36/04/10
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
كان الكلام في ما إذا شُك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بناءً على أنّ الخروج عن محل الابتلاء يوجب سقوط التكليف، وبالتالي سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فما هو الحكم في المقام ؟
قلنا: قد يقال بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، وقد يقال بعدم السقوط. القول بعدم السقوط، وبقاء العلم الإجمالي على التنجيز ـــــــــــــ كما بيّنّا في الدرس السابق ـــــــــــ يُتمسّك لإثباته بإطلاق دليل التكليف، لإثبات فعلية التكليف في ذلك الطرف المشكوك يُتمسّك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته في الطرف المشكوك، هذا هو مدرك الالتزام بعدم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات الشكّ في محل الكلام، ومن هنا وقع الكلام في صحّة التمسّك بالإطلاق في محل الكلام، يعني صحّة التمسّك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته في الطرف المشكوك، هل يصح التمسّك بهذا الإطلاق، أو لا يصح ؟ الأقوال ثلاثة، القول بالصحّة مطلقاً، والقول بعدم الصحة مطلقاً، والقول بالتفصيل بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية، فيصح في الشبهة المفهومية دون الشبهة المصداقية. الظاهر أنّه من المناسب جدّاً أن نتكلّم في مقامين: المقام الأوّل نتكلّم فيه في الشبهة المفهومية، والمقام الثاني نتكلّم فيه في الشبهة المصداقية .
أمّا في الشبهة المفهومية، يعني الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء يكون بنحو الشبهة المفهومية، بمعنى أنّ الشكّ والشبهة تكون ناشئة من إجمال مفهوم الدخول في محل الابتلاء، فقد يُفترض الشكّ في مفهوم الدخول في محل الابتلاء ودورانه بين ما يكون وسيعاً شاملاً لهذا الفرد المشكوك وبين أن يكون له مفهوم ضيّق لا يشمل الفرد المشكوك فيه، فيُشك في دخول هذا الفرد في محل الابتلاء وعدم دخوله من جهة إجمال مفهوم الدخول في محل الابتلاء، بين ما يكون منطبقاً وشاملاً لهذا المشكوك وبين ما لا يكون شاملاً له. في الشبهة المفهومية هناك قولان:
القول الأوّل: عدم صحّة التمسك بالإطلاق لإثبات وجوب الاجتناب في هذا الفرد المشكوك، وهذا هو الذي اختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو يقول أيضاً بعدم صحّة التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية، وسيأتي الكلام عنها. هو في الشبهة المفهومية يختار عدم صحّة التمسك بالإطلاق فيها.
القول الثاني: صحّة التمسك بالإطلاق في الشبهة المفهومية في المقام، وهذا هو الذي اختاره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) والمحقق النائيني(قدّس سرّهما) وغيرهما أيضاً.
أمّا القول الأوّل: وهو عدم صحّة التمسك بالإطلاق. صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر مطلباً في الكفاية في مقام الاستدلال على عدم صحّة التمسك بالإطلاق في محل الكلام، والظاهر أنّ العبارة التي ذكرها غامضة يُمكن تفسيرها بتفسيرين، والعبارة التي ذكرها هي:(ولو شُكّ في ذلك كان المرجع البراءة لعدم القطع بالاشتغال لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبث به ـــــــــ يعني بإطلاق الخطب ــــــــــ إلاّ فيما إذا شُك في التقييد بشيءٍ بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه)[1] كأنّه يشترط في صحّة التمسك بالإطلاق عندما يُشك في صحّة الإطلاق، لابدّ من إحراز صحّة الإطلاق حتّى يصحّ التمسّك به.
فسّر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هذه العبارة بتفسير، وفسرّها المحقق العراقي(قدّس سرّه) بتفسيرٍ آخر.
