35/11/20
تحمیل
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: انحلال العلم الإجمالي/تنبيهات العلم الإجمالي /الأصول العمليّة
ذكرنا أنّ سبب العلم: تارةً يكون مختصّاً واقعاً بطرفٍ معيّن، لكنّه عندنا مرددّ بين طرفين، لكن مصب هذا السبب وما يتعلّق هذا السبب به هو طرف معيّن في الواقع، من قبيل سقوط قطرة دم، قطرة دمٍ تسقط في إناءٍ معيّن في الواقع، لكنّه مرددّ عندنا بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف، وأخرى يكون سبب العلم لا يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، وإنّما هو أساساً نسبته إلى الأطراف نسبة متساوية واحدة ولا يختصّ بطرفٍ دون طرفٍ. كان الكلام في الحالة الأولى، حيث قلنا أنّ هذه الحالة يمكن تصوّرها على عدّة صور، ذكرنا الصورة الأولى، وقلنا أنّه لا إشكال في خروجها عن محل النزاع، بمعنى أنّه لا نزاع في تحقق الانحلال فيها، وهي ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، وتشخيصه في طرفٍ معين.
الصورة الثانية: أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال وتشخيصه في طرفٍ معيّن، لكّنه يتعلّق بسببٍ آخر، أعلم تفصيلاً بنجاسة هذا الإناء بسببٍ آخر غير السبب الذي حصل العلم الإجمالي على أساسه، علمت بسقوط قطرة دمٍ أخرى في هذا الإناء المعيّن. قلنا أنّ هذا أيضاً خارج عن محل النزاع، بمعنى أنّه لا نزاع في عدم تحقق الانحلال فيه لوضوح أنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقاً للمعلوم بالإجمال.
الصورة الثالثة: أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، ولا يتعلّق بسببٍ آخر، فقط أعلم بنجاسة هذا الإناء المعيّن، علمت بنجاسة أحد الإناءين باعتبار سقوط قطرة دم في أحدهما، ثمّ علمت تفصيلاً بنجاسة الإناء الأيمن. هذه هي الصور التي يقع الكلام في أنّ العلم الإجمالي هل ينحل بهذا العلم التفصيلي، أو لا ؟
حينما أعلم بنجاسة هذا الإناء الأيمن تفصيلاً، بطبيعة الحال أنا احتمل أنّ هذه النجاسة حدثت من نفس السبب، بسبب سقوط قطرة الدم المعلومة إجمالاً، ويمكن أن تكون النجاسة حادثة بسببٍ آخر، كل منهما محتمل، محتمل أن تكون النجاسة المعلومة تفصيلاً قد حدثت بسبب سقوط قطرة الدم السابقة، أوجبت العلم الإجمالي سابقاً، هذه قطرة الدم هي أوجبت نجاسة هذا الإناء المعيّن، كما يحتمل أن تكون هذه النجاسة المعلومة تفصيلاً حدثت بسببٍ آخر، لكن على كلا التقديرين، ما أعلمه هو نجاسة هذا الإناء الأيمن. في هذه الحالة من الواضح أنّه لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لا يحرز الانطباق؛ لأنّي احتمل أنّ النجاسة الحاصلة في هذا الإناء المعيّن حدثت بسببٍ آخر لا بنفس السبب السابق، هذا ممكن، لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وإنّما هناك فقط احتمال الانطباق، احتمال أن يكون السبب واحداً في العلمين، وبذلك ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لكن هذا مجرّد احتمال في قباله احتمال عدم الانطباق، لا إحراز للانطباق؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ أُخذت فيه خصوصية وحدّ يُحتمل أن يكون مانعاً من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وهذا الحد والخصوصية هي عبارة عن سبب العلم الإجمالي، سبب العلم الإجمالي يكون حدّاً وخصوصية في المعلوم بالإجمال يُحتمل أن تكون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.
