعٌ ظاهريّ وليس رفعاً واقعياً فإنه لابد من التفكيك بين فقرات الحديث[2] - أي بين فقرة رفع النسيان وما اضطروا إليه وما لا يطيقون ...... وبين فقرة ما لا يعلمون - فإن الرفع في بقيّة الفقرات - أي في النسيان وما لا يطيقون وغيرهما - هو رفعٌ واقعيّ، وهذا بخلاف الرفع في ما لا يعلمون فإنه ظاهريٌّ رغم أنّ السياق واحدٌ لكن الدليل الخارجي يدعونا إلى ذلك ويحتّم علينا ذلك، أمّا أنّ الرفع واقعيّ في فقرة رفع النساين وغيرها فوجهه أنّه تمسّكٌ بظاهر الحديث فإن ظاهر رفع الشيء هو رفعٌ لنفس الشيء فيكون رفعاً واقعياً وليس رفعاً لوجوب الاحتياط بلحاظه مثلاً حتى يكون رفعاً ظاهرياً، كلّا بل هو رفعٌ له، ففي حالة النسيان يكون نفس الحكم مرفوعاً وهكذا في حالة الاضطرار، مضافاً إلى أنّ الناسي لا يمكن تكليفه واقعاً وهكذا المضطر وهكذا البقية، وهذا بخلافه في فقرة ( ما لا يعلمون ) فإنه رفعٌ ظاهريّ للقرينة، وما هي القرينة ؟ هي أنه لو كان الرفع واقعياً فمعناه أنّ الجاهل لا توجد في حقّه أحكام واقعيّة إذ هي مرفوعة وإذا لم تكن موجودة فهذا معناه اختصاص الأحكام واقعاً بالعالمين وهذا لازمه التصويب ولازمه أنّه لا يلزم أن نتعلّم إذ ما تريد أن تتعلم ؟ إنّه لا يوجد حكمٌ في حقّك واقعاً ما دمت جاهلاً حتى تتعلمه !! فلذلك يقال إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) هو ظاهريّ أي أن وجوب الاحتياط مرفوعٌ عنك مادمت جاهلاً فإذا علمت فيثبت في حقّك الحكم حينئذٍ، فالجاهل إذا ترك الواجب فمادام هو جاهل فحينئذٍ لا شيء عليه ولكن إذا صار عالماً فيثبت حينئذٍ وجوب القضاء في حقّه لأنّ الحكم ثابتٌ في حقّه واقعاً فوجوب القضاء وباقي الأمور الأخرى تثبت في حقّه، وفي مقامنا نقول هكذا أي نقول إنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) حيث إنّه ظاهريّ فعلى هذا الأساس يكون لازمه أنّه حينما يلتفت المكلف فيلزم أن يرتّب الآثار التي منها وجوب الكفارة لأنّ الوجوب ثابتٌ في حقّه واقعاً، فالرفع رفعٌ ماداميّ - أي ما دمت جاهلاً - فلو عَلِم لزمه أن يرتّب الآثار ومنها الكفارة، هكذا قد يقال بالنسبة إلى الجاهل بالحكم أو الجاهل بالموضوع فلا يفرقٍ بينما هنا.
والجواب:- نحن نسلّم أنّ الرفع في فقرة ( ما لا يعلمون ) ظاهريّ ولكن نفس الحكم الذي لا يُعلَم يكون مرفوعاً رفعاً ظاهرياً وأمّا الحكم الآخر المترتّب على ( ما لا يعلمون ) والذي نحن نريد أن نرفعه فالرفع بلحاظه واقعيّ وليس ظاهرياً، وفي المقام نقول:- إن الذي لا يعلمه المكلّف هو وجوب المبيت في منى سواء كان بنحو الحكم أن بنحو الموضوع ولكن الذي نريد أن نرفعه ليس هذا فإن هذا ثابت في حقّه وإنما الذي نريد أن نرفعه هو وجوب الكفارة، يعني هو حكمٌ آخر غير الحكم الذي لا يُعلَم، فالذي لا يُعلَم نحن لسنا بصدد رفعه، فنحن لسنا بصدد رفع وجوب المبيت ولا نريد أن نقول إنّه لا يجب عليك المبيت بمنى أيّها الجاهل، بل نقول له:- يجب عليك المبيت بمنى واقعاً وحكمك حكم العالم لكنّه مادام قد تركت المبيت عن جهلٍ بالحكم أو بالموضوع فالكفارة يرتفع وجوبها عنك، أي يرتفع وجوب شيءٍ آخرَ وذلك الشيء الآخر هو ليس بجاهلٍ به بل هو عالمٌ به إذ المكلف يعلم أنّ تارك المبيت في منى تجب عليه الكفّارة ولكنّه جاهل بشيءٍ آخر أي هو جاهلٌ بوجوب المبيت في منى بنحو الحكم أو بنحو الموضوع والذي نريد أن نرفعه هو شيء آخر وهو وجوب الكفّارة ولا محذور في أن يكون رفع وجوب الكفارة رفعاً واقعيّاً لأنه مترتّب على ترك المبيت والمفروض أنّ هذا المكلف قد ترك المبيت عن جهلٍ ومادام قد تركه عن جهلٍ فيرتفع وجوب الكفّارة حقيقةً وواقعاً من دون أن يلزم محذور اختصاص الأحكام بالعالِمِين . نعم إذا قلنا إنّ وجوب الكفّارة ثابتٌ في حقّ من يعلم بوجوب الكفّارة فهنا يلزم التصويب، أمّا إذا قلنا إنّ وجوب الكفارة يرتفع بمن لا يعلم بوجوب المبيت - أي بحكمٍ آخر - فهذا لا يلزم منه محذور التصويب ولا إشكال من هذه الناحية.
[1] ولا تقل:- إنه لا يجوز بحسب الفتوى، فأقول:- إن كلامنا ليس كلام
فتوى وإنما هو في استنباط الحكم بناءً على أنه لا يجوز هذا الطواف، ولكن حتى لو
قلنا إن الفتوى هي على ذلك ولكن نقول إن نفس الرواية هي تدلّ على جواز ذلك، فلعل
الرواية ناظرة الى هذا المعنى فالاشتغال بالطواف والسعي يمكن أن نفترضه في مجموع
الليالي ففي ليلةٍ هو مشغول بطوافه وسعيه الواجب وفي بقية الليالي هو مشغولٌ بطوافٍ
وسعيٍ مستحب، وتكون هذه الرواية ملائمة مع استحباب السعي – ذا يوجد كلام في ان
السعي هل هو مستحب في نفسه او لا ؟ – فأي مانعٍ من الالتزام بهذا ؟!!.
[2] هذه فائدة ذكرناها في حديث الرفع والآن نؤكدها
هنا.