التفسير الأوّل: هو التفسير المعروف، وهو أن يقال: أنّ التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات إنّما يصح إذا تمّ ثبوتاً صحّة الإطلاق، باعتبار أنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، فإذا كان الإطلاق ممكناً ثبوتاً، وشككنا في الإطلاق والتقييد أمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإثبات الإطلاق الثبوتي في الواقع وفي نفس الأمر. وأمّا مع الشكّ في أصل إمكان الإطلاق؛ حينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق إثباتاً لغرض إثبات الإطلاق ثبوتاً مع فرض الشكّ في أصل إمكان الإطلاق؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسك بالإطلاق، ويقول بأنّ المقام من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أننا نشك في خروج هذا الطرف عن محل الابتلاء وعدم خروجه، فعلى تقدير أن يكون خارجاً من محل الابتلاء؛ حينئذٍ يكون التكليف وشمول الحكم له مستحيلاً بحسب الفرض، إطلاق التكليف وشموله لهذا الفرد على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء مستحيل بحسب الفرض. نعم، على تقدير أن يكون داخلاً في محل الابتلاء، فشمول الحكم له وإطلاقه له كون ممكناً. إذن: بالنتيجة نحن نشكّ في إمكان إطلاق الحكم بنحوٍ يشمل المشكوك، وعدم إمكانه. هذا الحكم هل يمكن أن يكون مطلقاً ثبوتاً بنحوٍ يكون شاملاً لهذا الطرف، أو لا ؟ فإذا كان هذا الطرف خارجاً عن محل الابتلاء، فإطلاق التكليف على نحوٍ يشمل هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء محال. نعم إذا كان داخلاً في محل الابتلاء يمكن أن يكون الحكم شاملاً له بإطلاقه، إذن: نحن نشك في أصل إمكان الإطلاق في عالم الثبوت وعدم إمكانه، ومع الشك في أصل إمكان الإطلاق في عالم الثبوت وعدم إمكانه، لا يمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإثبات هذا الإطلاق الثبوتي وصحّة الإطلاق في عالم الثبوت، هذا أمر غير ممكن. [2]
وبعبارةٍ أخرى: أن التمسّك بالإطلاق في مقام الاثبات إنّما يصحّ بعد الفراغ في عن صحّة الإطلاق في عالم الثبوت، وإمكان تشريع الحكم على وجهٍ يشمل الفرد المشكوك، إذا احرزنا هذا الإمكان، فلا مانع أن يكون تشريع الحكم شاملاً للفرد المشكوك، إذا أحرزنا هذا الإمكان وشككنا في الشمول وعدمه في الإطلاق والتقييد، يمكن التمسّك بإطلاق الخطاب في مقام الإثبات لإثبات هذا الإمكان. وأمّا إذا فُرض أنّ الشك كان في أصل إمكان تشريع حكم بنحوٍ يشمل هذا الفرد؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق الإثباتي؛ لأنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، وبضميمة ما تقدّم من أنّ المقام من هذا القبيل؛ لأننا في المقام في الحقيقة نشكّ في أصل إمكان تشريع هذا الحكم على نحو ٍيشمل هذا الخمر الموجود في هذا الإناء المشكوك كونه داخلاً في محل الابتلاء أو خارجاً عن محل الابتلاء؛ لأنّه على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء تشريع الحكم بحرمة شرب الخمر على نحوٍ يشمل هذا الفرد الذي فرضنا خروجه عن محل الابتلاء محال. نعم لو كان داخلاً يكون تشريع هذا الحكم ممكناً، إذن شكّنا في أصل إمكان تشريع الحكم بشرب الخمر على نحو يشمل الفرد المشكوك وعدم إمكانه؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق لإثبات هذا الإمكان وصحّة هذا الإطلاق. هذا هو التفسير الأوّل لعبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
المحقق النائيني(قدّس سرّه) بعد أن ذكر هذا التفسير لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أجاب عنه:
أولاً: الجواب الحلّي ـــــــــ أن يُستفاد من عبارته ـــــــــ وحاصل ما ذكره هو: إنّ إطلاق الدليل الكاشف بنفسه هو يكشف عن الإطلاق الواقعي، والإطلاق النفس الأمري ـــــــــــ كما سمّاه ـــــــــــ هو بنفسه يكون كاشفاً عنه، إطلاق الدليل في مقام الإثبات هو بنفسه يكشف عن صحّة تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك.