أو قل بعبارةٍ أخرى: يُحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال منطبقاً على الطرف الآخر غير منطبق على هذا الفرد المعلوم بالتفصيل، والنكتة هي أنّ المعلوم بالإجمال في هذه الصورة من الحالة الأولى أُخذت فيه خصوصية يُحتمل أن تكون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، هذا المفروض في محل كلامنا؛ لأننا نتكلّم في الحالة الأولى التي هي ما إذا كان العلم الإجمالي له سبب يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، ما تسقط فيه قطرة الدم هو طرف بعينه في الواقع، لكن أنا صار لديّ إجمال، فترددّ عندي بين هذا الإناء وبين ذاك الإناء، في مثل هذه الحالة هذه الخصوصية زائدة، يعني سبب العلم إذا كان بهذا النحو، يكون خصوصية زائدة في المعلوم بالإجمال بحيث يصحح لي أن أقول أننّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم في طرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندي، وهذه النجاسة تعلّقت بطرفٍ معيّن واقعاً، لكن أنا لا أعلم بهذا الطرف المعيّن واقعاً الذي سقطت فيه قطرة الدم وكان نجساً، هل هو هذا الطرف، أو هذا الطرف ؟ لأني أحتمل كلاً منهما، احتمل أنّ قطرة الدم سقطت في هذا الطرف، واحتمل أنّ قطرة الدم سقطت في ذاك الطرف، لكن ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين الناشئة من سقوط قطرة الدم، وأحد الإناءين هذا مرددّ عندي بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف، من هنا يكون سبب العلم الإجمالي في هذه الحالة قيداً وخصوصية في المعلوم بالإجمال، أنا لا أعلم بنجاسةٍ على إطلاقها مرددّة بين هذا الطرف وذاك، وإنّما أعلم بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ في أحد الإناءين، النجاسة التي أعلمها في أحد الطرفين هي نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم في ذاك الطرف المعيّن واقعاً المرددّ عندي، أنا لا أعلم بأنّ ذاك الإناء الواقعي الذي سقطت فيه قطرة الدم، هل هو هذا الإناء الأيمن، أو هو الإناء الأيسر ؟ وإلاّ في الواقع قطرة الدم سقطت في إناءٍ معيّنٍ، والنجاسة ثبتت لإناءٍ معيّنٍ نتيجة سقوط قطرة الدم.
إذن: ما أعلمه ليس نجاسة مطلقة، لا أعلم أنها موجودة هنا، أو موجودة هنا، وإنّما أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم في إناءٍ معيّنٍ في الواقع من الإناءين، لكنّي لا أعلم هل هو هذا الإناء، أو ذاك الإناء، وهذا معنى أنّ المعلوم بالإجمال يكون قد أُخذت فيه خصوصية وحدّ يُحتمل أن تكون تلك الخصوصية مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأننّي لا أعلم بوجود هذه الخصوصية في المعلوم بالتفصيل، المفروض أنّ المعلوم بالتفصيل فقط أنا علمت بنجاسة الإناء الأيمن، وليس أنني علمت بنجاسة الإناء الأيمن نجاسةً ناشئة من قطرة الدم المفترضة في المقام، من المحتمل أن تكون النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة، لكن يُحتمل أن تكون ناشئة من سببٍ آخر، على هذا التقدير لا ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم، ما دمت احتمل في المعلوم بالتفصيل أنّ نجاسته نشأت من سببٍ آخر؛ حينئذٍ هذا يمنع من احراز انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ ولذا لا انحلال في هذه الصورة الثالثة، لا يتحقق الانحلال بمجرّد أن نفترض أنّ المعلوم بالإجمال قد أُخذت فيه خصوصية؛ بل في الحقيقة الذي يحصل ثانياً بعد العلم الإجمالي وإن كان هو علماً تفصيلياً بلحاظ الطرف وبلحاظ الفرد، لكنّه في واقعه علم إجمالي بلحاظ سبب هذا العلم التفصيلي؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي سببه مرددّ في الواقع بين أن يكون هو عبارة عن نفس قطرة الدم السابقة، أو قطرة دمٍ أخرى، فهو في الواقع علم إجمالي بلحاظ سبب العلم، وإن كان علماً تفصيلياً بلحاظ الفرد والطرف؛ لأنّي أعلم بنجاسة الطرف الأيمن تفصيلاً، لكن بلحاظ السبب هو مردد بين سببين، فهو علم إجمالي في واقعه، هذا العلم الإجمالي الثاني بلحاظ السبب لا يحلّ العلم الإجمالي السابق؛ لأنّ العلم الإجمالي السابق لم يكن مرددّاً بلحاظ سببه؛ لأنّ سببه ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ هو سقوط قطرة دم، وإنّما كان مجملاً ومردداً بلحاظ الأطراف، عكس العلم التفصيلي الذي هو علم إجمالي بلحاظ السبب، ومن هنا هذا العلم الإجمالي الثاني لا يمكن أن يحل العلم الإجمالي السابق، بمعنى أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل لا يحرز انطباقه على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، ومن هنا لا انحلال.
هذه هي الصوّر الثلاث للحالة الأولى، وبعد وضوح أنّ الصورة الأولى خارجة عن محل النزاع، والصورة الثانية أيضاً خارجة عن محل النزاع، الذي يدخل في محل النزاع هو خصوص الصورة الثالثة من الحالة الأولى، المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية بأن كان سبب العلم الإجمالي مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، قلنا هذا يلازم أن تكون في المعلوم بالإجمال خصوصية مأخوذة فيه، لكن العلم التفصيلي تعلّق بالنجاسة فقط من دون معرفة السبب الخاص لهذه النجاسة. في هذه الحالة ــــــــــــ الصورة الثالثة ــــــــــــ الصحيح هو عدم الانحلال، أنّ العلم الإجمالي السابق لا ينحلّ حقيقة.
