35/06/20
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
النقض الثاني على القول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي إن لم يكن علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية؛ بل كان مقتضياً له، وكان تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية وكان معلّقاً على عدم الترخيص الشرعي، فلماذا لا نتمسّك بإطلاق الأصل في كل واحدٍ من الطرفين مشروطاً بترك الطرف الآخر، وهذا ينتج عدم وجوب الموافقة القطعية، ينتج التخيير في تطبيق الأصل على كل واحدٍ من الطرفين، فبإمكان المكلّف أن يجري الأصل في هذا الطرف بشرط ترك الطرف الآخر، أو في هذا الطرف بشرط ترك إجراء الأصل في الطرف الأوّل، ممّا يعني التخيير، ممّا يعني جواز ارتكاب أحد الطرفين، ممّا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية، بينما هذه النتيجة لا يرضى بها القائل بالاقتضاء؛ لأنّه وإن كان يقول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، لكنّه يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين لأجل المعارضة ويصل إلى نفس النتيجة التي يقول بها القائل بالعلّية، كما أنّ القائل بالعلّية يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين، القائل بالاقتضاء كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين، غاية الأمر أنّ وجه المنع يختلف عندهما، فالقائل بالعلّية يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين لوجود محذور ثبوتي يمنع من جريانه في أحد الطرفين بقطع النظر عن التعارض، بينما القائل بالاقتضاء كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) يمنع من جريان الأصل في أحد الطرفين باعتبار أنّه يكون مُعارَضاً بجريانه في الطرف الآخر، وإجراءه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية التي فرغنا عن امتناعها؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية، فلا يمكن إجراؤه في كلٍ منهما ولا يمكن إجراؤه في أحدهما المعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، ولا في أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل ليس هو الترخيص التخييري، وإنّما مفاد الأصل هو الترخيص التعييني، مفاد الأصل هو إثبات الترخيص في أحد الطرفين بعينه ولا يستفاد من دليل الأصل إثبات الترخيص لا بعينه، هذا ليس مفاد الأصل حتّى نثبته في المقام.
وعليه: لابدّ من تساقط الأصول في الطرفين، والنتيجة كما تقدّم سابقاً أنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّن لا عقلي ولا شرعي، فيتنجّز، فتجب الموافقة القطعية. فهو أيضاً يقول بوجوب الموافقة القطعية.
النقض يقول للمحقق النائيني(قدّس سرّه): بأنّه لماذا لا نجري الأصل في كلا الطرفين، لكن بنحوٍ مشروط ؟ لماذا نلتزم بتساقط الأصول في الطرفين ؟ بل لنلتزم بجريان الأصل في كلٍ من الطرفين لكن بنحوٍ مشروطٍ بأن يجري الأصل في هذا الطرف بشرط ترك الآخر في الشبهة التحريمية، ويجري الأصل في الطرف الثاني بشرط ترك الطرف الأوّل، فيثبت في كلا الطرفين ترخيصان لكن لا مطلقاً، ترخيصان مشروطان، كل واحد منهما مشروط بترك الآخر، وهذا لا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية، هذان الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية وفي المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لماذا نلتزم بسقوط الأصلين والانتهاء إلى وجوب الموافقة القطعية، لنلتزم بجريان الأصل في كلا الطرفين بنحوٍ مشروط وننتهي إلى نتيجة التخيير لا وجوب الموافقة القطعية، وهذا لا يلتزم به المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ لأنّه يرى أنّه لا إشكال في وجوب الموافقة القطعية.
