36/03/12
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه
الرأي الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني كما في(فوائد الأصول)؛ لأنّ ما ذكر في (أجود التقريرات) يختلف عنه، وسنجعله الرأي الرابع. ذهب إلى المنجّزية، أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام ووجوب الاجتناب عن ما عدا ما يُدفع به الضرر، وذكر أنّ هذا الحكم ثابت في جميع الصور الثلاثة المتقدّمة في القسم الأوّل، والسرّ في ذلك ذكر كلاماً طويلاً لابدّ من استعراضه، قال:(فأنّ الاضطرار إلى غير المعيّن ـــــــــــ الذي هو محل كلامنا ـــــــــــ يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما).[1] الاضطرار إلى غير المعيّن يستلزم الترخيص التخييري، فكأنّه يريد أن يقول لا منافاة ولا مزاحمة بين الترخيص التخييري وبين التكليف الواقعي، أي أن يكون هناك تكليف واقعي يُعلم بثبوته في أحد الإناءين ومع ذلك يُرخّص للمكلّف في ارتكاب أحدهما، لا مزاحمة بينهما ولا منافاة. والسرّ في عدم المنافاة والمزاحمة هو أنّ المكلّف يتمكّن من رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، وهذا معناه أنّ مركز الاضطرار يختلف عن مركز التكليف ومتعلّقه، التكليف يتعلّق بالفرد الذي هو النجس الواقعي الذي سقطت فيه ــــــــــ مثلاً ــــــــــــ قطرة الدم، بينما الاضطرار والترخيص الذي هو لازم للاضطرار يتعلّق بأحدهما، أي بالجامع، فهما لا يتعلّقان بشيءٍ واحدٍ، الاضطرار ليس منصبّاً على متعلّق التكليف حتّى يقال كيف يمكن الجمع بين التكليف بشيءٍ وبين الترخيص فيه ؟! هذان متزاحمان لا يمكن الجمع بينهما، هو كأنّه يريد أن يقول: أنّ الاضطرار لا يتعلّق بمتعلّق التكليف، وإنّما يتعلّق بأحدهما. إذن: الترخيص ثابت لأحدهما، أي للجامع، والترخيص الثابت للجامع لا ينافي ولا يزاحم التكليف الواقعي المنصب على الفرد؛ لأنّ التكليف الواقعي متعلّق بالنجس الواقعي، أي بالإناء الذي سقطت فيه قطرة الدم واقعاً، التكليف متعلّق بالفرد، والاضطرار والترخيص متعلّق بالجامع؛ ولذا لا منافاة بينهما، والدليل على ذلك هو أنّ المكلّف يتمكّن من رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، أي بالإتيان بالفرد الآخر الذي هو غير متعلّق التكليف؛ بل يقول: لولا الجهل بمتعلّق التكليف لتعيّن على المكلّف أن يرفع اضطراره بغيره، بمعنى أنّه لو كان عالماً بأنّ هذا هو الذي تعلّق به التكليف؛ حينئذٍ لا إشكال في أنّه يتعيّن عليه أن يرفع اضطراره بالآخر. غاية الأمر أنّه يجهل متعلّق التكليف، لكنّ جهله هذا لا يعني أنّ الترخيص والاضطرار يتعلّق بنفس ما يتعلّق به التكليف، وإنّما الترخيص والاضطرار يتعلّق بأحدهما، أي بالجامع، بينما التكليف يتعلّق بالفرد.
ثمّ ذكر في مقام توضيح هذه الفكرة أنّ الاضطرار إلى المعيّن يختلف عن الاضطرار إلى غير المعيّن، المقام الأوّل يختلف عن المقام الثاني الذي هو محل كلامنا، في المقام الأوّل الاضطرار يزاحم التكليف وينافيه؛ لأنّ المركز واحد، عندما يضطر إلى المعيّن، عندما تدور النجاسة بين أن تكون ساقطة في الماء، أو في الخل في المثال السابق، وهو اضطرّ إلى شرب الماء لرفع عطشه، الاضطرار يتعلّق بالماء، والتكليف الواقعي على تقدير أن تكون النجاسة فيه أيضاً يتعلّق بالماء، ومن هنا تكون هناك مزاحمة بين الاضطرار إلى المعيّن وبين التكليف الواقعي، بمعنى أنّ الاضطرار بنفس وجوده يكون مزاحماً للتكليف الواقعي إذا صادف أنّ التكليف الواقعي متعلّق بالماء، على تقدير مصادفة الماء للنجاسة الواقعية هناك منافاة بين الترخيص فيه وبين تعلّق التكليف فيه؛ لأنّهما يتعلّقان بشيءٍ واحد على فرض أن تكون النجاسة ساقطة في هذا الإناء الذي اضطرّ إليه تعييناً، يقول: وهذه المزاحمة بينهما في هذه الحالة تدور مدار الواقع ولا مدخل للجهل والعلم فيها، وإنّما هي تدور مدار واقع ما اضطرّ إليه، فإذا فرضنا أنّ الواقع الذي اضطرّ إليه وهو الماء في هذا المثال كان التكليف متعلّقاً به تكون المزاحمة ثابتة، المزاحمة واقعية حتّى في حال جهل المكلّف، هذا الفرد الذي اضطرّ إليه وهو الماء على تقدير أن يكون نجساً في الواقع تقع المزاحمة بين التكليف باجتنابه وبين الترخيص في ارتكابه، ولا يجتمع تحريمه مع الترخيص فيه، فتقع بينهما المزاحمة، وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعيّن الذي هو محل الكلام؛ لأنّ هذا الاضطرار إلى غير المعيّن بوجوده الواقعي ليس مزاحماً للتكليف لما ذكرنا من أنّ مصبّهما متعدد، التكليف يتعلّق على فرض وقوع النجاسة في هذا الإناء، يتعلّق بالإناء، أي بالفرد، بينما الاضطرار والترخيص ليس إلى الفرد، وإنّما هو إلى الجامع وإلى أحد الطرفين؛ لأنّ الاضطرار ليس إلى فردٍ معيّن، وإنّما هو إلى غير المعيّن.
يترتّب على هذا الكلام أنّ التكليف في موارد الاضطرار إلى المعيّن يسقط إذا فُرض تعلّق التكليف به، أنّ التكليف في موارد الاضطرار إلى المعيّن لو فُرض كونه هو النجس الواقعي يسقط باعتبار الاضطرار إلى ذلك الفرد المعيّن، وهذا واضح، باعتبار أنّ الاضطرار يقتضي سقوط التكليف، فالاضطرار إلى أكل الميتة يقتضي سقوط التكليف بحرمة الأكل، والاضطرار في المقام الأوّل إلى شرب الماء لرفع عطشه يقتضي سقوط الحرمة عنه لو كان هو الحرام الواقعي، أي لو كان هو النجس واقعاً، وبالتالي لا يكون التكليف فعلياً على كل تقدير؛ لاحتمال أن يكون ما اضطرّ إليه هو الحرام الواقعي، وعلى هذا التقدير يسقط التكليف. نعم، على تقدير أن يكون الحرام في الطرف الآخر يكون التكليف فعلياً.
