36/05/23
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ ملاقي
أحد أطراف العلم الإجمالي.
ذكرنا أنّ الأقوال في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيينثلاثة. الاستدلال الساذج والمبدئي لهذه الأقوال يكون بهذا الشكل:
بالنسبة للقول الأوّل دليله هو وجود علم إجمالي بوجوب أحد أمرين، إمّا الأقل أو الأكثر، وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء الأصول المؤمنة في كلٍ من الطرفين، فلا يمكن إجراء البراءة العقلية ولا النقلية لنفي وجوب الأكثر، فيجب الاحتياط حينئذٍ بفعل الأكثر كما هو القاعدة في العلم الإجمالي.
أمّا القول الثاني، فيستدلّ بأنّ هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد على الأقل؛ وحينئذٍ إذا انحلّ العلم الإجمالي لا مانع من نفي ما يُشك في وجوبه بالأصول المؤمّنة؛ لأنّ الشك فيه شك بدوي غير مقرون بالعلم الإجمالي.
وأمّا القول الثالث الذي أختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في الكفاية [1]، من جهةٍ هو يؤمن بعدم انحلال العلم الإجمالي وعلى هذا الأساس منع من جريان البراءة العقلية لنفي وجوب الأكثر؛ لأنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان البراءة في أحد الطرفين، لكنّه ذهب إلى جريان البراءة النقلية بدعوى أنّه لا مانع من التمسّك بحديث الرفع وما شابهه من أدلة البراءة باعتبار أنّ موضوع البراءة الشرعية متحقق؛ وحينئذٍ أجرى البراءة الشرعية والنقلية لنفي جزئية الجزء المشكوك، وذكر أنّه بجريان البراءة النقلية لنفي جزئية الجزء المشكوك يرتفع الإجمال ويرتفع التردد ويتعيّن الواجب في الأقل، وهذا التفريق بين البراءة العقلية والبراءة النقلية وقع موضوع انتقاد ومناقشة تأتي الإشارة إليها.
منهجية البحث تكون بأحد نحوين:
النحو الأوّل: أن نقول لا إشكال في وجود علم إجمالي، طرفا هذا العلم الإجمالي هما الأقل والأكثر، وكأيّ علمٍ إجماليٍ آخر هو ينجّز طرفيه ويمنع من جريان البراءة في طرفيه، والبحث يتركز على وجود ما يمنع من منجّزية هذا العلم الإجمالي، أو قل بعبارة أخرى: وجود ما يوجب انحلال هذا العلم الإجمالي. فما هي الأمور التي توجب انحلال هذا العلم الإجمالي، وبالتالي عدم تنجيزه لطرفيه، وبالتالي عدم وجود مانعٍ من جريان الأصول المؤمّنة لنفي وجوب الأكثر، فالتركيز في البحث يكون على الموانع التي تمنع من منجزية هذا العلم الإجمالي، أو الأمور التي توجب انحلال هذا العلم الإجمالي.
الطريقة الأخرى في البحث أن نقول: في محل الكلام يوجد شك في التكليف بالأكثر، وهذا لا يمكن إنكاره، أنّ المكلّف الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر يشك في وجوب الأكثر ومقتضى القاعدة أنّ الشك في التكليف تجري فيه البراءة، والبحث يتركز على وجود ما يمنع من جريان البراءة، هل هناك شيء يمنع من جريان البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو ليس هناك شيء يمنع من جريان البراءة ؟ فمرّة نركّز البحث على وجود ما يوجب انحلال العلم الإجمالي بعد فرض وجوده، ومرّة نبحث عمّا يمنع من جريان البراءة بعد فرض كون الشك في التكليف، وأنّ الشك في التكليف مجرى للبراءة، فهل هناك ما يمنع من جريان البراءة ؟ الطريقة الثانية هي التي انتخبها المحقق النائيني(قدّس سرّه) حيث كانت منهجية بحثه بهذا الشكل [2]، يعني ذكر بأنّ الشك في المقام هو شك في التكليف، والشك في التكليف مجرى لقاعدة البراءة، فوقع البحث في أنّه هل هناك ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام، أو ليس هناك ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام ؟ هذه المنهجية الثانية هي التي اختارها ويكون البحث مبنياً عليها.