هذا النقض في الحقيقة موجّه إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يقول بالاقتضاء وفي نفس الوقت يقول بعدم جريان الأصل في أحد الطرفين، في بعض أطراف العلم الإجمالي للتعارض، هذا النقض متوجّه إلى من يلتزم بهذا الرأي كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) والسيد الخوئي(قدّس سرّه)، وحاصل هذا النقض هو: أنّ المحذور من إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو محذور الترخيص في المخالفة القطعية، محذور الترخيص في المعصية الذي فرغنا عن استحالته؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية. هذا هو المحذور. هذا المحذور كما يندفع بتساقط الأصول وعدم شمول الأصل لكلا الطرفين، كذلك يندفع بالالتزام بشمول الأصل لكلا الطرفين، لكن مع تقييد إطلاق كلّ أصلٍ يجري في أحد الطرفين بترك الطرف الآخر، فيجري الأصل في هذا مشروطاً بترك ذاك، وفي ذاك مشروطاً بترك الأوّل، هذا كما هو واضح لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فالمحذور يندفع به أيضاً، كما يندفع بأن نلتزم بتساقط الأصول في الطرفين، وعدم شمول الأصل لكلا الطرفين، كذلك يندفع بالالتزام بالشمول، لكن مع تقييد الإطلاق بترك الطرف الآخر، أن نرفع اليد لا عن أصل شمول دليل الأصل لهذا الطرف وهذا الطرف، وإنّما نرفع اليد عن إطلاق الأصل في هذا الطرف وإطلاق الأصل في هذا الطرف مع الالتزام بشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين.
هو يقول: ألستم تقولون بالاقتضاء ؟ بمعنى أنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وأنّ الترخيص في بعض الأطراف ممكن وليس فيه محذور ثبوتي، وإنّما تقولون هو لا يجري في بعض الأطراف للمعارضة. يقول: أنّ المعارضة لا تستلزم تساقط الأصلين في الطرفين المؤدي إلى التنجيز ووجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّنٍ شرعي ولا عقلي، كما يمكن أن يُدفع المحذور عن طريق هذا التساقط كما التزم به المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو يقول يمكن أن يتحقق دفع المحذور بالالتزام بجريان الأصل في كلا الطرفين بنحوٍ مشروط.
وبعبارة أخرى: أنّ دفع المحذور السابق يدور أمره بين أحد شيئين:
الأمر الأوّل: أن نلتزم بالتساقط كما يقترح المحقق النائيني(قدّس سرّه). وكان برهانه هو أنّه لا مانع من إجراء الأصل في هذا الطرف وليس فيه مشكلة ثبوتية، ولا يجري لأنّه يعارضه الأصل في هذا الطرف، وبعد عدم إمكان إجراء الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما المعيّن ولا في أحدهما المردد، تتساقط الأصول. هذا التساقط معناه في الحقيقة التخصيص، يعني تخصيص دليل الأصل بغير موارد العلم الإجمالي، يعني أنّ دليل الأصل لا يشمل موارد العلم الإجمالي، في الحقيقة هذا تخصيص أفرادي، بأن نخرج هذا عن دليل الأصل العملي، هذا تخصيص بلحاظ الأفراد. الأمر يدور بين هذا وبين أن لا نلتزم بالتخصيص الأفرادي، ويبقى الدليل عامّاً يشمل كل أفراد الشك في التكليف بما فيها أطراف العلم الإجمالي، لا نخصّصها بلحاظ الأفراد، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق الأصل في هذا الطرف الذي هو يسبب المشكلة وهو الذي يسبب المحذور، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً، يعني سواء ارتكب الآخر، أو لا ؟ الأصل يشمل هذا الطرف، وشمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً هو الذي يؤدي إلى الترخيص في المعصية، هو مرخّص في هذا حتّى إذا ترك ذاك، أو فَعَله، ومرخّص في هذا أيضاً مطلقاً، سواء ترك هذا، أو لا، حتّى إذا ترك هذا هو مرخّص في هذا، هنا أيضاً نقول له: حتّى إذا تركت هذا أنت مرخّص في ذاك، هذا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فإذا رفعنا اليد عن الإطلاق، إطلاق دليل الأصل في كل طرف لحالة ترك الآخر، نقول له إذا تركت الآخر الأصل لا يثبت لك الترخيص هنا. نعم، إذا تركت الآخر أنت مرخّص لك في ترك هذا، فشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين مشروطاً بترك الآخر لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، صحيح هما ترخيصان في الطرفين، لكن ليس كل ترخيصين يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية، الترخيصان المطلقان يؤديان إلى الترخيص في المعصية، أمّا الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية، أنت مأذون بارتكاب هذا إذا تركت ذاك، أمّا إذا فعلت ذاك، فيجب عليك أن تترك هذا، هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المعصية والمخالفة القطعية، يقول: الأمر يدور بين هذين الشيئين: بين الالتزام بالتخصيص والتساقط، رفع اليد عن الإطلاق، أو العموم الأفرادي وبين أن لا نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للفرد، بأن نقول أنّ الدليل يشمل هذا الفرد، لكن هل يشمله في حالتين، أو في حالة واحدة ؟ يقول: أنّ الإطلاق يشمله في كلتا الحالتين، حالة فعل الآخر وحالة ترك الآخر، نحن نقيّد هذا الإطلاق الأحوالي ونرفع اليد عنه ونلتزم بشمول دليل الأصل لهذا الفرد، أو الطرف مشروطاً بترك الآخر فقط، في هذه الحالة يثبّت الترخيص. أمّا في حالة فعل الآخر فلا يوجد ترخيص في فعل هذا؛ لأنّ الترخيص يؤدي إلى المخالفة القطعية، فالأمر يدور بينهما.
يقول: الثاني هو المتعيّن، يعني رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن وليس رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لا التساقط ولا التخصيص، وإنّما المتعيّن ما يقابله وهو رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، يقول هو المتعيّن؛ يمكن أن يُستفاد من كلماته وكلمات من شرح هذه الفكرة، الاستدلال بدليلين على أنّه هو المتعيّن:
الدليل الأوّل: بأنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن، إمّا لأنّه متيقن السقوط على كلا التقديرين، سواء التزمنا بالسقوط والتخصيص، أو التزمنا برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي متيقّن السقوط، لابدّ منه على كلا التقديرين؛ لأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يلتزم بسقوط وعدم شمول الأصل أساساً لكلا الفردين؛ فلا يبقى حينئذٍ إطلاق أحوالي في هذا الطرف؛ لأنّ الأصل أساساً لا يجري فيه، فيسقط الإطلاق الأحوالي، وإذا قلنا بسقوط الإطلاق الأحوالي؛ فحينئذٍ يكون سقوط الإطلاق الأحوالي واضحاً، فسقوط الإطلاق الأحوالي متيقن على كلا التقديرين، بينما التخصيص ليس متيقناً على كلا التقديرين، سقوط الإطلاق الأفرادي ليس متيقناً على كلا التقديرين؛ لأنّه على التقدير الثاني لا يكون الإطلاق الأفرادي ساقطاً؛ بل يثبت الإطلاق الأفراد، وإنّما الساقط هو خصوص الإطلاق الأفرادي.
الدليل الثاني: هو ما يؤكّد عليه وهو من أين ينشأ المحذور، فلابدّ أن نرى أنّ المحذور ينشأ من ماذا؟ هل ينشأ المحذور من الالتزام بالإطلاق الأفرادي، أو ينشأ المحذور من الإطلاق الأحوالي ؟ المحذور ينشأ من الإطلاق الأحوالي لا من الإطلاق الأفرادي، أيّ ضيرٍ في أن يكون دليل الأصل شاملاً لكلا الطرفين ؟ لكن مع منع إطلاقه الأحوالي بتقييده بترك الطرف الآخر، لا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية، ولا يلزم منه محذور الترخيص في المعصية . نعم، محذور الترخيص في المعصية يلزم من الإطلاق الأحوالي، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً ولهذا الطرف مطلقاً يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، أمّا أصل شمول الأصل لهذا الطرف ولهذا الطرف لا يلزم منه هذا المحذور إذا لم نلتزم بإطلاقه الأحوالي. إذن: منشأ الترخيص والمحذور هو الإطلاق الأحوالي؛ حينئذٍ لابدّ أن نقتصر على هذا المقدار، هذا حيث أنّه يسبب محذوراً نرفع اليدّ عنه، أمّا ذاك حيث أنّه لا يسبب محذوراً، لماذا نرفع اليد عنه ؟ بل رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي وشمول دليل الأصل لكلٍ من الفردين، على القول بالاقتضاء لا مبرر له، فيكون رفع اليدّ عنه بلا موجبٍ وبلا سببٍ، الضرورات تقدّر بقدرها، الضرورة تلجأنا إلى أن نرفع اليد عن ما يوجب المحذور، وما يوجب المحذور هو الإطلاق الأحوالي للأصل في كل طرف، فنرفع اليد عن ما يسبب المحذور، ويبقى الإطلاق الأحوالي على حاله، وهذا معناه أنّ دليل الأصل يشمل كلا الطرفين على نحوٍ مشروط، وبهذا لا نصل إلى المحذور، لكنّه ينتج لنا نتيجة التخيير لا وجوب الموافقة القطعية؛ بل ينتج لنا الترخيص في ترك الموافقة القطعية وهذا ممّا لا يلتزم به مثل المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ ولذا صار نقضاً عليه، فأننا نلتزم بالعلّية التامّة وبوجوب الموافقة القطعية ونمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين وبقطع النظر عن وجود معارضٍ أو عدم وجود معارضٍ؛ لأنّه فيه محذور ثبوتي، فنلتزم بوجوب الموافقة القطعية، لكن المحقق النائيني(قدّس سرّه) عندما يقول بالاقتضاء لا يتعيّن أن يلتزم ولا دليل على أن ينتهي إلى وجوب الموافقة القطعية بتوسط هذا البرهان الذي يذكره ويكررّه وهو أنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين ثبوتاً، ولكن يمنع منه وجود المعارض في الطرف الآخر، والمعارض في الطرف الآخر يمنع من جريان الأصل في كلا الطرفين فأنّ إجراءه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، فلا يمكن إجراؤه في كلٍ منهما ولا يمكن إجراؤه في أحدهما المعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، ولا في أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل ليس هو الترخيص التخييري، وإنّما مفاد الأصل هو الترخيص التعييني، فيتساقطان، فإذا سقطا يبقى الاحتمال منجّزاً في كل طرفٍ ولا مؤمّن من ناحيته، فتجب الموافقة القطعية. هذا ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه)، بينما المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول في النقض: لا يتعيّن أن نلتزم بعد افتراض التعارض بتساقط الأصول؛ بل يمكن أن نلتزم بجريان الأصول في كلا الطرفين، لكن على نحوٍ مشروط؛ بل هذا هو المتعيّن للدليلين السابقين، إمّا لأنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي متيّقن على كلا التقديرين، وإمّا لأنّ منشأ المحذور والذي يسبب الوقوع فيه هو الإطلاق الأحوالي، والضرورات تقدّر بقدرها، فلابدّ أن نرفع اليد عن الدليل بمقدار الضرورة، والضرورة في المقام هي أن نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للدليل ولا نرفع اليد عن أصل الإطلاق الأفرادي، وهذا ينتج عدم وجوب الموافقة القطعية، وهذا ممّا لا يلتزم به المحقق العراقي(قدّس سرّه) ومن يتبعه. هذا النقض الثاني. وهذا هو الذي يُعبّر عنه بشبهة التخيير، يعني شبهة نشأت بينهم وتنشأ من هذا النقض وهو أنّه هل يمكن بعد افتراض التعارض على القول بالاقتضاء، هل التعارض يؤدي إلى التساقط كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه)، أو أنّه يستدعي التخيير كما يقول المحقق العراقي(قدّس سرّه) ؟ بناءً على هذه المباني. هذا النقض الثاني للمحقق العراقي(قدّس سرّه).
