36/02/02
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات
الوجه الثاني لعدم منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات: هو ما ذكرناه في الدرس السابق، وهو اختلال شرط من شرائط المنجّزية، على مسلك الاقتضاء الشرط هو تعارض الأصول في الأطراف، بمعنى أن يجري الأصل في كلٍ من الطرفين، فيقع التعارض والتساقط، فيتنجّز العلم الإجمالي، فالشرط هو أن يكون كل طرفٍ قابلٍ لجريان الأصل فيه، والوجه يقول أنّ هذا الشرط غير متحقق في محل الكلام؛ لأنّ التكليف على التقدير الثاني، يعني على تقدير ان يكون ليس فعلياً الآن، وإنّما يكون فعلياً في المستقبل، هذا ليس مورداً للأصل المؤمّن، وذلك لعدم تحقق موضوعه الذي هو الشكّ؛ لأنّ المكلّف لا يشك فعلاً في ذاك التكليف، المرأة تعلم أنّه لا يحرم عليها الدخول في المساجد، على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل، فهي لا تشك فعلاً، فإذن: على ذاك التقدير لا شك فعلاً، فلا يجري الأصل، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض، وهذا يوجب انحلال العلم الإجمالي حكماً على ما تقدّم، وعدم منجّزية هذا العلم الإجمالي . هذا على القول بالاقتضاء.
على القول بالعلّية الشرط في تنجيز العلم الإجمالي هو أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، وفي المقام العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، وإنّما يكون صالحاً لتنجيز معلومه على التقدير الأوّل، وأمّا على التقدير الثاني، فهو ليس صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً؛ لأنّ كل تنجيز تكليف متوقف على ثبوته وفعليته حتّى يكون منجّزاً، أما قبل ثبوته فلا معنى لافتراض التنجيز.
إذن: العلم الإجمالي على أحد التقديرين صالح لتنجيز معلومه، لكن على التقدير الآخر ليس صالحاً لتنجيز معلومه؛ لأنّ المنجّزية إنّما تثبت لتكليف بعد فرض ثبوته وفعليته، وأمّا قبل ذلك، فلا. هذا بناءً على مسلك العلّية.
الجواب عن هذا الوجه الثاني: أمّا على مسلك العلّية، فالجواب هو أننا ندّعي أنّ العلم الإجمالي صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير، وذلك لما تقدّم من أنّ العلم يصلح لأن ينجّز معلومه ولو كان معلومه استقبالياً، ولا يتوقّف تنجيز العلم لمعلومه على أن يكون فعلياً وثابتاً الآن، حتّى إذا كان التكليف ليس فعلياً وليس ثابتاً الآن، العلم به ينجّزه ولا يشترط في منجّزية العلم للتكليف بنظر العقل أن يكون التكليف فعلياً وثابتاً الآن.
بعبارةٍ أخرى: أنّ قياس ما نحن فيه على سائر الأحكام بلحاظ موضوعاتها، فيقال لا معنى لثبوت الحكم قبل تحقق موضوعه، الحكم إنّما يثبت بعد فرض تحقق موضوعه، كأنّه تقاس المنجّزية بالنسبة إلى التكليف كما هو الحال في الحكم بالنسبة إلى موضوعه في سائر الأحكام بالنسبة إلى موضوعها، لا يُشترط فعلية التكليف حتّى تثبت له المنجّزية؛ لما قلناه في الدرس السابق من أن التنجيز هو حكم عقلي، والمراد به إدراك العقل قبح المخالفة، وهذا يكفي فيه العلم بالتكليف، سواء كان التكليف فعلياً، أو استقبالياً، حتّى إذا كان التكليف استقبالياً وليس فعلياً الآن إذا علم به المكلّف العقل يحكم بكونه منجّزاً على المكلّف، بمعنى يحكم بقبح مخالفته واستحقاق العقاب على مخالفته حتّى إذا كانت المخالفة استقبالية وليست فعلية، لكن العقل يحكم فعلاً بقبح مخالفته، وهذا على ضوء ما تقدم معناه أنّ العلم الإجمالي في المقام صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير، على التقدير الأوّل هو صالح لتنجيز معلومه، وعلى التقدير الثاني هذا العلم أيضاً صالح لتنجيز معلومه؛ لأنّ التنجيز يُراد به هذا المعنى، وهذا المعنى فعلي وموجود منذ البداية ولا يتوقف وجود هذا الحكم العقلي وإدراك العقل لقبح المخالفة على فعلية التكليف، إذا علم بالتكليف الفعلي ولو بالمستقبل يحكم العقل بقبح مخالفته؛ لما قلناه من ان التكليف يدخل في دائرة المولوية ويثبت للمولى فيه حق الطاعة بمجرّد العلم به، والعقل يحكم بقبح مخالفة كل تكليف يثبت للمولى فيه حق الطاعة. بناءً على القول بالعلّية، اشتراط أن يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، لابدّ أن يُقصد به أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه في عمود الزمان لا أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً، حتّى لو فرضنا أنّه ليس صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً، لكنّه صالح لتنجيز معلومه في عمود الزمان، بمعنى أننا ندخل في التنجيز التكليف الغير الفعلي والذي سيكون فعلياً في المستقبل، هذا العلم الإجمالي صالح لتنجيز معلومه، سواء كان معلومه فعلياً، أو كان معلومه استقبالياً.