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ذكر ما معناه أنّ المقتضي لجريان البراءة موجود، والمانع من جريانها مفقود، المقتضي لجريان البراءة العقلية والنقلية موجود باعتبار أنّ موضوع البراءة العقلية متحقق في محل الكلام، وموضوع البراءة النقلية أيضاً متحقق في محل الكلام. موضوع البراءة العقلية هو الشكّ في التكليف الذي يستتبع العقاب على مخالفته، أو قبح العقاب بلا بيان، ولا إشكال أنّ هذا الموضوع متحقق في محل الكلام؛ لأننا نشك في التكليف بالأكثر والتكليف بالأكثر على تقديره يكون مستتبعاً للعقاب على المخالفة، ولمّا كان هذا التكليف مشكوكاً، يعني بالنتيجة استحقاق العقاب على مخالفته يكون مشكوكاً، فتأتي قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتقول مع عدم البيان يقبح العقاب، فتكون مؤمّنة من ناحية العقاب المحتمل، فموضوع البراءة العقلية متحقق في محل الكلام. كما أنّ موضوع البراءة النقلية متحقق في محل الكلام باعتبار أنّ موضوع البراءة النقلية هو الشك في الحكم الواقعي حتّى يكون المورد مشمولاً لحديث الرفع وحديث الحجب وأمثاله من أدلّة البراءة، موضوع ذلك هو أن تشك في الحكم الواقعي، وهذا الموضوع متحقق في محل الكلام؛ لأننا نشكّ في وجوب الأكثر وهو حكم واقعي ونحن نشك فيه، فيتحقق موضوع البراءة النقلية، فيأتي حديث الرفع، فيقول(رفع ما لا يعلمون) وأنا لا أعلم بوجوب الأكثر، فيكون مرفوعاً.
إذن: المقتضي لجريان البراءة العقلية والنقلية موجود في محل الكلام والمانع مفقود؛ لأنّه يقول لا يوجد مانع يمنع من جريان البراءة العقلية والنقلية في محل الكلام سوى دعوى وجود علمٍ إجمالي، ومن هنا يقع الكلام في أنّه هل يوجد ما يمنع من جريان البراءة، أو لا ؟ أصحاب القول الأوّل يقولون نعم يوجد ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام وهو العلم الإجمالي، العلم الإجمالي يمنع من جريان البراءة في أطرافه. أصحاب القول الثاني يقولون لا يوجد ما يمنع من جريان البراءة؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي منحل ويسقط عن التأثير والتنجيز، فلا مانع من إجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، ومن هنا يقع الكلام في ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام. ذُكرت موانع متعددة قيل بأنّها تمنع من جريان البراءة في محل الكلام:
المانع الأوّل: العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ يقع البحث في أنّ هذا العلم الإجمالي هل هو مانع حقيقي عن جريان البراءة، أو ليس مانعاً ؟ وبالأحرى يقع البحث في أنّ هذا العلم الإجمالي الذي لا يمكن إنكاره، هل هو علم إجمالي حقيقي باقٍ وغير منحل، أو هو علم إجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، والشك البدوي في وجوب الزائد، فالكلام يقع في أنّ المانع الأوّل هو العلم الإجمالي الموجود في المقام، وعلى تقدير وجوده وعدم انحلاله يكون مانعاً عن جريان البراءة بلا إشكال، و العلم الإجمالي المدّعى في المقام هو العلم الإجمالي بوجوب أحد أمرين، إمّا الأقل، أو الأكثر، فيكون حاله حال سائر العلوم الإجمالية التي تمنع من إجراء البراءة في أطرافه. الأكثر هو عبارة عن المشتمل على الزائد، ويُدّعى في مقام بيان أنّ هذا مانع من إجراء البراءة بأنّ هذا العلم الإجمالي أمره دائر بين المتباينين؛ ولذا يكون حاله حال سائر العلوم الإجمالية الأخرى من حيث التنجيز والمنع من جريان البراءة في الأطراف، والوجه في كون أمره دائر بين المتباينين هو أنّ المفروض في محل الكلام هو وجود ارتباط بين أجزاء ذلك الواجب، كل جزءٍ من أجزاء ذلك المركب مرتبط بالأجزاء الأخرى، والوجوب الذي يتعلّق بالمركب هو وجوب ارتباطي، قلنا سابقاً أنّه وجود واحد له عصيان واحد وله إطاعة واحدة، ليست هناك وجوبات متعددة، هناك وجوب واحد يتعلّق بالمركّب والأجزاء مترابطة فيما بينها، وهذا معناه أنّه على تقدير وجوب الأكثر التسعة الموجودة في ضمنها ليست واجبة، وجوب واحد إمّا يتعلّق بالأكثر أو يتعلّق بالأقل، على تقدير أن تكون التسعة واجبة، أي أن الأقل واجب، فهذا وجوب يتعلّق بالتسعة وما زاد عليه ليس واجباً، نفس الكلام نقوله، على تقدير أن يتعلّق الوجوب بالأكثر فالتسعة ليست واجبة، وإنّما الواجب هو إمّا التسعة وإمّا العشرة، إمّا الأكثر، وإمّا الأقل. نعم التسعة تكون واجبة عندما يكون الوجوب متعلّقاً بالأقل، أمّا عندما يكون هذا الوجوب الواحد المفترض في محل الكلام متعلّقاً بالعشرة، كل جزءٍ من أجزاء هذه العشرة لا يتصف بالوجوب؛ لأنّ الكلام في الواجبات الارتباطية، نحن لا نتكلّم عن الأقل والأكثر الاستقلاليين، في الأقل والأكثر الاستقلاليين على تقدير وجوب الأكثر يكون الأقل واجباً بوجوبٍ مستقلٍ، يكون واجباً بوجوبٍ آخر غير الوجوب الثابت للأقل، الزائد على الأقل يكون واجباً بوجوبٍ مستقلٍ غير الوجوب المتعلّق بالأقل، فيكون هناك وجوبان، أحدهما يتعلّق بالأقل والآخر يتعلّق بالزائد، وكل منهما وجوب مستقل له عصيان خاص وإطاعة خاصة، نحن نتكلّم عن الواجبات الارتباطية، الارتباطية تعني أنّ هناك وجوباً نفسياً واحداً لا أكثر، هذا الوجوب النفسي الواحد إمّا أن يتعلّق بالأقل، أو بالأكثر، كما أنه إذا تعلّق بالأقل نقول أنّ ما زاد عليه ليس واجباً، كذلك إذا تعلّق بالأكثر نقول أنّ الأقل ليس واجباً، وجوب واحد إمّا أن يتعلّق بالأكثر، فلا يوجد غيره، أو أن يتعلّق بالأقل، فلا يوجد غيره، وهذا معناه أنّ الأمر يدور بين المتباينين، والسرّ في هذا أنّه في مقام بيان هذا المانع وأنّه مانع حقيقي وعلم إجمالي حقيقي يدور أمره بين المتباينين لوحظ الوجوب النفسي، فيقال أنّ الوجوب النفسي واحد بلا إشكال وهو أن يتعلّق بالتسعة، أو يتعلّق بالعشرة، على تقدير أن يكون متعلّقاً بالعشرة؛ حينئذٍ لا يوجد غيره متعلّقاً بالأقل حتى يقال أنّ هذا العلم الإجمالي ينحل؛ لأننا نعلم بوجوب الأقل على كل حال، والشك يكون في وجوب الزائد، هذا لا نستطيع أن نقوله؛ لأنّه على تقدير وجوب العشرة الأقل لا يكون واجباً. نعم، الأقل يكون واجباً بوجوب نفسي على تقدير تعلّق الوجوب بالأقل. إذن: وجوب الأقل ــــــــــــ والمقصود بالوجوب هو الوجوب النفسي ـــــــــــ ليس معلوماً على كل تقدير، ليس معلوماً بالعلم التفصيلي حتّى يكون هذا موجباً لانحلال العلم الإجمالي، هنا لا يوجد علم تفصيلي بوجوب الأقل وجوباً نفسياً؛ لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي. نعم، على تقدير أن يكون الأقل هو الواجب يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي. إذن: ليس الوجوب النفسي للأقل معلوماً على كل حال، ونعلم به بالعلم التفصيلي ونقول نشك في وجوب ما زاد عليه، وإنّما الوجوب النفسي للأقل غير معلومٍ كما أنّ الوجوب النفسي للأكثر أيضاً غير معلوم، ليس لدينا علم تفصيلي لا بهذا ولا بهذا؛ ولذا لا موجب للانحلال؛ لأنّه لا يوجد وجوب نفسي نعلم به تفصيلاً متعلقاً بالأقل، وهذا الذي أقوله واضح؛ لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يكون الأقل واجباً بوجوبٍ نفسيٍ، فإذن الكلام في هذا المانع كأنّه يحاول أن يركز على مسألة الوجوب النفسي، والوجوب النفسي يتعلّق إمّا بالأقل وإمّا بالأكثر. صحيح أنّ الأقل هو بعض من الأكثر، لكن هذا لا يمنع من كون الدوران في المقام هو من قبيل الدوران بين المتباينين، ويكون هذا علماً إجمالياً منجّزاً ومانعاً من إجراء البراءة في محل الكلام.
أجيب عن هذا المانع بأجوبة عديدة:
الجواب الأوّل: هو المستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهو أنّه ادّعى بأنّ هذا العلم الإجمالي العلم الإجمالي منحلٌ في محل الكلام، فلا يمنع من جريان البراءة، باعتبار أنّه صحيح أنّ الوجوب النفسي الدائر بين الأقل والأكثر غير منحل، لما قلناه من أنّه لا يوجد علم تفصيلي بوجوبٍ نفسي متعلّق بالأقل حتى نقول بانحلال العلم الإجمالي، لكنّ هذا العلم الإجمالي يكون منحلاً ببيان آخر وهو أن نقول أنّ المكلّف يعلم بأن الأقل يجب عليه على كل حال، إمّا بوجوبٍ نفسيٍ، أو بوجوبٍ غيريٍ مقدّمي، يستطيع الإنسان أن يقول بأنّ الأقل واجب عليّ قطعاً ويدّعي بأني أعلم تفصيلاً بوجوب الأقل عليّ، لكن هذا مردد بين أنّ هذا الوجوب الثابت قطعاً هل هو وجوب نفسي، أو وجوب غيري؛ لأنّه على تقدير أن يكون الوجوب المعلوم بالعلم الإجمالي متعلّقاً بالأقل، فيكون وجوب الأقل وجوباً نفسياً، وعلى تقدير أن يكون الوجوب المعلوم بالإجمال متعلّقاً بالأكثر، فالوجوب المتعلّق بالأقل وجوب غيري مقدّمي؛ لأنّ الأقل يكون مقدّمة للمركب، كل جزءٍ من أجزاء المركب يعتبر مقدّمة لتحقق الكل، فلو وجب الكل؛ حينئذٍ تجب مقدماته، والجزء مقدّمة من مقدّمات الكل، فيتعلّق وجوب غيري بالجزء، وهذا الجزء نفرضه تسعة أجزاء، ليس هناك فرق بين مقدّمية الجزء الواحد للكل، أو مقدّمية معظم الأجزاء للكل، بالنتيجة الكل ككل يتوقف على أجزائه، فإذا وجب الكل بوجوبٍ نفسيٍ يكون الأقل في محل كلامنا واجباً بوجوب غيري مقدّمي؛ وحينئذٍ يستطيع المكلّف أن يقول أنا أعلم علماً تفصيلياً بوجوب الأقل عليّ وإن كان مردداً في أنّ هذا الوجوب الذي ثبت عليه، هل هو وجوب نفسي، أو هو وجوب غيري مقدّمي ؟ لكن هذا لا يمنع من دعوى العلم التفصيلي بوجوب الأقل، وإن كان هذا مردداً بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري، ومن هنا يكون العلم الإجمالي منحلاً بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل وشك في وجوب ما زاد عليه، فلا مانع من إجراء البراءة في محل الكلام.
