36/04/03
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
كان الكلام في ما استُدل به على اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء، بمعنى أنّه عندما يكون الشيء خارجاً عن محل الابتلاء، فلا يتعلّق به التكليف؛ بل التكليف كما هو مشروط بالقدرة العقلية كذلك مشروط بالدخول في محل الابتلاء. تقدّم الكلام عن الدليل الأوّل الذي هو عبارة عن دعوى اللّغوية، أنّ التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء يعتبر لغواً وبلا فائدة، فيكون مستحيلاً صدوره من الحكيم؛ لأنّ الحكيم لا يصدر منه اللّغو. ذكرنا المناقشة الأولى في هذا الدليل وقد تقدّمت .
المناقشة الثانية: أنّ هذا إنّما يتمّ في الخطابات الشخصية التي يختص بها النهي بحالة الخروج عن محل الابتلاء؛ عندئذٍ يقال بأنّ هذا الخطاب لغو وبلا فائدة، أيّ خطابٍ تأتي فيه هذه الشبهة هو الخطاب الشخصي، أي الخطاب الذي يختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، وأمّا إذا كان الخطاب وكان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من خطابٍ عامٍ يشمل بإطلاقه حالة الخروج عن محل الابتلاء، في هذه الحالة الظاهر أنّه لا يرد إشكال اللّغوية، وذلك لأنّ إطلاق الكلام ليس فيه مؤنة زائدة بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد؛ ولذا لا يكون فيه مؤنة زائدة وفعل زائد صادر من المولى المشّرع حتّى يقال أنّ فعله هذا لغو وبلا فائدة، هذا إنّما يُتصوّر عندما يكون الإطلاق فيه مؤنة زائدة وفعل زائد؛ عندئذٍ يقال أنّ هذا الأمر الزائد بلا فائدة ولغو، فيستحيل صدوره من الحكيم، أمّا حيث لا يكون في الإطلاق مؤنة زائدة، الإطلاق هو عبارة عن لحاظ الطبيعة عند تعلّق الحكم بها، الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد، فلا يكون في الإطلاق مؤنة زائدة وتصرّف زائد وفعل زائد من المشرّع حتّى يقال أنّ هذا الفعل يلزم منه اللّغو، وأنّه جاء به بلا فائدة وبلا ثمرةٍ، فيكون لغواً. اللّغوية تلزم عندما يفترض اختصاص الخطاب بحالة الخروج عن محل الابتلاء، لكن عندما يكون الخطاب عامّاً لا يختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، يعني يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء ويشمل حالة الدخول في محل الابتلاء، يشمل المكلّف الذي يُبتلى بهذا الشيء، والمكلّف الذي لا يُبتلى به، يكون الخطاب عاماً ومجعولاً على نهج القضية الحقيقية، مثل(يحرم شرب الخمر) على نهج القضية الحقيقية، إذا كان الشيء خمراً يحرم شربه، هذا عام يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء وحالة الدخول في محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب لماذا يكون لغواً ؟! إطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء، قلنا هذا الإطلاق ليس فيه مؤنة زائدة وليس تصرّفاً زائداً من المشرّع حتّى يقال أنّ هذا التصرّف زائد بلا فائدة وبلا حاصل، الإطلاق هو عبارة عن عدم لحاظ القيد وليس فيه مؤنة زائدة، فلا مجال لدعوى اللّغوية عندما يكون الخطاب عامّاً، ويُستفاد شمول التكليف لحالة الخروج عن محل الابتلاء من الإطلاق، ومثل هذا لا تتمّ فيه دعوى اللّغوية، لو تمّت أساساً. هذه هي المناقشة الثانية لهذا الدليل.
الدليل الثاني: دعوى الاستهجان العرفي الذي يرجع إلى دعوى القبح العقلائي، وهذا كأنّه يراد أن يقال أنّ هذا في قبال اللّغوية المحذور الأوّل، اللّغوية ترجع إلى محذور عقلي في الخطاب باعتبار لغوية مضمونه ولغوية مدلوله، بينما هنا يُراد أن يُدّعى الاستهجان العرفي والقبح العقلائي لخطابٍ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب مع فرض تعلّقه بما هو خارج عن محل الابتلاء هو ممّا يستهجنه العرف، العرف يراه مستهجناً، فالدليل هو الاستهجان العرفي، الاستهجان العقلائي للخطاب الذي يتعلّق بما هو خارج عن محل الابتلاء. هذا هو الدليل الثاني.