إذن: التكليف لا يكون فعلياً على كل تقدير، وإنّما يكون فعلياً على تقدير عدم مصادفة الحرام لما اضطرّ إليه بعينه؛ لأنّه يحرم عليه شربه. وأمّا على تقدير أن يكون الحرام متحققاً في ما اضطر إليه؛ حينئذٍ يسقط التكليف، ولا تكليف. إذن: التكليف ليس فعلياً على كل تقدير.
وأمّا في مورد الاضطرار إلى غير المعيّن الذي هو محل كلامنا، يقول: أنّ الاضطرار إنّما يوجب سقوط التكليف عن ما يُرفع به الاضطرار لا أزيد من ذلك، الفرد الذي رفع به اضطراره يسقط عنه التكليف، فلا يحرم شربه لو كان هو النجس الواقعي، أمّا الطرف الباقي الذي لم يدفع به اضطراره، فهو باقٍ على حكمه ولا موجب للترخيص فيه؛ لأنّ الترخيص فيه إمّا أن يكون بملاك الاضطرار، والمفروض أن لا اضطرار بالنسبة إليه؛ لأنّ المفروض أنّه رفع اضطراره بهذا، فالآخر لا اضطرار له، فلا يثبت فيه الترخيص بملاك الاضطرار. وإمّا أن يثبت فيه الترخيص، باعتبار الأصول المؤمّنة، ويقول: أنّ الأصول المؤمنّة لا تجري في الطرف الآخر؛ لأنّه طرف للعلم الإجمالي، والعلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في أطرافه. إذن، الطرف الآخر لا مرخّص فيه ولا مؤمّن من ناحيته، فيجب الاجتناب عنه.
بعبارةٍ أخرى، يقول: أنّ فعلية التكليف تدور مدار فعلية موضوعه، كلّما كان موضوع التكليف فعلياً، التكليف قهراً يكون فعلياً، ولا يُعقل أن لا يكون الحكم فعلياً مع فعلية موضوعه، وإنّما هو في الفعلية يتبع فعلية موضوعه. في محل الكلام لابدّ أن يكون الحكم فعلياً وذلك تبعاً لفعلية موضوعه؛ لأنّ موضوعه متحقق بحسب الفرض بين المشتبهات، التكليف المعلوم بالإجمال موضوعه الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وهذا متحقق بين المشتبهات، قطعاً أحد المشتبهين وقعت فيه النجاسة، فإذن، موضوع التكليف الواقعي محفوظ ومتحقق فعلاً ومع فعلية الموضوع لابدّ أنّ يكون التكليف فعلياً أيضاً، الاضطرار إنّما يرفع التكليف إذا تعلّق بنفس ما تعلّق به التكليف كما في المقام الأوّل؛ لأنّ الاضطرار متعلّق بالفرد بعينه، فإذا فُرض أنّ النجاسة وقعت فيه، هنا نقول هذا يُسقط التكليف؛ لأنّ الاضطرار إلى الشيء يُسقط عنه التكليف، لكنّ هذا غير متحقق في محل الكلام؛ لأننّا ذكرنا أنّ الاضطرار لا يتعلّق بنفس ما تعلّق به التكليف حتّى لو فرضنا أنّ هذا الإناء هو النجس واقعاً، لكن هذا ليس معناه أنّ الاضطرار يكون متعلّقاً به حتّى يكون الاضطرار إليه موجباً لسقوط التكليف فيه؛ بل يبقى الاضطرار متعلّقاً بالجامع، أي بأحدهما وليس متعلّقاً بالفرد حتّى يكون موجباً لسقوط التكليف. النتيجة هي أنّ التكليف يكون فعلياً، باعتبار فعلية موضوعه ويُشير إلى ذلك ما تقدّم من أنّ المكلّف ليس مضطرّاً إلى ارتكاب متعلّق التكليف؛ بل بإمكانه أن يرفع الاضطرار بالفرد الآخر الذي لم يتعلّق به التكليف.
ثمّ دخل في مسألة التوسّط في التكليف والتوسّط في التنجيز، وذكر أنّ الاضطرار إلى المعيّن في المقام الأوّل يقتضي التوسّط في التكليف ولا يمكن أن يقتضي التوسّط في التنجيز، هذا في المقام الأوّل، باعتبار ما أُشير إليه من أنّ التكليف الواقعي مقيّد بعدم طرو الاضطرار، بمجرّد أن يطرأ الاضطرار يرتفع التكليف الواقعي. إذن: في المقام الأوّل فُرض طرو الاضطرار على الفرد المعيّن، هذا يكون مسقطاً للتكليف فيه على تقدير أن يكون هو النجس واقعاً؛ وحينئذٍ لا يبقى علم إجمالي بتكليفٍ فعلي للمكلّف؛ لعدم الجزم بفعلية التكليف؛ لأنّ هذا التكليف على أحد التقديرين يكون ساقطاً. نعم، على التقدير الآخر يكون ثابتاً. إذن: لا علم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير. يقول هذا هو التوسّط في التكليف؛ لأنّه يُفسّر التوسّط في التكليف ـــــــــــ كما نقلنا ذلك عنه سابقاً ـــــــــــ بأنّه عبارة عن كون التكليف ثابتاً على تقديرٍ وليس ثابتاً على تقديرٍ آخرٍ، كلّما كان التكليف ثابتاً على تقديرٍ وغير ثابتٍ على تقديرٍ آخرٍ، فهذا توسّط في التكليف، هذا في الاضطرار إلى المعيّن يكون هكذا: على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الماء في المقام الأوّل يرتفع التكليف؛ لأنّه مورد الاضطرار، والاضطرار يرفع التكليف. نعم على التقدير الآخر يكون التكليف ثابتاً. إذن: التكليف ليس معلوماً على كل تقدير، وهذا هو التوسّط في التكليف.