وأمّا على مسلك الاقتضاء: فالمدّعى في هذا الدليل أنّ الصل الجاري في الطرف الأوّل لا يعارض بالأصل الجاري في الطرف الثاني؛ لأنّ الطرف الثاني ليس مورداً للأصل، باعتبار ما ذُكر من النكتة، وهي أن الشكّ فيه ليس فعلياً، فإذن، هو ليس مورداً للأصل فعلاً، فإذا لم يكن مورداً للأصل فعلاً، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض؛ لأنّه لا معارض للأصل في الطرف الثاني؛ لأنّ الأصل لا يجري في الطرف الثاني.
الجواب عن ذلك: أننا نقول أنّ الأصل في الطرف الأوّل معارض بالأصل في الطرف الثاني، والسرّ في ذلك هو أنّ التعارض في المقام، يعني الأصل الجاري في الطرف الأوّل معارض بالأصل في الطرف الثاني. هذا التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين ماذا يُراد به ؟ المراد بذلك في الحقيقة هو منع شمول إطلاق شمول الأصل في كلٍ من الطرفين، أنّ دليل الأصل لا يشمل كلا الطرفين، فيقع التعارض بينهما، ليس التعارض من قبيل التضاد بين البياض والسواد حتّى نقول يُشترط في التضاد أن يكون الزمان واحداً، وإلاّ لا تضاد بين الشيئين، التعارض هو عبارة عن أنّ شمول دليل الأصل لهذا الطرف ينافيه شموله للطرف الآخر، هذه المنافاة في شمول دليل الأصل لكلا الطرفين توقع المعارضة بين الأصلين.
وبعبارةٍ أخرى: يكون شمول دليل الأصل لهذا الطرف معارضاً بشمول دليل الأصل في الطرف الآخر، فالمعارضة في المقام هي عبارة عن منع وعدم التمكّن من شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، والسرّ في هذا المنع وعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، السرّ فيه هو أنّ شمول دليل الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية. هذا هو الذي يوقع التعارض بين الطرفين بناءً على مسلك الاقتضاء، أنّ شمول دليل الأصل لكلا الطرفين معاً يستلزم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم والواصل للمكلّف ولو بالإجمال، وشموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح، أو شموله لأحدهما المردد، لا وجود له. إذن: بالنتيجة دليل الأصل لا يمكن أن يشمل كلا الطرفين، فيقع التعارض بين شمول دليل الأصل لهذا الطرف وشموله لهذا الطرف. صحيح أنّ كل طرف هو موضوع للأصل المؤمّن، كل طرف يتحقق فيه موضوع الأصل المؤمّن وهو الشك، لكن شمول دليل الأصل لهذا الطرف مع شموله للطرف الآخر لا يمكن؛ لأنّه يستلزم الترخيص المخالفة القطعية، فيقع التعارض بين شمول الأصل لهذا وبين شموله لذاك، فيُبتلى دليل الأصل بالإجمال المانع من شموله لكلٍ منهما، فيُلتزَم بالتساقط، يعني أنّ دليل الأصل لا يشمل هذا ولا يشمل ذاك. هذا هو المقصود بالتعارض في محل الكلام. إذن: نكتة التعارض هي أنّ جعل ترخيصين في الطرفين مستفادين من الأصلين يستلزم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، هو يعلم إجمالاً بثبوت الحرام في أحد الطرفين، والدليل يقول له أنا أرخّص لك في هذا وأرخّص لك في هذا. فكأنّ الشارع يخاطب المكلّف ويجعل له الترخيص في هذا الطرف وفي نفس الوقت يجعل له الترخيص في الطرف الآخر، هذا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا لا يمكن الالتزام به، هذه هي النكتة في التعارض بين الأصلين في محل الكلام. هل يُفرّق في هذه النكتة بين أن يكون الطرفان عرضيين وبين أن يكونا طوليين ؟ نحن نقول: لا يُفرّق فيها في ذلك، لا فرق بين الفرضين في مثال الإناءين، هذه النكتة موجودة في كلٍ من الطرفين، وشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين يقع المكلّف في المخالفة القطعية، أو قل هو ترخيص في المخالفة القطعية، وهذا محال. شمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين أيضاً كذلك؛ لأنّه لا يُفرّق بينه وبين الحالة الأولى من هذه الناحية في أنّ الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي والترخيص في مخالفة التكليف يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، بالنتيجة هذه المرأة تعلم بثبوت حرمة دخول المساجد عليها، إمّا الآن، أو في المستقبل. إذن: هي تعلم بثبوت الحرمة، وصلت إليها الحرمة، الشارع يرخّص لها في مخالفة الحرمة الواصلة بأن يجعل ترخيصين في الطرفين، بأن يجعل دليل الأصل شاملاً لهذا الطرف، وشاملاً للطرف الآخر، ولو كان استقبالياً، كون أحد الطرفين استقبالياً لا يعني أنّ شمول دليل الأصل للطرفين لا يوجب الترخيص في المخالفة القطعية، بالنتيجة هو ترخيص في المخالفة القطعية، عندما يقول الشارع لو خاطب المكلّف في محل الكلام أجرِ البراءة عن التكليف الفعلي، وأجرِ البراءة في التكليف الاستقبالي، بالنتيجة هو رخّص له في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، هذه هي النكتة التي توجب التعارض وليس هناك نكتة أخرى، وليس هناك تضاد حتّى نقول يشترط في التعارض أن يكونا في زمانٍ واحد، جريان الأصل عن هذا الطرف فعلاً، وجريان الأصل عن الطرف الآخر في المستقبل يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا هو النكتة في وقوع التعارض بين الأصلين في الطرفين، فيكون التعارض في المقام متحققاً، ويكون كل منهما صالحاً لجريان الأصل فيه، لكن يقع التعارض بين الأصلين ويتساقطان، فتبقى الأطراف بلا مؤمّن، وهذا يوجب تنجيز العلم الإجمالي.