هذا الدليل، وهذا الاستهجان هل يرجع إلى اللّغوية، أو لا ؟ الاستهجان هل هو محذور مستقلّ في قبال المحذور السابق ؟ أو هو في واقعه يرجع إلى المحذور السابق؟ بتقريب: أنّ المحذور هو فقط اللّغوية المتقدّم سابقاً، وهو محذور عقلي على ما قلنا، هذا هو المحذور، لكن حيث أنّ هذا المحذور بالغ من الوضوح إلى درجةٍ بحيث يكون أمراً واضحاً عند كل الناس وعند العقلاء، فالعقلاء يستهجنون الخطاب بما يكون خارجاً عن محل الابتلاء، فتكون اللّغوية هي الأساس في استهجان العرف، بمعنى أنّ العرف لماذا يستهجن الخطاب بما هو خارج عن محل الابتلاء؟ لأنّه يراه لغواً، وبلا فائدة؛ إذ لا تترتب فائدة عليه؛ ولذا هو يستهجن مثل هذا الخطاب لكونه لغواً، فالاستهجان العرفي كأنّه راجع إلى وضوح اللّغوية عند العقلاء وعند العرف، اللّغوية ليست أمراً دقيّاً غير واضح؛ بل هي أمر يعلمه الجميع؛ ولذا فالعرف يستهجن مثل هذا الخطاب، وهذا الخطاب إذا كان مستهجناً عرفاً وعقلائياً؛ فحينئذٍ لا يكون صادراً من الحكيم باعتبار كونه مستهجناً. محاولة إرجاع الاستهجان العرفي إلى محذور اللّغوية، وأنّ الاستهجان ليس هو محذور اضافي غير ما تقدّم، وإنّما هو نفس المحذور السابق، لكن مع افتراض أنّ هذا المحذور يكون واضحاً عند العرف العام وعند العقلاء؛ فلذا يستهجنون الخطاب في هذا المقام، هذه المحاولة ليست محاولة بعيدة وليست مستبعدة باعتبار أنّ الاستهجان العرفي لابدّ أن ينشأ من شيءٍ من هذا القبيل، لماذا العرف يستهجن الخطاب بما لا يكون داخلاً في محل الابتلاء ؟ لماذا يُرى استهجان أن يخاطب المكلّف بحرمة شرب الماء الذي لا يبتلي به عادة ؟ يُرى أنّ هذا الخطاب مستهجن على تقدير تسليم الاستهجان. الظاهر أنّ منشأ الاستهجان لابدّ أن يكون شيئاً من هذا القبيل، لابدّ أنّ العرف يرى أنّ هذا بلا فائدة، خطاب مثل هذا الشخص وتوجيه النهي إليه ومنعه من شرب ذاك الإناء الذي لا يبتلي به عادةً هذا لغو وبلا فائدة؛ ولذا العرف يستهجن مثل هذا الخطاب، يعني المقصود هو أنّه لابدّ من إرجاع الاستهجان إلى محذور اللّغوية، أو إلى المحذور الآتي في الدليل الثالث، وهو مسألة تحصيل الحاصل، لابدّ أنّ العرف يدرك لغوية هذا الخطاب، أو كونه تحصيلاً للحاصل كما سيأتي؛ ولذا يستهجن مثل هذا الخطاب، وأمّا افتراض أنّ الاستهجان العرفي ثابت بقطع النظر عن اللّغوية وبقطع النظر عن مسألة تحصيل الحاصل، فهذا ليس مقبولاً؛ بل الظاهر أنّه يرجع إلى أحد الأمرين، أمّا من جهة اللّغوية، وإمّا من جهة تحصيل الحاصل، فيُدّعى أنّ العرف يدرك ذلك ويعرف لزوم اللّغوية، أو يعرف لزوم تحصيل الحاصل؛ ولذا يستهجن مثل هذا الخطاب، فهو ليس محذوراً في قبال المحاذير السابقة والآتية.
على كل حال، لو فرضنا أنّ هذا محذور في قبال محذور اللّغوية، وفي قبال المحذور الآتي؛ حينئذٍ يمكن أن ترِد عليه المناقشة الثانية المتقدّمة في الدليل الأوّل، وهي مسألة أنّ هذا الاستهجان إنّما نسلّمه لو سلّمناه، في الخطابات الشخصية التي يختص الخطاب فيها بحالة الخروج عن محل الابتلاء، فيّوجّه الخطاب لشخصٍ بتحريم أن يشرب الماء الموجود في أقصى بلاد الصين مثلاً، الذي لا يبتلي به عادةً، تخصيص هذا بالخطاب، مثل هذا الخطاب الشخصي يمكن أن نسلّم فيه مسألة الاستهجان العرفي، وأمّا إذا كان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من دليل عام، ويكون شاملاً بإطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء كما إذا كان الدليل مجعولاً على نهج القضية الحقيقية، والمخاطب به جميع الناس ولا يختص بشخصٍ دون شخصٍ آخر ولا بحالةٍ دون حالةٍ أخرى، العرف لا يرى استهجاناً في هذا الخطاب حتّى إذا كان بإطلاقه شاملاً لحالة الخروج عن محل الابتلاء، أيّ ضيرٍ في أن يقول أنّه يحرم شرب الماء النجس، ويحرم شرب الخمر؟! وهذا يشمل بإطلاقه الخمر الذي يدخل في محل الابتلاء والخمر الذي لا يدخل في محل الابتلاء، لا يُرى هذا الاستهجان بشكلٍ واضح كما يُدّعى.
نعم، في حالة الخطاب الشخصي قد يُدّعى هذا الاستهجان، لكن في حالة الخطاب العام الذي يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء بالإطلاق، فالظاهر أنّ هذا لا يجري فيه مسألة الاستهجان. هذه المناقشة الثانية المتقدّمة؛ بل المناقشة الأولى المتقدّمة أيضاً يمكن أن تجري في المقام، بمعنى أنّ العرف الذي ادُّعي أنّه يستهجن مثل هذا الخطاب، أنّ العرف إذا اطّلع على أنّ الشارع له غرض آخر من الخطاب، وهو الغرض الذي نقلناه عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وهو تمكين المكلّف من أن يجعل النهي داعياً له للتحرّك. أو بعبارة أكثر وضوحاً: تمكين المكلّف من قصد التقرّب بالنهي، فيترك الفعل امتثالاً إلى النهي، وبذلك يكون متقرباً إليه سبحانه وتعالى، إذا اطّلع العرف على وجود غرضٍ من هذا القبيل بالخطاب الشرعي لا يراه مستهجناً كما هو واضح؛ لماذا يكون مثل هذا الخطاب مستهجناً ؟ والحال أنّه يترتّب عليه غرض آخر غير مسألة حصول الفعل أو الترك خارجاً حتّى يقال بأنّ هذا الترك مضمون الحصول، فلا معنى لتعلّق النهي به، وإنّما هناك غرض آخر يترتب على الخطاب، إذا اطّلع العرف على وجود مثل هذا الغرض؛ حينئذٍ لا يقول أنّ هذا الخطاب يكون مستهجناً حتّى في الخطابات الشخصية، فضلاً عن الخطابات العامّة.
الدليل الثالث: مسألة لزوم تحصيل الحاصل من الخطاب والنهي الشرعي، هذا التحريك الشرعي نحو الفعل أو نحو الترك يلزم منه تحصيل الحاصل، فيكون محالاً؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال؛ ولذا لا يمكن التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّه يلزم من هذا التكليف تحصيل الحاصل.