اعتُرض على هذا الكلام للشيخ الأنصاري(قدّس سره)، أوّلاً: هناك كلام في أنّ الأجزاء هل هي مقدّمات داخلية أو أنّها ليست كذلك؛ بل أنّ الأجزاء هي عبارة عن الكل وليست شيئاً آخراً غير الكل ؟ على تقدير أن نقول أنّ الأجزاء مقدّمات داخلية في مقابل المقدّمات الخارجية، لكن الكلام في أنّ الأجزاء هل تتصف بالوجوب الغيري كما تتصّف المقدّمات الخارجية بالوجوب الغيري أو أنّها تتصف بالوجوب النفسي الذي ينبسط على تمام أجزاء المركب ؟ على تقدير أن نقول أنّ هناك وجوباً غيرياً يتعلّق بالمقدّمة، ليس معلوماً أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يلتزم بهذا الكلام، يعني يلتزم بأنّ الأجزاء مقدّمات داخلية، ويلتزم بأنّها تتصف بالوجوب الغيري؛ لأنّ أجزاء المركّب هي نفس المركب وليست شيئاً آخر، فهي تتصف على تقديره بوجوباتٍ نفسيةٍ يعبّرون عنها بالوجوبات النفسية الضمنية، لكنها وجوبات نفسية، يعني وجوب نفسي يتعلّق بهذا الجزء، لكن وجوباً ضمنياً لا أنّه يتصف بالوجوب الغيري المقدّمي، ليس واضحاً أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سره) يلتزم بذلك، ومن هنا ذكر المحقق النائيني(قدّس سره) بأنّه وإن كانت كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سره) تكرر فيها هذا التعبير بأنّ العلم الإجمالي في محل الكلام ينحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسي، أو وجوب غيري، يعني تكررت كلمة الوجوب الغيري والمقدّمي في كلماته، لكن المحقق النائيني(قدّس سره) يقول ليس هذا مراده، وإنّما مراده شيء آخر يمكن أن يكون وجهاً آخراً لدعوى انحلال العلم الإجمالي، وهو أن يقال: لا ندّعي بأنّ العلم الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسي، أو وجوب غيري، بدلاً من الوجوب الغيري نقول الوجوب الضمني، فينحل العلم الإجمالي، فينتهي الإشكال، المكلّف يعلم قطعاً بأنّ الأقل واجب عليه إمّا بوجوب نفسي على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال هو الأقل، أو بوجوبٍ نفسيٍ ضمني على تقدير أن يكون الواجب المعلوم بالإجمال هو الأكثر، ولا مشكلة في أن تكون الأجزاء متصفة بالوجوب النفسي الضمني؛ لأننا قلنا أنّ الوجوب الذي يتعلّق بالمركب هو في الحقيقة ينبسط على أجزائه، فيكون كل جزءٍ من أجزاء المركب واجباً بوجوبٍ نفسي ضمني في ضمن هذا المركب، هذا أيضاً يكون واجباً بالوجوب النفسي، فيقال أنّ العلم الإجمالي في محل الكلام ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إمّا بوجوب نفسي، أو بوجوب ضمني، يعني إمّا بوجوب نفسي استقلالي، وإمّا بوجوبٍ نفسي ضمني، فنتخلّص من مشكلة أنّ الأجزاء مقدّمات، أو ليست مقدّمات ؟ وأنّها تتصف بالوجوب الغيري، أو لا تتصف بالوجوب الغيري؛ إذ لا إشكال في أنّها تتصف بالوجوب النفسي الضمني؛ وحينئذٍ بناءً على هذا الرأي نستطيع أن نقول في تفسير كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سره) أنّه يدّعي انحلال العلم الإجمالي بهذا البيان، أنّ هناك علماً تفصيلياً بوجوب الأقل على كل حال إمّا بوجوب نفسي استقلالي، أو بوجوب ضمني. هذا هو الجواب الأوّل عن دعوى انحلال العلم الإجمالي.