ويمكن توضيحه بهذا الشكل: أنّ الدليل الدال على ثبوت الحكم هو بنفسه يكون دليلاً على إمكان الحكم في نفس الأمر والواقع. أو قل بعبارةٍ أخرى: إنّ الإطلاق الإثباتي هو بنفسه يكون دليلاً على صحّة الإطلاق في مقام الثبوت وإمكان الثبوت في مقام الثبوت، وإمكان تشريع الحكم كما عبّر على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك. هذا هو الدليل على ذاك، وذلك باعتبار الملازمة بين الوقوع والإمكان، وهذه الملازمة لا يمكن إنكارها، فهناك ملازمة بين وقوع الشيء وبين إمكانه، فالدليل الدال على هذا الحكم؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل في مرحلة الإثبات دال على الإطلاق، دال على ثبوت الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، معنى الإطلاق هو أنّ الدليل يدل على أنّ الحكم شامل لهذا الفرد المشكوك بالإطلاق. هذا الدليل الدال على ثبوت الإطلاق وثبوت تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك هو بنفسه يكون دليلاً على إمكان تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك؛ للملازمة بين الثبوت وبين الإمكان، فنفس الدليل الدال على الثبوت والوقوع بالمطابقة يكون دليلاً على ثبوت الإمكان بالالتزام، فيكون الإمكان مدلولاً التزامياً للدليل الدال على الإطلاق في مقام الإثبات وعلى تشريع الحكم بنحوٍ يشمل الفرد المشكوك؛ لأنّه مدلول التزامي له، فيثبت الإمكان ونستكشف صحّة الإطلاق الثبوتي من الإطلاق الإثباتي. غاية الأمر أنّ هذا الإمكان الذي يثبت لا يثبت وجداناً، وإنّما يثبت تعبّداً باعتبار التمسّك بالإطلاق الإثباتي، فيثبت تعبّداً، فنفس الدليل الدال على الإطلاق في مقام الإثبات، أو بعبارة أخرى: على التشريع، يعني على الوقوع والثبوت؛ لأنّ الدليل بمقتضى إطلاقه يدل على أنّ هذا الدليل ثبت تشريعه على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك بمقتضى إطلاقه. نفس هذا الدليل يدلّ على إمكان ذلك في عالم الثبوت وصحّة الإطلاق الثبوتي، باعتباره مدلولاً التزامياً له، فيدلّ عليه ويكون حجّة فيه. غاية الأمر أنّ الإمكان لا يكون ثابتاً بالوجدان، وإنّما يكون ثابتاً باعتبار قيام الحجّة على الإمكان، فنلتزم بالإمكان. ويقول بأنّ هذا الجواب الحلّي الذي ذكره هو الجواب المتعيّن في محل الكلام ولا مجال للتوقّف في صحّة التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لغرض إثبات الإمكان، وصحّة الإطلاق في عالم الثبوت، وديدن العلماء على التمسّك بالإطلاق حتّى مع الشكّ في إمكانه وثبوته واقعاً.
ثانياً: الجواب النقضي، ومن هنا أجاب عن التفسير الأوّل لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) بجوابٍ نقضي. وقال لأنّه لولا ما ذكرناه لما صحّ التمسّك بالمطلقات في شيء من موارد الشك في التقييد. يقول: بناءً على التفسير الأوّل لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، يعني إذا آمنا بما هو ظاهر هذا التفسير من أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات يكون مشروطاً بإحراز إمكان الإطلاق ثبوتاً، فعند الشكّ في إمكان الإطلاق ثبوتاً لا يجوز التمسّك بالإطلاق الإثباتي. يقول: لو قلنا بأنّ صحّة التمسّك بالإطلاق إثباتاً مشروطة بإحراز إمكان الإطلاق ثبوتاً لأنسدّ باب التمسّك بالمطلقات في جميع موارد الشكّ في التقييد، باعتبار أنّ الشكّ في التقييد يُلازم الشكّ في ثبوت الملاك للحكم المطلق في الفرد المشكوك، عندما نشكّ في التقييد يعني نشكّ في أنّ ملاك الحكم المطلق هل هو ثابت في الفرد المشكوك، أو ليس ثابتاً في الفرد المشكوك؛ لأنّه إن كان هناك تقييد وكان الفرد المشكوك خارجاً، فملاك الحكم ليس ثابتاً فيه. نعم، على تقدير الإطلاق وعدم تقييد الحكم؛ فحينئذٍ يكون ملاك هذا الحكم ثابتاً في الفرد المشكوك.
إذن: دائماً الشكّ في التقييد يرجع إلى الشكّ في ثبوت ملاك الحكم المطلق في الفرد المشكوك، هل يثبت فيه ملاك الحكم المطلق، أو لا ؟ إذا كان هناك تقييد وكان الفرد المشكوك خارجاً؛ حينئذٍ لا يثبت فيه ملاك الحكم المشكوك، وإن كان داخلاً وليس هناك تقييد، فيثبت فيه ملاك الحكم المطلق. إذا ضممنا إلى هذا ما نعلمه من استحالة ثبوت الحكم بدون ملاكٍ، أنّ الحكم يستحيل أن يثبت في موردٍ من دون ملاكٍ؛ حينئذٍ يكون الشكّ في ثبوت الملاك وعدم ثبوته في الفرد المشكوك يعني الشكّ في إمكان أن يكون هذا الحكم شاملاً بإطلاقه للفرد المشكوك، أو استحالة ذلك؛ لأنّه على تقدير أن يكون هذا الفرد المشكوك لا يوجد فيه ملاك، أي على تقدير التقييد، فيستحيل أن يكون الحكم ثابتاً بنحوٍ يكون شاملاً للفرد المشكوك؛ لأنّ هذا يعني ثبوت الحكم من دون ملاكٍ، وهو محال، فيستحيل ثبوت الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك. هذا على تقدير أن يكون خارجاً، على تقدير التقييد؛ لأنّه ليس فيه ملاك، فثبوت الحكم له وشموله له من دون ملاكٍ محال. نعم، على تقدير الإطلاق وعدم التقييد؛ حينئذٍ يمكن أن يكون الحكم ثابتاً على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك ؛ إذن بالنتيجة الشكّ في التقييد رجع إلى الشكّ في إمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، أو لا ؟ في أيّ موردٍ من موارد الشكّ في التقييد، الشكّ في التقييد دائماً يرجع إلى الشكّ في إمكان أن يكون الحكم شاملاً لهذا الفرد، أو عدم إمكان ذلك؛ لأنّه على تقدير التقييد، فالحكم لا يشمله ويكون ثبوته له محالاً؛ لأنّه من باب ثبوت الحكم من دون ملاكٍ، وعلى التقدير الآخر يكون شاملاً له. إذن: نحن نشكّ في أصل إمكان الإطلاق الثبوتي لهذا الحكم وصحّته، يعني نشكّ في أصل إمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك الذي نشكّ في أنّه يدخل في الحكم، أو خارج عن الحكم بالتقييد، فلو صحّت هذه الفكرة، وهي أنّ التمسّك بالإطلاق الإثباتي يتوقّف على إحراز إمكان إطلاق الحكم في عالم الثبوت، فهذا يؤدّي إلى أن نتوقّف، وأن لا يصح لنا أن نتمسّك بأيّ إطلاق من الإطلاقات في موارد الشكّ في التقييد.
