35/08/09
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي/ الشبهة غير المحصورة
ذكرنا في الدرس السابق بعض التحديدات للشبهة غير المحصورة، وانتهى الكلام إلى الميزان الثاني والثالث، السيد الخوئي(قدّس سرّه) أورد على الميزان الثالث، وقبل أن نذكر إيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه) على الميزان الثالث، الميزان الأوّل الذي ذُكر وهو أن يجعل الميزان هو عسر العدّ، فكل ما كانت أطراف العلم الإجمالي بالغة من الكثرة بحيث يعسر عدّها تكون الشبهة غير محصورة، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً.
الذي يُلاحظ على هذا الكلام هو أنّه يُدخل عنصر العسر والحرج في تعريف الشبهة غير المحصورة، العسر والحرج من العد، عدّ الأطراف يكون فيه عسر وحرج، وهذا لا مدخل له في كون الشبهة غير محصورة لا تجب موافقتها القطعية، أو لا تحرم مخالفتها القطعية، ليس له علاقة بذلك، إنّما الذي له علاقة بوجوب الموافقة القطعية، أو عدم وجوبها، وحرمة المخالفة القطعية، أو عدم حرمتها هو شيء آخر ليس له علاقة بأن يعسر عليه عدّ الأطراف، أو لا يعسر عليه عدّ الأطراف. إقحام هذا في تشخيص أنّ هذه الشبهة غير محصورة، وبالتالي لا تحرم مخالفتها القطعية، ولا يجب موافقتها القطعية، هذا ليس له علاقة بهذه القضية. مضافاً إلى أنّ هذا الشيء(يعسر عدّها) غير منضبط، هل يعسر عدّها في زمان خاص، أو في جميع الأزمنة ؟ فقد يكون عدد يعسر عدّه في دقيقة، لكن لا يعسر عدّه في نصف ساعة، هذا يختلف باختلاف الزمان وباختلاف الشخص، هذا ليس ضابطاً يمكن الاعتماد عليه في تمييز الشبهة المحصورة عن الشبهة غير المحصورة.
الميزان الثاني الذي ذُكر وهو أنّ الميزان هو عُسر مخالفتها القطعية، أنّ الكثرة تبلغ إلى درجة بحيث يصعب على المكلّف أن يخالف مخالفة قطعية؛ لأنّها أفراد كثيرة جدّاً يصعب عليه المخالفة القطعية.
ويُلاحظ على هذا التحديد للعُسر والحرج أنّ هذا فيه إدخال لعاملٍ آخرٍ من عوامل سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، يعني أننا نستعين بملاكٍ غير الملاك الذي نتكلّم عنه موجبٍ لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، ومن الواضح أنّ هذا الملاك لا يختص بالشبهة غير المحصورة، يعني بافتراض كثرة الأطراف؛ بل حتّى مع قلّة الأطراف، حتّى لو كان العلم الإجمالي له طرفان فقط، مع العسر والحرج يسقط وجوب الموافقة القطعية، وتسقط حرمة المخالفة القطعية بأدلّة العسر والحرج. إذن: يُستعان بملاكٍ لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية لا يختص بمحل الكلام الذي هو عبارة عن كثرة الأطراف؛ لأنّ هذا الملاك يوجب السقوط حتّى في الشبهات المحصورة. نحن نتكلّم عن بقاء العلم الإجمالي على المنجّزية، أو عدم بقائه على المنجّزية من حيث فقط كثرة الأطراف، بحيث لا نأخذ بالاعتبار سوى أنّ الأطراف كثيرة، هذا هل يجعل الشبهة غير محصورة، وبالتالي يسقط العلم الإجمالي فيها عن المنجّزية، أو لا ؟ هذا محل كلامنا. أمّا أن ندخل عوامل أخرى فرغنا عن أنّها توجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، كالعُسر والحرج، أو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، هذا خُلف الفرض؛ لأنّ الكلام ليس في ذلك الملاك، الكلام في هذا الملاك، هذا الملاك في حدّ نفسه هل هو صالح لأن يُسقط العلم الإجمالي عن التنجيز وهو كثرة الأطراف بما هي كثرة أطراف من دون أن نضم إليها ملاكاً آخراً يقتضي سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، الميزان الثاني كأنّه أدخل عنصراً آخراً، ذكر بأنّه إذا كانت الموافقة القطعية للعلم الإجمالي تكون بالغة إلى درجة العُسر والحرج؛ حينئذٍ يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، هذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّه قد ينطبق على الشبهة المحصورة أيضاً كما هو واضح، في بعض الأحيان قد تعسر الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي، الحكم الثابت في موارد العسر والحرج أنّه يسقط، إذن: وجوب الموافقة لهذا التكليف المعلوم بالإجمال، ذاك المعلوم بالتفصيل يسقط، أو حرمة المخالفة تسقط أيضاً مع افتراض العسر والحرج. هذا من جهة.