ذكرنا أنّ الأقوال في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيينثلاثة. الاستدلال الساذج والمبدئي لهذه الأقوال يكون بهذا الشكل:
بالنسبة للقول الأوّل دليله هو وجود علم إجمالي بوجوب أحد أمرين، إمّا الأقل أو الأكثر، وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء الأصول المؤمنة في كلٍ من الطرفين، فلا يمكن إجراء البراءة العقلية ولا النقلية لنفي وجوب الأكثر، فيجب الاحتياط حينئذٍ بفعل الأكثر كما هو القاعدة في العلم الإجمالي.
أمّا القول الثاني، فيستدلّ بأنّ هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد على الأقل؛ وحينئذٍ إذا انحلّ العلم الإجمالي لا مانع من نفي ما يُشك في وجوبه بالأصول المؤمّنة؛ لأنّ الشك فيه شك بدوي غير مقرون بالعلم الإجمالي.
وأمّا القول الثالث الذي أختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في الكفاية [1]، من جهةٍ هو يؤمن بعدم انحلال العلم الإجمالي وعلى هذا الأساس منع من جريان البراءة العقلية لنفي وجوب الأكثر؛ لأنّ العلم الإجمالي يمنع من جريان البراءة في أحد الطرفين، لكنّه ذهب إلى جريان البراءة النقلية بدعوى أنّه لا مانع من التمسّك بحديث الرفع وما شابهه من أدلة البراءة باعتبار أنّ موضوع البراءة الشرعية متحقق؛ وحينئذٍ أجرى البراءة الشرعية والنقلية لنفي جزئية الجزء المشكوك، وذكر أنّه بجريان البراءة النقلية لنفي جزئية الجزء المشكوك يرتفع الإجمال ويرتفع التردد ويتعيّن الواجب في الأقل، وهذا التفريق بين البراءة العقلية والبراءة النقلية وقع موضوع انتقاد ومناقشة تأتي الإشارة إليها.
منهجية البحث تكون بأحد نحوين:
النحو الأوّل: أن نقول لا إشكال في وجود علم إجمالي، طرفا هذا العلم الإجمالي هما الأقل والأكثر، وكأيّ علمٍ إجماليٍ آخر هو ينجّز طرفيه ويمنع من جريان البراءة في طرفيه، والبحث يتركز على وجود ما يمنع من منجّزية هذا العلم الإجمالي، أو قل بعبارة أخرى: وجود ما يوجب انحلال هذا العلم الإجمالي. فما هي الأمور التي توجب انحلال هذا العلم الإجمالي، وبالتالي عدم تنجيزه لطرفيه، وبالتالي عدم وجود مانعٍ من جريان الأصول المؤمّنة لنفي وجوب الأكثر، فالتركيز في البحث يكون على الموانع التي تمنع من منجزية هذا العلم الإجمالي، أو الأمور التي توجب انحلال هذا العلم الإجمالي.
الطريقة الأخرى في البحث أن نقول: في محل الكلام يوجد شك في التكليف بالأكثر، وهذا لا يمكن إنكاره، أنّ المكلّف الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر يشك في وجوب الأكثر ومقتضى القاعدة أنّ الشك في التكليف تجري فيه البراءة، والبحث يتركز على وجود ما يمنع من جريان البراءة، هل هناك شيء يمنع من جريان البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو ليس هناك شيء يمنع من جريان البراءة ؟ فمرّة نركّز البحث على وجود ما يوجب انحلال العلم الإجمالي بعد فرض وجوده، ومرّة نبحث عمّا يمنع من جريان البراءة بعد فرض كون الشك في التكليف، وأنّ الشك في التكليف مجرى للبراءة، فهل هناك ما يمنع من جريان البراءة ؟ الطريقة الثانية هي التي انتخبها المحقق النائيني(قدّس سرّه) حيث كانت منهجية بحثه بهذا الشكل [2]، يعني ذكر بأنّ الشك في المقام هو شك في التكليف، والشك في التكليف مجرى لقاعدة البراءة، فوقع البحث في أنّه هل هناك ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام، أو ليس هناك ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام ؟ هذه المنهجية الثانية هي التي اختارها ويكون البحث مبنياً عليها.
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ذكر ما معناه أنّ المقتضي لجريان البراءة موجود، والمانع من جريانها مفقود، المقتضي لجريان البراءة العقلية والنقلية موجود باعتبار أنّ موضوع البراءة العقلية متحقق في محل الكلام، وموضوع البراءة النقلية أيضاً متحقق في محل الكلام. موضوع البراءة العقلية هو الشكّ في التكليف الذي يستتبع العقاب على مخالفته، أو قبح العقاب بلا بيان، ولا إشكال أنّ هذا الموضوع متحقق في محل الكلام؛ لأننا نشك في التكليف بالأكثر والتكليف بالأكثر على تقديره يكون مستتبعاً للعقاب على المخالفة، ولمّا كان هذا التكليف مشكوكاً، يعني بالنتيجة استحقاق العقاب على مخالفته يكون مشكوكاً، فتأتي قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتقول مع عدم البيان يقبح العقاب، فتكون مؤمّنة من ناحية العقاب المحتمل، فموضوع البراءة العقلية متحقق في محل الكلام. كما أنّ موضوع البراءة النقلية متحقق في محل الكلام باعتبار أنّ موضوع البراءة النقلية هو الشك في الحكم الواقعي حتّى يكون المورد مشمولاً لحديث الرفع وحديث الحجب وأمثاله من أدلّة البراءة، موضوع ذلك هو أن تشك في الحكم الواقعي، وهذا الموضوع متحقق في محل الكلام؛ لأننا نشكّ في وجوب الأكثر وهو حكم واقعي ونحن نشك فيه، فيتحقق موضوع البراءة النقلية، فيأتي حديث الرفع، فيقول(رفع ما لا يعلمون) وأنا لا أعلم بوجوب الأكثر، فيكون مرفوعاً.