الحالة الثانية: أن نفترض أنّ سبب العلم الإجمالي ليس مختصّاً ببعض الأطراف واقعاً؛ بل نسبته إلى الأطراف نسبةً متساوية وبدرجةٍ واحدة، هذا لا يحصل في الأمثلة المتعارفة التي كنّا نمثّل بها، وإنّما يحصل عندما يكون العلم الإجمالي ناشئاً من قيام برهانٍ، أو دليلٍ يقتضي عدم إمكان اجتماع أمرين، إذا قام برهان ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــ أنّ هذين الأمرين لا يمكن أن يجتمعا، قهراً نعلم إجمالاً بارتفاع أحدهما، طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء قام برهان، أو دليل على عدم إمكان اجتماعهما كما سنمثّل، ومعناه أننا نعلم بارتفاع طهارة أحدهما. أو قل بعبارةٍ أخرى: نعلم بنجاسة أحدهما؛ إذ لا يمكن أن يكون كلٌ منهما طاهراً، قام برهان على عدم إمكان اجتماع طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء، وهذا يُسبب علماً إجمالياً بارتفاع أحدى الطهارتين عن أحد الإناءين، يعني بنجاسة أحد الإناءين، فيصبح الإنسان عالماً بنجاسة أحد الإناءين، من قبيل الإناءان الّلذان هما في حوزة الكافر ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــ ونحن نقطع ونطمأن بأنّ هذا الكافر حتماً استعمل أحدهما لفترة طويلة، يعني نستبعد أن لا يستعمل الإناءين في هذه الفترة الطويلة. هذا الاطمئنان بأنّه استعمل أحد الإناءين على الأقل يكون سبباً في أن يحصل لي علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين، باعتبار أنّ الكافر استعمله فتنجّس، لكن سبب العلم الإجمالي هو هذا الدليل القائم على عدم إمكان أن يكون هذا الإناء طاهر، وهذا الإناء أيضاً طاهر؛ لأنّه لابدّ أن يكون قد استعمل أحد الإناءين. سبب العلم الإجمالي هو عدم إمكان اجتماع هذين الأمرين، استبعاد أن لا يستعمل الكافر كلا الإناءين في هذه الفترة الطويلة.
أو قل بعبارةٍ أخرى: الاطمئنان أو القطع بأنّه استعمل أحدهما. هنا سبب العلم الإجمالي هو هذا الاطمئنان، ومن الواضح أنّ هذا السبب لا يختص بأحد الطرفين بعينه مع ترددّه عندي، نسبة سبب العلم الإجمالي إلى كلا الطرفين نسبة واحدة، وبهذا يختلف عن الحالة الأولى، الحالة الأولى كان هناك إناء معيّن في الواقع أنصب عليه السبب، يعني هو الذي تعلّق به سبب العلم الإجمالي، سقطت فيه قطرة الدم، إناء معيّن في الواقع، لكن اشتبه عندي، فترددّ بين إناءين، بينما هنا الاستبعاد لا يختص بأحد الطرفين واقعاً، البرهان على عدم إمكان اجتماع الأمرين واقعاً لا يختصّ بأحد الطرفين، هو اصلاً نسبته إلى هذا الطرف كنسبته إلى الطرف الآخر، لا يختص بأحد الطرفين إطلاقاً، هذه هي الحالة الثانية، أن يكون العلم الإجمالي له سبب، لكن سببه لا يختص بأحد الطرفين واقعاً؛ بل تكون نسبته إلى جميع الأطراف نسبة واحدة ومتساوية.