إذن: أصل الفكرة لا يمكن الالتزام بها وهي أنّ يقال أنّ التمسّك بالإطلاق الإثباتي موقوف على إحراز إمكان الإطلاق في مقام الثبوت؛ بل لابدّ أن نلتزم بعكس هذه الفكرة بأن نقول يصح التمسّك بالإطلاق الإثباتي حتّى مع الشكّ في إمكان أن يكون الحكم مشرعاً على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، ويثبت هذا الإمكان بالرغم من الشكّ فيه عن طريق التمسّك بالإطلاق الإثباتي؛ لما قلناه من أنّ المفاد المطابقي للإطلاق الإثباتي هو ثبوت هذا الحكم بنحوٍ مطلق، وبالالتزام يدلّ على إمكانه وصحّة هذا الإطلاق وإمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، غاية الأمر أنّ هذا لا يثبت بالوجدان، وإنّما يثبت بالتعبّد؛ ولذلك اعتبر هذا الجواب جواباً واضحاً على التفسير الأوّل لعبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ ولذا استغرب المحقق النائيني(قدّس سرّه) من قول صاحب الكفاية(قدّس سرّه) هذا الكلام؛ لأنّ من الأمور الواضحة أنّ العلماء لا يتوقفون عن التمسّك بإطلاق دليلٍ لمجرّد احتمال الاستحالة في الواقع، ما دام الدليل حجّة يصح التمسّك به، ويؤخذ بظاهره، ويكون ظهوره حجّة إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، سواء كانت القرينة عقلية، أو لفظية، هذا لا يهم، المهم أن تقوم قرينة على خلاف، فنرفع اليد حينئذٍ عن هذا الظهور الحجّة باعتبار قيام القرينة على خلافه، ما لم تقم قرينة، لا عقلية ولا نقلية على خلاف الظهور يتعيّن العمل بهذا الظهور، واحتمال الاستحالة وعدم الإمكان في الواقع ليس من القرائن التي تمنع من الأخذ بالظهور؛ بل يؤخذ بالظهور، وديدن العلماء جرى على ذلك بالرغم من احتمال الاستحالة واحتمال عدم الإمكان، ومثلّوا لذلك بأنّه دلّت الأدلّة على حجية خبر الثقة، وأنّه حجّة ويجب العمل به وترتيب الأثر عليه، وهذا الأخذ بالظهور هو الذي يثبت الإمكان ويرفع الاستحالة ويزيل حالة الشكّ. نعم، لا يزيلها وجداناً، لكن يزيلها تعبّداً.
يظهر من المحقق العراقي(قدّس سرّه) في (نهاية الأفكار)[3] أنّه يوافق المحقق النائيني(قدّس سرّه) في هذين الجوابين الحلّي والنقضي، لكن على تقدير تفسير عبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بالتفسير الأوّل الذي هو أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يستشكل في إثبات الإطلاق في عالم الثبوت استناداً إلى التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات. أو بعبارة أخرى: أنّ التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات مشروط بإحراز إمكان الإطلاق الثبوتي، إذا فسّرنا الكلام بهذا التفسير؛ فحينئذٍ يكون جواب المحقق النائيني(قدّس سرّه) تامّاً، لكن هو يقول هذا اشتباه، وأنّ مراد استاذه صاحب الكفاية(قدّس سرّه) هو شيء آخر لا يرد عليه هذان الإشكالان الحلّي، والنقضي، وإنّما هو يريد شيء آخر بكلامه.