وأمّا ما ذُكر في نفس الدليل من أنّ الأصل لا يجري في الطرف الاستقبالي لعدم تحقق موضوعه وهو الشك الآن، هذا كلام صحيح، لا أحد يقول أنّ الشك في التكليف على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل موجود الآن، الشك ليس موجوداً الآن، وإنّما هو موجود في ظرفه، لكن المقصود في المقام إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه، وبلحاظ وقته، لا أن نجري الأصل في الطرف الاستقبالي الآن؛ لوضوح أنّ موضوع هذا الأصل الآن غير متحقق؛ إذ لاشكّ في حرمة الدخول في المساجد عليها الآن على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل، المدّعى هو إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه ولا إشكال في أنّه بلحاظ ظرفه موضوع الأصل متحقق، الشك متحقق، في المستقبل الشك متحقق بلحاظ ظرفه وليس الآن، وندّعي أنّ إجراء الأصل بهذا النحو يعارض إجراء الأصل في الطرف الفعلي، إجراء الأصلين في الطرفين بهذا النحو، بأن يجري الأصل في الطرف الفعلي، ويجري الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه، ندّعي أنّ هذا غير ممكن، لنفس النكتة التي ندّعي فيها عدم إمكان ذلك في ما إذا كان كل منهما فعلياً، وهي نكتة أنّ إجراء الترخيص في كلا الطرفين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواصل للمكلّف بالإجمال؛ لأنّ المكلّف يعلم بثبوت التكليف في ذمّته، غاية الأمر أنّه مردد بين طرفين، أحدهما استقبالي، فإذا رخّص الشارع له في مخالفة كلا التكليفين، فهذا ترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فليس الغرض من هذا الكلام هو أننا ندّعي جريان الأصل في الطرف الاستقبالي الآن كما يجري في الطرف الفعلي حتّى يقال أنّ الأصل الآن غير متحقق موضوعه في الطرف الاستقبالي، فكيف يجري فيه الأصل، وإنّما المقصود هو إجراء الأصل في الطرف الاستقبال بلحاظ ظرفه، وهذا الأصل موضوعه محفوظ ومتحقق بلحاظ ظرفه، والمدّعى هو أنّ إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بهذا اللّحاظ، مع الأصل في الطرف الفعلي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فإذن: لا يمكن أن يكون دليل الأصل بناءً على هذا الكلام شاملاً لكلا الطرفين؛ لأنّه يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، كما لا يمكن أن يكون ثابتاً لأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح بعد فرض تساوي نسبة كل من الطرفين إلى دليل الأصل، ولا فرق بينهما بلحاظ دليل الأصل، كل منهما يوجد فيه شك وهذا هو موضوع دليل الأصل؛ وحينئذٍ يقع التعارض بين شمول الأصل لهذا الطرف وشمول الأصل لذاك الطرف، فيتساقطان؛ وحينئذٍ تبقى الأطراف بلا مؤّمن، فيتنجّز العلم الإجمالي. هذا هو المدّعى في المقام.
يُستشكل على هذا الكلام: أننّا سلّمنا شمولدليل الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، لكنّ شمول دليل الأصل لأحدهما لا يلزم منه المخالفة القطعية، وإنّما يلزم منه محذور الترجيح بلا مرجّح، لكنّ محذور الترجيح بلا مرجّح إنّما يلزم من شمول دليل الأصل لأحد الطرفين في صورة ما إذا تساوت نسبة هذا الطرف للأصل ونسبة ذاك الطرف للأصل، وكانت نسبة واحدة بلا مائز ولا أولوية في الشمول، بعد تساوي نسبة الطرفين إلى دليل الأصل، يقال أنّ اختصاص دليل الأصل بأحدهما ترجيح بلا مرجّح. وأمّا إذا فرضنا عدم تساوي نسبة الطرفين إلى دليل الأصل؛ حينئذٍ شمول دليل الأصل لأحدهما لا يلزم منه محذور الترجيح بلا مرجّح، ويُدّعي بأنّ هذا متحقق في المقام، وذلك لأنّ دليل الأصل الآن لا يشمل إلاّ أحد الطرفين؛ لأنّ الطرف الآخر الاستقبالي غير مشمول لدليل الأصل الآن، إمّا لعدم تحقق موضوعه أو لعدم ترتب أثر على جريان الأصل، أو لشيءٍ آخر، فهو غير مشمول لدليل الأصل الآن، بينما الطرف الآخر الفعلي مشمول لدليل الأصل الآن. بناءً على هذا لا مانع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف؛ لأنّه الآن هو غير معارض بشمول دليل الأصل للطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر لا يشمله دليل الأصل الآن، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض، ولا يلزم من ذلك الترجيح بلا مرجح، ولا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية. أمّا الأوّل فواضح، أمّا الثاني، فباعتبار أننا فرضنا أنّ دليل الأصل الآن لا يشمل الطرف الآخر، فيشمل الطرف الأوّل، فيكون هذا هو المرجّح له، فيتعيّن دخوله في دليل الأصل دون الطرف الثاني.
إذن: الآن يمكن للمكلّف أن يجري الأصل في هذا الطرف الفعلي الحالي ولا يُعارَض بشمول دليل الأصل للطرف الأوّل. هذا الآن، وفي المستقبل أيضاً نفس الكلام يقال، يقال: في المستقبل يجري الأصل في ذاك الطرف ولا يُعارَض بالأصل في الطرف الأوّل، باعتبار أنّه في المستقبل يخرج الطرف الأوّل عن كونه محل الابتلاء، فلا يجري فيه الأصل لذلك، وبالتالي نجوّز للمكلّف أن يرتكب كلا الطرفين استناداً إلى الأصل الجاري فيه، لكن بلحاظ ظرفين، في الزمان الأوّل الأصل يجري في الطرف الأوّل، فيؤمّن من ناحيته، وفي الزمان الثاني يجري الأصل في الطرف الثاني الاستقبالي ويؤمّن من ناحيته، من دون أن يكون شمول دليل الأصل للأوّل في الزمان الأوّل، ولا الثاني في الزمان الثاني ترجيحاً بلا مرجح.