في هذه الحالة الثانية: إذا علمت تفصيلاً بنجاسة أحد الإناءين، هل ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالاً حقيقياً، أو لا ؟ هذا يرتبط بأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية، أو لم تؤخذ فيه خصوصية، في هذا الفرض في الحالة الثانية، ليست هناك خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال، بخلاف الحالة الأولى الخصوصية كانت موجودة وهي سبب العلم الإجمالي المختص ــــــــــــ بحسب الفرض في الحالة الأولى ــــــــــــ واقعاً بطرفٍ معيّن مردّد عندي؛ ولذا قلنا هو يبيح لي أن أقول: بأنّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دمٍ في أحد الإناءين، لكنّي لا أعلم أنّ أحد الإناءين هل هو هذا الإناء، أو هو هذا الإناء ؟ في الحالة الثانية لا توجد خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال؛ لأنّ نسبة سبب العلم الإجمالي هنا إلى الأطراف نسبة متساوية، ليس سبب العلم الإجمالي مختصّاً واقعاً بأحد الطرفين حتّى اقول أنّ النجاسة التي أعلمها في أحد الطرفين هي ناشئة من سقوط قطرة الدم، وإنّما نسبة سبب العلم الإجمالي إلى كلّ الأطراف نسبة واحدة وليست نسبة مختصّة بأحد الأطراف؛ ولذا لا يصح لي هنا أن أقول بأنّي أعلم بنجاسة أحد الإناءين نجاسة ناشئة من الاستبعاد، لكنّي لا أعلم أنّ هذه النجاسة موجودة في هذا الإناء، أو في ذاك الإناء، هذا لا يبررّ أن أقول أني أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ حتّى أأخذ بخصوصية، نحن نريد أن نثبت أنّ هذه الخصوصية غير مأخوذة في المعلوم بالإجمال؛ لأنّ كونها معلومة بالإجمال معناه أنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من الاستبعاد أنا لا أعلم بأنّها موجودة في هذا الإناء، أو في ذاك الإناء، هذا إنّما يصح عندما يكون سبب العلم الإجمالي مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندي؛ وحينئذٍ أقول أنّ ما أعلمه هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم في أحد الإناءين، لكن أنا لا أعلم انّها موجودة في هذا الإناء، أو ذاك الإناء، هذا كلام صحيح، ويكون المعلوم بالإجمال حينئذٍ مقيّداً بتلك الخصوصية، أمّا في الحالة الثانية هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلى هذا الطرف وهذا الطرف نسبة واحدة، وليس مختصّاً بأحد الطرفين، فلا معنى لأن أقول بأنّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من الاستبعاد مرددّة عندي بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلى كل الأطراف نسبة واحدة؛ ولذا لا يكون المعلوم بالإجمال مقيّداً بهذه الخصوصية، وإنّما ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين، نعم هذا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين سببه الاستبعاد، لكن من دون أن يؤخذ الاستبعاد كسببٍ للعلم الإجمالي في المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو عبارة عن نجاسة أحد الإناءين؛ وحصل عندي علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين لقيام البرهان، أو الاستبعاد على عدم إمكان الجمع بين طهارة هذا الإناء وطهارة هذا الإناء لهذه المدّة الطويلة، لكنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين وليس نجاسة ناشئة من الاستبعاد المذكور ولا أعلم بتطبيقها على هذا الفرد، كما هو المفروض في محل الكلام، أو أنّها موجودة في هذا الفرد؛ لأنّ الاستبعاد، أو البرهان نسبته متساوية واقعاً إلى كل الأطراف؛ إذ لا خصوصية لاستبعاد هذا الطرف دون الطرف الآخر، الاستبعاد لا يثبت أكثر من أنّ أحد الإناءين لابدّ أن يكون نجساً، لابدّ أن ترتفع عنه الطهارة، لكنّه لا يختص بأحد الطرفين، ومن هنا يقال: في الحالة الثانية لم تؤخذ في المعلوم بالإجمال خصوصية زائدة، وبناءً عليه يتحقق الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال إذا لم تؤخذ فيه خصوصية زائدة فالمعلوم بالتفصيل مصداق حقيقي له، ومن هنا يكون الانطباق قهرياً، وسريان العلم من الجامع إلى الفرد يكون قهرياً وبذلك يتحققّ الانحلال الحقيقي مع الالتفات إلى ما تقدّم في الدرس السابق من أنّ هذا الانحلال الحقيقي في هذه الحالة لا يمنع من احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر ــــــــــــ وهذه نكتة مهمّة ـــــــــــــ لكن الجامع الذي يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعي لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سرى إلى الفرد، فأصبح الجامع محدوداً بحدٍّ وخصوصيةٍ شخصيةٍ وهي الفرد، ومن الواضح أنّ الجامع الذي حُدّ بحدٍّ شخصيٍ لا يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر، وإنّما يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر بحدّه الجامعي، فاحتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر موجود حتّى في موارد الانحلال الحقيقي، لكن الذي يُحتمل انطباقه هو الجامع بحدّه الجامعي، لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سرى إلى الفرد وأصبح جامعاً بحدٍّ شخصيٍ موجود في ضمن خصوصية شخصية، وهذا الجامع لا يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر.
هناك وجه آخر لإثبات الانحلال غير مسألة انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل تأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى .
الموضوع: انحلال العلم الإجمالي/تنبيهات العلم الإجمالي /الأصول العمليّة
ذكرنا أنّ سبب العلم: تارةً يكون مختصّاً واقعاً بطرفٍ معيّن، لكنّه عندنا مرددّ بين طرفين، لكن مصب هذا السبب وما يتعلّق هذا السبب به هو طرف معيّن في الواقع، من قبيل سقوط قطرة دم، قطرة دمٍ تسقط في إناءٍ معيّن في الواقع، لكنّه مرددّ عندنا بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف، وأخرى يكون سبب العلم لا يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، وإنّما هو أساساً نسبته إلى الأطراف نسبة متساوية واحدة ولا يختصّ بطرفٍ دون طرفٍ. كان الكلام في الحالة الأولى، حيث قلنا أنّ هذه الحالة يمكن تصوّرها على عدّة صور، ذكرنا الصورة الأولى، وقلنا أنّه لا إشكال في خروجها عن محل النزاع، بمعنى أنّه لا نزاع في تحقق الانحلال فيها، وهي ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، وتشخيصه في طرفٍ معين.
الصورة الثانية: أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال وتشخيصه في طرفٍ معيّن، لكّنه يتعلّق بسببٍ آخر، أعلم تفصيلاً بنجاسة هذا الإناء بسببٍ آخر غير السبب الذي حصل العلم الإجمالي على أساسه، علمت بسقوط قطرة دمٍ أخرى في هذا الإناء المعيّن. قلنا أنّ هذا أيضاً خارج عن محل النزاع، بمعنى أنّه لا نزاع في عدم تحقق الانحلال فيه لوضوح أنّ المعلوم بالتفصيل ليس مصداقاً للمعلوم بالإجمال.
الصورة الثالثة: أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، ولا يتعلّق بسببٍ آخر، فقط أعلم بنجاسة هذا الإناء المعيّن، علمت بنجاسة أحد الإناءين باعتبار سقوط قطرة دم في أحدهما، ثمّ علمت تفصيلاً بنجاسة الإناء الأيمن. هذه هي الصور التي يقع الكلام في أنّ العلم الإجمالي هل ينحل بهذا العلم التفصيلي، أو لا ؟
حينما أعلم بنجاسة هذا الإناء الأيمن تفصيلاً، بطبيعة الحال أنا احتمل أنّ هذه النجاسة حدثت من نفس السبب، بسبب سقوط قطرة الدم المعلومة إجمالاً، ويمكن أن تكون النجاسة حادثة بسببٍ آخر، كل منهما محتمل، محتمل أن تكون النجاسة المعلومة تفصيلاً قد حدثت بسبب سقوط قطرة الدم السابقة، أوجبت العلم الإجمالي سابقاً، هذه قطرة الدم هي أوجبت نجاسة هذا الإناء المعيّن، كما يحتمل أن تكون هذه النجاسة المعلومة تفصيلاً حدثت بسببٍ آخر، لكن على كلا التقديرين، ما أعلمه هو نجاسة هذا الإناء الأيمن. في هذه الحالة من الواضح أنّه لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لا يحرز الانطباق؛ لأنّي احتمل أنّ النجاسة الحاصلة في هذا الإناء المعيّن حدثت بسببٍ آخر لا بنفس السبب السابق، هذا ممكن، لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وإنّما هناك فقط احتمال الانطباق، احتمال أن يكون السبب واحداً في العلمين، وبذلك ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، لكن هذا مجرّد احتمال في قباله احتمال عدم الانطباق، لا إحراز للانطباق؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ أُخذت فيه خصوصية وحدّ يُحتمل أن يكون مانعاً من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وهذا الحد والخصوصية هي عبارة عن سبب العلم الإجمالي، سبب العلم الإجمالي يكون حدّاً وخصوصية في المعلوم بالإجمال يُحتمل أن تكون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل.