تفسير لزوم تحصيل الحاصل: أنّ خلق الداعي في نفس المكلّف للتحرّك نحو الترك مع افتراض أنّه متحرّك بطبعه نحو الترك كما هو المفروض في مسألة الخروج عن محل الابتلاء، هذا يلزم منه تحصيل الحاصل، هذا النهي المولوي، التحريك نحو الترك بالخطاب الشرعي مع فرض وجود التحرّك وحصوله من قِبل العبد نحو الترك بحسب طبعه، هذا يجعل التكليف تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ الشارع إنّما جاء بالتكليف لكي يحرّك العبد نحو الترك، لكي يخلق في نفسه داعياً نحو الترك، والداعي بحسب الطبع الأوّلي لهذا المكلّف نحو الترك موجود، وهو نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء، فأنّه يعتبر سبباً للترك وداعياً للترك، فحينما يكون الداعي للترك موجوداً وحاصلاً، يأتي الخطاب الشرعي لغرض تحصيل هذا الأمر الحاصل، فيلزم تحصيل الحاصل، والمفروض أنّه محال.
فإذن: يكون تقريب تحصيل الحاصل بالنسبة إلى خلق الداعي في نفس المكلّف، فيقال أنّ هذا تحصيل للحاصل؛ لأنّ الداعي للمكلّف نحو التحرّك موجود أساساً، فيأتي الخطاب لكي يكوّن هذا الداعي ويحصّله، فيلزم من التكليف تحصيل الحاصل، فيكون محالاً.
حينئذٍ: الكلام في أنّه هل ترِد عليه المناقشة الأولى المتقدّمة للدليل الأوّل، وهي مسألة أنّ الغرض من الخطاب هو تمكين المكلّف من قصد التقرّب به ؟ هذه المناقشة هل تجري هنا في المقام ؟ بأن يقال بأنّه لا يلزم تحصيل الحاصل عندما يكون هناك غرض من التكليف والخطاب غير مسألة حصول الفعل في الخارج، وإنّما الغرض هو تمكين المكلّف من قصد التقرّب بالخطاب، وهذا ليس حاصلاً بقطع النظر عن النهي حتّى يقال بأنّ النهي تحصيل للحاصل، تمكين المكلّف من التقرّب بالنهي إلى المولى سبحانه وتعالى بالترك ليس حاصلاً بقطع النظر عن النهي؛ لأنّه يحصل بالنهي، فإذن: لا يلزم من النهي تحصيل الحاصل، فيكون جواباً عن المحذور الثالث الذي هو مسألة تحصيل الحاصل، أنّ هذا إنّما يتم عندما لا يكون هناك غرض آخر من النهي، وإنّما الغرض هو فقط خلق الداعي في نفس المكلّف، فيقال أنّ هذا الداعي للتحرّك موجود عند المكلّف، فيكون التكليف تحصيلاً للحاصل. هذا صحيح. أمّا عندما يكون هناك غرض آخر من الخطاب وهو تمكين المكلّف من التقرّب؛ فحينئذٍ لا يلزم تحصيل الحاصل من هذا التكليف والنهي. ورود هذه المناقشة ليس واضحاً على لزوم تحصيل الحاصل بالتقريب الذي ذكرناه، وذلك باعتبار أنّ التقريب الذي ذكرناه يدّعي بأنّ التكليف يكون محالاً ويلزم منه تحصيل الحاصل؛ لأنّه يستحيل أن يكون هذا التكليف محصّلاً للداعي للتحرّك مع فرض أنّ هذا الداعي للتحرّك موجود في نفس المكلّف وبقطع النظر عن النهي، الداعي للتحرّك موجود عند المكلّف بطبع القضية، بافتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء هذا التحرّك موجود عند المكلّف للترك بطبع القضية، فيأتي التكليف ويريد أن يخلق داعياً للتحرّك نحو الترك، هذا يلزم منه تحصيل الحاصل. بناءً على هذا التقريب، جعل داعوية التكليف ومحرّكيته يكون محالاً حينئذٍ؛ لأنّه يلزم منها تحصيل الحاصل، الداعوية تكون مستحيلة، المحرّكية للتكليف تكون مستحيلة؛ لأنّه يلزم منها هذا المحذور العقلي، ومن الواضح أنّ الداعوية إذا كانت مستحيلة ومحرّكية التكليف للعبد مستحيلة؛ حينئذٍ كيف يمكن أن نقول أنّ الغرض من هذا التكليف هو تمكين المكلّف من قصد القربة، وقصد القربة هو عبارة أخرى عن محرّكية التكليف، وداعوية التكليف، فإذا كانت المحرّكية والداعوية مستحيلة؛ لأنّها تحصيل للحاصل، إذن: ما معنى أن نجيب عن هذا الإشكال ونقول بأنّ هناك غرضاً آخراً من التكليف وهو تمكين المكلّف من قصد القربة ؟! القائل بتحصيل الحاصل يقول أنّ الداعوية مستحيلة، ويستحيل أن يكون هذا التكليف داعياً للعبد للتحرّك نحو الترك؛ لأنّه تحصيل للحاصل؛ لأنّ كون الغرض من هذا التكليف هو خلق الداعي في نفس العبد هو تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ الداعي موجود، فتكون داعوية التكليف مستحيلة، فإذا كانت داعوية التكليف مستحيلة، كيف يمكن أن نمكّن العبد من أن يقصد التقرّب بهذا التكليف ؟! قصد التقرّب بهذا التكليف هو عبارة أخرى عن كون التكليف داعياً ومحرّكاً للعبد نحو الترك، والمفروض بناءً على هذا المحذور أنّ هذا محال. نعم، هذه المناقشة ترِد إذا قرّبنا تحصيل الحاصل بتقريبٍ آخر يرتبط بالمولى نفسه لا بالعبد، بأن يقال في مقام تقريب إشكال تحصيل الحاصل بأن نلتفت للمولى نفسه ونقول بأنّ المولى يستحيل أن يكلّف العبد بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ باعتبار أنّ هذا التكليف يلزم منه طلب الحاصل، يعني يستحيل أن ينخلق في نفس المولى بجعله الخطاب الدعوة إلى الترك مع فرض وجود الداعي للترك عند المكلّف بقطع النظر عن النهي، فالاستحالة ترتبط بالمولى، المولى يستحيل أن يجعل خطاباً لغرض خلق الداعي في نفس العبد، مستحيل أن يصدر خطاب من نفس المولى لغرض خلق الداعي للتحرّك عند العبد؛ حينئذٍ يمكن أن تأتي المناقشة السابقة، فيقال: ليكن جعل الخطاب من قِبل المولى لغرض خلق الداعي في نفس العبد، ليكن محالاً، لكن أيّ ضيرٍ في أن يجعل المولى الخطاب لغرضٍ آخرٍ ؟ أيّ ضيرٍ في أن يجعل المولى الخطاب لغرض تمكين المكلّف من قصد التقرّب ؟ هذا لا ضير فيه، ولا يلزم منه استحالة الداعوية والمحرّكية، المولى لا ينقدح في نفسه مثل هذا الداعي، لكن هناك غرض وداع آخر قد يدعوه لجعل هذا الخطاب الشرعي وهو تمكين المكلّف من قصد التقرّب، فالمحذور إنّما يرِد على التقريب الثاني الذي ذكرناه لا على التقريب الأوّل ولا يبعُد أن يكون مقصودهم من أصل المحذور وهو تحصيل الحاصل هو التقريب الأوّل الذي ذكرناه، هذه القضية ترتبط بالعبد، العبد عنده داعٍ للتحرّك، فيستحيل جعل الخطاب لغرض تحصيل هذا الداعي؛ لأنّ تحصيل هذا الداعي يُعتبر تحصيلاً للحاصل.