يقول: التوسّط في التنجيز لا يتحقق في المقام الأوّل؛ لأنّه يُشترط في التوسّط في التنجيز بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه من دون أن يكون في البين ما يقتضي رفعه واقعاً. عندما يكون هذا هو حال التكليف، يعني أنّه باقٍ على ما هو عليه ولا يوجد في المقام ما يقتضي رفعه واقعاً، هنا لابدّ أن يكون التوسّط في التنجيز لا في التكليف؛ لأنّ التكليف لم يُمس ولم يطرأ عليه نقص ولم يطرأ عليه أي شيءٍ، اي أنّه باقٍ على وضعه السابق. نعم، في مرحلة التنجيز يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية ولا يكون منجّزاً لوجوب المخالفة القطعية، وهذا هو التوسّط في التنجيز، بمعنى أنّ التكليف في مرحلة التنجيز يكون منجّزاً في حالةٍ ولا يكون منجّزاً في حالةٍ أخرى. هذا توسّط في التنجيز. يقول في المقام الأوّل التوسّط ليس توسّطاً في التنجيز؛ لأنّ التكليف سقط على أحد التقديرين ولم يبقَ محفوظاً على ما هو عليه، طرأ في المقام ما يوجب سقوطه ورفعه واقعاً وهو الاضطرار إلى الفرد المعيّن؛ فحينئذٍ لا يبقى على وضعه، وإنّما يسقط على تقديرٍ ويثبت على تقديرٍ آخر، وهذا هو التوسّط في التكليف.
ثمّ ذكر مسألة أنّ الترخيص واقعي وربطها بالمقام، أنّ الترخيص واقعي أو ظاهري ؟ وذكر بأنّ الترخيص في موارد الاضطرار إلى المعيّن يكون ترخيصاً واقعياً، الميزان في الترخيص الواقعي والظاهري عند الميرزا(قدّس سرّه) هو أنّه إذا كانت العلّة في ثبوت الترخيص هو محض الاضطرار فالترخيص يكون واقعياً، وأمّا إذا كان الترخيص ثابتاً بملاك الجهل وعدم العلم؛ فحينئذٍ يكون الترخيص ظاهرياً، فكلّما كان الترخيص ثابتاً بملاك الاضطرار، فالترخيص ترخيص واقعي كما هو الحال في المقام الأوّل، في المقام الأوّل يقول ملاك الترخيص في شرب الماء هو الاضطرار وليس ملاكه الجهل، الجهل لا دخل له في ذلك، وإنّما ملاكه الاضطرار، وحتّى إذا كان المكلّف جاهلاً يثبت الترخيص في ما إذا اضطرّ إليه، واصلاً الاضطرار من قيود التكليف، يرتفع التكليف عندما يكون هناك اضطرار إلى شيءٍ، فيثبت الترخيص، هذا الترخيص الذي يثبت بملاك الاضطرار هو ترخيص واقعي كما هو الحال في المقام الأوّل. وأمّا إذا كان الملاك في الترخيص هو الجهل وعدم العلم فالترخيص ظاهري، ويذكر لذلك مثالاً في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر، يقول: هناك الترخيص المستفاد من أدلّة البراءة ــــــــــ بناءً على جريان البراءة لنفي وجوب الأكثر ـــــــــــ الترخيص في ترك الأكثر ترخيص ناشئ من الجهل وعدم العلم والتردد بأنّ الواجب هل هو الأكثر، أو هو الأقل، هذا التردد والجهل وعدم العلم هو الذي أوجب الترخيص في ترك الأكثر وعدم لزوم الإتيان به، فهو ترخيص ناشئ من الجهل؛ ولذا يكون ترخيصاً ظاهرياً. إذن: هو أعطى ميزاناً عامّاً، الميزان في كون الترخيص ظاهرياً أو واقعياً بيّناه، الترخيص الواقعي ملاكه الاضطرار، والترخيص الظاهري ملاكه الجهل. ثمّ ذكر أنّ الترخيص الواقعي هو الثابت في موارد الاضطرار إلى المعيّن، وهذا واضح ومفروغ عنه بالنسبة إليه، والترخيص الظاهري ثابت في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، ثمّ جاء إلى محل الكلام الذي هو الاضطرار إلى غير المعيّن. في مسألة الاضطرار إلى غير المعيّن لديه كلام، قال: هناك وجهان في أنّه هل يقتضي التوسّط في التكليف، أو يقتضي التوسّط في التنجيز؟
قبل هذا نبيّن ما هو ربط مسألة الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري بمحل الكلام، إذا كان الترخيص واقعياً بملاك الاضطرار المحض، فأنّه يُنتج التوسّط في التكليف، كما هو الحال في المقام الأوّل، باعتبار أنّ الترخيص واقعي، والترخيص الواقعي لا يكاد يجتمع مع التكليف الواقعي، بينهما مزاحمة ومنافاة، فإذا ثبت الترخيص في هذا الطرف، فلابدّ أن يكون التكليف مرتفعاً، وإذا ارتفع التكليف عن هذا الطرف على تقدير أن يكون نجساً، هذا معناه أننّا انتهينا إلى نتيجة التوسّط في التكليف، بمعنى أنّ التكليف يكون ثابتاً على تقديرٍ ولا يكون ثابتاً على تقديرٍ آخر، وهذا هو التوسّط في التكليف كما فسّره. إذن: افتراض الترخيص الواقعي يلازم الانتهاء إلى نتيجة التوسّط في التكليف كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن. وأمّا إذا كان الترخيص ظاهرياً بملاك الجهل وليس الاضطرار، فهذا الترخيص الظاهري لا ينافي التكليف الواقعي، ليس بينه وبين التكليف الواقعي منافاة على ما ذُكر في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية، وأنّه ليس هناك منافاة بين أن يثبت الترخيص في شيء حتّى لو كان واجباً في الواقع، أو كان حراماً في الواقع، ما دام المكلّف جاهلاً بحرمته، أو جاهلاً بوجوبه، لا مشكلة في أن يثبت فيه الترخيص الظاهري، الترخيص الظاهري يجتمع مع التكليف الواقعي.
إذن: ثبوت الترخيص الظاهري في طرفٍ يجتمع مع بقاء التكليف ثابتاً وفعلياً فيه، لا مشكلة في هذا لديه، فإذا كان التكليف ثابتاً حتّى في مورد الترخيص الظاهري؛ حينئذٍ هذا ينتج نتيجة التوسّط في التنجيز؛ لأنّ التكليف ثابت وفعلي وليس أنّه ثابت على تقديرٍ وليس ثابتاً على تقديرٍ آخرٍ، وإنّما التكليف ثابت؛ لأنّه لا يوجد في قِباله إلاّ الترخيص الظاهري، والترخيص الظاهري لا ينافي التكليف الواقعي، فلابدّ أن يكون التوسّط في التنجيز لا في التكليف.
الآن يأتي إلى المسألة التي هي محل الكلام وهي الاضطرار إلى غير المعيّن، فيقول: يوجد وجهان في المسألة، هل الاضطرار إلى غير المعيّن يقتضي التوسّط في التكليف كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن ؟ أو يقتضي التوسّط في التنجيز كما هو الحال في المثال الذي ذكره وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؟ قال: هناك وجهان؛ لأنّه في مسألتنا اجتمع في الترخيص كلا الملاكين، ملاك الترخيص الواقعي وهو الاضطرار وملاك الترخيص الظاهري وهو الجهل، ليس الترخيص في محل الكلام لمحض الاضطرار كما أنّه ليس لمحض الجهل، وإنّما اجتمعا فيه، وكل منهما كان دخيلاً في ثبوت الترخيص في محل الكلام.