من جهة أخرى أنّ العسر والحرج من قبيل الضرورات التي تُقدّر بقدرها، يعني العسر والحرج يوجب سقوط التكليف، لكن بمقدار ما يكون هناك عسر وحرج لا أنّه يوجب سقوط التكليف مطلقاً، وإنمّا بمقدار ما يندفع به العسر والحرج، بينما المُدّعى في المقام هو أنّه في الشبهة غير المحصورة يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقاً، لا أنّه يُراعى فيه بقاء العسر والحرج، أو ارتفاعه، وإنّما المدّعى في المقام أنّه في موارد الشبهة غير المحصورة يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، فلا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية مطلقاً، بينما إذا كان المستند هو العسر والحرج، فلا بدّ أن يتقيّد بالمقدار الذي يندفع به العسر والحرج، نجوّز له المخالفة بالمقدار الذي يندفع به العسر والحرج، أمّا ما زاد على ذلك فلا موجب للتجويز؛ لأنّه لا دليل على التجويز؛ لأنّ العسر والحرج ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ اندفعا بهذا المقدار، والمقدار الباقي يجب فيه الاحتياط، بينما المدّعى هو سقوط وجوب الاحتياط مطلقاً، فهذه أيضاً ملاحظة أخرى على الميزان الثاني.
بالنسبة إلى الميزان الثالث، اختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وذكر بأنّ عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف، يعني عدم التمكّن من المخالفة القطعية هو الميزان في كون الشبهة غير محصورة، فكل شبهةٍ تكثر أطرافها كثرة بحيث لا يتمكّن المكلّف عادةً من المخالفة القطعية تكون شبهة غير محصورة وتترتب عليها أحكام الشبهة غير المحصورة من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية. تقدّم في الدرس السابق كما نبّه عليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ هذا الميزان يختص بالشبهات التحريمية؛ لأنّ الشبهات التحريمية هي التي تكون المخالفة القطعية فيها بالارتكاب، وممكن تصوّر العسر والحرج فيها، أو عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف عندما تكون كثيرة، أمّا في الواجبات، فالمخالفة القطعية في الواجبات تحصل بالترك، وهذا يمكن، يعني لا يمكن افتراض العسر والحرج فيه إطلاقاً في باب الواجبات؛ ولذا يختص هذا الميزان بالشبهات التحريمية.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أورد على هذا الميزان بعدّة إيرادات، نتعرّض لها مختصراً:
الإيراد الأوّل: أنّ عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف في الشبهات التحريمية لا يُلازم كون الشبهة غير محصورة، باعتبار أنّ هذا قد يتحقق مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة؛ إذ لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية في شبهة محصورة، ويمثّل لذلك بما إذا علمنا بحرمة الجلوس في أحد مكانين في زمان واحد، عند الزوال يحرم عليه الجلوس إمّا في هذا المكان، أو في ذاك المكان، فلا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية؛ لأنّه ليس بإمكانه أن يجلس في مكانين في وقتٍ واحد، فإذن: هنا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية مع كون الشبهة محصورة، فإذن: عدم التمكّن من المخالفة القطعية لا يكون ميزاناً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّ هذا قد يتحقق في الشبهات المحصورة.
لكن هذا الإيراد لا مجال للإيراد به على المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ لأنّه هو نفسه ذكر بصريح العبارة في أحد تقريريه[1] وأشار إلى ذلك في التقرير الآخر،[2] ذكر أنّ مقصوده في هذا الميزان هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية من جهة كثرة الأطراف، واعتبر في الشبهة غير المحصورة أمرين، الأمر الأوّل: كثرة الأطراف. الأمر الثاني: عدم التمكّن من المخالفة القطعية، كلٌ منهما معتبر.
وبعبارةٍ أخرى: هو يرى أنّ الميزان هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية الناشئ من كثرة الأطراف ويعتبر هذا الأمر ويصرّح بذلك، ومن هنا لا يتوجّه هذا الإيراد عليه؛ لأنّ عدم التمكن في الإيراد شيء وعدم التمكّن الذي يقصده شيء آخر، عدم التمكن في الإيراد ليس ناشئاً من كثرة الأطراف، وإنّما هو ناشئ من خصوصية في المورد وليس من كثرة الأطراف، بينما ما يعتبره هو ميزاناً هو عدم التمكّن الناشئ من كثرة الأطراف، فهذا الإيراد لا يرد على المحقق النائيني(قدّس سرّه).
الإيراد الثاني: أنّ عدم القدرة على المخالفة يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال، فهو يختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف قلّة الزمان وكثرته وغيرها من الخصوصيات، فقد يتمكن شخص بينما لا يتمكن شخص آخر، وقد يتمكن شخص في زمانٍ بينما لا يتمكن في زمانٍ آخر قصير، ومن هنا يقول هذا لا يمكن جعله ضابطاً كلّياً.