الجواب عن هذا الكلام هو: ما يُفهم من الكلام السابق وهو أنّ المحذور الذي يمنع من إجراء الأصل في الطرفين يشمل حتّى هذه الحالة. بعبارة أخرى: لا يختص بخصوص ما إذا كان إجراؤهما مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحدٍ كما في مثال الإناءين، صحيح أنّ هذا الذي ذُكر لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ لأنّه يُجري الأصل في ظرفين وفي زمانين، في الزمان الأوّل يجري الأصل الأوّل فقط، فلا مخالفة قطعية، وفي الزمان الثاني يجري الأصل في الطرف الثاني فقط، وأيضاً لا تلزم المخالفة القطعية. إذن: إجراء الأصلين بهذا الشكل صحيح لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، لكن الذي نقوله أنّ المانع لا ينحصر بذلك، المانع من إجراء الأصلين في الطرفين لا يختص بما إذا كان مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ بل أنّ مدّعانا أوسع من هذا، نقول أنّ جريان الأصلين في الطرفين إذا كان مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية ولو في زمانين، ولو في عمود الزمان إذا كان يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال هذا أيضاً نمنع منه، وأيضاً يكون محالاً؛ لما قلناه قبل قليل من أنّ التعارض بين الأصلين لا يختص بخصوص ما إذا كان جريان الأصلين مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ بل هو يشمل حتّى الصورة الثانية؛ لأنّ التعارض هو عبارة عن عدم شمول دليل الأصل للطرفين باعتبار وبنكتة أنّ شمول الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل، وما يراه العقل قبيحاً ليس هو الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، بالنتيجة هو مخالفة قطعية على كل حالٍ للشارع، سواء كان في زمانٍ واحد، أو كان في زمانين، فإذا كان إجراء الأصلين في الطرفين بهذا الشكل المقترح يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانين هذا أيضاً يراه العقل مانعاً من إجراء الأصل في كلا الطرفين، وبهذا يتحقق التعارض ويكون الأصل الجاري في الطرف الفعلي معارضاً بالأصل الجاري في الطرف الاستقبالي؛ لأنّ المحذور ليس هو أداء إجراء الأصلين في الطرفين إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، ليس هذا هو المحذور فقط؛ بل المحذور هو الأعم، كل ما كان إجراء الأصل في الطرفين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، هذا العقل يمنع منه ويراه محالاً سواء كان في زمانٍ واحد، أو كان في زمانين، بالنكتة المشار إليها وهي أنّه بنظر العقل لا فرق بينهما، كل منهما مخالفة للتكليف، كلٌ منهما ترخيص في مخالفة التكليف الواصل والمعلوم، ويستحيل أن يرخّص الدليل في مخالفة التكليف المعلوم، وهذا معناه أنّ الأصل في هذا الطرف معارض بالأصل في الطرف الآخر في ظرفه، يتعارضان؛ لأنّ نكتة التعارض محفوظة فيه، التعارض هو عبارة عن أداء جريان الأصلين في الطرفين إلى الترخيص في المخالفة القطعية، وهي متحققة في المقام. ومنه يتبين أنّ ما ذُكر في الدليل من أن دليل الأصل لا يشمل الطرف الاستقبالي هذا صحيح، لكن الآن لا يشمل الطرف الاستقبالي، إمّا بنكتة أنّ موضوعه غير متحقق، وإمّا أنه لا يترتب عليه الأثر، فدليل الأصل لا يشمل الطرف الاستقبالي الآن، لكن لا مانع من شموله له بإطلاقه بلحاظ ظرفه؛ لتحقق موضوعه في ظرفه، فإطلاق دليل الأصل يشمل الطرف الآخر بإطلاقه باعتبار تحقق موضوعه في ظرفه، وباعتبار ترتب الأثر عليه في ظرفه، فإذا كان دليل الأصل يشمل الطرف الآخر، وفرضنا أنّ شمول دليل الأصل للطرف الآخر مع شموله للطرف الفعلي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية لا محالة يتحقق التعارض ويُبتلى دليل الأصل بالتعارض الداخلي المانع من شموله لكلا الطرفين. فما نثبته أمران:
الأمر الأوّل: أنّ العقل لا يُفرّق في قبح المخالفة، وفي استحالة الترخيص في المخالفة القطعية بين أن تكون بالنحو الأوّل أو بالنحو المقترح في المقام، لا يُفرّق بينهما، كلٌ منهما يؤدّي إلى الترخيص في مخالفة الشارع، وهذا محال بنظر العقل.
الأمر الثاني: أنّ دليل الأصل لا مانع من شموله للطرف الاستقبالي بالرغم من عدم تحقق موضوعه الآن وعدم ترتب أثر عليه الآن، لا مانع من شموله للتكليف الذي سيكون فعلياً في المستقبل؛ لأنّه سيتحقق موضوعه في المستقبل ويترتب عليه الأثر، فإذا لا مانع من شموله له بإطلاقه يتحقق التعارض بين شموله لهذا الطرف وشموله لذاك الطرف.