على كل حال، سواء وردت المناقشة المتقدّمة على هذا التقريب، أو لم ترِد، يمكن أن يُجاب عن أصل المحذور الذي هو تحصيل الحاصل، يمكن أن يجاب عنه بهذا الجواب: تارةً نفترض أنّ تحصيل الحاصل الذي يُذكر كمحذور لا يُراد به المعنى الدقّي والفلسفي لتحصيل الحاصل، وإنّما يُراد به المعنى العرفي لتحصيل الحاصل. وهذا في الحقيقة رجوع إلى محذور اللّغوية وليس شيئاً آخر غير محذور الاستهجان ومحذور اللّغوية؛ لأنّه لا يُراد بتحصيل الحاصل المعنى الدقّي للكلمة، وإنّما هو شيء يرجع إلى اللّغوية؛ وحينئذٍ تأتي الأجوبة السابقة التي نوقش فيها هذا المحذور على ما تقدّم سابقاً.
لكن عندما يُجعل تحصيل الحاصل في قِبال تلك الوجوه، كأنّه يُراد به معنىً آخر، يُراد به المعنى الدقّي والفلسفي لتحصيل الحاصل، إذا كان هذا هو المراد كما هو غير بعيد؛ حينئذٍ يقال: أنّ المحذور العقلي هو عبارة عن تحصيل الشيء بعد فرض حصوله، تحصيل الشيء في طول حصوله محال، هذا فرضنا حصوله، فما معنى تحصيله ؟! غير معقول تحصيل ما هو حاصل، والتحصيل في طول الحصول محال، هذا المعنى الدقّي لمحذور تحصيل الحاصل، لكن هل هذا لازم في محل الكلام، أو لا يلزم في محل الكلام ؟ بمعنى أنّه في محل الكلام هل الخطاب والنهي الشرعي إذا جُعل لغرض إيجاد الداعي للتحرّك نحو الترك، هل يلزم من هذا الخطاب محذور تحصيل الحاصل ؟ بمعنى أنّه تحصيل لما هو حاصل بالفعل، تحصيل في طول الحصول حتّى يكون محالاً، أو هو تحصل لشيءٍ هو في عرض حصول شيءٍ آخر، وليس في طوله، وإنّما هو تحصيل آخر للشيء في عرض تحصيله، لا أنّه تحصل لما هو حاصل بالضبط حتّى يكون محالاً؛ لأنّه يدخل في باب تحصيل ما هو حاصل، وتحصيل الشيء في طول حصوله ؟ كلا، ليس هكذا، وإنّما المكلّف عنده داعٍ للتحرّك بحسب طبعه، وبمجرّد افتراض خروج المورد عن محل الابتلاء، هذا صحيح، وما يريد الخطاب تحصيله ليس هو هذا، ما يريد الخطاب تحصيله هو إيجاد داعٍ آخر للتحرّك عند العبد في عرض الداعي الموجود والمفروض حصوله، لا أنّه يريد تحصيل نفس ما هو حاصل حتّى يكون محالاً؛ لأنّه يدخل في باب تحصيل ما هو حاصل، والتحصيل في طول الحصول محال، هو لا يريد ذلك، الخطاب الشرعي يريد أن يوجد محرّكاً آخراً للعبد نحو الترك مع فرض وجود محرّكٍ له نحو الترك بحسب طبعه، هو يوجد هذا المحرّك في عرض هذا المحرّك، يوجد هذا الداعي في عرض الداعي المفروض وجوده وليس في طوله حتّى يلزم منه تحصيل الحاصل، فالمحذور بمعناه الدقيق لا ينطبق على محل الكلام.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الداعي المفروض حصوله في المقام هو داعي تكويني، داعي طبعي ينشأ من كون القضية خارجة عن محل الابتلاء، بينما المدّعى حصوله بالخطاب الشرعي هو الداعي التشريعي لا الداعي التكويني، الخطاب الشرعي يحصّل الداعي التشريعي لغرض تحصيل إيجاد داعٍ تشريعي في نفس المكلّف للتحرّك، إذن: هذا غير ذاك، في الخطاب الشرعي لا يُراد تحصيل نفس ما هو حاصل حتّى يقال بأنّه محال، وإنّما يُراد خلق داعٍ آخر في عرض الداعي الموجود والمفروض حصوله، ومثل هذا لا يدخل في باب تحصيل الحاصل. ومن هنا يظهر أنّ هذه المحاذير التي ذُكرت في تعلّق التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء ليست واضحة ولا يمكن جعلها مدارك للالتزام بالاشتراط وأنّ التكليف مشروط بالدخول في محل الابتلاء وأنّه يرتفع عند خروج متعلّقه عن محل الابتلاء.