والوجه في دخالة الجهل في ثبوت الترخيص في محل الكلام هو أنّه لولا الجهل بمتعلّق التكليف وهو الحرام؛ حينئذٍ يتعيّن ـــــــــــ كما قلنا سابقاً ـــــــــــ رفع الاضطرار بغيره ولا يثبت الترخيص، في محل الكلام لو كان عالماً بأنّ هذا الطرف هو الحرام لا يثبت الترخيص، وإنّما يتعيّن عليه رفع اضطراره بالفرد الآخر، إذن، صار جهله دخيلاً في ثبوت الترخيص؛ ولأنّه جاهل رُخص له في ارتكاب هذا الطرف حتّى لو كان نجساً في الواقع. أمّا لو كان عالماً بنجاسته وبحرمته لما رُخّص له فيه، فهذا هو وجه دخل الجهل في الترخيص.
ومن جهة أخرى، وجه دخل الاضطرار في هذا الترخيص في محل الكلام، يقول: لولا الاضطرار لكان يجب عليه الاجتناب عن الجميع، فلو لم يكن مضطرّاً لشرب الماء لرفع عطشه، لوجب عليه الاجتناب عن الجميع، ولم يحصل ما يوجب الترخيص في البعض. إذن، الاضطرار يكون دخيلاً في هذا الترخيص في البعض؛ لأنّه لولا الاضطرار لما ثبت الترخيص في أحدهما. إذن، كلا الملاكين تحققا في محل الكلام.
ثمّ ذكر أنّ لكلٍ من الترخيص الواقعي الذي ينتج التوسّط في التكليف، والترخيص الظاهري الذي ينتج التوسّط في التنجيز لكلٍ منهما وجه قوي، وجه كون الترخيص ظاهري في محل الكلام هو ما أشار إليه قبل قليل من أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن لا يزاحم التكليف الواقعي، وأنّ موضوع التكليف الواقعي بتمام قيوده الوجودية والعدمية محفوظ في محل الكلام، موضوع التكليف محفوظ، وهو الماء الذي سقطت فيه قطرة دمٍ مثلاً، وهذا الموضوع محفوظ في البين، قطعاً هناك ماء سقطت فيه قطرة دم، وتقدّم منّا أنّ فعلية التكليف تابعة لفعلية موضوعه، فيكون التكليف فعلياً، والمكلّف يمكنه رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، وهذا يعني أنّ العلّة في الترخيص هي الجهل؛ إذ لولاه لتعيّن رفع الاضطرار بغير متعلّق التكليف، فكأنّ الجهل بمتعلّق التكليف هو الذي أوجب الترخيص في ارتكاب هذا الإناء، وإلاّ لو كان عالماً لما رُخّص له في ارتكابه. إذن، جهله بمتعلّق التكليف هو الذي صار سبباً في الترخيص له في ارتكاب هذا الطرف حتّى لو كان هو النجس واقعاً؛ وحينئذٍ يكون الترخيص ظاهرياً. هذا وجه كون الترخيص ظاهرياً.
وأمّا وجه كونه واقعياً، فقد ذكر مطلباً مهمّاً وهو أنّ الاضطرار بوجوده الواقعي لا ينافي التكليف الواقعي؛ لأنّ المصب مختلف على ما تقدّم من أنّ الاضطرار يتعلّق بالجامع، بينما التكليف الواقعي في هذا الطرف على تقدير سقوط النجاسة فيه يتعلّق بالفرد، فالمصب مختلف، فيكون الاضطرار في محل الكلام إلى غير المعيّن لا ينافي التكليف الواقعي، هذا صحيح وتامّ، لكن في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام تكون المنافاة متحققة، وتقع المصادمة بين التكليف وبين الاضطرار، ولو في صورة مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره لمتعلّق التكليف؛ لأنّ ــــــــــــ وهذا مهم ــــــــــــ ارتكاب المكلّف الحرام في حال الجهل بمتعلّق التكليف وعدم تشخيص الحرام، يكون مصداقاً للاضطرار ويُحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ويصح أن يقال أنّ ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه، وإن كان يمكنه رفعه بالطرف الآخر، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام، فالترخيص فيه يكون واقعياً. تمام هذه النكتة هي أنّه صحيح أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن لا يصطدم مع التكليف الواقعي لاختلاف المصب؛ لأنّ الترخيص مصدره الجامع، بينما التكليف يتعلّق بالفرد. هذا كلّه صحيح، لكن في حال الجهل وعدم العلم عندما يختار المكلّف هذا الطرف ويشربه لرفع اضطراره، ويصادف أنّ هذا الطرف هو النجس الواقعي وهو الحرام الواقعي، هنا كأنّه يريد أن يقول أنّ الاضطرار في هذه الحالة يسري من الجامع إلى الفرد، ولو عرفاً ومسامحة، فيصح أن يقال أنّ هذا ارتكب الحرام وارتكابه للحرام كان عن اضطرارٍ إليه، في الواقع ارتكابه لهذا ليس عن اضطرار إليه؛ لأنّه يمكنه رفع الاضطرار بالفرد الآخر. إذن، في الواقع ليس عن اضطرارٍ إليه، لكن حيث أنّه جاهل لا يستطيع أن يميّز الحرام عن غيره، فإذا ارتكب هذا في حال الجهل، كأنّ الاضطرار يسري من الجامع إلى الفرد، فيكون الفرد مركز الاضطرار، وهو مركز التكليف، فتكون المصادمة بينهما متحققة؛ وحينئذٍ يكون الترخيص ترخيصاً واقعياً ملاكه الاضطرار؛ كأنّ الاضطرار هو الذي أوجب الترخيص؛ وحينئذٍ يكون التكليف مرتفعاً وإذا ارتفع التكليف لاتّحاد المصب؛ لأنّ التكليف تعلّق بنفس ما تعلّق به الاضطرار، ولو من باب السراية من الجامع إلى الفرد، فلا يمكن أن يجتمعا، فيرتفع التكليف، وإذا ارتفع التكليف ترتبت عليه آثار رفع التكليف من أنّ الترخيص يكون واقعياً، والتوسّط يكون توسّطاً في التكليف. إلى هنا كأنّه متردد أنّ التوسّط في التكليف، أو في التنجيز، المقرر ذكر أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) مال إلى التوسّط في التكليف، وقوّاه في ابتداء الأمر، لكنّه عدل عنه في فذلكة البحث واختار الترخيص الظاهري والتوسّط في التنجيز.[2]
إذن: الذي يُفهم منه في(فوائد الأصول) هو التوسّط في التكليف، أو التردد بين التوسّط في التكليف والتوسّط في التنجيز.