كان الكلام في ما إذا شُك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بناءً على أنّ الخروج عن محل الابتلاء يوجب سقوط التكليف، وبالتالي سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فما هو الحكم في المقام ؟
قلنا: قد يقال بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، وقد يقال بعدم السقوط. القول بعدم السقوط، وبقاء العلم الإجمالي على التنجيز ـــــــــــــ كما بيّنّا في الدرس السابق ـــــــــــ يُتمسّك لإثباته بإطلاق دليل التكليف، لإثبات فعلية التكليف في ذلك الطرف المشكوك يُتمسّك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته في الطرف المشكوك، هذا هو مدرك الالتزام بعدم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات الشكّ في محل الكلام، ومن هنا وقع الكلام في صحّة التمسّك بالإطلاق في محل الكلام، يعني صحّة التمسّك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته في الطرف المشكوك، هل يصح التمسّك بهذا الإطلاق، أو لا يصح ؟ الأقوال ثلاثة، القول بالصحّة مطلقاً، والقول بعدم الصحة مطلقاً، والقول بالتفصيل بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية، فيصح في الشبهة المفهومية دون الشبهة المصداقية. الظاهر أنّه من المناسب جدّاً أن نتكلّم في مقامين: المقام الأوّل نتكلّم فيه في الشبهة المفهومية، والمقام الثاني نتكلّم فيه في الشبهة المصداقية .
أمّا في الشبهة المفهومية، يعني الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء يكون بنحو الشبهة المفهومية، بمعنى أنّ الشكّ والشبهة تكون ناشئة من إجمال مفهوم الدخول في محل الابتلاء، فقد يُفترض الشكّ في مفهوم الدخول في محل الابتلاء ودورانه بين ما يكون وسيعاً شاملاً لهذا الفرد المشكوك وبين أن يكون له مفهوم ضيّق لا يشمل الفرد المشكوك فيه، فيُشك في دخول هذا الفرد في محل الابتلاء وعدم دخوله من جهة إجمال مفهوم الدخول في محل الابتلاء، بين ما يكون منطبقاً وشاملاً لهذا المشكوك وبين ما لا يكون شاملاً له. في الشبهة المفهومية هناك قولان:
القول الأوّل: عدم صحّة التمسك بالإطلاق لإثبات وجوب الاجتناب في هذا الفرد المشكوك، وهذا هو الذي اختاره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو يقول أيضاً بعدم صحّة التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية، وسيأتي الكلام عنها. هو في الشبهة المفهومية يختار عدم صحّة التمسك بالإطلاق فيها.
القول الثاني: صحّة التمسك بالإطلاق في الشبهة المفهومية في المقام، وهذا هو الذي اختاره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) والمحقق النائيني(قدّس سرّهما) وغيرهما أيضاً.
أمّا القول الأوّل: وهو عدم صحّة التمسك بالإطلاق. صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر مطلباً في الكفاية في مقام الاستدلال على عدم صحّة التمسك بالإطلاق في محل الكلام، والظاهر أنّ العبارة التي ذكرها غامضة يُمكن تفسيرها بتفسيرين، والعبارة التي ذكرها هي:(ولو شُكّ في ذلك كان المرجع البراءة لعدم القطع بالاشتغال لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبث به ـــــــــ يعني بإطلاق الخطب ــــــــــ إلاّ فيما إذا شُك في التقييد بشيءٍ بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه)[1] كأنّه يشترط في صحّة التمسك بالإطلاق عندما يُشك في صحّة الإطلاق، لابدّ من إحراز صحّة الإطلاق حتّى يصحّ التمسّك به.
فسّر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هذه العبارة بتفسير، وفسرّها المحقق العراقي(قدّس سرّه) بتفسيرٍ آخر.