يظهر أنّ المقصود بهذا الإيراد هو أنّ اختلاف التمكن وعدم التمكن باختلاف الأشخاص واختلاف المعلوم بالإجمال، هذا كأنّه يجعل عدم التمكّن الذي يكون ميزاناً، وكذا التمكن المقابل له الذي هو بالضرورة يكون ميزاناً للشبهة المحصورة، يجعل هذا الميزان ميزاناً مبهماً وغير واضح؛ لأنّه يختلف باختلاف كل هذه الخصوصيات، فلا يصلح جعله ضابطا وميزاناً في محل الكلام، للمنافاة بين كون الشيء ميزاناً وضابطاً نميّز به بين الشبهة المحصورة وبين الشبهة غير المحصورة..... للمنافاة بينه وبين الإبهام وعدم الوضوح؛ لأنّ ما يكون ميزاناً لابدّ أن يكون واضحاً حتّى يكون ميزاناً، وعند تطبيقه نفهم أنّ هذه الشبهة محصورة، أو غير محصورة، أمّا عندما يكون الميزان أمراً مبهماً وليس واضحاً، فلا معنى لجعله ميزاناً وضابطاً في محل الكلام. الظاهر أنّ هذا هو المقصود من الإيراد الثاني.
إذا كان هذا هو المقصود من الإيراد الثاني؛ حينئذٍ يمكن أن يقال: أنّ هذا الاختلاف لا يوجب إبهاماً في نفس مفهوم التمكن وعدم التمكن، والمقصود بعدم التمكّن هو عدم التمكّن العادي لا عدم التمكّن العقلي، في عدم التمكّن العادي هذه الاختلافات في الخصوصيات ترجع إلى جهة التطبيق وليس لها علاقة بالمفهوم، فالمفهوم يبقى بيّناً وغير مجمل وليس فيه إبهام، لكنه يختلف في التطبيقات، فما هو المحذور في هذا ؟ أنّ المفهوم الواضح البيّن يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا ليس فيه محذور، كثير من المفاهيم هي من هذا القبيل، تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، فرضاً مفهوم الاجتهاد، فأنّه يختلف باختلاف الأزمان بلحاظ مصاديقه، الاجتهاد في زمان متقدّم غير الاجتهاد في زمان متأخّرٍ، مفهوم العلم كذلك يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، والجمال أيضاً يختلف باختلاف الأشخاص والبقاع، وهكذا....الكثير من المفاهيم، وهذا لا يعني أنّ نفس المفهوم يصبح مبهماً وغير واضح؛ بل المفهوم واضح وغير مبهم وإن كان يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا الاختلاف لا يوجب أن يكون المفهوم نفسه مبهماً بحيث نقول أنّ هذا المفهوم غير واضح وليس معلوم ما هو المراد به؛ بل معلوم ما هو المراد به وهو عدم التمكن العادي، غاية الأمر أنّ عدم التمكّن العادي وليس العقلي يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا لا يوجب الإبهام في نفس المفهوم؛ وحينئذٍ لا يكون هناك محذور في جعله ميزاناً وضابطاً كلّياً في محل الكلام بتخيّل أنّ هذا يوجب الإبهام في نفس المفهوم .
الإيراد الثالث: أنّ عدم التمكّن من المخالفة القطعية إذا أريد به عدم التمكن منها دفعة، فهذا يرد عليه أنّه ليس ميزاناً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّه يتحقق في بعض الشبهات المحصورة أيضاً، في الشبهات المحصورة المكلّف غير متمكن من المخالفة القطعية دفعةً، كما في مثال حرمة الجلوس في أحد مكانين في زمانٍ واحد، هو غير متمكن من المخالفة القطعية دفعةً، إذن، هذا ليس ضابطاً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّ عدم التمكّن من المخالفة القطعية دفعة كما يتحقق في الشبهة غير المحصورة أيضاً يتحقق في الشبهة المحصورة. وإن أريد به عدم التمكّن من المخالفة القطعية ولو تدريجاً، فرضاً في ضمن سنة هو غير متمكن من المخالفة القطعية، ويخرج بهذا مثال الجلوس في مكانين؛ لأنّه متمكّن من المخالفة القطعية تدريجاً، بأن يجلس في هذا المكان لدقيقة، ثمّ يقوم ويجلس في المكان الآخر، فإذا كان هذا هو المراد؛ فحينئذٍ يرد عليه أنّ كثير من الشبهات غير المحصورة يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية، ولو تدريجاً، بمعنى أنّ هذا الميزان سوف لن يحصر كل الشبهات غير المحصورة؛ لأنّ كثير من الشبهات غير المحصورة يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية، ولو تدريجاً، هو يعلم بأنّ هناك لحم مغصوب في هذه المدينة، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية دفعةً، لكن هل يتمكّن من المخالفة القطعية تدريجاً ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول يتمكّن.