كان الكلام في ما استُدل به على اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء، بمعنى أنّه عندما يكون الشيء خارجاً عن محل الابتلاء، فلا يتعلّق به التكليف؛ بل التكليف كما هو مشروط بالقدرة العقلية كذلك مشروط بالدخول في محل الابتلاء. تقدّم الكلام عن الدليل الأوّل الذي هو عبارة عن دعوى اللّغوية، أنّ التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء يعتبر لغواً وبلا فائدة، فيكون مستحيلاً صدوره من الحكيم؛ لأنّ الحكيم لا يصدر منه اللّغو. ذكرنا المناقشة الأولى في هذا الدليل وقد تقدّمت .
المناقشة الثانية: أنّ هذا إنّما يتمّ في الخطابات الشخصية التي يختص بها النهي بحالة الخروج عن محل الابتلاء؛ عندئذٍ يقال بأنّ هذا الخطاب لغو وبلا فائدة، أيّ خطابٍ تأتي فيه هذه الشبهة هو الخطاب الشخصي، أي الخطاب الذي يختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، وأمّا إذا كان الخطاب وكان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من خطابٍ عامٍ يشمل بإطلاقه حالة الخروج عن محل الابتلاء، في هذه الحالة الظاهر أنّه لا يرد إشكال اللّغوية، وذلك لأنّ إطلاق الكلام ليس فيه مؤنة زائدة بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد لا لحاظ عدم القيد؛ ولذا لا يكون فيه مؤنة زائدة وفعل زائد صادر من المولى المشّرع حتّى يقال أنّ فعله هذا لغو وبلا فائدة، هذا إنّما يُتصوّر عندما يكون الإطلاق فيه مؤنة زائدة وفعل زائد؛ عندئذٍ يقال أنّ هذا الأمر الزائد بلا فائدة ولغو، فيستحيل صدوره من الحكيم، أمّا حيث لا يكون في الإطلاق مؤنة زائدة، الإطلاق هو عبارة عن لحاظ الطبيعة عند تعلّق الحكم بها، الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد، فلا يكون في الإطلاق مؤنة زائدة وتصرّف زائد وفعل زائد من المشرّع حتّى يقال أنّ هذا الفعل يلزم منه اللّغو، وأنّه جاء به بلا فائدة وبلا ثمرةٍ، فيكون لغواً. اللّغوية تلزم عندما يفترض اختصاص الخطاب بحالة الخروج عن محل الابتلاء، لكن عندما يكون الخطاب عامّاً لا يختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، يعني يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء ويشمل حالة الدخول في محل الابتلاء، يشمل المكلّف الذي يُبتلى بهذا الشيء، والمكلّف الذي لا يُبتلى به، يكون الخطاب عاماً ومجعولاً على نهج القضية الحقيقية، مثل(يحرم شرب الخمر) على نهج القضية الحقيقية، إذا كان الشيء خمراً يحرم شربه، هذا عام يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء وحالة الدخول في محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب لماذا يكون لغواً ؟! إطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء، قلنا هذا الإطلاق ليس فيه مؤنة زائدة وليس تصرّفاً زائداً من المشرّع حتّى يقال أنّ هذا التصرّف زائد بلا فائدة وبلا حاصل، الإطلاق هو عبارة عن عدم لحاظ القيد وليس فيه مؤنة زائدة، فلا مجال لدعوى اللّغوية عندما يكون الخطاب عامّاً، ويُستفاد شمول التكليف لحالة الخروج عن محل الابتلاء من الإطلاق، ومثل هذا لا تتمّ فيه دعوى اللّغوية، لو تمّت أساساً. هذه هي المناقشة الثانية لهذا الدليل.
الدليل الثاني: دعوى الاستهجان العرفي الذي يرجع إلى دعوى القبح العقلائي، وهذا كأنّه يراد أن يقال أنّ هذا في قبال اللّغوية المحذور الأوّل، اللّغوية ترجع إلى محذور عقلي في الخطاب باعتبار لغوية مضمونه ولغوية مدلوله، بينما هنا يُراد أن يُدّعى الاستهجان العرفي والقبح العقلائي لخطابٍ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب مع فرض تعلّقه بما هو خارج عن محل الابتلاء هو ممّا يستهجنه العرف، العرف يراه مستهجناً، فالدليل هو الاستهجان العرفي، الاستهجان العقلائي للخطاب الذي يتعلّق بما هو خارج عن محل الابتلاء. هذا هو الدليل الثاني.