الرأي الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني كما في(فوائد الأصول)؛ لأنّ ما ذكر في (أجود التقريرات) يختلف عنه، وسنجعله الرأي الرابع. ذهب إلى المنجّزية، أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام ووجوب الاجتناب عن ما عدا ما يُدفع به الضرر، وذكر أنّ هذا الحكم ثابت في جميع الصور الثلاثة المتقدّمة في القسم الأوّل، والسرّ في ذلك ذكر كلاماً طويلاً لابدّ من استعراضه، قال:(فأنّ الاضطرار إلى غير المعيّن ـــــــــــ الذي هو محل كلامنا ـــــــــــ يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما).[1] الاضطرار إلى غير المعيّن يستلزم الترخيص التخييري، فكأنّه يريد أن يقول لا منافاة ولا مزاحمة بين الترخيص التخييري وبين التكليف الواقعي، أي أن يكون هناك تكليف واقعي يُعلم بثبوته في أحد الإناءين ومع ذلك يُرخّص للمكلّف في ارتكاب أحدهما، لا مزاحمة بينهما ولا منافاة. والسرّ في عدم المنافاة والمزاحمة هو أنّ المكلّف يتمكّن من رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، وهذا معناه أنّ مركز الاضطرار يختلف عن مركز التكليف ومتعلّقه، التكليف يتعلّق بالفرد الذي هو النجس الواقعي الذي سقطت فيه ــــــــــ مثلاً ــــــــــــ قطرة الدم، بينما الاضطرار والترخيص الذي هو لازم للاضطرار يتعلّق بأحدهما، أي بالجامع، فهما لا يتعلّقان بشيءٍ واحدٍ، الاضطرار ليس منصبّاً على متعلّق التكليف حتّى يقال كيف يمكن الجمع بين التكليف بشيءٍ وبين الترخيص فيه ؟! هذان متزاحمان لا يمكن الجمع بينهما، هو كأنّه يريد أن يقول: أنّ الاضطرار لا يتعلّق بمتعلّق التكليف، وإنّما يتعلّق بأحدهما. إذن: الترخيص ثابت لأحدهما، أي للجامع، والترخيص الثابت للجامع لا ينافي ولا يزاحم التكليف الواقعي المنصب على الفرد؛ لأنّ التكليف الواقعي متعلّق بالنجس الواقعي، أي بالإناء الذي سقطت فيه قطرة الدم واقعاً، التكليف متعلّق بالفرد، والاضطرار والترخيص متعلّق بالجامع؛ ولذا لا منافاة بينهما، والدليل على ذلك هو أنّ المكلّف يتمكّن من رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، أي بالإتيان بالفرد الآخر الذي هو غير متعلّق التكليف؛ بل يقول: لولا الجهل بمتعلّق التكليف لتعيّن على المكلّف أن يرفع اضطراره بغيره، بمعنى أنّه لو كان عالماً بأنّ هذا هو الذي تعلّق به التكليف؛ حينئذٍ لا إشكال في أنّه يتعيّن عليه أن يرفع اضطراره بالآخر. غاية الأمر أنّه يجهل متعلّق التكليف، لكنّ جهله هذا لا يعني أنّ الترخيص والاضطرار يتعلّق بنفس ما يتعلّق به التكليف، وإنّما الترخيص والاضطرار يتعلّق بأحدهما، أي بالجامع، بينما التكليف يتعلّق بالفرد.
ثمّ ذكر في مقام توضيح هذه الفكرة أنّ الاضطرار إلى المعيّن يختلف عن الاضطرار إلى غير المعيّن، المقام الأوّل يختلف عن المقام الثاني الذي هو محل كلامنا، في المقام الأوّل الاضطرار يزاحم التكليف وينافيه؛ لأنّ المركز واحد، عندما يضطر إلى المعيّن، عندما تدور النجاسة بين أن تكون ساقطة في الماء، أو في الخل في المثال السابق، وهو اضطرّ إلى شرب الماء لرفع عطشه، الاضطرار يتعلّق بالماء، والتكليف الواقعي على تقدير أن تكون النجاسة فيه أيضاً يتعلّق بالماء، ومن هنا تكون هناك مزاحمة بين الاضطرار إلى المعيّن وبين التكليف الواقعي، بمعنى أنّ الاضطرار بنفس وجوده يكون مزاحماً للتكليف الواقعي إذا صادف أنّ التكليف الواقعي متعلّق بالماء، على تقدير مصادفة الماء للنجاسة الواقعية هناك منافاة بين الترخيص فيه وبين تعلّق التكليف فيه؛ لأنّهما يتعلّقان بشيءٍ واحد على فرض أن تكون النجاسة ساقطة في هذا الإناء الذي اضطرّ إليه تعييناً، يقول: وهذه المزاحمة بينهما في هذه الحالة تدور مدار الواقع ولا مدخل للجهل والعلم فيها، وإنّما هي تدور مدار واقع ما اضطرّ إليه، فإذا فرضنا أنّ الواقع الذي اضطرّ إليه وهو الماء في هذا المثال كان التكليف متعلّقاً به تكون المزاحمة ثابتة، المزاحمة واقعية حتّى في حال جهل المكلّف، هذا الفرد الذي اضطرّ إليه وهو الماء على تقدير أن يكون نجساً في الواقع تقع المزاحمة بين التكليف باجتنابه وبين الترخيص في ارتكابه، ولا يجتمع تحريمه مع الترخيص فيه، فتقع بينهما المزاحمة، وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعيّن الذي هو محل الكلام؛ لأنّ هذا الاضطرار إلى غير المعيّن بوجوده الواقعي ليس مزاحماً للتكليف لما ذكرنا من أنّ مصبّهما متعدد، التكليف يتعلّق على فرض وقوع النجاسة في هذا الإناء، يتعلّق بالإناء، أي بالفرد، بينما الاضطرار والترخيص ليس إلى الفرد، وإنّما هو إلى الجامع وإلى أحد الطرفين؛ لأنّ الاضطرار ليس إلى فردٍ معيّن، وإنّما هو إلى غير المعيّن.
يترتّب على هذا الكلام أنّ التكليف في موارد الاضطرار إلى المعيّن يسقط إذا فُرض تعلّق التكليف به، أنّ التكليف في موارد الاضطرار إلى المعيّن لو فُرض كونه هو النجس الواقعي يسقط باعتبار الاضطرار إلى ذلك الفرد المعيّن، وهذا واضح، باعتبار أنّ الاضطرار يقتضي سقوط التكليف، فالاضطرار إلى أكل الميتة يقتضي سقوط التكليف بحرمة الأكل، والاضطرار في المقام الأوّل إلى شرب الماء لرفع عطشه يقتضي سقوط الحرمة عنه لو كان هو الحرام الواقعي، أي لو كان هو النجس واقعاً، وبالتالي لا يكون التكليف فعلياً على كل تقدير؛ لاحتمال أن يكون ما اضطرّ إليه هو الحرام الواقعي، وعلى هذا التقدير يسقط التكليف. نعم، على تقدير أن يكون الحرام في الطرف الآخر يكون التكليف فعلياً.