الملاحظة عليه هي: أنّ المقصود هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية ولو تدريجاً، وكثير من الشبهات لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية التدريجية فيها. صحيح بعض الشبهات يتمكن المكلّف من المخالفة التدريجية فيها، لكن بعض الشبهات غير المحصورة لا يتمكن المكلّف من المخالفة التدريجية فيها، فيصح الضابط الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ويتحقق في هذه الشبهات، كما في المأكولات وفي الملبوسات وفي المشروبات؛ لأنّ المكلّف لا يتمكّن من المخالفة القطعية التدريجية، هو يعلم بأنّ هناك لحماً مغصوباً في ضمن أسواقٍ في هذه المدينة، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية دفعةً، وأيضاً لا يتمكن من المخالفة القطعية التدريجية؛ لأنّ هذا اللّحم لا يبقى، وإنّما ينفذ ولو لعدم بقاء بعض اللّحوم التي هي أطراف للعلم الإجمالي، عدم بقائها، أو استعمالها أو طرو ما يزيل العلم الإجمالي عن بعض الأطراف بعد ذلك، كلّ هذا يوجب أنّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية التدريجية، فيتحقق هذا الضابط الذي يقوله.
نعم، بعض الشبهات غير المحصورة يصح فيها ذلك، أنّ المكلّف بالنتيجة يتمكّن من ارتكاب جميع الأطراف في ضمن سنة، أو أكثر، إذا علم أنّ هناك بيت من بيوت النجف ــــــــــ مثلاً ــــــــــ وقف مغصوب، يتمكّن من المخالفة القطعية في ضمن سنة؛ لأنّ هذه أمور ثابتة لا تتغيّر ولا تزول، لكن في كثير من أمثلة العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة عدم التمكّن موجود، ولو تدريجاً هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية، ولو لزوال الأطراف، ولو لزوال العلم الإجمالي في الأطراف عندما يكون الارتكاب تدريجي، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية، فيتحقق الميزان في مثل هذه الموارد.
الميزان الرابع: وهو ما نُسب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)،[3] حيث جعل الميزان في الشبهة غير المحصورة هو ما كان احتمال التكليف في كلّ واحدٍ من أطرافه موهوم، الكثرة تصل إلى درجةٍ بحيث يكون احتمال التكليف في كل واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً جدّاً؛ وحينئذٍ تتحقق الشبهة غير المحصورة وتترتّب آثار، أو أحكام الشبهة غير المحصورة على ذلك، والسرّ هو أنّه كلّما كثرت الأطراف كلّما كان احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال بعد تساوي نسبته إلى كل الأطراف، احتمال انطباقه على هذا الطرف أقل، وكلّما قلّت الأطراف يكون احتمال انطباق وتحقق المعلوم بالإجمال في كل طرفٍ احتمالاً أكبر، فإذا بلغت الكثرة إلى درجة كبيرة جدّاً؛ حينئذٍ يكون احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على هذا الطرف، يعني بعبارةٍ أخرى احتمال انطباق التكليف على هذا الطرف يكون احتمالاً موهوماً، يعني يحصل الظن أو الاطمئنان بعدمه في هذا الطرف وفي ذاك الطرف ....وهكذا، وهذا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز وبالتالي يوجب كون الشبهة غير محصورة وبالتالي تترتب آثار وأحكام الشبهة غير المحصورة.
وأورد عليه: قيل بأنّ هذا الميزان إنّما يكون تامّاً إذا فرضنا أنّ احتمال التكليف في كل طرف نتيجةً لكثرة الأطراف وصل إلى درجة بحيث يحصل الاطمئنان بعدم التكليف في ذاك الطرف؛ لأنّ احتمال التكليف إذا ضعف يقوى في مقابله احتمال عدم التكليف، فإذا ارتفع احتمال عدم التكليف إلى درجةٍ بحيث يصل إلى حد الاطمئنان، فيحصل اطمئنان بعدم التكليف، إذا حصل اطمئنان بعدم التكليف؛ حينئذٍ لا مشكلة في أن نلتزم بعدم التنجيز؛ لأنّ هذا الاطمئنان حجّة عقلائية ممضاة من قبل الشارع، فهي حجّة عقلائية وشرعية، وهذه الحجّة قامت على عدم التكليف في هذا الطرف، فيجوز ارتكاب هذا الطرف؛ لقيام الحجّة على عدم التكليف فيه، فلا مشكلة في ارتكاب هذا الطرف، وهكذا الطرف الآخر ......وهكذا، فيصح هذا الكلام.
وأمّا إذا فرضنا أنّ ضعف الاحتمال لم يبلغ إلى هذه الدرجة، ولم يوجب حصول الاطمئنان بعدمه، وإنّما غاية ما يوجبه هو حصول الظن، ولو كان ظنّاً قوياً بعدمه؛ حينئذٍ لا يصح هذا الكلام، كيف نجوّز لهذا العالم بالإجمال أن يرتكب هذا الطرف والمفروض أنّه عنده علم إجمالي، ولا مؤمّن عنده ؟ لأنّ الظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس مؤمّناً، لا عقلائياً هو مؤمّن ولا الشارع جعله مؤمّناً؛ فحينئذٍ كيف نسوّغ له ارتكاب هذا الطرف والحال أنّ هناك ما ينجّز التكليف في هذا الطرف وهو العلم الإجمالي ؟ وإنّما نسوّغ له الارتكاب عندما يحصل على مؤمّن، والمؤمّن هو الاطمئنان بعدم التكليف، فإذا لم يوجب الاطمئنان بعدم التكليف، فلا اعتبار به.