التفسير الأوّل: هو التفسير المعروف، وهو أن يقال: أنّ التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات إنّما يصح إذا تمّ ثبوتاً صحّة الإطلاق، باعتبار أنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، فإذا كان الإطلاق ممكناً ثبوتاً، وشككنا في الإطلاق والتقييد أمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإثبات الإطلاق الثبوتي في الواقع وفي نفس الأمر. وأمّا مع الشكّ في أصل إمكان الإطلاق؛ حينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق إثباتاً لغرض إثبات الإطلاق ثبوتاً مع فرض الشكّ في أصل إمكان الإطلاق؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسك بالإطلاق، ويقول بأنّ المقام من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أننا نشك في خروج هذا الطرف عن محل الابتلاء وعدم خروجه، فعلى تقدير أن يكون خارجاً من محل الابتلاء؛ حينئذٍ يكون التكليف وشمول الحكم له مستحيلاً بحسب الفرض، إطلاق التكليف وشموله لهذا الفرد على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء مستحيل بحسب الفرض. نعم، على تقدير أن يكون داخلاً في محل الابتلاء، فشمول الحكم له وإطلاقه له كون ممكناً. إذن: بالنتيجة نحن نشكّ في إمكان إطلاق الحكم بنحوٍ يشمل المشكوك، وعدم إمكانه. هذا الحكم هل يمكن أن يكون مطلقاً ثبوتاً بنحوٍ يكون شاملاً لهذا الطرف، أو لا ؟ فإذا كان هذا الطرف خارجاً عن محل الابتلاء، فإطلاق التكليف على نحوٍ يشمل هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء محال. نعم إذا كان داخلاً في محل الابتلاء يمكن أن يكون الحكم شاملاً له بإطلاقه، إذن: نحن نشك في أصل إمكان الإطلاق في عالم الثبوت وعدم إمكانه، ومع الشك في أصل إمكان الإطلاق في عالم الثبوت وعدم إمكانه، لا يمكن التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإثبات هذا الإطلاق الثبوتي وصحّة الإطلاق في عالم الثبوت، هذا أمر غير ممكن. [2]
وبعبارةٍ أخرى: أن التمسّك بالإطلاق في مقام الاثبات إنّما يصحّ بعد الفراغ في عن صحّة الإطلاق في عالم الثبوت، وإمكان تشريع الحكم على وجهٍ يشمل الفرد المشكوك، إذا احرزنا هذا الإمكان، فلا مانع أن يكون تشريع الحكم شاملاً للفرد المشكوك، إذا أحرزنا هذا الإمكان وشككنا في الشمول وعدمه في الإطلاق والتقييد، يمكن التمسّك بإطلاق الخطاب في مقام الإثبات لإثبات هذا الإمكان. وأمّا إذا فُرض أنّ الشك كان في أصل إمكان تشريع حكم بنحوٍ يشمل هذا الفرد؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق الإثباتي؛ لأنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، وبضميمة ما تقدّم من أنّ المقام من هذا القبيل؛ لأننا في المقام في الحقيقة نشكّ في أصل إمكان تشريع هذا الحكم على نحو ٍيشمل هذا الخمر الموجود في هذا الإناء المشكوك كونه داخلاً في محل الابتلاء أو خارجاً عن محل الابتلاء؛ لأنّه على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء تشريع الحكم بحرمة شرب الخمر على نحوٍ يشمل هذا الفرد الذي فرضنا خروجه عن محل الابتلاء محال. نعم لو كان داخلاً يكون تشريع هذا الحكم ممكناً، إذن شكّنا في أصل إمكان تشريع الحكم بشرب الخمر على نحو يشمل الفرد المشكوك وعدم إمكانه؛ فحينئذٍ لا مجال للتمسّك بالإطلاق لإثبات هذا الإمكان وصحّة هذا الإطلاق. هذا هو التفسير الأوّل لعبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
المحقق النائيني(قدّس سرّه) بعد أن ذكر هذا التفسير لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أجاب عنه:
أولاً: الجواب الحلّي ـــــــــ أن يُستفاد من عبارته ـــــــــ وحاصل ما ذكره هو: إنّ إطلاق الدليل الكاشف بنفسه هو يكشف عن الإطلاق الواقعي، والإطلاق النفس الأمري ـــــــــــ كما سمّاه ـــــــــــ هو بنفسه يكون كاشفاً عنه، إطلاق الدليل في مقام الإثبات هو بنفسه يكشف عن صحّة تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك.
ويمكن توضيحه بهذا الشكل: أنّ الدليل الدال على ثبوت الحكم هو بنفسه يكون دليلاً على إمكان الحكم في نفس الأمر والواقع. أو قل بعبارةٍ أخرى: إنّ الإطلاق الإثباتي هو بنفسه يكون دليلاً على صحّة الإطلاق في مقام الثبوت وإمكان الثبوت في مقام الثبوت، وإمكان تشريع الحكم كما عبّر على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك. هذا هو الدليل على ذاك، وذلك باعتبار الملازمة بين الوقوع والإمكان، وهذه الملازمة لا يمكن إنكارها، فهناك ملازمة بين وقوع الشيء وبين إمكانه، فالدليل الدال على هذا الحكم؛ لأنّ المفروض أنّ الدليل في مرحلة الإثبات دال على الإطلاق، دال على ثبوت الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، معنى الإطلاق هو أنّ الدليل يدل على أنّ الحكم شامل لهذا الفرد المشكوك بالإطلاق. هذا الدليل الدال على ثبوت الإطلاق وثبوت تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك هو بنفسه يكون دليلاً على إمكان