إذن: المقتضي لجريان البراءة العقلية والنقلية موجود في محل الكلام والمانع مفقود؛ لأنّه يقول لا يوجد مانع يمنع من جريان البراءة العقلية والنقلية في محل الكلام سوى دعوى وجود علمٍ إجمالي، ومن هنا يقع الكلام في أنّه هل يوجد ما يمنع من جريان البراءة، أو لا ؟ أصحاب القول الأوّل يقولون نعم يوجد ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام وهو العلم الإجمالي، العلم الإجمالي يمنع من جريان البراءة في أطرافه. أصحاب القول الثاني يقولون لا يوجد ما يمنع من جريان البراءة؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي منحل ويسقط عن التأثير والتنجيز، فلا مانع من إجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، ومن هنا يقع الكلام في ما يمنع من جريان البراءة في محل الكلام. ذُكرت موانع متعددة قيل بأنّها تمنع من جريان البراءة في محل الكلام:
المانع الأوّل: العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ يقع البحث في أنّ هذا العلم الإجمالي هل هو مانع حقيقي عن جريان البراءة، أو ليس مانعاً ؟ وبالأحرى يقع البحث في أنّ هذا العلم الإجمالي الذي لا يمكن إنكاره، هل هو علم إجمالي حقيقي باقٍ وغير منحل، أو هو علم إجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، والشك البدوي في وجوب الزائد، فالكلام يقع في أنّ المانع الأوّل هو العلم الإجمالي الموجود في المقام، وعلى تقدير وجوده وعدم انحلاله يكون مانعاً عن جريان البراءة بلا إشكال، و العلم الإجمالي المدّعى في المقام هو العلم الإجمالي بوجوب أحد أمرين، إمّا الأقل، أو الأكثر، فيكون حاله حال سائر العلوم الإجمالية التي تمنع من إجراء البراءة في أطرافه. الأكثر هو عبارة عن المشتمل على الزائد، ويُدّعى في مقام بيان أنّ هذا مانع من إجراء البراءة بأنّ هذا العلم الإجمالي أمره دائر بين المتباينين؛ ولذا يكون حاله حال سائر العلوم الإجمالية الأخرى من حيث التنجيز والمنع من جريان البراءة في الأطراف، والوجه في كون أمره دائر بين المتباينين هو أنّ المفروض في محل الكلام هو وجود ارتباط بين أجزاء ذلك الواجب، كل جزءٍ من أجزاء ذلك المركب مرتبط بالأجزاء الأخرى، والوجوب الذي يتعلّق بالمركب هو وجوب ارتباطي، قلنا سابقاً أنّه وجود واحد له عصيان واحد وله إطاعة واحدة، ليست هناك وجوبات متعددة، هناك وجوب واحد يتعلّق بالمركّب والأجزاء مترابطة فيما بينها، وهذا معناه أنّه على تقدير وجوب الأكثر التسعة الموجودة في ضمنها ليست واجبة، وجوب واحد إمّا يتعلّق بالأكثر أو يتعلّق بالأقل، على تقدير أن تكون التسعة واجبة، أي أن الأقل واجب، فهذا وجوب يتعلّق بالتسعة وما زاد عليه ليس واجباً، نفس الكلام نقوله، على تقدير أن يتعلّق الوجوب بالأكثر فالتسعة ليست واجبة، وإنّما الواجب هو إمّا التسعة وإمّا العشرة، إمّا الأكثر، وإمّا الأقل. نعم التسعة تكون واجبة عندما يكون الوجوب متعلّقاً بالأقل، أمّا عندما يكون هذا الوجوب الواحد المفترض في محل الكلام متعلّقاً بالعشرة، كل جزءٍ من أجزاء هذه العشرة لا يتصف بالوجوب؛ لأنّ الكلام في الواجبات الارتباطية، نحن لا نتكلّم عن الأقل والأكثر الاستقلاليين، في الأقل والأكثر الاستقلاليين على تقدير وجوب الأكثر يكون الأقل واجباً بوجوبٍ مستقلٍ، يكون واجباً بوجوبٍ آخر غير الوجوب الثابت للأقل، الزائد على الأقل يكون واجباً بوجوبٍ مستقلٍ غير الوجوب المتعلّق بالأقل، فيكون هناك وجوبان، أحدهما يتعلّق بالأقل والآخر يتعلّق بالزائد، وكل منهما وجوب مستقل له عصيان خاص وإطاعة خاصة، نحن نتكلّم عن الواجبات الارتباطية، الارتباطية تعني أنّ هناك وجوباً نفسياً واحداً لا أكثر، هذا الوجوب النفسي الواحد إمّا أن يتعلّق بالأقل، أو بالأكثر، كما أنه إذا تعلّق بالأقل نقول أنّ ما زاد عليه ليس واجباً، كذلك إذا تعلّق بالأكثر نقول أنّ الأقل ليس واجباً، وجوب واحد إمّا أن يتعلّق بالأكثر، فلا يوجد غيره، أو أن يتعلّق بالأقل، فلا يوجد غيره، وهذا معناه أنّ الأمر يدور بين المتباينين، والسرّ في