الوجه الثاني لعدم منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات: هو ما ذكرناه في الدرس السابق، وهو اختلال شرط من شرائط المنجّزية، على مسلك الاقتضاء الشرط هو تعارض الأصول في الأطراف، بمعنى أن يجري الأصل في كلٍ من الطرفين، فيقع التعارض والتساقط، فيتنجّز العلم الإجمالي، فالشرط هو أن يكون كل طرفٍ قابلٍ لجريان الأصل فيه، والوجه يقول أنّ هذا الشرط غير متحقق في محل الكلام؛ لأنّ التكليف على التقدير الثاني، يعني على تقدير ان يكون ليس فعلياً الآن، وإنّما يكون فعلياً في المستقبل، هذا ليس مورداً للأصل المؤمّن، وذلك لعدم تحقق موضوعه الذي هو الشكّ؛ لأنّ المكلّف لا يشك فعلاً في ذاك التكليف، المرأة تعلم أنّه لا يحرم عليها الدخول في المساجد، على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل، فهي لا تشك فعلاً، فإذن: على ذاك التقدير لا شك فعلاً، فلا يجري الأصل، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض، وهذا يوجب انحلال العلم الإجمالي حكماً على ما تقدّم، وعدم منجّزية هذا العلم الإجمالي . هذا على القول بالاقتضاء.
على القول بالعلّية الشرط في تنجيز العلم الإجمالي هو أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، وفي المقام العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، وإنّما يكون صالحاً لتنجيز معلومه على التقدير الأوّل، وأمّا على التقدير الثاني، فهو ليس صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً؛ لأنّ كل تنجيز تكليف متوقف على ثبوته وفعليته حتّى يكون منجّزاً، أما قبل ثبوته فلا معنى لافتراض التنجيز.
إذن: العلم الإجمالي على أحد التقديرين صالح لتنجيز معلومه، لكن على التقدير الآخر ليس صالحاً لتنجيز معلومه؛ لأنّ المنجّزية إنّما تثبت لتكليف بعد فرض ثبوته وفعليته، وأمّا قبل ذلك، فلا. هذا بناءً على مسلك العلّية.
الجواب عن هذا الوجه الثاني: أمّا على مسلك العلّية، فالجواب هو أننا ندّعي أنّ العلم الإجمالي صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير، وذلك لما تقدّم من أنّ العلم يصلح لأن ينجّز معلومه ولو كان معلومه استقبالياً، ولا يتوقّف تنجيز العلم لمعلومه على أن يكون فعلياً وثابتاً الآن، حتّى إذا كان التكليف ليس فعلياً وليس ثابتاً الآن، العلم به ينجّزه ولا يشترط في منجّزية العلم للتكليف بنظر العقل أن يكون التكليف فعلياً وثابتاً الآن.
بعبارةٍ أخرى: أنّ قياس ما نحن فيه على سائر الأحكام بلحاظ موضوعاتها، فيقال لا معنى لثبوت الحكم قبل تحقق موضوعه، الحكم إنّما يثبت بعد فرض تحقق موضوعه، كأنّه تقاس المنجّزية بالنسبة إلى التكليف كما هو الحال في الحكم بالنسبة إلى موضوعه في سائر الأحكام بالنسبة إلى موضوعها، لا يُشترط فعلية التكليف حتّى تثبت له المنجّزية؛ لما قلناه في الدرس السابق من أن التنجيز هو حكم عقلي، والمراد به إدراك العقل قبح المخالفة، وهذا يكفي فيه العلم بالتكليف، سواء كان التكليف فعلياً، أو استقبالياً، حتّى إذا كان التكليف استقبالياً وليس فعلياً الآن إذا علم به المكلّف العقل يحكم بكونه منجّزاً على المكلّف، بمعنى يحكم بقبح مخالفته واستحقاق العقاب على مخالفته حتّى إذا كانت المخالفة استقبالية وليست فعلية، لكن العقل يحكم فعلاً بقبح مخالفته، وهذا على ضوء ما تقدم معناه أنّ العلم الإجمالي في المقام صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير، على التقدير الأوّل هو صالح لتنجيز معلومه، وعلى التقدير الثاني هذا العلم أيضاً صالح لتنجيز معلومه؛ لأنّ التنجيز يُراد به هذا المعنى، وهذا المعنى فعلي وموجود منذ البداية ولا يتوقف وجود هذا الحكم العقلي وإدراك العقل لقبح المخالفة على فعلية التكليف، إذا علم بالتكليف الفعلي ولو بالمستقبل يحكم العقل بقبح مخالفته؛ لما قلناه من ان التكليف يدخل في دائرة المولوية ويثبت للمولى فيه حق الطاعة بمجرّد العلم به، والعقل يحكم بقبح مخالفة كل تكليف يثبت للمولى فيه حق الطاعة. بناءً على القول بالعلّية، اشتراط أن يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، لابدّ أن يُقصد به أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه في عمود الزمان لا أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً، حتّى لو فرضنا أنّه ليس صالحاً لتنجيز معلومه فعلاً، لكنّه صالح لتنجيز معلومه في عمود الزمان، بمعنى أننا ندخل في التنجيز التكليف الغير الفعلي والذي سيكون فعلياً في المستقبل، هذا العلم الإجمالي صالح لتنجيز معلومه، سواء كان معلومه فعلياً، أو كان معلومه استقبالياً.
وأمّا على مسلك الاقتضاء: فالمدّعى في هذا الدليل أنّ الصل الجاري في الطرف الأوّل لا يعارض بالأصل الجاري في الطرف الثاني؛ لأنّ الطرف الثاني ليس مورداً للأصل، باعتبار ما ذُكر من النكتة، وهي أن الشكّ فيه ليس فعلياً، فإذن، هو ليس مورداً للأصل فعلاً، فإذا لم يكن مورداً للأصل فعلاً، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض؛ لأنّه لا معارض للأصل في الطرف الثاني؛ لأنّ الأصل لا يجري في الطرف الثاني.
الجواب عن ذلك: أننا نقول أنّ الأصل في الطرف الأوّل معارض بالأصل في الطرف الثاني، والسرّ في ذلك هو أنّ التعارض في المقام، يعني الأصل الجاري في الطرف الأوّل معارض بالأصل في الطرف الثاني. هذا التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين ماذا يُراد به ؟ المراد بذلك في الحقيقة هو منع شمول إطلاق شمول الأصل في كلٍ من الطرفين، أنّ دليل الأصل لا يشمل كلا الطرفين، فيقع التعارض بينهما، ليس التعارض من قبيل التضاد بين البياض والسواد حتّى نقول يُشترط في التضاد أن يكون الزمان واحداً، وإلاّ لا تضاد بين الشيئين، التعارض هو عبارة عن أنّ شمول دليل الأصل لهذا الطرف ينافيه شموله للطرف الآخر، هذه المنافاة في شمول دليل الأصل لكلا الطرفين توقع المعارضة بين الأصلين.
وبعبارةٍ أخرى: يكون شمول دليل الأصل لهذا الطرف معارضاً بشمول دليل الأصل في الطرف الآخر، فالمعارضة في المقام هي عبارة عن منع وعدم التمكّن من شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، والسرّ في هذا المنع وعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلا الطرفين، السرّ فيه هو أنّ شمول دليل الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية. هذا هو الذي يوقع التعارض بين الطرفين بناءً على مسلك الاقتضاء، أنّ شمول دليل الأصل لكلا الطرفين معاً يستلزم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم والواصل للمكلّف ولو بالإجمال، وشموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح، أو شموله لأحدهما المردد، لا وجود له. إذن: بالنتيجة دليل الأصل لا يمكن أن يشمل كلا الطرفين، فيقع التعارض بين شمول دليل الأصل لهذا الطرف وشموله لهذا الطرف. صحيح أنّ كل طرف هو موضوع للأصل المؤمّن، كل طرف يتحقق فيه موضوع الأصل المؤمّن وهو الشك، لكن شمول دليل الأصل لهذا الطرف مع شموله للطرف الآخر لا يمكن؛ لأنّه يستلزم الترخيص المخالفة القطعية، فيقع التعارض بين شمول الأصل لهذا وبين شموله لذاك، فيُبتلى دليل الأصل بالإجمال المانع من شموله لكلٍ منهما، فيُلتزَم بالتساقط، يعني أنّ دليل الأصل لا يشمل هذا ولا يشمل ذاك. هذا هو المقصود بالتعارض في محل الكلام. إذن: نكتة التعارض هي أنّ جعل ترخيصين في الطرفين مستفادين من الأصلين يستلزم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، هو يعلم إجمالاً بثبوت الحرام في أحد الطرفين، والدليل يقول له أنا أرخّص لك في هذا وأرخّص لك في هذا. فكأنّ الشارع يخاطب المكلّف ويجعل له الترخيص في هذا الطرف وفي نفس الوقت يجعل له الترخيص في الطرف الآخر، هذا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا لا يمكن الالتزام به، هذه هي النكتة في التعارض بين الأصلين في محل الكلام. هل يُفرّق في هذه النكتة بين أن يكون الطرفان عرضيين وبين أن يكونا طوليين ؟ نحن نقول: لا يُفرّق فيها في ذلك، لا فرق بين الفرضين في مثال الإناءين، هذه النكتة موجودة في كلٍ من الطرفين، وشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين يقع المكلّف في المخالفة القطعية، أو قل هو ترخيص في المخالفة القطعية، وهذا محال. شمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين أيضاً كذلك؛ لأنّه لا يُفرّق بينه وبين الحالة الأولى من هذه الناحية في أنّ الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي والترخيص في مخالفة التكليف يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، بالنتيجة هذه المرأة تعلم بثبوت حرمة دخول المساجد عليها، إمّا الآن، أو في المستقبل. إذن: هي تعلم بثبوت الحرمة، وصلت إليها الحرمة، الشارع يرخّص لها في مخالفة الحرمة الواصلة بأن يجعل ترخيصين في الطرفين، بأن يجعل دليل الأصل شاملاً لهذا الطرف، وشاملاً للطرف الآخر، ولو كان استقبالياً، كون أحد الطرفين استقبالياً لا يعني أنّ شمول دليل الأصل للطرفين لا يوجب الترخيص في المخالفة القطعية، بالنتيجة هو ترخيص في المخالفة القطعية، عندما يقول الشارع لو خاطب المكلّف في محل الكلام أجرِ البراءة عن التكليف الفعلي، وأجرِ البراءة في التكليف الاستقبالي، بالنتيجة هو رخّص له في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، هذه هي النكتة التي توجب التعارض وليس هناك نكتة أخرى، وليس هناك تضاد حتّى نقول يشترط في التعارض أن يكونا في زمانٍ واحد، جريان الأصل عن هذا الطرف فعلاً، وجريان الأصل عن الطرف الآخر في المستقبل يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، وهذا هو النكتة في وقوع التعارض بين الأصلين في الطرفين، فيكون التعارض في المقام متحققاً، ويكون كل منهما صالحاً لجريان الأصل فيه، لكن يقع التعارض بين الأصلين ويتساقطان، فتبقى الأطراف بلا مؤمّن، وهذا يوجب تنجيز العلم الإجمالي.
وأمّا ما ذُكر في نفس الدليل من أنّ الأصل لا يجري في الطرف الاستقبالي لعدم تحقق موضوعه وهو الشك الآن، هذا كلام صحيح، لا أحد يقول أنّ الشك في التكليف على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل موجود الآن، الشك ليس موجوداً الآن، وإنّما هو موجود في ظرفه، لكن المقصود في المقام إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه، وبلحاظ وقته، لا أن نجري الأصل في الطرف الاستقبالي الآن؛ لوضوح أنّ موضوع هذا الأصل الآن غير متحقق؛ إذ لاشكّ في حرمة الدخول في المساجد عليها الآن على تقدير أن تكون حائضاً في المستقبل، المدّعى هو إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه ولا إشكال في أنّه بلحاظ ظرفه موضوع الأصل متحقق، الشك متحقق، في المستقبل الشك متحقق بلحاظ ظرفه وليس الآن، وندّعي أنّ إجراء الأصل بهذا النحو يعارض إجراء الأصل في الطرف الفعلي، إجراء الأصلين في الطرفين بهذا النحو، بأن يجري الأصل في الطرف الفعلي، ويجري الأصل في الطرف الاستقبالي بلحاظ ظرفه، ندّعي أنّ هذا غير ممكن، لنفس النكتة التي ندّعي فيها عدم إمكان ذلك في ما إذا كان كل منهما فعلياً، وهي نكتة أنّ إجراء الترخيص في كلا الطرفين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواصل للمكلّف بالإجمال؛ لأنّ المكلّف يعلم بثبوت التكليف في ذمّته، غاية الأمر أنّه مردد بين طرفين، أحدهما استقبالي، فإذا رخّص الشارع له في مخالفة كلا التكليفين، فهذا ترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فليس الغرض من هذا الكلام هو أننا ندّعي جريان الأصل في الطرف الاستقبالي الآن كما يجري في الطرف الفعلي حتّى يقال أنّ الأصل الآن غير متحقق موضوعه في الطرف الاستقبالي، فكيف يجري فيه الأصل، وإنّما المقصود هو إجراء الأصل في الطرف الاستقبال بلحاظ ظرفه، وهذا الأصل موضوعه محفوظ ومتحقق بلحاظ ظرفه، والمدّعى هو أنّ إجراء الأصل في الطرف الاستقبالي بهذا اللّحاظ، مع الأصل في الطرف الفعلي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فإذن: لا يمكن أن يكون دليل الأصل بناءً على هذا الكلام شاملاً لكلا الطرفين؛ لأنّه يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، كما لا يمكن أن يكون ثابتاً لأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح بعد فرض تساوي نسبة كل من الطرفين إلى دليل الأصل، ولا فرق بينهما بلحاظ دليل الأصل، كل منهما يوجد فيه شك وهذا هو موضوع دليل الأصل؛ وحينئذٍ يقع التعارض بين شمول الأصل لهذا الطرف وشمول الأصل لذاك الطرف، فيتساقطان؛ وحينئذٍ تبقى الأطراف بلا مؤّمن، فيتنجّز العلم الإجمالي. هذا هو المدّعى في المقام.
يُستشكل على هذا الكلام: أننّا سلّمنا شمولدليل الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، لكنّ شمول دليل الأصل لأحدهما لا يلزم منه المخالفة القطعية، وإنّما يلزم منه محذور الترجيح بلا مرجّح، لكنّ محذور الترجيح بلا مرجّح إنّما يلزم من شمول دليل الأصل لأحد الطرفين في صورة ما إذا تساوت نسبة هذا الطرف للأصل ونسبة ذاك الطرف للأصل، وكانت نسبة واحدة بلا مائز ولا أولوية في الشمول، بعد تساوي نسبة الطرفين إلى دليل الأصل، يقال أنّ اختصاص دليل الأصل بأحدهما ترجيح بلا مرجّح. وأمّا إذا فرضنا عدم تساوي نسبة الطرفين إلى دليل الأصل؛ حينئذٍ شمول دليل الأصل لأحدهما لا يلزم منه محذور الترجيح بلا مرجّح، ويُدّعي بأنّ هذا متحقق في المقام، وذلك لأنّ دليل الأصل الآن لا يشمل إلاّ أحد الطرفين؛ لأنّ الطرف الآخر الاستقبالي غير مشمول لدليل الأصل الآن، إمّا لعدم تحقق موضوعه أو لعدم ترتب أثر على جريان الأصل، أو لشيءٍ آخر، فهو غير مشمول لدليل الأصل الآن، بينما الطرف الآخر الفعلي مشمول لدليل الأصل الآن. بناءً على هذا لا مانع من شمول دليل الأصل لهذا الطرف؛ لأنّه الآن هو غير معارض بشمول دليل الأصل للطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر لا يشمله دليل الأصل الآن، فيجري الأصل في الطرف الأوّل بلا معارض، ولا يلزم من ذلك الترجيح بلا مرجح، ولا يلزم الترخيص في المخالفة القطعية. أمّا الأوّل فواضح، أمّا الثاني، فباعتبار أننا فرضنا أنّ دليل الأصل الآن لا يشمل الطرف الآخر، فيشمل الطرف الأوّل، فيكون هذا هو المرجّح له، فيتعيّن دخوله في دليل الأصل دون الطرف الثاني.
إذن: الآن يمكن للمكلّف أن يجري الأصل في هذا الطرف الفعلي الحالي ولا يُعارَض بشمول دليل الأصل للطرف الأوّل. هذا الآن، وفي المستقبل أيضاً نفس الكلام يقال، يقال: في المستقبل يجري الأصل في ذاك الطرف ولا يُعارَض بالأصل في الطرف الأوّل، باعتبار أنّه في المستقبل يخرج الطرف الأوّل عن كونه محل الابتلاء، فلا يجري فيه الأصل لذلك، وبالتالي نجوّز للمكلّف أن يرتكب كلا الطرفين استناداً إلى الأصل الجاري فيه، لكن بلحاظ ظرفين، في الزمان الأوّل الأصل يجري في الطرف الأوّل، فيؤمّن من ناحيته، وفي الزمان الثاني يجري الأصل في الطرف الثاني الاستقبالي ويؤمّن من ناحيته، من دون أن يكون شمول دليل الأصل للأوّل في الزمان الأوّل، ولا الثاني في الزمان الثاني ترجيحاً بلا مرجح.
الجواب عن هذا الكلام هو: ما يُفهم من الكلام السابق وهو أنّ المحذور الذي يمنع من إجراء الأصل في الطرفين يشمل حتّى هذه الحالة. بعبارة أخرى: لا يختص بخصوص ما إذا كان إجراؤهما مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحدٍ كما في مثال الإناءين، صحيح أنّ هذا الذي ذُكر لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ لأنّه يُجري الأصل في ظرفين وفي زمانين، في الزمان الأوّل يجري الأصل الأوّل فقط، فلا مخالفة قطعية، وفي الزمان الثاني يجري الأصل في الطرف الثاني فقط، وأيضاً لا تلزم المخالفة القطعية. إذن: إجراء الأصلين بهذا الشكل صحيح لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، لكن الذي نقوله أنّ المانع لا ينحصر بذلك، المانع من إجراء الأصلين في الطرفين لا يختص بما إذا كان مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ بل أنّ مدّعانا أوسع من هذا، نقول أنّ جريان الأصلين في الطرفين إذا كان مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية ولو في زمانين، ولو في عمود الزمان إذا كان يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال هذا أيضاً نمنع منه، وأيضاً يكون محالاً؛ لما قلناه قبل قليل من أنّ التعارض بين الأصلين لا يختص بخصوص ما إذا كان جريان الأصلين مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد؛ بل هو يشمل حتّى الصورة الثانية؛ لأنّ التعارض هو عبارة عن عدم شمول دليل الأصل للطرفين باعتبار وبنكتة أنّ شمول الأصل لكلا الطرفين يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل، وما يراه العقل قبيحاً ليس هو الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، بالنتيجة هو مخالفة قطعية على كل حالٍ للشارع، سواء كان في زمانٍ واحد، أو كان في زمانين، فإذا كان إجراء الأصلين في الطرفين بهذا الشكل المقترح يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانين هذا أيضاً يراه العقل مانعاً من إجراء الأصل في كلا الطرفين، وبهذا يتحقق التعارض ويكون الأصل الجاري في الطرف الفعلي معارضاً بالأصل الجاري في الطرف الاستقبالي؛ لأنّ المحذور ليس هو أداء إجراء الأصلين في الطرفين إلى الترخيص في المخالفة القطعية في زمانٍ واحد، ليس هذا هو المحذور فقط؛ بل المحذور هو الأعم، كل ما كان إجراء الأصل في الطرفين يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، هذا العقل يمنع منه ويراه محالاً سواء كان في زمانٍ واحد، أو كان في زمانين، بالنكتة المشار إليها وهي أنّه بنظر العقل لا فرق بينهما، كل منهما مخالفة للتكليف، كلٌ منهما ترخيص في مخالفة التكليف الواصل والمعلوم، ويستحيل أن يرخّص الدليل في مخالفة التكليف المعلوم، وهذا معناه أنّ الأصل في هذا الطرف معارض بالأصل في الطرف الآخر في ظرفه، يتعارضان؛ لأنّ نكتة التعارض محفوظة فيه، التعارض هو عبارة عن أداء جريان الأصلين في الطرفين إلى الترخيص في المخالفة القطعية، وهي متحققة في المقام. ومنه يتبين أنّ ما ذُكر في الدليل من أن دليل الأصل لا يشمل الطرف الاستقبالي هذا صحيح، لكن الآن لا يشمل الطرف الاستقبالي، إمّا بنكتة أنّ موضوعه غير متحقق، وإمّا أنه لا يترتب عليه الأثر، فدليل الأصل لا يشمل الطرف الاستقبالي الآن، لكن لا مانع من شموله له بإطلاقه بلحاظ ظرفه؛ لتحقق موضوعه في ظرفه، فإطلاق دليل الأصل يشمل الطرف الآخر بإطلاقه باعتبار تحقق موضوعه في ظرفه، وباعتبار ترتب الأثر عليه في ظرفه، فإذا كان دليل الأصل يشمل الطرف الآخر، وفرضنا أنّ شمول دليل الأصل للطرف الآخر مع شموله للطرف الفعلي يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية لا محالة يتحقق التعارض ويُبتلى دليل الأصل بالتعارض الداخلي المانع من شموله لكلا الطرفين. فما نثبته أمران:
الأمر الأوّل: أنّ العقل لا يُفرّق في قبح المخالفة، وفي استحالة الترخيص في المخالفة القطعية بين أن تكون بالنحو الأوّل أو بالنحو المقترح في المقام، لا يُفرّق بينهما، كلٌ منهما يؤدّي إلى الترخيص في مخالفة الشارع، وهذا محال بنظر العقل.
الأمر الثاني: أنّ دليل الأصل لا مانع من شموله للطرف الاستقبالي بالرغم من عدم تحقق موضوعه الآن وعدم ترتب أثر عليه الآن، لا مانع من شموله للتكليف الذي سيكون فعلياً في المستقبل؛ لأنّه سيتحقق موضوعه في المستقبل ويترتب عليه الأثر، فإذا لا مانع من شموله له بإطلاقه يتحقق التعارض بين شموله لهذا الطرف وشموله لذاك الطرف.