تشريع الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك؛ للملازمة بين الثبوت وبين الإمكان، فنفس الدليل الدال على الثبوت والوقوع بالمطابقة يكون دليلاً على ثبوت الإمكان بالالتزام، فيكون الإمكان مدلولاً التزامياً للدليل الدال على الإطلاق في مقام الإثبات وعلى تشريع الحكم بنحوٍ يشمل الفرد المشكوك؛ لأنّه مدلول التزامي له، فيثبت الإمكان ونستكشف صحّة الإطلاق الثبوتي من الإطلاق الإثباتي. غاية الأمر أنّ هذا الإمكان الذي يثبت لا يثبت وجداناً، وإنّما يثبت تعبّداً باعتبار التمسّك بالإطلاق الإثباتي، فيثبت تعبّداً، فنفس الدليل الدال على الإطلاق في مقام الإثبات، أو بعبارة أخرى: على التشريع، يعني على الوقوع والثبوت؛ لأنّ الدليل بمقتضى إطلاقه يدل على أنّ هذا الدليل ثبت تشريعه على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك بمقتضى إطلاقه. نفس هذا الدليل يدلّ على إمكان ذلك في عالم الثبوت وصحّة الإطلاق الثبوتي، باعتباره مدلولاً التزامياً له، فيدلّ عليه ويكون حجّة فيه. غاية الأمر أنّ الإمكان لا يكون ثابتاً بالوجدان، وإنّما يكون ثابتاً باعتبار قيام الحجّة على الإمكان، فنلتزم بالإمكان. ويقول بأنّ هذا الجواب الحلّي الذي ذكره هو الجواب المتعيّن في محل الكلام ولا مجال للتوقّف في صحّة التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لغرض إثبات الإمكان، وصحّة الإطلاق في عالم الثبوت، وديدن العلماء على التمسّك بالإطلاق حتّى مع الشكّ في إمكانه وثبوته واقعاً.
ثانياً: الجواب النقضي، ومن هنا أجاب عن التفسير الأوّل لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) بجوابٍ نقضي. وقال لأنّه لولا ما ذكرناه لما صحّ التمسّك بالمطلقات في شيء من موارد الشك في التقييد. يقول: بناءً على التفسير الأوّل لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، يعني إذا آمنا بما هو ظاهر هذا التفسير من أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات يكون مشروطاً بإحراز إمكان الإطلاق ثبوتاً، فعند الشكّ في إمكان الإطلاق ثبوتاً لا يجوز التمسّك بالإطلاق الإثباتي. يقول: لو قلنا بأنّ صحّة التمسّك بالإطلاق إثباتاً مشروطة بإحراز إمكان الإطلاق ثبوتاً لأنسدّ باب التمسّك بالمطلقات في جميع موارد الشكّ في التقييد، باعتبار أنّ الشكّ في التقييد يُلازم الشكّ في ثبوت الملاك للحكم المطلق في الفرد المشكوك، عندما نشكّ في التقييد يعني نشكّ في أنّ ملاك الحكم المطلق هل هو ثابت في الفرد المشكوك، أو ليس ثابتاً في الفرد المشكوك؛ لأنّه إن كان هناك تقييد وكان الفرد المشكوك خارجاً، فملاك الحكم ليس ثابتاً فيه. نعم، على تقدير الإطلاق وعدم تقييد الحكم؛ فحينئذٍ يكون ملاك هذا الحكم ثابتاً في الفرد المشكوك.
إذن: دائماً الشكّ في التقييد يرجع إلى الشكّ في ثبوت ملاك الحكم المطلق في الفرد المشكوك، هل يثبت فيه ملاك الحكم المطلق، أو لا ؟ إذا كان هناك تقييد وكان الفرد المشكوك خارجاً؛ حينئذٍ لا يثبت فيه ملاك الحكم المشكوك، وإن كان داخلاً وليس هناك تقييد، فيثبت فيه ملاك الحكم المطلق. إذا ضممنا إلى هذا ما نعلمه من استحالة ثبوت الحكم بدون ملاكٍ، أنّ الحكم يستحيل أن يثبت في موردٍ من دون ملاكٍ؛ حينئذٍ يكون الشكّ في ثبوت الملاك وعدم ثبوته في الفرد المشكوك يعني الشكّ في إمكان أن يكون هذا الحكم شاملاً بإطلاقه للفرد المشكوك، أو استحالة ذلك؛ لأنّه على تقدير أن يكون هذا الفرد المشكوك لا يوجد فيه ملاك، أي على تقدير التقييد، فيستحيل أن يكون الحكم ثابتاً بنحوٍ يكون شاملاً للفرد المشكوك؛ لأنّ هذا يعني ثبوت الحكم من دون ملاكٍ، وهو محال، فيستحيل ثبوت الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك. هذا على تقدير أن يكون خارجاً، على تقدير التقييد؛ لأنّه ليس فيه ملاك، فثبوت الحكم له وشموله له من دون ملاكٍ محال. نعم، على تقدير الإطلاق وعدم التقييد؛ حينئذٍ يمكن أن يكون الحكم ثابتاً على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك ؛ إذن بالنتيجة الشكّ في التقييد رجع إلى الشكّ في إمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، أو لا ؟ في أيّ موردٍ من موارد الشكّ في التقييد، الشكّ في التقييد دائماً يرجع إلى الشكّ في إمكان أن يكون الحكم شاملاً لهذا الفرد، أو عدم إمكان ذلك؛ لأنّه على تقدير التقييد، فالحكم لا يشمله ويكون ثبوته له محالاً؛ لأنّه من باب ثبوت الحكم من دون ملاكٍ، وعلى التقدير الآخر يكون شاملاً له. إذن: نحن نشكّ في أصل إمكان الإطلاق الثبوتي لهذا الحكم وصحّته، يعني نشكّ في أصل إمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك الذي نشكّ في أنّه يدخل في الحكم، أو خارج عن الحكم بالتقييد، فلو صحّت هذه الفكرة، وهي أنّ التمسّك بالإطلاق الإثباتي يتوقّف على إحراز إمكان إطلاق الحكم في عالم الثبوت، فهذا يؤدّي إلى أن نتوقّف، وأن لا يصح لنا أن نتمسّك بأيّ إطلاق من الإطلاقات في موارد الشكّ في التقييد.
إذن: أصل الفكرة لا يمكن الالتزام بها وهي أنّ يقال أنّ التمسّك بالإطلاق الإثباتي موقوف على إحراز إمكان الإطلاق في مقام الثبوت؛ بل لابدّ أن نلتزم بعكس هذه الفكرة بأن نقول يصح التمسّك بالإطلاق الإثباتي حتّى مع الشكّ في إمكان أن يكون الحكم مشرعاً على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، ويثبت هذا الإمكان بالرغم من الشكّ فيه عن طريق التمسّك بالإطلاق الإثباتي؛ لما قلناه من أنّ المفاد المطابقي للإطلاق الإثباتي هو ثبوت هذا الحكم بنحوٍ مطلق، وبالالتزام يدلّ على إمكانه وصحّة هذا الإطلاق وإمكان تشريع هذا الحكم على نحوٍ يشمل الفرد المشكوك، غاية الأمر أنّ هذا لا يثبت بالوجدان، وإنّما يثبت بالتعبّد؛ ولذلك اعتبر هذا الجواب جواباً واضحاً على التفسير الأوّل لعبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ ولذا استغرب المحقق النائيني(قدّس سرّه) من قول صاحب الكفاية(قدّس سرّه) هذا الكلام؛ لأنّ من الأمور الواضحة أنّ العلماء لا يتوقفون عن التمسّك بإطلاق دليلٍ لمجرّد احتمال الاستحالة في الواقع، ما دام الدليل حجّة يصح التمسّك به، ويؤخذ بظاهره، ويكون ظهوره حجّة إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، سواء كانت القرينة عقلية، أو لفظية، هذا لا يهم، المهم أن تقوم قرينة على خلاف، فنرفع اليد حينئذٍ عن هذا الظهور الحجّة باعتبار قيام القرينة على خلافه، ما لم تقم قرينة، لا عقلية ولا نقلية على خلاف الظهور يتعيّن العمل بهذا الظهور، واحتمال الاستحالة وعدم الإمكان في الواقع ليس من القرائن التي تمنع من الأخذ بالظهور؛ بل يؤخذ بالظهور، وديدن العلماء جرى على ذلك بالرغم من احتمال الاستحالة واحتمال عدم الإمكان، ومثلّوا لذلك بأنّه دلّت الأدلّة على حجية خبر الثقة، وأنّه حجّة ويجب العمل به وترتيب الأثر عليه، وهذا الأخذ بالظهور هو الذي يثبت الإمكان ويرفع الاستحالة ويزيل حالة الشكّ. نعم، لا يزيلها وجداناً، لكن يزيلها تعبّداً.
يظهر من المحقق العراقي(قدّس سرّه) في (نهاية الأفكار)[3] أنّه يوافق المحقق النائيني(قدّس سرّه) في هذين الجوابين الحلّي والنقضي، لكن على تقدير تفسير عبارة صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بالتفسير الأوّل الذي هو أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يستشكل في إثبات الإطلاق في عالم الثبوت استناداً إلى التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات. أو بعبارة أخرى: أنّ التمسّك بالإطلاق في عالم الإثبات مشروط بإحراز إمكان الإطلاق الثبوتي، إذا فسّرنا الكلام بهذا التفسير؛ فحينئذٍ يكون جواب المحقق النائيني(قدّس سرّه) تامّاً، لكن هو يقول هذا اشتباه، وأنّ مراد استاذه صاحب الكفاية(قدّس سرّه) هو شيء آخر لا يرد عليه هذان الإشكالان الحلّي، والنقضي، وإنّما هو يريد شيء آخر بكلامه.