ذكرنا في الدرس السابق بعض التحديدات للشبهة غير المحصورة، وانتهى الكلام إلى الميزان الثاني والثالث، السيد الخوئي(قدّس سرّه) أورد على الميزان الثالث، وقبل أن نذكر إيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه) على الميزان الثالث، الميزان الأوّل الذي ذُكر وهو أن يجعل الميزان هو عسر العدّ، فكل ما كانت أطراف العلم الإجمالي بالغة من الكثرة بحيث يعسر عدّها تكون الشبهة غير محصورة، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً.
الذي يُلاحظ على هذا الكلام هو أنّه يُدخل عنصر العسر والحرج في تعريف الشبهة غير المحصورة، العسر والحرج من العد، عدّ الأطراف يكون فيه عسر وحرج، وهذا لا مدخل له في كون الشبهة غير محصورة لا تجب موافقتها القطعية، أو لا تحرم مخالفتها القطعية، ليس له علاقة بذلك، إنّما الذي له علاقة بوجوب الموافقة القطعية، أو عدم وجوبها، وحرمة المخالفة القطعية، أو عدم حرمتها هو شيء آخر ليس له علاقة بأن يعسر عليه عدّ الأطراف، أو لا يعسر عليه عدّ الأطراف. إقحام هذا في تشخيص أنّ هذه الشبهة غير محصورة، وبالتالي لا تحرم مخالفتها القطعية، ولا يجب موافقتها القطعية، هذا ليس له علاقة بهذه القضية. مضافاً إلى أنّ هذا الشيء(يعسر عدّها) غير منضبط، هل يعسر عدّها في زمان خاص، أو في جميع الأزمنة ؟ فقد يكون عدد يعسر عدّه في دقيقة، لكن لا يعسر عدّه في نصف ساعة، هذا يختلف باختلاف الزمان وباختلاف الشخص، هذا ليس ضابطاً يمكن الاعتماد عليه في تمييز الشبهة المحصورة عن الشبهة غير المحصورة.
الميزان الثاني الذي ذُكر وهو أنّ الميزان هو عُسر مخالفتها القطعية، أنّ الكثرة تبلغ إلى درجة بحيث يصعب على المكلّف أن يخالف مخالفة قطعية؛ لأنّها أفراد كثيرة جدّاً يصعب عليه المخالفة القطعية.
ويُلاحظ على هذا التحديد للعُسر والحرج أنّ هذا فيه إدخال لعاملٍ آخرٍ من عوامل سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، يعني أننا نستعين بملاكٍ غير الملاك الذي نتكلّم عنه موجبٍ لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، ومن الواضح أنّ هذا الملاك لا يختص بالشبهة غير المحصورة، يعني بافتراض كثرة الأطراف؛ بل حتّى مع قلّة الأطراف، حتّى لو كان العلم الإجمالي له طرفان فقط، مع العسر والحرج يسقط وجوب الموافقة القطعية، وتسقط حرمة المخالفة القطعية بأدلّة العسر والحرج. إذن: يُستعان بملاكٍ لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية لا يختص بمحل الكلام الذي هو عبارة عن كثرة الأطراف؛ لأنّ هذا الملاك يوجب السقوط حتّى في الشبهات المحصورة. نحن نتكلّم عن بقاء العلم الإجمالي على المنجّزية، أو عدم بقائه على المنجّزية من حيث فقط كثرة الأطراف، بحيث لا نأخذ بالاعتبار سوى أنّ الأطراف كثيرة، هذا هل يجعل الشبهة غير محصورة، وبالتالي يسقط العلم الإجمالي فيها عن المنجّزية، أو لا ؟ هذا محل كلامنا. أمّا أن ندخل عوامل أخرى فرغنا عن أنّها توجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، كالعُسر والحرج، أو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، هذا خُلف الفرض؛ لأنّ الكلام ليس في ذلك الملاك، الكلام في هذا الملاك، هذا الملاك في حدّ نفسه هل هو صالح لأن يُسقط العلم الإجمالي عن التنجيز وهو كثرة الأطراف بما هي كثرة أطراف من دون أن نضم إليها ملاكاً آخراً يقتضي سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، الميزان الثاني كأنّه أدخل عنصراً آخراً، ذكر بأنّه إذا كانت الموافقة القطعية للعلم الإجمالي تكون بالغة إلى درجة العُسر والحرج؛ حينئذٍ يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، هذا خروج عن محل الكلام؛ لأنّه قد ينطبق على الشبهة المحصورة أيضاً كما هو واضح، في بعض الأحيان قد تعسر الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي، الحكم الثابت في موارد العسر والحرج أنّه يسقط، إذن: وجوب الموافقة لهذا التكليف المعلوم بالإجمال، ذاك المعلوم بالتفصيل يسقط، أو حرمة المخالفة تسقط أيضاً مع افتراض العسر والحرج. هذا من جهة.