هذا الدليل، وهذا الاستهجان هل يرجع إلى اللّغوية، أو لا ؟ الاستهجان هل هو محذور مستقلّ في قبال المحذور السابق ؟ أو هو في واقعه يرجع إلى المحذور السابق؟ بتقريب: أنّ المحذور هو فقط اللّغوية المتقدّم سابقاً، وهو محذور عقلي على ما قلنا، هذا هو المحذور، لكن حيث أنّ هذا المحذور بالغ من الوضوح إلى درجةٍ بحيث يكون أمراً واضحاً عند كل الناس وعند العقلاء، فالعقلاء يستهجنون الخطاب بما يكون خارجاً عن محل الابتلاء، فتكون اللّغوية هي الأساس في استهجان العرف، بمعنى أنّ العرف لماذا يستهجن الخطاب بما هو خارج عن محل الابتلاء؟ لأنّه يراه لغواً، وبلا فائدة؛ إذ لا تترتب فائدة عليه؛ ولذا هو يستهجن مثل هذا الخطاب لكونه لغواً، فالاستهجان العرفي كأنّه راجع إلى وضوح اللّغوية عند العقلاء وعند العرف، اللّغوية ليست أمراً دقيّاً غير واضح؛ بل هي أمر يعلمه الجميع؛ ولذا فالعرف يستهجن مثل هذا الخطاب، وهذا الخطاب إذا كان مستهجناً عرفاً وعقلائياً؛ فحينئذٍ لا يكون صادراً من الحكيم باعتبار كونه مستهجناً. محاولة إرجاع الاستهجان العرفي إلى محذور اللّغوية، وأنّ الاستهجان ليس هو محذور اضافي غير ما تقدّم، وإنّما هو نفس المحذور السابق، لكن مع افتراض أنّ هذا المحذور يكون واضحاً عند العرف العام وعند العقلاء؛ فلذا يستهجنون الخطاب في هذا المقام، هذه المحاولة ليست محاولة بعيدة وليست مستبعدة باعتبار أنّ الاستهجان العرفي لابدّ أن ينشأ من شيءٍ من هذا القبيل، لماذا العرف يستهجن الخطاب بما لا يكون داخلاً في محل الابتلاء ؟ لماذا يُرى استهجان أن يخاطب المكلّف بحرمة شرب الماء الذي لا يبتلي به عادة ؟ يُرى أنّ هذا الخطاب مستهجن على تقدير تسليم الاستهجان. الظاهر أنّ منشأ الاستهجان لابدّ أن يكون شيئاً من هذا القبيل، لابدّ أنّ العرف يرى أنّ هذا بلا فائدة، خطاب مثل هذا الشخص وتوجيه النهي إليه ومنعه من شرب ذاك الإناء الذي لا يبتلي به عادةً هذا لغو وبلا فائدة؛ ولذا العرف يستهجن مثل هذا الخطاب، يعني المقصود هو أنّه لابدّ من إرجاع الاستهجان إلى محذور اللّغوية، أو إلى المحذور الآتي في الدليل الثالث، وهو مسألة تحصيل الحاصل، لابدّ أنّ العرف يدرك لغوية هذا الخطاب، أو كونه تحصيلاً للحاصل كما سيأتي؛ ولذا يستهجن مثل هذا الخطاب، وأمّا افتراض أنّ الاستهجان العرفي ثابت بقطع النظر عن اللّغوية وبقطع النظر عن مسألة تحصيل الحاصل، فهذا ليس مقبولاً؛ بل الظاهر أنّه يرجع إلى أحد الأمرين، أمّا من جهة اللّغوية، وإمّا من جهة تحصيل الحاصل، فيُدّعى أنّ العرف يدرك ذلك ويعرف لزوم اللّغوية، أو يعرف لزوم تحصيل الحاصل؛ ولذا يستهجن مثل هذا الخطاب، فهو ليس محذوراً في قبال المحاذير السابقة والآتية.
على كل حال، لو فرضنا أنّ هذا محذور في قبال محذور اللّغوية، وفي قبال المحذور الآتي؛ حينئذٍ يمكن أن ترِد عليه المناقشة الثانية المتقدّمة في الدليل الأوّل، وهي مسألة أنّ هذا الاستهجان إنّما نسلّمه لو سلّمناه، في الخطابات الشخصية التي يختص الخطاب فيها بحالة الخروج عن محل الابتلاء، فيّوجّه الخطاب لشخصٍ بتحريم أن يشرب الماء الموجود في أقصى بلاد الصين مثلاً، الذي لا يبتلي به عادةً، تخصيص هذا بالخطاب، مثل هذا الخطاب الشخصي يمكن أن نسلّم فيه مسألة الاستهجان العرفي، وأمّا إذا كان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من دليل عام، ويكون شاملاً بإطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء كما إذا كان الدليل مجعولاً على نهج القضية الحقيقية، والمخاطب به جميع الناس ولا يختص بشخصٍ دون شخصٍ آخر ولا بحالةٍ دون حالةٍ أخرى، العرف لا يرى استهجاناً في هذا الخطاب حتّى إذا كان بإطلاقه شاملاً لحالة الخروج عن محل الابتلاء، أيّ ضيرٍ في أن يقول أنّه يحرم شرب الماء النجس، ويحرم شرب الخمر؟! وهذا يشمل بإطلاقه الخمر الذي يدخل في محل الابتلاء والخمر الذي لا يدخل في محل الابتلاء، لا يُرى هذا الاستهجان بشكلٍ واضح كما يُدّعى.
نعم، في حالة الخطاب الشخصي قد يُدّعى هذا الاستهجان، لكن في حالة الخطاب العام الذي يشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء بالإطلاق، فالظاهر أنّ هذا لا يجري فيه مسألة الاستهجان. هذه المناقشة الثانية المتقدّمة؛ بل المناقشة الأولى المتقدّمة أيضاً يمكن أن تجري في المقام، بمعنى أنّ العرف الذي ادُّعي أنّه يستهجن مثل هذا الخطاب، أنّ العرف إذا اطّلع على أنّ الشارع له غرض آخر من الخطاب، وهو الغرض الذي نقلناه عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وهو تمكين المكلّف من أن يجعل النهي داعياً له للتحرّك. أو بعبارة أكثر وضوحاً: تمكين المكلّف من قصد التقرّب بالنهي، فيترك الفعل امتثالاً إلى النهي، وبذلك يكون متقرباً إليه سبحانه وتعالى، إذا اطّلع العرف على وجود غرضٍ من هذا القبيل بالخطاب الشرعي لا يراه مستهجناً كما هو واضح؛ لماذا يكون مثل هذا الخطاب مستهجناً ؟ والحال أنّه يترتّب عليه غرض آخر غير مسألة حصول الفعل أو الترك خارجاً حتّى يقال بأنّ هذا الترك مضمون الحصول، فلا معنى لتعلّق النهي به، وإنّما هناك غرض آخر يترتب على الخطاب، إذا اطّلع العرف على وجود مثل هذا الغرض؛ حينئذٍ لا يقول أنّ هذا الخطاب يكون مستهجناً حتّى في الخطابات الشخصية، فضلاً عن الخطابات العامّة.
الدليل الثالث: مسألة لزوم تحصيل الحاصل من الخطاب والنهي الشرعي، هذا التحريك الشرعي نحو الفعل أو نحو الترك يلزم منه تحصيل الحاصل، فيكون محالاً؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال؛ ولذا لا يمكن التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّه يلزم من هذا التكليف تحصيل الحاصل.