أو قل بعبارةٍ أخرى: يُحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال منطبقاً على الطرف الآخر غير منطبق على هذا الفرد المعلوم بالتفصيل، والنكتة هي أنّ المعلوم بالإجمال في هذه الصورة من الحالة الأولى أُخذت فيه خصوصية يُحتمل أن تكون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، هذا المفروض في محل كلامنا؛ لأننا نتكلّم في الحالة الأولى التي هي ما إذا كان العلم الإجمالي له سبب يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، ما تسقط فيه قطرة الدم هو طرف بعينه في الواقع، لكن أنا صار لديّ إجمال، فترددّ عندي بين هذا الإناء وبين ذاك الإناء، في مثل هذه الحالة هذه الخصوصية زائدة، يعني سبب العلم إذا كان بهذا النحو، يكون خصوصية زائدة في المعلوم بالإجمال بحيث يصحح لي أن أقول أننّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم في طرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندي، وهذه النجاسة تعلّقت بطرفٍ معيّن واقعاً، لكن أنا لا أعلم بهذا الطرف المعيّن واقعاً الذي سقطت فيه قطرة الدم وكان نجساً، هل هو هذا الطرف، أو هذا الطرف ؟ لأني أحتمل كلاً منهما، احتمل أنّ قطرة الدم سقطت في هذا الطرف، واحتمل أنّ قطرة الدم سقطت في ذاك الطرف، لكن ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين الناشئة من سقوط قطرة الدم، وأحد الإناءين هذا مرددّ عندي بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف، من هنا يكون سبب العلم الإجمالي في هذه الحالة قيداً وخصوصية في المعلوم بالإجمال، أنا لا أعلم بنجاسةٍ على إطلاقها مرددّة بين هذا الطرف وذاك، وإنّما أعلم بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ في أحد الإناءين، النجاسة التي أعلمها في أحد الطرفين هي نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم في ذاك الطرف المعيّن واقعاً المرددّ عندي، أنا لا أعلم بأنّ ذاك الإناء الواقعي الذي سقطت فيه قطرة الدم، هل هو هذا الإناء الأيمن، أو هو الإناء الأيسر ؟ وإلاّ في الواقع قطرة الدم سقطت في إناءٍ معيّنٍ، والنجاسة ثبتت لإناءٍ معيّنٍ نتيجة سقوط قطرة الدم.
إذن: ما أعلمه ليس نجاسة مطلقة، لا أعلم أنها موجودة هنا، أو موجودة هنا، وإنّما أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم في إناءٍ معيّنٍ في الواقع من الإناءين، لكنّي لا أعلم هل هو هذا الإناء، أو ذاك الإناء، وهذا معنى أنّ المعلوم بالإجمال يكون قد أُخذت فيه خصوصية وحدّ يُحتمل أن تكون تلك الخصوصية مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأننّي لا أعلم بوجود هذه الخصوصية في المعلوم بالتفصيل، المفروض أنّ المعلوم بالتفصيل فقط أنا علمت بنجاسة الإناء الأيمن، وليس أنني علمت بنجاسة الإناء الأيمن نجاسةً ناشئة من قطرة الدم المفترضة في المقام، من المحتمل أن تكون النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة، لكن يُحتمل أن تكون ناشئة من سببٍ آخر، على هذا التقدير لا ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم، ما دمت احتمل في المعلوم بالتفصيل أنّ نجاسته نشأت من سببٍ آخر؛ حينئذٍ هذا يمنع من احراز انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ ولذا لا انحلال في هذه الصورة الثالثة، لا يتحقق الانحلال بمجرّد أن نفترض أنّ المعلوم بالإجمال قد أُخذت فيه خصوصية؛ بل في الحقيقة الذي يحصل ثانياً بعد العلم الإجمالي وإن كان هو علماً تفصيلياً بلحاظ الطرف وبلحاظ الفرد، لكنّه في واقعه علم إجمالي بلحاظ سبب هذا العلم التفصيلي؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي سببه مرددّ في الواقع بين أن يكون هو عبارة عن نفس قطرة الدم السابقة، أو قطرة دمٍ أخرى، فهو في الواقع علم إجمالي بلحاظ سبب العلم، وإن كان علماً تفصيلياً بلحاظ الفرد والطرف؛ لأنّي أعلم بنجاسة الطرف الأيمن تفصيلاً، لكن بلحاظ السبب هو مردد بين سببين، فهو علم إجمالي في واقعه، هذا العلم الإجمالي الثاني بلحاظ السبب لا يحلّ العلم الإجمالي السابق؛ لأنّ العلم الإجمالي السابق لم يكن مرددّاً بلحاظ سببه؛ لأنّ سببه ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ هو سقوط قطرة دم، وإنّما كان مجملاً ومردداً بلحاظ الأطراف، عكس العلم التفصيلي الذي هو علم إجمالي بلحاظ السبب، ومن هنا هذا العلم الإجمالي الثاني لا يمكن أن يحل العلم الإجمالي السابق، بمعنى أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل لا يحرز انطباقه على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، ومن هنا لا انحلال.
هذه هي الصوّر الثلاث للحالة الأولى، وبعد وضوح أنّ الصورة الأولى خارجة عن محل النزاع، والصورة الثانية أيضاً خارجة عن محل النزاع، الذي يدخل في محل النزاع هو خصوص الصورة الثالثة من الحالة الأولى، المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية بأن كان سبب العلم الإجمالي مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا، قلنا هذا يلازم أن تكون في المعلوم بالإجمال خصوصية مأخوذة فيه، لكن العلم التفصيلي تعلّق بالنجاسة فقط من دون معرفة السبب الخاص لهذه النجاسة. في هذه الحالة ــــــــــــ الصورة الثالثة ــــــــــــ الصحيح هو عدم الانحلال، أنّ العلم الإجمالي السابق لا ينحلّ حقيقة.