هذا أنّه في مقام بيان هذا المانع وأنّه مانع حقيقي وعلم إجمالي حقيقي يدور أمره بين المتباينين لوحظ الوجوب النفسي، فيقال أنّ الوجوب النفسي واحد بلا إشكال وهو أن يتعلّق بالتسعة، أو يتعلّق بالعشرة، على تقدير أن يكون متعلّقاً بالعشرة؛ حينئذٍ لا يوجد غيره متعلّقاً بالأقل حتى يقال أنّ هذا العلم الإجمالي ينحل؛ لأننا نعلم بوجوب الأقل على كل حال، والشك يكون في وجوب الزائد، هذا لا نستطيع أن نقوله؛ لأنّه على تقدير وجوب العشرة الأقل لا يكون واجباً. نعم، الأقل يكون واجباً بوجوب نفسي على تقدير تعلّق الوجوب بالأقل. إذن: وجوب الأقل ــــــــــــ والمقصود بالوجوب هو الوجوب النفسي ـــــــــــ ليس معلوماً على كل تقدير، ليس معلوماً بالعلم التفصيلي حتّى يكون هذا موجباً لانحلال العلم الإجمالي، هنا لا يوجد علم تفصيلي بوجوب الأقل وجوباً نفسياً؛ لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي. نعم، على تقدير أن يكون الأقل هو الواجب يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي. إذن: ليس الوجوب النفسي للأقل معلوماً على كل حال، ونعلم به بالعلم التفصيلي ونقول نشك في وجوب ما زاد عليه، وإنّما الوجوب النفسي للأقل غير معلومٍ كما أنّ الوجوب النفسي للأكثر أيضاً غير معلوم، ليس لدينا علم تفصيلي لا بهذا ولا بهذا؛ ولذا لا موجب للانحلال؛ لأنّه لا يوجد وجوب نفسي نعلم به تفصيلاً متعلقاً بالأقل، وهذا الذي أقوله واضح؛ لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يكون الأقل واجباً بوجوبٍ نفسيٍ، فإذن الكلام في هذا المانع كأنّه يحاول أن يركز على مسألة الوجوب النفسي، والوجوب النفسي يتعلّق إمّا بالأقل وإمّا بالأكثر. صحيح أنّ الأقل هو بعض من الأكثر، لكن هذا لا يمنع من كون الدوران في المقام هو من قبيل الدوران بين المتباينين، ويكون هذا علماً إجمالياً منجّزاً ومانعاً من إجراء البراءة في محل الكلام.
أجيب عن هذا المانع بأجوبة عديدة:
الجواب الأوّل: هو المستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهو أنّه ادّعى بأنّ هذا العلم الإجمالي العلم الإجمالي منحلٌ في محل الكلام، فلا يمنع من جريان البراءة، باعتبار أنّه صحيح أنّ الوجوب النفسي الدائر بين الأقل والأكثر غير منحل، لما قلناه من أنّه لا يوجد علم تفصيلي بوجوبٍ نفسي متعلّق بالأقل حتى نقول بانحلال العلم الإجمالي، لكنّ هذا العلم الإجمالي يكون منحلاً ببيان آخر وهو أن نقول أنّ المكلّف يعلم بأن الأقل يجب عليه على كل حال، إمّا بوجوبٍ نفسيٍ، أو بوجوبٍ غيريٍ مقدّمي، يستطيع الإنسان أن يقول بأنّ الأقل واجب عليّ قطعاً ويدّعي بأني أعلم تفصيلاً بوجوب الأقل عليّ، لكن هذا مردد بين أنّ هذا الوجوب الثابت قطعاً هل هو وجوب نفسي، أو وجوب غيري؛ لأنّه على تقدير أن يكون الوجوب المعلوم بالعلم الإجمالي متعلّقاً بالأقل، فيكون وجوب الأقل وجوباً نفسياً، وعلى تقدير أن يكون الوجوب المعلوم بالإجمال متعلّقاً بالأكثر، فالوجوب المتعلّق بالأقل وجوب غيري مقدّمي؛ لأنّ الأقل يكون مقدّمة للمركب، كل جزءٍ من أجزاء المركب يعتبر مقدّمة لتحقق الكل، فلو وجب الكل؛ حينئذٍ تجب مقدماته، والجزء مقدّمة من مقدّمات الكل، فيتعلّق وجوب غيري بالجزء، وهذا الجزء نفرضه تسعة أجزاء، ليس هناك فرق بين مقدّمية الجزء الواحد للكل، أو مقدّمية معظم الأجزاء للكل، بالنتيجة الكل ككل يتوقف على أجزائه، فإذا وجب الكل بوجوبٍ نفسيٍ يكون الأقل في محل كلامنا واجباً بوجوب غيري مقدّمي؛ وحينئذٍ يستطيع المكلّف أن يقول أنا أعلم علماً تفصيلياً بوجوب الأقل عليّ وإن كان مردداً في أنّ هذا الوجوب الذي ثبت عليه، هل هو وجوب نفسي، أو هو وجوب غيري مقدّمي ؟ لكن هذا لا يمنع من دعوى العلم التفصيلي بوجوب الأقل، وإن كان هذا مردداً بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري، ومن هنا يكون العلم الإجمالي منحلاً بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل وشك في وجوب ما زاد عليه، فلا مانع من إجراء البراءة في محل الكلام.