تفسير لزوم تحصيل الحاصل: أنّ خلق الداعي في نفس المكلّف للتحرّك نحو الترك مع افتراض أنّه متحرّك بطبعه نحو الترك كما هو المفروض في مسألة الخروج عن محل الابتلاء، هذا يلزم منه تحصيل الحاصل، هذا النهي المولوي، التحريك نحو الترك بالخطاب الشرعي مع فرض وجود التحرّك وحصوله من قِبل العبد نحو الترك بحسب طبعه، هذا يجعل التكليف تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ الشارع إنّما جاء بالتكليف لكي يحرّك العبد نحو الترك، لكي يخلق في نفسه داعياً نحو الترك، والداعي بحسب الطبع الأوّلي لهذا المكلّف نحو الترك موجود، وهو نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء، فأنّه يعتبر سبباً للترك وداعياً للترك، فحينما يكون الداعي للترك موجوداً وحاصلاً، يأتي الخطاب الشرعي لغرض تحصيل هذا الأمر الحاصل، فيلزم تحصيل الحاصل، والمفروض أنّه محال.
فإذن: يكون تقريب تحصيل الحاصل بالنسبة إلى خلق الداعي في نفس المكلّف، فيقال أنّ هذا تحصيل للحاصل؛ لأنّ الداعي للمكلّف نحو التحرّك موجود أساساً، فيأتي الخطاب لكي يكوّن هذا الداعي ويحصّله، فيلزم من التكليف تحصيل الحاصل، فيكون محالاً.
حينئذٍ: الكلام في أنّه هل ترِد عليه المناقشة الأولى المتقدّمة للدليل الأوّل، وهي مسألة أنّ الغرض من الخطاب هو تمكين المكلّف من قصد التقرّب به ؟ هذه المناقشة هل تجري هنا في المقام ؟ بأن يقال بأنّه لا يلزم تحصيل الحاصل عندما يكون هناك غرض من التكليف والخطاب غير مسألة حصول الفعل في الخارج، وإنّما الغرض هو تمكين المكلّف من قصد التقرّب بالخطاب، وهذا ليس حاصلاً بقطع النظر عن النهي حتّى يقال بأنّ النهي تحصيل للحاصل، تمكين المكلّف من التقرّب بالنهي إلى المولى سبحانه وتعالى بالترك ليس حاصلاً بقطع النظر عن النهي؛ لأنّه يحصل بالنهي، فإذن: لا يلزم من النهي تحصيل الحاصل، فيكون جواباً عن المحذور الثالث الذي هو مسألة تحصيل الحاصل، أنّ هذا إنّما يتم عندما لا يكون هناك غرض آخر من النهي، وإنّما الغرض هو فقط خلق الداعي في نفس المكلّف، فيقال أنّ هذا الداعي للتحرّك موجود عند المكلّف، فيكون التكليف تحصيلاً للحاصل. هذا صحيح. أمّا عندما يكون هناك غرض آخر من الخطاب وهو تمكين المكلّف من التقرّب؛ فحينئذٍ لا يلزم تحصيل الحاصل من هذا التكليف والنهي. ورود هذه المناقشة ليس واضحاً على لزوم تحصيل الحاصل بالتقريب الذي ذكرناه، وذلك باعتبار أنّ التقريب الذي ذكرناه يدّعي بأنّ التكليف يكون محالاً ويلزم منه تحصيل الحاصل؛ لأنّه يستحيل أن يكون هذا التكليف محصّلاً للداعي للتحرّك مع فرض أنّ هذا الداعي للتحرّك موجود في نفس المكلّف وبقطع النظر عن النهي، الداعي للتحرّك موجود عند المكلّف بطبع القضية، بافتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء هذا التحرّك موجود عند المكلّف للترك بطبع القضية، فيأتي التكليف ويريد أن يخلق داعياً للتحرّك نحو الترك، هذا يلزم منه تحصيل الحاصل. بناءً على هذا التقريب، جعل داعوية التكليف ومحرّكيته يكون محالاً حينئذٍ؛ لأنّه يلزم منها تحصيل الحاصل، الداعوية تكون مستحيلة، المحرّكية للتكليف تكون مستحيلة؛ لأنّه يلزم منها هذا المحذور العقلي، ومن الواضح أنّ الداعوية إذا كانت مستحيلة ومحرّكية التكليف للعبد مستحيلة؛ حينئذٍ كيف يمكن أن نقول أنّ الغرض من هذا التكليف هو تمكين المكلّف من قصد القربة، وقصد القربة هو عبارة أخرى عن محرّكية التكليف، وداعوية التكليف، فإذا كانت المحرّكية والداعوية مستحيلة؛ لأنّها تحصيل للحاصل، إذن: ما معنى أن نجيب عن هذا الإشكال ونقول بأنّ هناك غرضاً آخراً من التكليف وهو تمكين المكلّف من قصد القربة ؟! القائل بتحصيل الحاصل يقول أنّ الداعوية مستحيلة، ويستحيل أن يكون هذا التكليف داعياً للعبد للتحرّك نحو الترك؛ لأنّه تحصيل للحاصل؛ لأنّ كون الغرض من هذا التكليف هو خلق الداعي في نفس العبد هو تحصيلاً للحاصل؛ لأنّ الداعي موجود، فتكون داعوية التكليف مستحيلة، فإذا كانت داعوية التكليف مستحيلة، كيف يمكن أن نمكّن العبد من أن يقصد التقرّب بهذا التكليف ؟! قصد التقرّب بهذا التكليف هو عبارة أخرى عن كون التكليف داعياً ومحرّكاً للعبد نحو الترك، والمفروض بناءً على هذا المحذور أنّ هذا محال. نعم، هذه المناقشة ترِد إذا قرّبنا تحصيل الحاصل بتقريبٍ آخر يرتبط بالمولى نفسه لا بالعبد، بأن يقال في مقام تقريب إشكال تحصيل الحاصل بأن نلتفت للمولى نفسه ونقول بأنّ المولى يستحيل أن يكلّف العبد بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ باعتبار أنّ هذا التكليف يلزم منه طلب الحاصل، يعني يستحيل أن ينخلق في نفس المولى بجعله الخطاب الدعوة إلى الترك مع فرض وجود الداعي للترك عند المكلّف بقطع النظر عن النهي، فالاستحالة ترتبط بالمولى، المولى يستحيل أن يجعل خطاباً لغرض خلق الداعي في نفس العبد، مستحيل أن يصدر خطاب من نفس المولى لغرض خلق الداعي للتحرّك عند العبد؛ حينئذٍ يمكن أن تأتي المناقشة السابقة، فيقال: ليكن جعل الخطاب من قِبل المولى لغرض خلق الداعي في نفس العبد، ليكن محالاً، لكن أيّ ضيرٍ في أن يجعل المولى الخطاب لغرضٍ آخرٍ ؟ أيّ ضيرٍ في أن يجعل المولى الخطاب لغرض تمكين المكلّف من قصد التقرّب ؟ هذا لا ضير فيه، ولا يلزم منه استحالة الداعوية والمحرّكية، المولى لا ينقدح في نفسه مثل هذا الداعي، لكن هناك غرض وداع آخر قد يدعوه لجعل هذا الخطاب الشرعي وهو تمكين المكلّف من قصد التقرّب، فالمحذور إنّما يرِد على التقريب الثاني الذي ذكرناه لا على التقريب الأوّل ولا يبعُد أن يكون مقصودهم من أصل المحذور وهو تحصيل الحاصل هو التقريب الأوّل الذي ذكرناه، هذه القضية ترتبط بالعبد، العبد عنده داعٍ للتحرّك، فيستحيل جعل الخطاب لغرض تحصيل هذا الداعي؛ لأنّ تحصيل هذا الداعي يُعتبر تحصيلاً للحاصل.