الحالة الثانية: أن نفترض أنّ سبب العلم الإجمالي ليس مختصّاً ببعض الأطراف واقعاً؛ بل نسبته إلى الأطراف نسبةً متساوية وبدرجةٍ واحدة، هذا لا يحصل في الأمثلة المتعارفة التي كنّا نمثّل بها، وإنّما يحصل عندما يكون العلم الإجمالي ناشئاً من قيام برهانٍ، أو دليلٍ يقتضي عدم إمكان اجتماع أمرين، إذا قام برهان ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــ أنّ هذين الأمرين لا يمكن أن يجتمعا، قهراً نعلم إجمالاً بارتفاع أحدهما، طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء قام برهان، أو دليل على عدم إمكان اجتماعهما كما سنمثّل، ومعناه أننا نعلم بارتفاع طهارة أحدهما. أو قل بعبارةٍ أخرى: نعلم بنجاسة أحدهما؛ إذ لا يمكن أن يكون كلٌ منهما طاهراً، قام برهان على عدم إمكان اجتماع طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء، وهذا يُسبب علماً إجمالياً بارتفاع أحدى الطهارتين عن أحد الإناءين، يعني بنجاسة أحد الإناءين، فيصبح الإنسان عالماً بنجاسة أحد الإناءين، من قبيل الإناءان الّلذان هما في حوزة الكافر ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــ ونحن نقطع ونطمأن بأنّ هذا الكافر حتماً استعمل أحدهما لفترة طويلة، يعني نستبعد أن لا يستعمل الإناءين في هذه الفترة الطويلة. هذا الاطمئنان بأنّه استعمل أحد الإناءين على الأقل يكون سبباً في أن يحصل لي علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين، باعتبار أنّ الكافر استعمله فتنجّس، لكن سبب العلم الإجمالي هو هذا الدليل القائم على عدم إمكان أن يكون هذا الإناء طاهر، وهذا الإناء أيضاً طاهر؛ لأنّه لابدّ أن يكون قد استعمل أحد الإناءين. سبب العلم الإجمالي هو عدم إمكان اجتماع هذين الأمرين، استبعاد أن لا يستعمل الكافر كلا الإناءين في هذه الفترة الطويلة.
أو قل بعبارةٍ أخرى: الاطمئنان أو القطع بأنّه استعمل أحدهما. هنا سبب العلم الإجمالي هو هذا الاطمئنان، ومن الواضح أنّ هذا السبب لا يختص بأحد الطرفين بعينه مع ترددّه عندي، نسبة سبب العلم الإجمالي إلى كلا الطرفين نسبة واحدة، وبهذا يختلف عن الحالة الأولى، الحالة الأولى كان هناك إناء معيّن في الواقع أنصب عليه السبب، يعني هو الذي تعلّق به سبب العلم الإجمالي، سقطت فيه قطرة الدم، إناء معيّن في الواقع، لكن اشتبه عندي، فترددّ بين إناءين، بينما هنا الاستبعاد لا يختص بأحد الطرفين واقعاً، البرهان على عدم إمكان اجتماع الأمرين واقعاً لا يختصّ بأحد الطرفين، هو اصلاً نسبته إلى هذا الطرف كنسبته إلى الطرف الآخر، لا يختص بأحد الطرفين إطلاقاً، هذه هي الحالة الثانية، أن يكون العلم الإجمالي له سبب، لكن سببه لا يختص بأحد الطرفين واقعاً؛ بل تكون نسبته إلى جميع الأطراف نسبة واحدة ومتساوية.