من الواضح أنّ هذا النقض إنّما يرد على من يقول بالاقتضاء ويقول بعدم جريان الأصل في بعض الأطراف لأجل التعارض، وليس نقضاً على كل من يقول بالاقتضاء؛ لأننا مثلاً إذا قلنا بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمال ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، لكن منعنا من جريان الأصل في بعض الأطراف لعلّة إثباتية، قصور في دليل الأصل عن أن يشمل بعض أطراف العلم الإجمالي وليس مانعاً ثبوتياً؛ إذ لا مانع ثبوتاً؛ ولذا قلنا بالاقتضاء، لكن قد يقال أنّ المانع من جريان الأصل في بعض الأطراف ليس هو المعارضة، وإنّما هناك قصور في الدليل عن أن يشمل بعض أطراف العلم الإجمالي، قصور في الدليل يعني ناحية إثباتية، كما إذا آمنّا بما تقدّم سابقاً من أنّ مفاد الأصل هو الحكم الحيثي، أنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حيث الشكّ في التكليف وليس مفاد الأصل هو إثبات الإباحة مطلقاً وبلحاظ جميع الحيثيات، كلا، وإنما أصل ناظر إلى الإباحة من حيث الشك في التكليف، هذا مباح من حيثية الشك في التكليف لا أنّه مباح مطلقاً، ومن الواضح أنّ طرف العلم الإجمالي فيه حيثيتان، حيثية الشك في التكليف وحيثية كونه طرفاً لعلم إجمالي بتكليف منجّز، الأصل عندما نريد إجراءه في هذا الطرف هل يثبت التأمين من كلتا الناحيتين، أو يثبت التأمين من الناحية الأولى ؟ من الناحية الأولى يعني يقول أنت من حيث الشك في التكليف وفي الحرمة أنت في مأمن من هذه الناحية، أمّا من حيث أنّ هذا طرف لعلم إجمالي بتكليفٍ منجّز، فالأصل لا يؤمّن من ناحيته؛ لأنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حيث الشك في التكليف، الحكم الحيثي، تقدّم سابقاً طرح مثال وهو(الجبن حلال) ومفاده حكم حيثي، يعني الحلّية من حيث كونه جبناً، أمّا من حيثية كونه مغصوباً، أو من حيثية كونه مسروقاً هو لا ينظر إلى ذلك، لا يثبت الحلّية بلحاظ كل الحيثيات، وإنّما يثبت الحلّية لهذا من حيثية كونه جبناً؛ ولذا هذا لا يكون منافياً لتحريم هذا الجبن من حيثية أخرى، الترخيص مفاد الأصل هو إثبات الحلّية من حيث كونه مشكوك الحرمة، أمّا من حيث كونه طرفاً لعلم إجمالي، دليل الأصل غير ناظر إليه ولا يثبت البراءة من ناحيته، وهذا يعني وجود قصور في دليل الأصل من أن يثبت الإباحة والتأمين ولو في بعض أطراف العلم الإجمالي.
أقول: إذا آمنّا بذلك، ومنعنا من إجراء الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي لمحذور إثباتي وقصور في دليل الأصل لا لأجل التعارض، فهذا النقض لا يرد على القول بالاقتضاء إذا كان بهذا الشكل؛ لأنّ صاحب هذا القول يقول أنّ الأصل لا يجري في أحد الطرفين أصلاً بقطع النظر عن المعارضة، حتّى إذا لم يكن له معارض كما في الموارد التي تقدّم نقلها ما إذا كان أحد الطرفين تنجّز بمنجّز، علمٍ، أو علمي، أو أصلٍ عقلي، أو شرعي ثبّت التكليف في أحد الطرفين، هنا قلنا بأنّه حينئذٍ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ هذا المورد الذي تنجّز فيه التكليف سوف لن يجري فيه الأصل، في الآخر يجري الأصل؛ لأنّه لا معارض له، لكن مع ذلك بناءً على هذا الرأي لا يجري الأصل في ذاك الطرف لوجود مانع إثباتي؛ حينئذٍ هذا النقض لا يرد عليه؛ لأنّ هذا النقض يُحاسب من يقول بأنّ الأصل لا يجري في بعض الأطراف لأجل التعارض، فيقول له ليست النتيجة الحتمية للتعارض هي التساقط؛ بل يمكن أن تكون نتيجة التعارض هي التخيير والالتزام بشمول الأصل لكلا الطرفين ورفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للأصل في كلٍ من الطرفين.
إذن: ينبغي أن يكون هذا واضحاً أنّ هذا النقض لا يرد على كل من يقول بالاقتضاء، وإنّما يرد على من يقول بالاقتضاء ويرى بأنّه لا يوجد محذور من جريان الأصل في بعض الأطراف لا ثبوتي ولا إثباتي، وإنّما المحذور ينحصر بمسألة التعارض، لولا التعارض لجرى الأصل في هذا الطرف؛ لأنّه لا يوجد محذور من جريانه لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فيرد عليه هذا النقض.
النقض الثاني على القول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي إن لم يكن علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية؛ بل كان مقتضياً له، وكان تنجيزه لوجوب الموافقة القطعية وكان معلّقاً على عدم الترخيص الشرعي، فلماذا لا نتمسّك بإطلاق الأصل في كل واحدٍ من الطرفين مشروطاً بترك الطرف الآخر، وهذا ينتج عدم وجوب الموافقة القطعية، ينتج التخيير في تطبيق الأصل على كل واحدٍ من الطرفين، فبإمكان المكلّف أن يجري الأصل في هذا الطرف بشرط ترك الطرف الآخر، أو في هذا الطرف بشرط ترك إجراء الأصل في الطرف الأوّل، ممّا يعني التخيير، ممّا يعني جواز ارتكاب أحد الطرفين، ممّا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية، بينما هذه النتيجة لا يرضى بها القائل بالاقتضاء؛ لأنّه وإن كان يقول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، لكنّه يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين لأجل المعارضة ويصل إلى نفس النتيجة التي يقول بها القائل بالعلّية، كما أنّ القائل بالعلّية يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين، القائل بالاقتضاء كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين، غاية الأمر أنّ وجه المنع يختلف عندهما، فالقائل بالعلّية يمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين لوجود محذور ثبوتي يمنع من جريانه في أحد الطرفين بقطع النظر عن التعارض، بينما القائل بالاقتضاء كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) يمنع من جريان الأصل في أحد الطرفين باعتبار أنّه يكون مُعارَضاً بجريانه في الطرف الآخر، وإجراءه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية التي فرغنا عن امتناعها؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية، فلا يمكن إجراؤه في كلٍ منهما ولا يمكن إجراؤه في أحدهما المعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، ولا في أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل ليس هو الترخيص التخييري، وإنّما مفاد الأصل هو الترخيص التعييني، مفاد الأصل هو إثبات الترخيص في أحد الطرفين بعينه ولا يستفاد من دليل الأصل إثبات الترخيص لا بعينه، هذا ليس مفاد الأصل حتّى نثبته في المقام.
وعليه: لابدّ من تساقط الأصول في الطرفين، والنتيجة كما تقدّم سابقاً أنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّن لا عقلي ولا شرعي، فيتنجّز، فتجب الموافقة القطعية. فهو أيضاً يقول بوجوب الموافقة القطعية.
النقض يقول للمحقق النائيني(قدّس سرّه): بأنّه لماذا لا نجري الأصل في كلا الطرفين، لكن بنحوٍ مشروط ؟ لماذا نلتزم بتساقط الأصول في الطرفين ؟ بل لنلتزم بجريان الأصل في كلٍ من الطرفين لكن بنحوٍ مشروطٍ بأن يجري الأصل في هذا الطرف بشرط ترك الآخر في الشبهة التحريمية، ويجري الأصل في الطرف الثاني بشرط ترك الطرف الأوّل، فيثبت في كلا الطرفين ترخيصان لكن لا مطلقاً، ترخيصان مشروطان، كل واحد منهما مشروط بترك الآخر، وهذا لا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية، هذان الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية وفي المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لماذا نلتزم بسقوط الأصلين والانتهاء إلى وجوب الموافقة القطعية، لنلتزم بجريان الأصل في كلا الطرفين بنحوٍ مشروط وننتهي إلى نتيجة التخيير لا وجوب الموافقة القطعية، وهذا لا يلتزم به المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ لأنّه يرى أنّه لا إشكال في وجوب الموافقة القطعية.