من جهة أخرى أنّ العسر والحرج من قبيل الضرورات التي تُقدّر بقدرها، يعني العسر والحرج يوجب سقوط التكليف، لكن بمقدار ما يكون هناك عسر وحرج لا أنّه يوجب سقوط التكليف مطلقاً، وإنمّا بمقدار ما يندفع به العسر والحرج، بينما المُدّعى في المقام هو أنّه في الشبهة غير المحصورة يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقاً، لا أنّه يُراعى فيه بقاء العسر والحرج، أو ارتفاعه، وإنّما المدّعى في المقام أنّه في موارد الشبهة غير المحصورة يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، فلا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية مطلقاً، بينما إذا كان المستند هو العسر والحرج، فلا بدّ أن يتقيّد بالمقدار الذي يندفع به العسر والحرج، نجوّز له المخالفة بالمقدار الذي يندفع به العسر والحرج، أمّا ما زاد على ذلك فلا موجب للتجويز؛ لأنّه لا دليل على التجويز؛ لأنّ العسر والحرج ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ اندفعا بهذا المقدار، والمقدار الباقي يجب فيه الاحتياط، بينما المدّعى هو سقوط وجوب الاحتياط مطلقاً، فهذه أيضاً ملاحظة أخرى على الميزان الثاني.
بالنسبة إلى الميزان الثالث، اختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وذكر بأنّ عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف، يعني عدم التمكّن من المخالفة القطعية هو الميزان في كون الشبهة غير محصورة، فكل شبهةٍ تكثر أطرافها كثرة بحيث لا يتمكّن المكلّف عادةً من المخالفة القطعية تكون شبهة غير محصورة وتترتب عليها أحكام الشبهة غير المحصورة من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية. تقدّم في الدرس السابق كما نبّه عليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ هذا الميزان يختص بالشبهات التحريمية؛ لأنّ الشبهات التحريمية هي التي تكون المخالفة القطعية فيها بالارتكاب، وممكن تصوّر العسر والحرج فيها، أو عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف عندما تكون كثيرة، أمّا في الواجبات، فالمخالفة القطعية في الواجبات تحصل بالترك، وهذا يمكن، يعني لا يمكن افتراض العسر والحرج فيه إطلاقاً في باب الواجبات؛ ولذا يختص هذا الميزان بالشبهات التحريمية.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أورد على هذا الميزان بعدّة إيرادات، نتعرّض لها مختصراً:
الإيراد الأوّل: أنّ عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف في الشبهات التحريمية لا يُلازم كون الشبهة غير محصورة، باعتبار أنّ هذا قد يتحقق مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة؛ إذ لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية في شبهة محصورة، ويمثّل لذلك بما إذا علمنا بحرمة الجلوس في أحد مكانين في زمان واحد، عند الزوال يحرم عليه الجلوس إمّا في هذا المكان، أو في ذاك المكان، فلا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية؛ لأنّه ليس بإمكانه أن يجلس في مكانين في وقتٍ واحد، فإذن: هنا لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية مع كون الشبهة محصورة، فإذن: عدم التمكّن من المخالفة القطعية لا يكون ميزاناً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّ هذا قد يتحقق في الشبهات المحصورة.
لكن هذا الإيراد لا مجال للإيراد به على المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ لأنّه هو نفسه ذكر بصريح العبارة في أحد تقريريه[1] وأشار إلى ذلك في التقرير الآخر،[2] ذكر أنّ مقصوده في هذا الميزان هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية من جهة كثرة الأطراف، واعتبر في الشبهة غير المحصورة أمرين، الأمر الأوّل: كثرة الأطراف. الأمر الثاني: عدم التمكّن من المخالفة القطعية، كلٌ منهما معتبر.
وبعبارةٍ أخرى: هو يرى أنّ الميزان هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية الناشئ من كثرة الأطراف ويعتبر هذا الأمر ويصرّح بذلك، ومن هنا لا يتوجّه هذا الإيراد عليه؛ لأنّ عدم التمكن في الإيراد شيء وعدم التمكّن الذي يقصده شيء آخر، عدم التمكن في الإيراد ليس ناشئاً من كثرة الأطراف، وإنّما هو ناشئ من خصوصية في المورد وليس من كثرة الأطراف، بينما ما يعتبره هو ميزاناً هو عدم التمكّن الناشئ من كثرة الأطراف، فهذا الإيراد لا يرد على المحقق النائيني(قدّس سرّه).
الإيراد الثاني: أنّ عدم القدرة على المخالفة يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال، فهو يختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف قلّة الزمان وكثرته وغيرها من الخصوصيات، فقد يتمكن شخص بينما لا يتمكن شخص آخر، وقد يتمكن شخص في زمانٍ بينما لا يتمكن في زمانٍ آخر قصير، ومن هنا يقول هذا لا يمكن جعله ضابطاً كلّياً.
يظهر أنّ المقصود بهذا الإيراد هو أنّ اختلاف التمكن وعدم التمكن باختلاف الأشخاص واختلاف المعلوم بالإجمال، هذا كأنّه يجعل عدم التمكّن الذي يكون ميزاناً، وكذا التمكن المقابل له الذي هو بالضرورة يكون ميزاناً للشبهة المحصورة، يجعل هذا الميزان ميزاناً مبهماً وغير واضح؛ لأنّه يختلف باختلاف كل هذه الخصوصيات، فلا يصلح جعله ضابطا وميزاناً في محل الكلام، للمنافاة بين كون الشيء ميزاناً وضابطاً نميّز به بين الشبهة المحصورة وبين الشبهة غير المحصورة..... للمنافاة بينه وبين الإبهام وعدم الوضوح؛ لأنّ ما يكون ميزاناً لابدّ أن يكون واضحاً حتّى يكون ميزاناً، وعند تطبيقه نفهم أنّ هذه الشبهة محصورة، أو غير محصورة، أمّا عندما يكون الميزان أمراً مبهماً وليس واضحاً، فلا معنى لجعله ميزاناً وضابطاً في محل الكلام. الظاهر أنّ هذا هو المقصود من الإيراد الثاني.
إذا كان هذا هو المقصود من الإيراد الثاني؛ حينئذٍ يمكن أن يقال: أنّ هذا الاختلاف لا يوجب إبهاماً في نفس مفهوم التمكن وعدم التمكن، والمقصود بعدم التمكّن هو عدم التمكّن العادي لا عدم التمكّن العقلي، في عدم التمكّن العادي هذه الاختلافات في الخصوصيات ترجع إلى جهة التطبيق وليس لها علاقة بالمفهوم، فالمفهوم يبقى بيّناً وغير مجمل وليس فيه إبهام، لكنه يختلف في التطبيقات، فما هو المحذور في هذا ؟ أنّ المفهوم الواضح البيّن يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا ليس فيه محذور، كثير من المفاهيم هي من هذا القبيل، تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، فرضاً مفهوم الاجتهاد، فأنّه يختلف باختلاف الأزمان بلحاظ مصاديقه، الاجتهاد في زمان متقدّم غير الاجتهاد في زمان متأخّرٍ، مفهوم العلم كذلك يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، والجمال أيضاً يختلف باختلاف الأشخاص والبقاع، وهكذا....الكثير من المفاهيم، وهذا لا يعني أنّ نفس المفهوم يصبح مبهماً وغير واضح؛ بل المفهوم واضح وغير مبهم وإن كان يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا الاختلاف لا يوجب أن يكون المفهوم نفسه مبهماً بحيث نقول أنّ هذا المفهوم غير واضح وليس معلوم ما هو المراد به؛ بل معلوم ما هو المراد به وهو عدم التمكن العادي، غاية الأمر أنّ عدم التمكّن العادي وليس العقلي يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا لا يوجب الإبهام في نفس المفهوم؛ وحينئذٍ لا يكون هناك محذور في جعله ميزاناً وضابطاً كلّياً في محل الكلام بتخيّل أنّ هذا يوجب الإبهام في نفس المفهوم .
الإيراد الثالث: أنّ عدم التمكّن من المخالفة القطعية إذا أريد به عدم التمكن منها دفعة، فهذا يرد عليه أنّه ليس ميزاناً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّه يتحقق في بعض الشبهات المحصورة أيضاً، في الشبهات المحصورة المكلّف غير متمكن من المخالفة القطعية دفعةً، كما في مثال حرمة الجلوس في أحد مكانين في زمانٍ واحد، هو غير متمكن من المخالفة القطعية دفعةً، إذن، هذا ليس ضابطاً للشبهة غير المحصورة؛ لأنّ عدم التمكّن من المخالفة القطعية دفعة كما يتحقق في الشبهة غير المحصورة أيضاً يتحقق في الشبهة المحصورة. وإن أريد به عدم التمكّن من المخالفة القطعية ولو تدريجاً، فرضاً في ضمن سنة هو غير متمكن من المخالفة القطعية، ويخرج بهذا مثال الجلوس في مكانين؛ لأنّه متمكّن من المخالفة القطعية تدريجاً، بأن يجلس في هذا المكان لدقيقة، ثمّ يقوم ويجلس في المكان الآخر، فإذا كان هذا هو المراد؛ فحينئذٍ يرد عليه أنّ كثير من الشبهات غير المحصورة يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية، ولو تدريجاً، بمعنى أنّ هذا الميزان سوف لن يحصر كل الشبهات غير المحصورة؛ لأنّ كثير من الشبهات غير المحصورة يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية، ولو تدريجاً، هو يعلم بأنّ هناك لحم مغصوب في هذه المدينة، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية دفعةً، لكن هل يتمكّن من المخالفة القطعية تدريجاً ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول يتمكّن.
الملاحظة عليه هي: أنّ المقصود هو عدم التمكّن من المخالفة القطعية ولو تدريجاً، وكثير من الشبهات لا يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية التدريجية فيها. صحيح بعض الشبهات يتمكن المكلّف من المخالفة التدريجية فيها، لكن بعض الشبهات غير المحصورة لا يتمكن المكلّف من المخالفة التدريجية فيها، فيصح الضابط الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ويتحقق في هذه الشبهات، كما في المأكولات وفي الملبوسات وفي المشروبات؛ لأنّ المكلّف لا يتمكّن من المخالفة القطعية التدريجية، هو يعلم بأنّ هناك لحماً مغصوباً في ضمن أسواقٍ في هذه المدينة، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية دفعةً، وأيضاً لا يتمكن من المخالفة القطعية التدريجية؛ لأنّ هذا اللّحم لا يبقى، وإنّما ينفذ ولو لعدم بقاء بعض اللّحوم التي هي أطراف للعلم الإجمالي، عدم بقائها، أو استعمالها أو طرو ما يزيل العلم الإجمالي عن بعض الأطراف بعد ذلك، كلّ هذا يوجب أنّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية التدريجية، فيتحقق هذا الضابط الذي يقوله.
نعم، بعض الشبهات غير المحصورة يصح فيها ذلك، أنّ المكلّف بالنتيجة يتمكّن من ارتكاب جميع الأطراف في ضمن سنة، أو أكثر، إذا علم أنّ هناك بيت من بيوت النجف ــــــــــ مثلاً ــــــــــ وقف مغصوب، يتمكّن من المخالفة القطعية في ضمن سنة؛ لأنّ هذه أمور ثابتة لا تتغيّر ولا تزول، لكن في كثير من أمثلة العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة عدم التمكّن موجود، ولو تدريجاً هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية، ولو لزوال الأطراف، ولو لزوال العلم الإجمالي في الأطراف عندما يكون الارتكاب تدريجي، هو لا يتمكّن من المخالفة القطعية، فيتحقق الميزان في مثل هذه الموارد.
الميزان الرابع: وهو ما نُسب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)،[3] حيث جعل الميزان في الشبهة غير المحصورة هو ما كان احتمال التكليف في كلّ واحدٍ من أطرافه موهوم، الكثرة تصل إلى درجةٍ بحيث يكون احتمال التكليف في كل واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً جدّاً؛ وحينئذٍ تتحقق الشبهة غير المحصورة وتترتّب آثار، أو أحكام الشبهة غير المحصورة على ذلك، والسرّ هو أنّه كلّما كثرت الأطراف كلّما كان احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال بعد تساوي نسبته إلى كل الأطراف، احتمال انطباقه على هذا الطرف أقل، وكلّما قلّت الأطراف يكون احتمال انطباق وتحقق المعلوم بالإجمال في كل طرفٍ احتمالاً أكبر، فإذا بلغت الكثرة إلى درجة كبيرة جدّاً؛ حينئذٍ يكون احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على هذا الطرف، يعني بعبارةٍ أخرى احتمال انطباق التكليف على هذا الطرف يكون احتمالاً موهوماً، يعني يحصل الظن أو الاطمئنان بعدمه في هذا الطرف وفي ذاك الطرف ....وهكذا، وهذا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز وبالتالي يوجب كون الشبهة غير محصورة وبالتالي تترتب آثار وأحكام الشبهة غير المحصورة.
وأورد عليه: قيل بأنّ هذا الميزان إنّما يكون تامّاً إذا فرضنا أنّ احتمال التكليف في كل طرف نتيجةً لكثرة الأطراف وصل إلى درجة بحيث يحصل الاطمئنان بعدم التكليف في ذاك الطرف؛ لأنّ احتمال التكليف إذا ضعف يقوى في مقابله احتمال عدم التكليف، فإذا ارتفع احتمال عدم التكليف إلى درجةٍ بحيث يصل إلى حد الاطمئنان، فيحصل اطمئنان بعدم التكليف، إذا حصل اطمئنان بعدم التكليف؛ حينئذٍ لا مشكلة في أن نلتزم بعدم التنجيز؛ لأنّ هذا الاطمئنان حجّة عقلائية ممضاة من قبل الشارع، فهي حجّة عقلائية وشرعية، وهذه الحجّة قامت على عدم التكليف في هذا الطرف، فيجوز ارتكاب هذا الطرف؛ لقيام الحجّة على عدم التكليف فيه، فلا مشكلة في ارتكاب هذا الطرف، وهكذا الطرف الآخر ......وهكذا، فيصح هذا الكلام.
وأمّا إذا فرضنا أنّ ضعف الاحتمال لم يبلغ إلى هذه الدرجة، ولم يوجب حصول الاطمئنان بعدمه، وإنّما غاية ما يوجبه هو حصول الظن، ولو كان ظنّاً قوياً بعدمه؛ حينئذٍ لا يصح هذا الكلام، كيف نجوّز لهذا العالم بالإجمال أن يرتكب هذا الطرف والمفروض أنّه عنده علم إجمالي، ولا مؤمّن عنده ؟ لأنّ الظنّ الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس مؤمّناً، لا عقلائياً هو مؤمّن ولا الشارع جعله مؤمّناً؛ فحينئذٍ كيف نسوّغ له ارتكاب هذا الطرف والحال أنّ هناك ما ينجّز التكليف في هذا الطرف وهو العلم الإجمالي ؟ وإنّما نسوّغ له الارتكاب عندما يحصل على مؤمّن، والمؤمّن هو الاطمئنان بعدم التكليف، فإذا لم يوجب الاطمئنان بعدم التكليف، فلا اعتبار به.