إذن: التكليف لا يكون فعلياً على كل تقدير، وإنّما يكون فعلياً على تقدير عدم مصادفة الحرام لما اضطرّ إليه بعينه؛ لأنّه يحرم عليه شربه. وأمّا على تقدير أن يكون الحرام متحققاً في ما اضطر إليه؛ حينئذٍ يسقط التكليف، ولا تكليف. إذن: التكليف ليس فعلياً على كل تقدير.
وأمّا في مورد الاضطرار إلى غير المعيّن الذي هو محل كلامنا، يقول: أنّ الاضطرار إنّما يوجب سقوط التكليف عن ما يُرفع به الاضطرار لا أزيد من ذلك، الفرد الذي رفع به اضطراره يسقط عنه التكليف، فلا يحرم شربه لو كان هو النجس الواقعي، أمّا الطرف الباقي الذي لم يدفع به اضطراره، فهو باقٍ على حكمه ولا موجب للترخيص فيه؛ لأنّ الترخيص فيه إمّا أن يكون بملاك الاضطرار، والمفروض أن لا اضطرار بالنسبة إليه؛ لأنّ المفروض أنّه رفع اضطراره بهذا، فالآخر لا اضطرار له، فلا يثبت فيه الترخيص بملاك الاضطرار. وإمّا أن يثبت فيه الترخيص، باعتبار الأصول المؤمّنة، ويقول: أنّ الأصول المؤمنّة لا تجري في الطرف الآخر؛ لأنّه طرف للعلم الإجمالي، والعلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول في أطرافه. إذن، الطرف الآخر لا مرخّص فيه ولا مؤمّن من ناحيته، فيجب الاجتناب عنه.
بعبارةٍ أخرى، يقول: أنّ فعلية التكليف تدور مدار فعلية موضوعه، كلّما كان موضوع التكليف فعلياً، التكليف قهراً يكون فعلياً، ولا يُعقل أن لا يكون الحكم فعلياً مع فعلية موضوعه، وإنّما هو في الفعلية يتبع فعلية موضوعه. في محل الكلام لابدّ أن يكون الحكم فعلياً وذلك تبعاً لفعلية موضوعه؛ لأنّ موضوعه متحقق بحسب الفرض بين المشتبهات، التكليف المعلوم بالإجمال موضوعه الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وهذا متحقق بين المشتبهات، قطعاً أحد المشتبهين وقعت فيه النجاسة، فإذن، موضوع التكليف الواقعي محفوظ ومتحقق فعلاً ومع فعلية الموضوع لابدّ أنّ يكون التكليف فعلياً أيضاً، الاضطرار إنّما يرفع التكليف إذا تعلّق بنفس ما تعلّق به التكليف كما في المقام الأوّل؛ لأنّ الاضطرار متعلّق بالفرد بعينه، فإذا فُرض أنّ النجاسة وقعت فيه، هنا نقول هذا يُسقط التكليف؛ لأنّ الاضطرار إلى الشيء يُسقط عنه التكليف، لكنّ هذا غير متحقق في محل الكلام؛ لأننّا ذكرنا أنّ الاضطرار لا يتعلّق بنفس ما تعلّق به التكليف حتّى لو فرضنا أنّ هذا الإناء هو النجس واقعاً، لكن هذا ليس معناه أنّ الاضطرار يكون متعلّقاً به حتّى يكون الاضطرار إليه موجباً لسقوط التكليف فيه؛ بل يبقى الاضطرار متعلّقاً بالجامع، أي بأحدهما وليس متعلّقاً بالفرد حتّى يكون موجباً لسقوط التكليف. النتيجة هي أنّ التكليف يكون فعلياً، باعتبار فعلية موضوعه ويُشير إلى ذلك ما تقدّم من أنّ المكلّف ليس مضطرّاً إلى ارتكاب متعلّق التكليف؛ بل بإمكانه أن يرفع الاضطرار بالفرد الآخر الذي لم يتعلّق به التكليف.
ثمّ دخل في مسألة التوسّط في التكليف والتوسّط في التنجيز، وذكر أنّ الاضطرار إلى المعيّن في المقام الأوّل يقتضي التوسّط في التكليف ولا يمكن أن يقتضي التوسّط في التنجيز، هذا في المقام الأوّل، باعتبار ما أُشير إليه من أنّ التكليف الواقعي مقيّد بعدم طرو الاضطرار، بمجرّد أن يطرأ الاضطرار يرتفع التكليف الواقعي. إذن: في المقام الأوّل فُرض طرو الاضطرار على الفرد المعيّن، هذا يكون مسقطاً للتكليف فيه على تقدير أن يكون هو النجس واقعاً؛ وحينئذٍ لا يبقى علم إجمالي بتكليفٍ فعلي للمكلّف؛ لعدم الجزم بفعلية التكليف؛ لأنّ هذا التكليف على أحد التقديرين يكون ساقطاً. نعم، على التقدير الآخر يكون ثابتاً. إذن: لا علم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير. يقول هذا هو التوسّط في التكليف؛ لأنّه يُفسّر التوسّط في التكليف ـــــــــــ كما نقلنا ذلك عنه سابقاً ـــــــــــ بأنّه عبارة عن كون التكليف ثابتاً على تقديرٍ وليس ثابتاً على تقديرٍ آخرٍ، كلّما كان التكليف ثابتاً على تقديرٍ وغير ثابتٍ على تقديرٍ آخرٍ، فهذا توسّط في التكليف، هذا في الاضطرار إلى المعيّن يكون هكذا: على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الماء في المقام الأوّل يرتفع التكليف؛ لأنّه مورد الاضطرار، والاضطرار يرفع التكليف. نعم على التقدير الآخر يكون التكليف ثابتاً. إذن: التكليف ليس معلوماً على كل تقدير، وهذا هو التوسّط في التكليف.
يقول: التوسّط في التنجيز لا يتحقق في المقام الأوّل؛ لأنّه يُشترط في التوسّط في التنجيز بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه من دون أن يكون في البين ما يقتضي رفعه واقعاً. عندما يكون هذا هو حال التكليف، يعني أنّه باقٍ على ما هو عليه ولا يوجد في المقام ما يقتضي رفعه واقعاً، هنا لابدّ أن يكون التوسّط في التنجيز لا في التكليف؛ لأنّ التكليف لم يُمس ولم يطرأ عليه نقص ولم يطرأ عليه أي شيءٍ، اي أنّه باقٍ على وضعه السابق. نعم، في مرحلة التنجيز يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية ولا يكون منجّزاً لوجوب المخالفة القطعية، وهذا هو التوسّط في التنجيز، بمعنى أنّ التكليف في مرحلة التنجيز يكون منجّزاً في حالةٍ ولا يكون منجّزاً في حالةٍ أخرى. هذا توسّط في التنجيز. يقول في المقام الأوّل التوسّط ليس توسّطاً في التنجيز؛ لأنّ التكليف سقط على أحد التقديرين ولم يبقَ محفوظاً على ما هو عليه، طرأ في المقام ما يوجب سقوطه ورفعه واقعاً وهو الاضطرار إلى الفرد المعيّن؛ فحينئذٍ لا يبقى على وضعه، وإنّما يسقط على تقديرٍ ويثبت على تقديرٍ آخر، وهذا هو التوسّط في التكليف.
ثمّ ذكر مسألة أنّ الترخيص واقعي وربطها بالمقام، أنّ الترخيص واقعي أو ظاهري ؟ وذكر بأنّ الترخيص في موارد الاضطرار إلى المعيّن يكون ترخيصاً واقعياً، الميزان في الترخيص الواقعي والظاهري عند الميرزا(قدّس سرّه) هو أنّه إذا كانت العلّة في ثبوت الترخيص هو محض الاضطرار فالترخيص يكون واقعياً، وأمّا إذا كان الترخيص ثابتاً بملاك الجهل وعدم العلم؛ فحينئذٍ يكون الترخيص ظاهرياً، فكلّما كان الترخيص ثابتاً بملاك الاضطرار، فالترخيص ترخيص واقعي كما هو الحال في المقام الأوّل، في المقام الأوّل يقول ملاك الترخيص في شرب الماء هو الاضطرار وليس ملاكه الجهل، الجهل لا دخل له في ذلك، وإنّما ملاكه الاضطرار، وحتّى إذا كان المكلّف جاهلاً يثبت الترخيص في ما إذا اضطرّ إليه، واصلاً الاضطرار من قيود التكليف، يرتفع التكليف عندما يكون هناك اضطرار إلى شيءٍ، فيثبت الترخيص، هذا الترخيص الذي يثبت بملاك الاضطرار هو ترخيص واقعي كما هو الحال في المقام الأوّل. وأمّا إذا كان الملاك في الترخيص هو الجهل وعدم العلم فالترخيص ظاهري، ويذكر لذلك مثالاً في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر، يقول: هناك الترخيص المستفاد من أدلّة البراءة ــــــــــ بناءً على جريان البراءة لنفي وجوب الأكثر ـــــــــــ الترخيص في ترك الأكثر ترخيص ناشئ من الجهل وعدم العلم والتردد بأنّ الواجب هل هو الأكثر، أو هو الأقل، هذا التردد والجهل وعدم العلم هو الذي أوجب الترخيص في ترك الأكثر وعدم لزوم الإتيان به، فهو ترخيص ناشئ من الجهل؛ ولذا يكون ترخيصاً ظاهرياً. إذن: هو أعطى ميزاناً عامّاً، الميزان في كون الترخيص ظاهرياً أو واقعياً بيّناه، الترخيص الواقعي ملاكه الاضطرار، والترخيص الظاهري ملاكه الجهل. ثمّ ذكر أنّ الترخيص الواقعي هو الثابت في موارد الاضطرار إلى المعيّن، وهذا واضح ومفروغ عنه بالنسبة إليه، والترخيص الظاهري ثابت في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، ثمّ جاء إلى محل الكلام الذي هو الاضطرار إلى غير المعيّن. في مسألة الاضطرار إلى غير المعيّن لديه كلام، قال: هناك وجهان في أنّه هل يقتضي التوسّط في التكليف، أو يقتضي التوسّط في التنجيز؟
قبل هذا نبيّن ما هو ربط مسألة الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري بمحل الكلام، إذا كان الترخيص واقعياً بملاك الاضطرار المحض، فأنّه يُنتج التوسّط في التكليف، كما هو الحال في المقام الأوّل، باعتبار أنّ الترخيص واقعي، والترخيص الواقعي لا يكاد يجتمع مع التكليف الواقعي، بينهما مزاحمة ومنافاة، فإذا ثبت الترخيص في هذا الطرف، فلابدّ أن يكون التكليف مرتفعاً، وإذا ارتفع التكليف عن هذا الطرف على تقدير أن يكون نجساً، هذا معناه أننّا انتهينا إلى نتيجة التوسّط في التكليف، بمعنى أنّ التكليف يكون ثابتاً على تقديرٍ ولا يكون ثابتاً على تقديرٍ آخر، وهذا هو التوسّط في التكليف كما فسّره. إذن: افتراض الترخيص الواقعي يلازم الانتهاء إلى نتيجة التوسّط في التكليف كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن. وأمّا إذا كان الترخيص ظاهرياً بملاك الجهل وليس الاضطرار، فهذا الترخيص الظاهري لا ينافي التكليف الواقعي، ليس بينه وبين التكليف الواقعي منافاة على ما ذُكر في بحث الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية، وأنّه ليس هناك منافاة بين أن يثبت الترخيص في شيء حتّى لو كان واجباً في الواقع، أو كان حراماً في الواقع، ما دام المكلّف جاهلاً بحرمته، أو جاهلاً بوجوبه، لا مشكلة في أن يثبت فيه الترخيص الظاهري، الترخيص الظاهري يجتمع مع التكليف الواقعي.
إذن: ثبوت الترخيص الظاهري في طرفٍ يجتمع مع بقاء التكليف ثابتاً وفعلياً فيه، لا مشكلة في هذا لديه، فإذا كان التكليف ثابتاً حتّى في مورد الترخيص الظاهري؛ حينئذٍ هذا ينتج نتيجة التوسّط في التنجيز؛ لأنّ التكليف ثابت وفعلي وليس أنّه ثابت على تقديرٍ وليس ثابتاً على تقديرٍ آخرٍ، وإنّما التكليف ثابت؛ لأنّه لا يوجد في قِباله إلاّ الترخيص الظاهري، والترخيص الظاهري لا ينافي التكليف الواقعي، فلابدّ أن يكون التوسّط في التنجيز لا في التكليف.
الآن يأتي إلى المسألة التي هي محل الكلام وهي الاضطرار إلى غير المعيّن، فيقول: يوجد وجهان في المسألة، هل الاضطرار إلى غير المعيّن يقتضي التوسّط في التكليف كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن ؟ أو يقتضي التوسّط في التنجيز كما هو الحال في المثال الذي ذكره وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؟ قال: هناك وجهان؛ لأنّه في مسألتنا اجتمع في الترخيص كلا الملاكين، ملاك الترخيص الواقعي وهو الاضطرار وملاك الترخيص الظاهري وهو الجهل، ليس الترخيص في محل الكلام لمحض الاضطرار كما أنّه ليس لمحض الجهل، وإنّما اجتمعا فيه، وكل منهما كان دخيلاً في ثبوت الترخيص في محل الكلام.
والوجه في دخالة الجهل في ثبوت الترخيص في محل الكلام هو أنّه لولا الجهل بمتعلّق التكليف وهو الحرام؛ حينئذٍ يتعيّن ـــــــــــ كما قلنا سابقاً ـــــــــــ رفع الاضطرار بغيره ولا يثبت الترخيص، في محل الكلام لو كان عالماً بأنّ هذا الطرف هو الحرام لا يثبت الترخيص، وإنّما يتعيّن عليه رفع اضطراره بالفرد الآخر، إذن، صار جهله دخيلاً في ثبوت الترخيص؛ ولأنّه جاهل رُخص له في ارتكاب هذا الطرف حتّى لو كان نجساً في الواقع. أمّا لو كان عالماً بنجاسته وبحرمته لما رُخّص له فيه، فهذا هو وجه دخل الجهل في الترخيص.
ومن جهة أخرى، وجه دخل الاضطرار في هذا الترخيص في محل الكلام، يقول: لولا الاضطرار لكان يجب عليه الاجتناب عن الجميع، فلو لم يكن مضطرّاً لشرب الماء لرفع عطشه، لوجب عليه الاجتناب عن الجميع، ولم يحصل ما يوجب الترخيص في البعض. إذن، الاضطرار يكون دخيلاً في هذا الترخيص في البعض؛ لأنّه لولا الاضطرار لما ثبت الترخيص في أحدهما. إذن، كلا الملاكين تحققا في محل الكلام.
ثمّ ذكر أنّ لكلٍ من الترخيص الواقعي الذي ينتج التوسّط في التكليف، والترخيص الظاهري الذي ينتج التوسّط في التنجيز لكلٍ منهما وجه قوي، وجه كون الترخيص ظاهري في محل الكلام هو ما أشار إليه قبل قليل من أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن لا يزاحم التكليف الواقعي، وأنّ موضوع التكليف الواقعي بتمام قيوده الوجودية والعدمية محفوظ في محل الكلام، موضوع التكليف محفوظ، وهو الماء الذي سقطت فيه قطرة دمٍ مثلاً، وهذا الموضوع محفوظ في البين، قطعاً هناك ماء سقطت فيه قطرة دم، وتقدّم منّا أنّ فعلية التكليف تابعة لفعلية موضوعه، فيكون التكليف فعلياً، والمكلّف يمكنه رفع اضطراره بغير متعلّق التكليف، وهذا يعني أنّ العلّة في الترخيص هي الجهل؛ إذ لولاه لتعيّن رفع الاضطرار بغير متعلّق التكليف، فكأنّ الجهل بمتعلّق التكليف هو الذي أوجب الترخيص في ارتكاب هذا الإناء، وإلاّ لو كان عالماً لما رُخّص له في ارتكابه. إذن، جهله بمتعلّق التكليف هو الذي صار سبباً في الترخيص له في ارتكاب هذا الطرف حتّى لو كان هو النجس واقعاً؛ وحينئذٍ يكون الترخيص ظاهرياً. هذا وجه كون الترخيص ظاهرياً.
وأمّا وجه كونه واقعياً، فقد ذكر مطلباً مهمّاً وهو أنّ الاضطرار بوجوده الواقعي لا ينافي التكليف الواقعي؛ لأنّ المصب مختلف على ما تقدّم من أنّ الاضطرار يتعلّق بالجامع، بينما التكليف الواقعي في هذا الطرف على تقدير سقوط النجاسة فيه يتعلّق بالفرد، فالمصب مختلف، فيكون الاضطرار في محل الكلام إلى غير المعيّن لا ينافي التكليف الواقعي، هذا صحيح وتامّ، لكن في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام تكون المنافاة متحققة، وتقع المصادمة بين التكليف وبين الاضطرار، ولو في صورة مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره لمتعلّق التكليف؛ لأنّ ــــــــــــ وهذا مهم ــــــــــــ ارتكاب المكلّف الحرام في حال الجهل بمتعلّق التكليف وعدم تشخيص الحرام، يكون مصداقاً للاضطرار ويُحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ويصح أن يقال أنّ ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه، وإن كان يمكنه رفعه بالطرف الآخر، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام، فالترخيص فيه يكون واقعياً. تمام هذه النكتة هي أنّه صحيح أنّ الاضطرار إلى غير المعيّن لا يصطدم مع التكليف الواقعي لاختلاف المصب؛ لأنّ الترخيص مصدره الجامع، بينما التكليف يتعلّق بالفرد. هذا كلّه صحيح، لكن في حال الجهل وعدم العلم عندما يختار المكلّف هذا الطرف ويشربه لرفع اضطراره، ويصادف أنّ هذا الطرف هو النجس الواقعي وهو الحرام الواقعي، هنا كأنّه يريد أن يقول أنّ الاضطرار في هذه الحالة يسري من الجامع إلى الفرد، ولو عرفاً ومسامحة، فيصح أن يقال أنّ هذا ارتكب الحرام وارتكابه للحرام كان عن اضطرارٍ إليه، في الواقع ارتكابه لهذا ليس عن اضطرار إليه؛ لأنّه يمكنه رفع الاضطرار بالفرد الآخر. إذن، في الواقع ليس عن اضطرارٍ إليه، لكن حيث أنّه جاهل لا يستطيع أن يميّز الحرام عن غيره، فإذا ارتكب هذا في حال الجهل، كأنّ الاضطرار يسري من الجامع إلى الفرد، فيكون الفرد مركز الاضطرار، وهو مركز التكليف، فتكون المصادمة بينهما متحققة؛ وحينئذٍ يكون الترخيص ترخيصاً واقعياً ملاكه الاضطرار؛ كأنّ الاضطرار هو الذي أوجب الترخيص؛ وحينئذٍ يكون التكليف مرتفعاً وإذا ارتفع التكليف لاتّحاد المصب؛ لأنّ التكليف تعلّق بنفس ما تعلّق به الاضطرار، ولو من باب السراية من الجامع إلى الفرد، فلا يمكن أن يجتمعا، فيرتفع التكليف، وإذا ارتفع التكليف ترتبت عليه آثار رفع التكليف من أنّ الترخيص يكون واقعياً، والتوسّط يكون توسّطاً في التكليف. إلى هنا كأنّه متردد أنّ التوسّط في التكليف، أو في التنجيز، المقرر ذكر أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) مال إلى التوسّط في التكليف، وقوّاه في ابتداء الأمر، لكنّه عدل عنه في فذلكة البحث واختار الترخيص الظاهري والتوسّط في التنجيز.[2]
إذن: الذي يُفهم منه في(فوائد الأصول) هو التوسّط في التكليف، أو التردد بين التوسّط في التكليف والتوسّط في التنجيز.