اعتُرض على هذا الكلام للشيخ الأنصاري(قدّس سره)، أوّلاً: هناك كلام في أنّ الأجزاء هل هي مقدّمات داخلية أو أنّها ليست كذلك؛ بل أنّ الأجزاء هي عبارة عن الكل وليست شيئاً آخراً غير الكل ؟ على تقدير أن نقول أنّ الأجزاء مقدّمات داخلية في مقابل المقدّمات الخارجية، لكن الكلام في أنّ الأجزاء هل تتصف بالوجوب الغيري كما تتصّف المقدّمات الخارجية بالوجوب الغيري أو أنّها تتصف بالوجوب النفسي الذي ينبسط على تمام أجزاء المركب ؟ على تقدير أن نقول أنّ هناك وجوباً غيرياً يتعلّق بالمقدّمة، ليس معلوماً أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) يلتزم بهذا الكلام، يعني يلتزم بأنّ الأجزاء مقدّمات داخلية، ويلتزم بأنّها تتصف بالوجوب الغيري؛ لأنّ أجزاء المركّب هي نفس المركب وليست شيئاً آخر، فهي تتصف على تقديره بوجوباتٍ نفسيةٍ يعبّرون عنها بالوجوبات النفسية الضمنية، لكنها وجوبات نفسية، يعني وجوب نفسي يتعلّق بهذا الجزء، لكن وجوباً ضمنياً لا أنّه يتصف بالوجوب الغيري المقدّمي، ليس واضحاً أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سره) يلتزم بذلك، ومن هنا ذكر المحقق النائيني(قدّس سره) بأنّه وإن كانت كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سره) تكرر فيها هذا التعبير بأنّ العلم الإجمالي في محل الكلام ينحلّ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسي، أو وجوب غيري، يعني تكررت كلمة الوجوب الغيري والمقدّمي في كلماته، لكن المحقق النائيني(قدّس سره) يقول ليس هذا مراده، وإنّما مراده شيء آخر يمكن أن يكون وجهاً آخراً لدعوى انحلال العلم الإجمالي، وهو أن يقال: لا ندّعي بأنّ العلم الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسي، أو وجوب غيري، بدلاً من الوجوب الغيري نقول الوجوب الضمني، فينحل العلم الإجمالي، فينتهي الإشكال، المكلّف يعلم قطعاً بأنّ الأقل واجب عليه إمّا بوجوب نفسي على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال هو الأقل، أو بوجوبٍ نفسيٍ ضمني على تقدير أن يكون الواجب المعلوم بالإجمال هو الأكثر، ولا مشكلة في أن تكون الأجزاء متصفة بالوجوب النفسي الضمني؛ لأننا قلنا أنّ الوجوب الذي يتعلّق بالمركب هو في الحقيقة ينبسط على أجزائه، فيكون كل جزءٍ من أجزاء المركب واجباً بوجوبٍ نفسي ضمني في ضمن هذا المركب، هذا أيضاً يكون واجباً بالوجوب النفسي، فيقال أنّ العلم الإجمالي في محل الكلام ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إمّا بوجوب نفسي، أو بوجوب ضمني، يعني إمّا بوجوب نفسي استقلالي، وإمّا بوجوبٍ نفسي ضمني، فنتخلّص من مشكلة أنّ الأجزاء مقدّمات، أو ليست مقدّمات ؟ وأنّها تتصف بالوجوب الغيري، أو لا تتصف بالوجوب الغيري؛ إذ لا إشكال في أنّها تتصف بالوجوب النفسي الضمني؛ وحينئذٍ بناءً على هذا الرأي نستطيع أن نقول في تفسير كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سره) أنّه يدّعي انحلال العلم الإجمالي بهذا البيان، أنّ هناك علماً تفصيلياً بوجوب الأقل على كل حال إمّا بوجوب نفسي استقلالي، أو بوجوب ضمني. هذا هو الجواب الأوّل عن دعوى انحلال العلم الإجمالي.