في هذه الحالة الثانية: إذا علمت تفصيلاً بنجاسة أحد الإناءين، هل ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالاً حقيقياً، أو لا ؟ هذا يرتبط بأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية، أو لم تؤخذ فيه خصوصية، في هذا الفرض في الحالة الثانية، ليست هناك خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال، بخلاف الحالة الأولى الخصوصية كانت موجودة وهي سبب العلم الإجمالي المختص ــــــــــــ بحسب الفرض في الحالة الأولى ــــــــــــ واقعاً بطرفٍ معيّن مردّد عندي؛ ولذا قلنا هو يبيح لي أن أقول: بأنّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دمٍ في أحد الإناءين، لكنّي لا أعلم أنّ أحد الإناءين هل هو هذا الإناء، أو هو هذا الإناء ؟ في الحالة الثانية لا توجد خصوصية مأخوذة في المعلوم بالإجمال؛ لأنّ نسبة سبب العلم الإجمالي هنا إلى الأطراف نسبة متساوية، ليس سبب العلم الإجمالي مختصّاً واقعاً بأحد الطرفين حتّى اقول أنّ النجاسة التي أعلمها في أحد الطرفين هي ناشئة من سقوط قطرة الدم، وإنّما نسبة سبب العلم الإجمالي إلى كلّ الأطراف نسبة واحدة وليست نسبة مختصّة بأحد الأطراف؛ ولذا لا يصح لي هنا أن أقول بأنّي أعلم بنجاسة أحد الإناءين نجاسة ناشئة من الاستبعاد، لكنّي لا أعلم أنّ هذه النجاسة موجودة في هذا الإناء، أو في ذاك الإناء، هذا لا يبررّ أن أقول أني أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ حتّى أأخذ بخصوصية، نحن نريد أن نثبت أنّ هذه الخصوصية غير مأخوذة في المعلوم بالإجمال؛ لأنّ كونها معلومة بالإجمال معناه أنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من الاستبعاد أنا لا أعلم بأنّها موجودة في هذا الإناء، أو في ذاك الإناء، هذا إنّما يصح عندما يكون سبب العلم الإجمالي مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندي؛ وحينئذٍ أقول أنّ ما أعلمه هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم في أحد الإناءين، لكن أنا لا أعلم انّها موجودة في هذا الإناء، أو ذاك الإناء، هذا كلام صحيح، ويكون المعلوم بالإجمال حينئذٍ مقيّداً بتلك الخصوصية، أمّا في الحالة الثانية هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلى هذا الطرف وهذا الطرف نسبة واحدة، وليس مختصّاً بأحد الطرفين، فلا معنى لأن أقول بأنّي أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من الاستبعاد مرددّة عندي بين هذا الطرف وبين ذاك الطرف؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلى كل الأطراف نسبة واحدة؛ ولذا لا يكون المعلوم بالإجمال مقيّداً بهذه الخصوصية، وإنّما ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين، نعم هذا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين سببه الاستبعاد، لكن من دون أن يؤخذ الاستبعاد كسببٍ للعلم الإجمالي في المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو عبارة عن نجاسة أحد الإناءين؛ وحصل عندي علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين لقيام البرهان، أو الاستبعاد على عدم إمكان الجمع بين طهارة هذا الإناء وطهارة هذا الإناء لهذه المدّة الطويلة، لكنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءين وليس نجاسة ناشئة من الاستبعاد المذكور ولا أعلم بتطبيقها على هذا الفرد، كما هو المفروض في محل الكلام، أو أنّها موجودة في هذا الفرد؛ لأنّ الاستبعاد، أو البرهان نسبته متساوية واقعاً إلى كل الأطراف؛ إذ لا خصوصية لاستبعاد هذا الطرف دون الطرف الآخر، الاستبعاد لا يثبت أكثر من أنّ أحد الإناءين لابدّ أن يكون نجساً، لابدّ أن ترتفع عنه الطهارة، لكنّه لا يختص بأحد الطرفين، ومن هنا يقال: في الحالة الثانية لم تؤخذ في المعلوم بالإجمال خصوصية زائدة، وبناءً عليه يتحقق الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال إذا لم تؤخذ فيه خصوصية زائدة فالمعلوم بالتفصيل مصداق حقيقي له، ومن هنا يكون الانطباق قهرياً، وسريان العلم من الجامع إلى الفرد يكون قهرياً وبذلك يتحققّ الانحلال الحقيقي مع الالتفات إلى ما تقدّم في الدرس السابق من أنّ هذا الانحلال الحقيقي في هذه الحالة لا يمنع من احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر ــــــــــــ وهذه نكتة مهمّة ـــــــــــــ لكن الجامع الذي يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعي لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سرى إلى الفرد، فأصبح الجامع محدوداً بحدٍّ وخصوصيةٍ شخصيةٍ وهي الفرد، ومن الواضح أنّ الجامع الذي حُدّ بحدٍّ شخصيٍ لا يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر، وإنّما يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر بحدّه الجامعي، فاحتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر موجود حتّى في موارد الانحلال الحقيقي، لكن الذي يُحتمل انطباقه هو الجامع بحدّه الجامعي، لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سرى إلى الفرد وأصبح جامعاً بحدٍّ شخصيٍ موجود في ضمن خصوصية شخصية، وهذا الجامع لا يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر.
هناك وجه آخر لإثبات الانحلال غير مسألة انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل تأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى .