35/12/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/انحلال العلم الإجمالي
الذي يظهر من الكلام المتقدّم الذي ذكرناه في مقام توضيح ما يريده المحققّ النائيني(قدّس سرّه) من دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخّر من جهة المعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم من جهة المعلوم، الذي يظهر من الكلام المتقدّم هو أنّه يريد بالحكم والتكليف الذي اشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ على كل تقدير، الظاهر من خلال كلامه أنّ مقصوده من التكليف هو التكليف الحادث الجديد، التكليف المُسبَّب عن ـــــــــــ فرضاً ـــــــــ سقوط قطرة دم في العلم الإجمالي الثاني، يعني يريد أن يقول بالعلم الإجمالي الثاني، والمقصود به هو العلم الإجمالي المتأخّر من حيث المعلوم، هذا العلم الإجمالي ليس علماً بتكليفٍ على كل تقدير؛ لأنّه على بعض التقادير ليس علماً بتكليفٍ، على تقدير أن تكون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل موجودة في الإناء الأسود ــــــــــ الإناء المشترك ــــــــــــ فالعلم الإجمالي لا يُحدث فيه تكليفاً، وإنّما يحدث تكليفاً على تقدير أن تكون النجاسة واقعة في الإناء الأحمر ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ حينئذٍ يحدث تكليفاً، لكن على هذا التقدير لا يحدث تكليفاً، فمقصوده بالتكليف هو التكليف الجديد، التكليف الحادث الذي لم يكن موجوداً سابقاً، فيقول: يُعتبّر في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون علماً بتكليفٍ حادثٍ على كل تقديرٍ، أن تكون قطرة الدم الساقطة في أحد الإناءين في العلم الإجمالي الثاني إمّا الأسود، أو الأحمر ....أن تكون قطرة الدم سبباً في تكليفٍ، وفي المقام لا يوجد عندنا علمٌ بتكليفٍ على كل تقدير، ليس لدينا علم بأنّ قطرة الدم التي سقطت هي سببٌ في تكليفٍ؛ لأنّه على تقدير أن تكون قطرة الدم التي سقطت في الإناء الأسود، وكان الإناء الأسود نجساً في العلم الإجمالي الأوّل، سقوط قطرة الدم فيه لا تُحدث تكليفاً، ولا تكون سبباً في تكليفٍ، بينما يُعتبَر في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ جديدٍ لم يكن موجوداً في السابق، وإذا سلّمنا الكبرى يكون هذا الكلام صحيحاً؛ لأنّه في هذه الأمثلة التي ذكرها ليس لديّ علم بحدوث تكليفٍ بالعلم الإجمالي الثاني. نعم، لديّ علم بأصل التكليف، لكن هذا التكليف الذي يحصل لديّ علم به هو أعمّ من يكون حدوث تكليفٍ، أو بقاء تكليفٍ كان موجوداً من السابق، على تقديرٍ يكون حدوث تكليفٍ، وعلى تقديرٍ آخر لا يكون حدوث تكليفٍ، وإنّما هو بقاء لتكليفٍ كان موجوداً سابقاً، فكلامه صحيح، لكن الكلام في اصل الكبرى، أنّه هل صحيح أنّ منجّزية العلم الإجمالي مشروطة بأن يكون هذا العلم علماً بتكليفٍ جديدٍ على كل تقديرٍ ؟ بحيث إذا علمنا كان العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ، لكن هذا التكليف أعمّ من أن يكون حدوثياً، أو بقائياً، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، هل هذا صحيح ؟ أن نشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ، ولا يكفي في منجّزيته أن يكون علماً بأصل التكليف الذي يحتمل أن يكون على بعض التقادير تكليفاً بقائياً لا تكليفاً حدوثياً، هذا هل يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، أو لا ؟
الظاهر أنّه لا يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، ليس شرطاً في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ على كل تقدير، كلا، وإنّما المهم أن يكون علماً بأصل التكليف، ليكن على بعض التقادير يحتمل أن يكون هذا التكليف تكليفاً بقائياً لا حدوثياً، هذا لا يضر في منجّزيته، بدليل أنّه لا إشكال في منجّزية العلم الإجمالي بلحاظ طرفين فيما لو كان بعض أطرافه مسبوقاً بالشكّ البدوي، نشك في أنّ الإناء الأسود نجس، أو لا ؟ ثمّ حصل علم إجمالي بسقوط قطرة دمٍ إمّا في الإناء الأسود، أو في الإناء الأبيض في موردٍ آخر غير محل كلامنا، هذا العلم الإجمالي بلا إشكال ينجّز كلا الطرفين مع أنّه ليس علماً بتكليفٍ جديدٍ على كل تقدير، على بعض التقادير يكون التكليف بقائياً لا حدوثياً، على تقدير أن يكون الإناء الأسود المشكوك نجاسته بالشكّ البدوي، على تقدير أن يكون نجساً، فسقوط قطرة الدم فيه لا تحدث تكليفاً جديداً، مع أنّه لا إشكال في منجّزيته مع أنّه ليس علماً بتكليفٍ جديدٍ حادثٍ على كل تقدير، وإنّما على تقدير يكون هناك تكليف حادث، وعلى تقديرٍ آخر يكون التكليف بقائياً لا حدوثياً، مع أنّه لا إشكال في منجّزيته، المهم هو أن يعلم بأصل التكليف أعمّ من أن يكون التكليف حدوثياً، أو يكون التكليف بقائياً، النتيجة هو علم بتكليفٍ، قطرة الدم سقطت في أحد الإناءين، إمّا الإناء الأحمر، أو الإناء الأسود، لماذا لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً لكلا الطرفين ؟ هذا علم بتكليفٍ، هذا التكليف في بعض الأحيان على بعض التقادير يكون تكليفاً بقائياً، وفي تقدير آخر يكون تكليفاً حدوثياً، لا يُشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بتكليفٍ جديدٍ، حادثٍ لم يكن موجوداً سابقاً. وهذه هي المناقشة المهمّة في الدعوى السابقة؛ لأنّ الدعوى السابقة ترتكز على هذه الكبرى التي هي دعوى أنّ تنجيز العلم الإجمالي مشروط بهذا الشرط، والذي يُفهم من كلامه كما قلنا أنّه يشترط حدوث تكليفٍ، أن يكون التكليف الحاصل بالعلم الإجمالي تكليفاً جديداً، وقلنا أنّ هذا صحيح، لا علم بتكليفٍ جديدٍ في محل الكلام، على بعض التقادير ليس تكليفاً جديداً، لكنّ هذا ليس شرطاً في منجّزية العلم الإجمالي. هذا بالنسبة إلى الرأي الأوّل، وتبيّن أنّه ليس تامّاً.
الرأي الثاني في المسألة: نسب السيد الشهيد(قدّس سرّه) هذا الرأي إلى السيد الخوئي(قدّس سرّه)، قال(قدّس سرّه):(وأظنّ قوياً أنّ هذا ما قال به السيد الاستاذ، وإن كان في الموجود في الدراسات هي النظرية الأولى).[1] الظاهر أنّ الرأي الثاني هو النظرية التي يختارها السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ولكنّه في تقريراته لم يعقد بحثاً خاصّاً لبحث قضية ما إذا كان هناك طرف مشترك بين علمين إجماليين، المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكره، والمحقق العراقي (قدّس سرّه) ذكره بعنوان خاصٍ به، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) لم أجد في تقريراته أنّه يذكره بهذا العنوان، لكنّه يذكره في بحث(ملاقي أحد أطراف الشبهة) هناك يذكره في(مصباح الأصول) ويختار الرأي الثاني الذي سنبينه لا الرأي الأوّل.
على كل حال، الرأي الثاني في المسألة هو: دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم، سواء كان المعلوم بالعلم الإجمالي المتأخّر متأخّراً أيضاً عن المعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم، أو لم يكن متأخّراً، المعلوم ليس مهمّاً عنده، المهم هو نفس العلم الإجمالي، أن يكون أحد العلمين من حيث العلم متأخّراً عن العلم الآخر، فالميزان في الانحلال عنده هو تقدّم أحد العلمين على العلم الآخر، بينما الميزان في الرأي الأوّل كان هو تقدّم أحد المعلومين بأحد العلمين على المعلوم بالعلم الآخر، يقول: إذا تقدّم أحد العلمين على العلم الآخر، العلم الثاني المتأخّر ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل، الرأي الأوّل كان يقول إذا تقدّم المعلوم بأحد العلمين الإجماليين على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني ينحل العلم الإجمالي المتأخّر معلومه بالعلم الإجمالي المتقدّم معلومه، فالميزان يختلف بينهما. والمثال الذي نوضّح به هذا الرأي هو : أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، الأسود، أو الأبيض، لكن العلم حصل له صباحاً، ثمّ الظهر علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين الأسود، أو الأحمر، هنا يوجد تقدّم وتأخّر في العلم؛ حينئذٍ المعلوم ليس مهمّاً على هذا الرأي، هذه النجاسة التي علمها بالعلم الإجمالي الثاني، سواء كانت متأخّرة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، أو لم تكن متأخّرة، زمان المعلوم ليس مهمّاً، وإنّما المهم زمان العلم. هنا يقول: العلم الإجمالي المتأخّر ينحل بالعلم الإجمالي المتقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدّم قد نجّز الطرف المشترك بين العلمين والذي هو الإناء الأسود، ومعه لا يكون العلم الإجمالي الثاني صالحاً للتنجيز؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل، فلا يكون هذا العلم الإجمالي المتأخّر صالحاً للتنجيز، وهنا يُذكر تقريبان لإثبات هذا المُدّعى، أحدهما مبني على مسلك العلّية الذي يقول به المحقق العراقي (قدّس سرّه)، والآخر مبني على مسلك الاقتضاء:
التقريب الأوّل: على مسلك العلّية، عدم منجّزية هذا العلم الإجمالي المتأخّر لابدّ أن تُصاغ بهذا الشكل، بأن يقال: أنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فالإناء الأسود الذي تنجّز بالعلم الإجمالي السابق لا يقبل التنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي الثاني، وهذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالي الثاني لا ينجّز معلومه على كل تقدير، وإنّما ينجّزه على تقديرٍ دون تقدير، يُنجّز معلومه إذا كان موجوداً في الطرف الآخر، أي في الإناء الأحمر، أمّا إذا كان في الإناء الأسود، فالإناء الأسود قد تنجّز بالعلم الإجمالي السابق، فهو غير قابل لأن يتنجّز مرّة أخرى. إذن: العلم الإجمالي الثاني لا ينجّز معلومه على كل تقدير، فلا يكون صالحاً للتنجيز.
التقريب الثاني: على القول بالاقتضاء، أنّ عدم منجّزية العلم الإجمالي الثاني باعتبار عدم وجود تعارض بين الأصول في الأطراف، وعلى مسلك الاقتضاء الذي يوجب التنجيز هو تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، في هذا العلم الإجمالي الثاني ليس هناك تعارض في الأصول في الأطراف؛ باعتبار أنّ الأصل في الطرف المشترك قد سقط بالمعارضة مع الطرف الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، بالعلم الإجمالي الأوّل إناء أسود وإناء أبيض، الأصل في الإناء الأسود معارض بالأصل في الإناء الأبيض، تعارضا، فتساقطا، فتنجّز العلم الإجمالي الأوّل. كلامنا ليس في العلم الإجمالي الأوّل، وإنّما كلامنا في العلم الإجمالي الثاني المتأخّر، هذا الذي نريد أن نحلّه، الأصل في الإناء الأسود سقط عن الإناء الأسود بالمعارضة مع الأصل في الإناء الأبيض. إذن: الإناء الأسود قد سقط الأصل فيه، فيجري الأصل في الإناء الأحمر بلا معارض، فإذا لم تتعارض الأصول؛ فحينئذٍ لا تنجيز لهذا العلم الإجمالي؛ لأنّ منجّزية العلم الإجمالي فرع تعارض الأصول وتساقطها، فإذا لم يكن هناك تعارض، فيجري الأصل في الطرف الآخر، يعني في الإناء الأحمر بلا معارض، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً.
أجيب عن هذا الرأي الثاني: المحقق العراقي (قدّس سرّه) اشار إلى هذا الجواب في (نهاية الأفكار) [2] بشكلٍ واضحٍ جدّاً، وحاصل هذا الجواب: أنّ التنجيز في كل آنٍ منوط بوجود العلم الإجمالي في ذلك الآن، ولا يكفي في التنجيز في آنٍ وجود العلم الإجمالي في آنٍ قبله، في هذا الآن التنجيز منوط بوجود علمٍ إجمالي في هذا الآن، أمّا وجود علمٍ إجماليٍ قبل يومين، أو قبل ساعتين مع عدم وجوده الآن هذا لا يكفي في إثبات التنجيز الآن. هذه قاعدة، هذا الكلام يعني في الحقيقة أنّه في الآن الثاني الذي هو في المثال الذي ذكرناه يعني في الظهر؛ لأننا افترضنا أنّ العلم الإجمالي حصل صباحاً، والعلم الإجمالي الثاني حصل ظهراً، هذا الكلام معناه أنّه في وقت الظهر اجتمع منجّزان على الإناء الأسود، وهذان المنجّزان في عرضٍ واحد ولا يوجد بينهما تقدّم وتأخّر، التقدّم والتأخّر إنّما يكون بين هذين المنجّزين الذين هما العلم الإجمالي الأوّل والعلم الإجمالي الثاني عندما نفترض أنّ العلم الإجمالي بحدوثه صباحاً أوجب تنجّز الإناء الأسود ظهراً، بينما تنجّز الإناء الأسود منوط بوجود ما ينجّزه ظهراً في ذاك الآن، فإذن: الإناء الأسود ظهراً يتلقّى التنجيز من سببين في عرضٍ واحدٍ وفي زمانٍ واحدٍ بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ، أحدهما العلم الإجمالي الأوّل في مرحلة البقاء، والثاني هو العلم الإجمالي الثاني في مرحلة الحدوث، العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي ينجّز الإناء الأسود، والعلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي ينجّز الإناء الأسود أيضاً، فهو يتلقّى التنجيز من أمرين، العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي، والعلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي، ومن الواضح بأنّ هذين السببين للتنجيز ليس أحدهما قبل الآخر كي يقال أنّ التنجيز يختص بالمتقدّم دون المتأخّر؛ بل بناءً على هذا الكلام تخصيص التنجيز بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح؛ لأنّهما في عرضٍ واحدٍ، وفي زمانٍ واحدٍ، وبالتالي، النتيجة هي أنّ سبب التنجيز واحدٌ، وهو عبارة عن مجموع السببين، دائماً هكذا، عندما تجتمع علّتان مستقلّتان على معلولٍ واحدٍ يندمجان ويكوّنان علّة واحدة مؤثرة في هذا المعلول الواحد، هنا سببان كلٌ منهما له تأثير مستقل في التنجيز، لكن عندما يجتمعان بنحوٍ لا يمكننا أن نثبت التنجيز إلى أحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، يكون المؤثر هو مجموعها، وكل واحدٍ منهما هو جزء العلّة المؤثرة في التنجيز، وبناءً على هذا؛ حينئذٍ لا معنى لهذا الكلام الذي قيل لإثبات الانحلال وعدم التنجيز من أنّ الإناء الأسود تلقّى التنجيز سابقاً، والمتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، هذا الكلام معناه أننا نثبت التأثير والتنجيز في الإناء الأسود إلى العلم الإجمالي السابق، والحال أنّ هذا بلا وجه. نعم، هذا يكون له وجه إذا رفعنا اليدّ عمّا قلناه، إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده الحدوثي يؤثر في التنجيز في مرحلة البقاء حتّى إذا زال، بينما الأمر ليس هكذا؛ حينئذٍ نستطيع أن نقول بوجود تقدّم وتأخّر بين العلمين؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي الأوّل اثر في المنجّزية في الإناء الأسود ظهراً بحدوثه صباحاً، فإذن: هو في التنجيز متقدّم على العلم الإجمالي الثاني، نجّز الإناء الأسود بوجوده المتقدّم، فيكون متقدّماً، فنقول أنّ الإناء الأسود لا يقبل التنجيز مرّة أخرى، فنعطي التأثير للعلم الإجمالي الأوّل، لكن إذا أنكرنا هذا، وقلنا أنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده الحدوثي ليس هو السبب في تنجيز الإناء الأسود ظهراً، وإنّما تنجيز الإناء الأسود ظهراً يحتاج إلى افتراض علم موجود في الظهر، ولو بقاءً، وهذا صحيح، العلم الإجمالي الأوّل بقاءً يكون موجوداً ظهراً ويؤثر في تنجيز الإناء الأسود، لكن هذا الوجود البقائي للعلم الإجمالي الأوّل ليس متقدّماً على العلم الإجمالي الثاني، فليس هناك تقدّم وتأخّر، وإنّما هما في عرضٍ واحد وفي زمانٍ واحد، ولا موجب لتخصيص أحدهما بالتأثير دون الآخر، فأنّ هذا ترجيح بلا مرجّح، وعليه: الإناء الأسود يتلقّى التنجيز من كلٍ منهما، ويكون كلٌ منهما جزء السبب. إذن: هذا الوجه لإثبات الانحلال أيضاً لا يكون تامّاً.
وممّا ذكرناه يظهر الجواب عن التقريب الثاني للانحلال المبني على مسلك الاقتضاء الذي يقول بناءً على مسلك الاقتضاء الذي يوجب التنجيز هو تعارض الأصول في الأطراف، وفي المقام لا تتعارض الأصول بالعلم الإجمالي الثاني؛ لأنّ الأصل في الإناء المشترك سقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر بالعلم الإجمالي الأوّل، فيجري الأصل في الإناء الأحمر بلا معارض، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً. هذا هو التقريب الثاني لتقريب الانحلال.
جوابه يظهر ممّا تقدّم، باعتبار أنّ تعارض الأصول وتساقطها هو من نتائج تنجّز حرمة المخالفة القطعية، وهو فرع وجود العلم الإجمالي، علم إجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعية تتعارض الأصول في الأطراف؛ لأنّه لا يمكن إجراء كلا الأصلين في الطرفين؛ لأنّه ينافي حرمة المخالفة القطعية، وإجراء الأصل في أحدهما دون الاخر ترجيح بلا مرجّح، فتتعارض الأصول وتتساقط، والدليل على أنّ تعارض الأصول وتساقطها منوط بالنتيجة بوجود العلم الإجمالي هو أنّه في كل حالةٍ نفترض فيها زوال العلم الإجمالي يرتفع التنجيز، وهذا معناه أنّه لا يكفي في التنجيز حدوث العلم الإجمالي سابقاً، وإنّما لابدّ من فرض بقائه واستمراره في كل آنٍ، الأصول إنّما تتعارض وتتساقط إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعية في ذاك الآن، وإنّما تتنجّز حرمة المخالفة القطعية في ذلك الآن إذا كان العلم الإجمالي موجوداً في ذلك الآن، ولا يكفي وجوده السابق، العلم الإجمالي بوجوده السابق لا ينجّز حرمة المخالفة القطعية في الآن الآخر، وإنّما الذي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في الآن الثاني، وبالتالي يوجب تعارض الأصول وتساقطها هو وجود العلم الإجمالي في الآن الثاني، وهذا معناه أنّ الذي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في العلم الإجمالي الثاني وبالتالي يوجب تعارض الأصول وتساقطها هو العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي، هذا يوجب تعارض الأصول في الأطراف، ومن الواضح أنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي هو في عرض العلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي وليس متقدّماً عليه. نتيجة هذا أنّ الإناء الأسود المشترك الأصل فيه كان له معارض واحد في فترة ما قبل الظهر في المثال السابق، وهو الأصل في الإناء الأبيض، لكن في فترة ما بعد الظهر الأصل في الإناء الأسود له معارضان، وهما عبارة عن الأصل في الإناء الأبيض، والأصل في الإناء الأحمر، هذه الأصول متعارضة، فتتساقط، فيتنجّز العلم الإجمالي، وهذا هو الرأي الثالث، أنّه في المقام لا انحلال، العلم الإجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الإجمالي الثاني في كل هذه الحالات المتقدّمة؛ بل يكون العلم الإجمالي الثاني منجّزاً لكلا طرفيه كما هو الحال في العلم الإجمالي الأوّل، وهذا معناه أنّ الأطراف الثلاثة تتنجّز بهذين العلمين.
الذي يظهر من الكلام المتقدّم الذي ذكرناه في مقام توضيح ما يريده المحققّ النائيني(قدّس سرّه) من دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخّر من جهة المعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم من جهة المعلوم، الذي يظهر من الكلام المتقدّم هو أنّه يريد بالحكم والتكليف الذي اشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ على كل تقدير، الظاهر من خلال كلامه أنّ مقصوده من التكليف هو التكليف الحادث الجديد، التكليف المُسبَّب عن ـــــــــــ فرضاً ـــــــــ سقوط قطرة دم في العلم الإجمالي الثاني، يعني يريد أن يقول بالعلم الإجمالي الثاني، والمقصود به هو العلم الإجمالي المتأخّر من حيث المعلوم، هذا العلم الإجمالي ليس علماً بتكليفٍ على كل تقدير؛ لأنّه على بعض التقادير ليس علماً بتكليفٍ، على تقدير أن تكون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل موجودة في الإناء الأسود ــــــــــ الإناء المشترك ــــــــــــ فالعلم الإجمالي لا يُحدث فيه تكليفاً، وإنّما يحدث تكليفاً على تقدير أن تكون النجاسة واقعة في الإناء الأحمر ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ حينئذٍ يحدث تكليفاً، لكن على هذا التقدير لا يحدث تكليفاً، فمقصوده بالتكليف هو التكليف الجديد، التكليف الحادث الذي لم يكن موجوداً سابقاً، فيقول: يُعتبّر في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون علماً بتكليفٍ حادثٍ على كل تقديرٍ، أن تكون قطرة الدم الساقطة في أحد الإناءين في العلم الإجمالي الثاني إمّا الأسود، أو الأحمر ....أن تكون قطرة الدم سبباً في تكليفٍ، وفي المقام لا يوجد عندنا علمٌ بتكليفٍ على كل تقدير، ليس لدينا علم بأنّ قطرة الدم التي سقطت هي سببٌ في تكليفٍ؛ لأنّه على تقدير أن تكون قطرة الدم التي سقطت في الإناء الأسود، وكان الإناء الأسود نجساً في العلم الإجمالي الأوّل، سقوط قطرة الدم فيه لا تُحدث تكليفاً، ولا تكون سبباً في تكليفٍ، بينما يُعتبَر في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ جديدٍ لم يكن موجوداً في السابق، وإذا سلّمنا الكبرى يكون هذا الكلام صحيحاً؛ لأنّه في هذه الأمثلة التي ذكرها ليس لديّ علم بحدوث تكليفٍ بالعلم الإجمالي الثاني. نعم، لديّ علم بأصل التكليف، لكن هذا التكليف الذي يحصل لديّ علم به هو أعمّ من يكون حدوث تكليفٍ، أو بقاء تكليفٍ كان موجوداً من السابق، على تقديرٍ يكون حدوث تكليفٍ، وعلى تقديرٍ آخر لا يكون حدوث تكليفٍ، وإنّما هو بقاء لتكليفٍ كان موجوداً سابقاً، فكلامه صحيح، لكن الكلام في اصل الكبرى، أنّه هل صحيح أنّ منجّزية العلم الإجمالي مشروطة بأن يكون هذا العلم علماً بتكليفٍ جديدٍ على كل تقديرٍ ؟ بحيث إذا علمنا كان العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ، لكن هذا التكليف أعمّ من أن يكون حدوثياً، أو بقائياً، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً، هل هذا صحيح ؟ أن نشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ، ولا يكفي في منجّزيته أن يكون علماً بأصل التكليف الذي يحتمل أن يكون على بعض التقادير تكليفاً بقائياً لا تكليفاً حدوثياً، هذا هل يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، أو لا ؟
الظاهر أنّه لا يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، ليس شرطاً في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بحدوث تكليفٍ على كل تقدير، كلا، وإنّما المهم أن يكون علماً بأصل التكليف، ليكن على بعض التقادير يحتمل أن يكون هذا التكليف تكليفاً بقائياً لا حدوثياً، هذا لا يضر في منجّزيته، بدليل أنّه لا إشكال في منجّزية العلم الإجمالي بلحاظ طرفين فيما لو كان بعض أطرافه مسبوقاً بالشكّ البدوي، نشك في أنّ الإناء الأسود نجس، أو لا ؟ ثمّ حصل علم إجمالي بسقوط قطرة دمٍ إمّا في الإناء الأسود، أو في الإناء الأبيض في موردٍ آخر غير محل كلامنا، هذا العلم الإجمالي بلا إشكال ينجّز كلا الطرفين مع أنّه ليس علماً بتكليفٍ جديدٍ على كل تقدير، على بعض التقادير يكون التكليف بقائياً لا حدوثياً، على تقدير أن يكون الإناء الأسود المشكوك نجاسته بالشكّ البدوي، على تقدير أن يكون نجساً، فسقوط قطرة الدم فيه لا تحدث تكليفاً جديداً، مع أنّه لا إشكال في منجّزيته مع أنّه ليس علماً بتكليفٍ جديدٍ حادثٍ على كل تقدير، وإنّما على تقدير يكون هناك تكليف حادث، وعلى تقديرٍ آخر يكون التكليف بقائياً لا حدوثياً، مع أنّه لا إشكال في منجّزيته، المهم هو أن يعلم بأصل التكليف أعمّ من أن يكون التكليف حدوثياً، أو يكون التكليف بقائياً، النتيجة هو علم بتكليفٍ، قطرة الدم سقطت في أحد الإناءين، إمّا الإناء الأحمر، أو الإناء الأسود، لماذا لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً لكلا الطرفين ؟ هذا علم بتكليفٍ، هذا التكليف في بعض الأحيان على بعض التقادير يكون تكليفاً بقائياً، وفي تقدير آخر يكون تكليفاً حدوثياً، لا يُشترط في منجّزية العلم الإجمالي أن يكون علماً بتكليفٍ جديدٍ، حادثٍ لم يكن موجوداً سابقاً. وهذه هي المناقشة المهمّة في الدعوى السابقة؛ لأنّ الدعوى السابقة ترتكز على هذه الكبرى التي هي دعوى أنّ تنجيز العلم الإجمالي مشروط بهذا الشرط، والذي يُفهم من كلامه كما قلنا أنّه يشترط حدوث تكليفٍ، أن يكون التكليف الحاصل بالعلم الإجمالي تكليفاً جديداً، وقلنا أنّ هذا صحيح، لا علم بتكليفٍ جديدٍ في محل الكلام، على بعض التقادير ليس تكليفاً جديداً، لكنّ هذا ليس شرطاً في منجّزية العلم الإجمالي. هذا بالنسبة إلى الرأي الأوّل، وتبيّن أنّه ليس تامّاً.
الرأي الثاني في المسألة: نسب السيد الشهيد(قدّس سرّه) هذا الرأي إلى السيد الخوئي(قدّس سرّه)، قال(قدّس سرّه):(وأظنّ قوياً أنّ هذا ما قال به السيد الاستاذ، وإن كان في الموجود في الدراسات هي النظرية الأولى).[1] الظاهر أنّ الرأي الثاني هو النظرية التي يختارها السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ولكنّه في تقريراته لم يعقد بحثاً خاصّاً لبحث قضية ما إذا كان هناك طرف مشترك بين علمين إجماليين، المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكره، والمحقق العراقي (قدّس سرّه) ذكره بعنوان خاصٍ به، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) لم أجد في تقريراته أنّه يذكره بهذا العنوان، لكنّه يذكره في بحث(ملاقي أحد أطراف الشبهة) هناك يذكره في(مصباح الأصول) ويختار الرأي الثاني الذي سنبينه لا الرأي الأوّل.
على كل حال، الرأي الثاني في المسألة هو: دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم، سواء كان المعلوم بالعلم الإجمالي المتأخّر متأخّراً أيضاً عن المعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم، أو لم يكن متأخّراً، المعلوم ليس مهمّاً عنده، المهم هو نفس العلم الإجمالي، أن يكون أحد العلمين من حيث العلم متأخّراً عن العلم الآخر، فالميزان في الانحلال عنده هو تقدّم أحد العلمين على العلم الآخر، بينما الميزان في الرأي الأوّل كان هو تقدّم أحد المعلومين بأحد العلمين على المعلوم بالعلم الآخر، يقول: إذا تقدّم أحد العلمين على العلم الآخر، العلم الثاني المتأخّر ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل، الرأي الأوّل كان يقول إذا تقدّم المعلوم بأحد العلمين الإجماليين على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني ينحل العلم الإجمالي المتأخّر معلومه بالعلم الإجمالي المتقدّم معلومه، فالميزان يختلف بينهما. والمثال الذي نوضّح به هذا الرأي هو : أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، الأسود، أو الأبيض، لكن العلم حصل له صباحاً، ثمّ الظهر علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين الأسود، أو الأحمر، هنا يوجد تقدّم وتأخّر في العلم؛ حينئذٍ المعلوم ليس مهمّاً على هذا الرأي، هذه النجاسة التي علمها بالعلم الإجمالي الثاني، سواء كانت متأخّرة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، أو لم تكن متأخّرة، زمان المعلوم ليس مهمّاً، وإنّما المهم زمان العلم. هنا يقول: العلم الإجمالي المتأخّر ينحل بالعلم الإجمالي المتقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالي المتقدّم قد نجّز الطرف المشترك بين العلمين والذي هو الإناء الأسود، ومعه لا يكون العلم الإجمالي الثاني صالحاً للتنجيز؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل، فلا يكون هذا العلم الإجمالي المتأخّر صالحاً للتنجيز، وهنا يُذكر تقريبان لإثبات هذا المُدّعى، أحدهما مبني على مسلك العلّية الذي يقول به المحقق العراقي (قدّس سرّه)، والآخر مبني على مسلك الاقتضاء:
التقريب الأوّل: على مسلك العلّية، عدم منجّزية هذا العلم الإجمالي المتأخّر لابدّ أن تُصاغ بهذا الشكل، بأن يقال: أنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فالإناء الأسود الذي تنجّز بالعلم الإجمالي السابق لا يقبل التنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي الثاني، وهذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالي الثاني لا ينجّز معلومه على كل تقدير، وإنّما ينجّزه على تقديرٍ دون تقدير، يُنجّز معلومه إذا كان موجوداً في الطرف الآخر، أي في الإناء الأحمر، أمّا إذا كان في الإناء الأسود، فالإناء الأسود قد تنجّز بالعلم الإجمالي السابق، فهو غير قابل لأن يتنجّز مرّة أخرى. إذن: العلم الإجمالي الثاني لا ينجّز معلومه على كل تقدير، فلا يكون صالحاً للتنجيز.
التقريب الثاني: على القول بالاقتضاء، أنّ عدم منجّزية العلم الإجمالي الثاني باعتبار عدم وجود تعارض بين الأصول في الأطراف، وعلى مسلك الاقتضاء الذي يوجب التنجيز هو تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، في هذا العلم الإجمالي الثاني ليس هناك تعارض في الأصول في الأطراف؛ باعتبار أنّ الأصل في الطرف المشترك قد سقط بالمعارضة مع الطرف الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، بالعلم الإجمالي الأوّل إناء أسود وإناء أبيض، الأصل في الإناء الأسود معارض بالأصل في الإناء الأبيض، تعارضا، فتساقطا، فتنجّز العلم الإجمالي الأوّل. كلامنا ليس في العلم الإجمالي الأوّل، وإنّما كلامنا في العلم الإجمالي الثاني المتأخّر، هذا الذي نريد أن نحلّه، الأصل في الإناء الأسود سقط عن الإناء الأسود بالمعارضة مع الأصل في الإناء الأبيض. إذن: الإناء الأسود قد سقط الأصل فيه، فيجري الأصل في الإناء الأحمر بلا معارض، فإذا لم تتعارض الأصول؛ فحينئذٍ لا تنجيز لهذا العلم الإجمالي؛ لأنّ منجّزية العلم الإجمالي فرع تعارض الأصول وتساقطها، فإذا لم يكن هناك تعارض، فيجري الأصل في الطرف الآخر، يعني في الإناء الأحمر بلا معارض، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس منجّزاً.
أجيب عن هذا الرأي الثاني: المحقق العراقي (قدّس سرّه) اشار إلى هذا الجواب في (نهاية الأفكار) [2] بشكلٍ واضحٍ جدّاً، وحاصل هذا الجواب: أنّ التنجيز في كل آنٍ منوط بوجود العلم الإجمالي في ذلك الآن، ولا يكفي في التنجيز في آنٍ وجود العلم الإجمالي في آنٍ قبله، في هذا الآن التنجيز منوط بوجود علمٍ إجمالي في هذا الآن، أمّا وجود علمٍ إجماليٍ قبل يومين، أو قبل ساعتين مع عدم وجوده الآن هذا لا يكفي في إثبات التنجيز الآن. هذه قاعدة، هذا الكلام يعني في الحقيقة أنّه في الآن الثاني الذي هو في المثال الذي ذكرناه يعني في الظهر؛ لأننا افترضنا أنّ العلم الإجمالي حصل صباحاً، والعلم الإجمالي الثاني حصل ظهراً، هذا الكلام معناه أنّه في وقت الظهر اجتمع منجّزان على الإناء الأسود، وهذان المنجّزان في عرضٍ واحد ولا يوجد بينهما تقدّم وتأخّر، التقدّم والتأخّر إنّما يكون بين هذين المنجّزين الذين هما العلم الإجمالي الأوّل والعلم الإجمالي الثاني عندما نفترض أنّ العلم الإجمالي بحدوثه صباحاً أوجب تنجّز الإناء الأسود ظهراً، بينما تنجّز الإناء الأسود منوط بوجود ما ينجّزه ظهراً في ذاك الآن، فإذن: الإناء الأسود ظهراً يتلقّى التنجيز من سببين في عرضٍ واحدٍ وفي زمانٍ واحدٍ بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ، أحدهما العلم الإجمالي الأوّل في مرحلة البقاء، والثاني هو العلم الإجمالي الثاني في مرحلة الحدوث، العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي ينجّز الإناء الأسود، والعلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي ينجّز الإناء الأسود أيضاً، فهو يتلقّى التنجيز من أمرين، العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي، والعلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي، ومن الواضح بأنّ هذين السببين للتنجيز ليس أحدهما قبل الآخر كي يقال أنّ التنجيز يختص بالمتقدّم دون المتأخّر؛ بل بناءً على هذا الكلام تخصيص التنجيز بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح؛ لأنّهما في عرضٍ واحدٍ، وفي زمانٍ واحدٍ، وبالتالي، النتيجة هي أنّ سبب التنجيز واحدٌ، وهو عبارة عن مجموع السببين، دائماً هكذا، عندما تجتمع علّتان مستقلّتان على معلولٍ واحدٍ يندمجان ويكوّنان علّة واحدة مؤثرة في هذا المعلول الواحد، هنا سببان كلٌ منهما له تأثير مستقل في التنجيز، لكن عندما يجتمعان بنحوٍ لا يمكننا أن نثبت التنجيز إلى أحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، يكون المؤثر هو مجموعها، وكل واحدٍ منهما هو جزء العلّة المؤثرة في التنجيز، وبناءً على هذا؛ حينئذٍ لا معنى لهذا الكلام الذي قيل لإثبات الانحلال وعدم التنجيز من أنّ الإناء الأسود تلقّى التنجيز سابقاً، والمتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، هذا الكلام معناه أننا نثبت التأثير والتنجيز في الإناء الأسود إلى العلم الإجمالي السابق، والحال أنّ هذا بلا وجه. نعم، هذا يكون له وجه إذا رفعنا اليدّ عمّا قلناه، إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده الحدوثي يؤثر في التنجيز في مرحلة البقاء حتّى إذا زال، بينما الأمر ليس هكذا؛ حينئذٍ نستطيع أن نقول بوجود تقدّم وتأخّر بين العلمين؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي الأوّل اثر في المنجّزية في الإناء الأسود ظهراً بحدوثه صباحاً، فإذن: هو في التنجيز متقدّم على العلم الإجمالي الثاني، نجّز الإناء الأسود بوجوده المتقدّم، فيكون متقدّماً، فنقول أنّ الإناء الأسود لا يقبل التنجيز مرّة أخرى، فنعطي التأثير للعلم الإجمالي الأوّل، لكن إذا أنكرنا هذا، وقلنا أنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده الحدوثي ليس هو السبب في تنجيز الإناء الأسود ظهراً، وإنّما تنجيز الإناء الأسود ظهراً يحتاج إلى افتراض علم موجود في الظهر، ولو بقاءً، وهذا صحيح، العلم الإجمالي الأوّل بقاءً يكون موجوداً ظهراً ويؤثر في تنجيز الإناء الأسود، لكن هذا الوجود البقائي للعلم الإجمالي الأوّل ليس متقدّماً على العلم الإجمالي الثاني، فليس هناك تقدّم وتأخّر، وإنّما هما في عرضٍ واحد وفي زمانٍ واحد، ولا موجب لتخصيص أحدهما بالتأثير دون الآخر، فأنّ هذا ترجيح بلا مرجّح، وعليه: الإناء الأسود يتلقّى التنجيز من كلٍ منهما، ويكون كلٌ منهما جزء السبب. إذن: هذا الوجه لإثبات الانحلال أيضاً لا يكون تامّاً.
وممّا ذكرناه يظهر الجواب عن التقريب الثاني للانحلال المبني على مسلك الاقتضاء الذي يقول بناءً على مسلك الاقتضاء الذي يوجب التنجيز هو تعارض الأصول في الأطراف، وفي المقام لا تتعارض الأصول بالعلم الإجمالي الثاني؛ لأنّ الأصل في الإناء المشترك سقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر بالعلم الإجمالي الأوّل، فيجري الأصل في الإناء الأحمر بلا معارض، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً. هذا هو التقريب الثاني لتقريب الانحلال.
جوابه يظهر ممّا تقدّم، باعتبار أنّ تعارض الأصول وتساقطها هو من نتائج تنجّز حرمة المخالفة القطعية، وهو فرع وجود العلم الإجمالي، علم إجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعية تتعارض الأصول في الأطراف؛ لأنّه لا يمكن إجراء كلا الأصلين في الطرفين؛ لأنّه ينافي حرمة المخالفة القطعية، وإجراء الأصل في أحدهما دون الاخر ترجيح بلا مرجّح، فتتعارض الأصول وتتساقط، والدليل على أنّ تعارض الأصول وتساقطها منوط بالنتيجة بوجود العلم الإجمالي هو أنّه في كل حالةٍ نفترض فيها زوال العلم الإجمالي يرتفع التنجيز، وهذا معناه أنّه لا يكفي في التنجيز حدوث العلم الإجمالي سابقاً، وإنّما لابدّ من فرض بقائه واستمراره في كل آنٍ، الأصول إنّما تتعارض وتتساقط إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعية في ذاك الآن، وإنّما تتنجّز حرمة المخالفة القطعية في ذلك الآن إذا كان العلم الإجمالي موجوداً في ذلك الآن، ولا يكفي وجوده السابق، العلم الإجمالي بوجوده السابق لا ينجّز حرمة المخالفة القطعية في الآن الآخر، وإنّما الذي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في الآن الثاني، وبالتالي يوجب تعارض الأصول وتساقطها هو وجود العلم الإجمالي في الآن الثاني، وهذا معناه أنّ الذي ينجّز حرمة المخالفة القطعية في العلم الإجمالي الثاني وبالتالي يوجب تعارض الأصول وتساقطها هو العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي، هذا يوجب تعارض الأصول في الأطراف، ومن الواضح أنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي هو في عرض العلم الإجمالي الثاني بوجوده الحدوثي وليس متقدّماً عليه. نتيجة هذا أنّ الإناء الأسود المشترك الأصل فيه كان له معارض واحد في فترة ما قبل الظهر في المثال السابق، وهو الأصل في الإناء الأبيض، لكن في فترة ما بعد الظهر الأصل في الإناء الأسود له معارضان، وهما عبارة عن الأصل في الإناء الأبيض، والأصل في الإناء الأحمر، هذه الأصول متعارضة، فتتساقط، فيتنجّز العلم الإجمالي، وهذا هو الرأي الثالث، أنّه في المقام لا انحلال، العلم الإجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الإجمالي الثاني في كل هذه الحالات المتقدّمة؛ بل يكون العلم الإجمالي الثاني منجّزاً لكلا طرفيه كما هو الحال في العلم الإجمالي الأوّل، وهذا معناه أنّ الأطراف الثلاثة تتنجّز بهذين العلمين.