على كل حال، سواء وردت المناقشة المتقدّمة على هذا التقريب، أو لم ترِد، يمكن أن يُجاب عن أصل المحذور الذي هو تحصيل الحاصل، يمكن أن يجاب عنه بهذا الجواب: تارةً نفترض أنّ تحصيل الحاصل الذي يُذكر كمحذور لا يُراد به المعنى الدقّي والفلسفي لتحصيل الحاصل، وإنّما يُراد به المعنى العرفي لتحصيل الحاصل. وهذا في الحقيقة رجوع إلى محذور اللّغوية وليس شيئاً آخر غير محذور الاستهجان ومحذور اللّغوية؛ لأنّه لا يُراد بتحصيل الحاصل المعنى الدقّي للكلمة، وإنّما هو شيء يرجع إلى اللّغوية؛ وحينئذٍ تأتي الأجوبة السابقة التي نوقش فيها هذا المحذور على ما تقدّم سابقاً.
لكن عندما يُجعل تحصيل الحاصل في قِبال تلك الوجوه، كأنّه يُراد به معنىً آخر، يُراد به المعنى الدقّي والفلسفي لتحصيل الحاصل، إذا كان هذا هو المراد كما هو غير بعيد؛ حينئذٍ يقال: أنّ المحذور العقلي هو عبارة عن تحصيل الشيء بعد فرض حصوله، تحصيل الشيء في طول حصوله محال، هذا فرضنا حصوله، فما معنى تحصيله ؟! غير معقول تحصيل ما هو حاصل، والتحصيل في طول الحصول محال، هذا المعنى الدقّي لمحذور تحصيل الحاصل، لكن هل هذا لازم في محل الكلام، أو لا يلزم في محل الكلام ؟ بمعنى أنّه في محل الكلام هل الخطاب والنهي الشرعي إذا جُعل لغرض إيجاد الداعي للتحرّك نحو الترك، هل يلزم من هذا الخطاب محذور تحصيل الحاصل ؟ بمعنى أنّه تحصيل لما هو حاصل بالفعل، تحصيل في طول الحصول حتّى يكون محالاً، أو هو تحصل لشيءٍ هو في عرض حصول شيءٍ آخر، وليس في طوله، وإنّما هو تحصيل آخر للشيء في عرض تحصيله، لا أنّه تحصل لما هو حاصل بالضبط حتّى يكون محالاً؛ لأنّه يدخل في باب تحصيل ما هو حاصل، وتحصيل الشيء في طول حصوله ؟ كلا، ليس هكذا، وإنّما المكلّف عنده داعٍ للتحرّك بحسب طبعه، وبمجرّد افتراض خروج المورد عن محل الابتلاء، هذا صحيح، وما يريد الخطاب تحصيله ليس هو هذا، ما يريد الخطاب تحصيله هو إيجاد داعٍ آخر للتحرّك عند العبد في عرض الداعي الموجود والمفروض حصوله، لا أنّه يريد تحصيل نفس ما هو حاصل حتّى يكون محالاً؛ لأنّه يدخل في باب تحصيل ما هو حاصل، والتحصيل في طول الحصول محال، هو لا يريد ذلك، الخطاب الشرعي يريد أن يوجد محرّكاً آخراً للعبد نحو الترك مع فرض وجود محرّكٍ له نحو الترك بحسب طبعه، هو يوجد هذا المحرّك في عرض هذا المحرّك، يوجد هذا الداعي في عرض الداعي المفروض وجوده وليس في طوله حتّى يلزم منه تحصيل الحاصل، فالمحذور بمعناه الدقيق لا ينطبق على محل الكلام.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الداعي المفروض حصوله في المقام هو داعي تكويني، داعي طبعي ينشأ من كون القضية خارجة عن محل الابتلاء، بينما المدّعى حصوله بالخطاب الشرعي هو الداعي التشريعي لا الداعي التكويني، الخطاب الشرعي يحصّل الداعي التشريعي لغرض تحصيل إيجاد داعٍ تشريعي في نفس المكلّف للتحرّك، إذن: هذا غير ذاك، في الخطاب الشرعي لا يُراد تحصيل نفس ما هو حاصل حتّى يقال بأنّه محال، وإنّما يُراد خلق داعٍ آخر في عرض الداعي الموجود والمفروض حصوله، ومثل هذا لا يدخل في باب تحصيل الحاصل. ومن هنا يظهر أنّ هذه المحاذير التي ذُكرت في تعلّق التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء ليست واضحة ولا يمكن جعلها مدارك للالتزام بالاشتراط وأنّ التكليف مشروط بالدخول في محل الابتلاء وأنّه يرتفع عند خروج متعلّقه عن محل الابتلاء.