هذا النقض في الحقيقة موجّه إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يقول بالاقتضاء وفي نفس الوقت يقول بعدم جريان الأصل في أحد الطرفين، في بعض أطراف العلم الإجمالي للتعارض، هذا النقض متوجّه إلى من يلتزم بهذا الرأي كالمحقق النائيني(قدّس سرّه) والسيد الخوئي(قدّس سرّه)، وحاصل هذا النقض هو: أنّ المحذور من إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو محذور الترخيص في المخالفة القطعية، محذور الترخيص في المعصية الذي فرغنا عن استحالته؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية. هذا هو المحذور. هذا المحذور كما يندفع بتساقط الأصول وعدم شمول الأصل لكلا الطرفين، كذلك يندفع بالالتزام بشمول الأصل لكلا الطرفين، لكن مع تقييد إطلاق كلّ أصلٍ يجري في أحد الطرفين بترك الطرف الآخر، فيجري الأصل في هذا مشروطاً بترك ذاك، وفي ذاك مشروطاً بترك الأوّل، هذا كما هو واضح لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فالمحذور يندفع به أيضاً، كما يندفع بأن نلتزم بتساقط الأصول في الطرفين، وعدم شمول الأصل لكلا الطرفين، كذلك يندفع بالالتزام بالشمول، لكن مع تقييد الإطلاق بترك الطرف الآخر، أن نرفع اليد لا عن أصل شمول دليل الأصل لهذا الطرف وهذا الطرف، وإنّما نرفع اليد عن إطلاق الأصل في هذا الطرف وإطلاق الأصل في هذا الطرف مع الالتزام بشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين.
هو يقول: ألستم تقولون بالاقتضاء ؟ بمعنى أنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وأنّ الترخيص في بعض الأطراف ممكن وليس فيه محذور ثبوتي، وإنّما تقولون هو لا يجري في بعض الأطراف للمعارضة. يقول: أنّ المعارضة لا تستلزم تساقط الأصلين في الطرفين المؤدي إلى التنجيز ووجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّنٍ شرعي ولا عقلي، كما يمكن أن يُدفع المحذور عن طريق هذا التساقط كما التزم به المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو يقول يمكن أن يتحقق دفع المحذور بالالتزام بجريان الأصل في كلا الطرفين بنحوٍ مشروط.
وبعبارة أخرى: أنّ دفع المحذور السابق يدور أمره بين أحد شيئين:
الأمر الأوّل: أن نلتزم بالتساقط كما يقترح المحقق النائيني(قدّس سرّه). وكان برهانه هو أنّه لا مانع من إجراء الأصل في هذا الطرف وليس فيه مشكلة ثبوتية، ولا يجري لأنّه يعارضه الأصل في هذا الطرف، وبعد عدم إمكان إجراء الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما المعيّن ولا في أحدهما المردد، تتساقط الأصول. هذا التساقط معناه في الحقيقة التخصيص، يعني تخصيص دليل الأصل بغير موارد العلم الإجمالي، يعني أنّ دليل الأصل لا يشمل موارد العلم الإجمالي، في الحقيقة هذا تخصيص أفرادي، بأن نخرج هذا عن دليل الأصل العملي، هذا تخصيص بلحاظ الأفراد. الأمر يدور بين هذا وبين أن لا نلتزم بالتخصيص الأفرادي، ويبقى الدليل عامّاً يشمل كل أفراد الشك في التكليف بما فيها أطراف العلم الإجمالي، لا نخصّصها بلحاظ الأفراد، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق الأصل في هذا الطرف الذي هو يسبب المشكلة وهو الذي يسبب المحذور، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً، يعني سواء ارتكب الآخر، أو لا ؟ الأصل يشمل هذا الطرف، وشمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً هو الذي يؤدي إلى الترخيص في المعصية، هو مرخّص في هذا حتّى إذا ترك ذاك، أو فَعَله، ومرخّص في هذا أيضاً مطلقاً، سواء ترك هذا، أو لا، حتّى إذا ترك هذا هو مرخّص في هذا، هنا أيضاً نقول له: حتّى إذا تركت هذا أنت مرخّص في ذاك، هذا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فإذا رفعنا اليد عن الإطلاق، إطلاق دليل الأصل في كل طرف لحالة ترك الآخر، نقول له إذا تركت الآخر الأصل لا يثبت لك الترخيص هنا. نعم، إذا تركت الآخر أنت مرخّص لك في ترك هذا، فشمول دليل الأصل لكلٍ من الطرفين مشروطاً بترك الآخر لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، صحيح هما ترخيصان في الطرفين، لكن ليس كل ترخيصين يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية، الترخيصان المطلقان يؤديان إلى الترخيص في المعصية، أمّا الترخيصان المشروطان لا يؤدّيان إلى الترخيص في المعصية، أنت مأذون بارتكاب هذا إذا تركت ذاك، أمّا إذا فعلت ذاك، فيجب عليك أن تترك هذا، هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المعصية والمخالفة القطعية، يقول: الأمر يدور بين هذين الشيئين: بين الالتزام بالتخصيص والتساقط، رفع اليد عن الإطلاق، أو العموم الأفرادي وبين أن لا نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للفرد، بأن نقول أنّ الدليل يشمل هذا الفرد، لكن هل يشمله في حالتين، أو في حالة واحدة ؟ يقول: أنّ الإطلاق يشمله في كلتا الحالتين، حالة فعل الآخر وحالة ترك الآخر، نحن نقيّد هذا الإطلاق الأحوالي ونرفع اليد عنه ونلتزم بشمول دليل الأصل لهذا الفرد، أو الطرف مشروطاً بترك الآخر فقط، في هذه الحالة يثبّت الترخيص. أمّا في حالة فعل الآخر فلا يوجد ترخيص في فعل هذا؛ لأنّ الترخيص يؤدي إلى المخالفة القطعية، فالأمر يدور بينهما.
يقول: الثاني هو المتعيّن، يعني رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن وليس رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لا التساقط ولا التخصيص، وإنّما المتعيّن ما يقابله وهو رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، يقول هو المتعيّن؛ يمكن أن يُستفاد من كلماته وكلمات من شرح هذه الفكرة، الاستدلال بدليلين على أنّه هو المتعيّن:
الدليل الأوّل: بأنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي هو المتعيّن، إمّا لأنّه متيقن السقوط على كلا التقديرين، سواء التزمنا بالسقوط والتخصيص، أو التزمنا برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي، رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي متيقّن السقوط، لابدّ منه على كلا التقديرين؛ لأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يلتزم بسقوط وعدم شمول الأصل أساساً لكلا الفردين؛ فلا يبقى حينئذٍ إطلاق أحوالي في هذا الطرف؛ لأنّ الأصل أساساً لا يجري فيه، فيسقط الإطلاق الأحوالي، وإذا قلنا بسقوط الإطلاق الأحوالي؛ فحينئذٍ يكون سقوط الإطلاق الأحوالي واضحاً، فسقوط الإطلاق الأحوالي متيقن على كلا التقديرين، بينما التخصيص ليس متيقناً على كلا التقديرين، سقوط الإطلاق الأفرادي ليس متيقناً على كلا التقديرين؛ لأنّه على التقدير الثاني لا يكون الإطلاق الأفرادي ساقطاً؛ بل يثبت الإطلاق الأفراد، وإنّما الساقط هو خصوص الإطلاق الأفرادي.
الدليل الثاني: هو ما يؤكّد عليه وهو من أين ينشأ المحذور، فلابدّ أن نرى أنّ المحذور ينشأ من ماذا؟ هل ينشأ المحذور من الالتزام بالإطلاق الأفرادي، أو ينشأ المحذور من الإطلاق الأحوالي ؟ المحذور ينشأ من الإطلاق الأحوالي لا من الإطلاق الأفرادي، أيّ ضيرٍ في أن يكون دليل الأصل شاملاً لكلا الطرفين ؟ لكن مع منع إطلاقه الأحوالي بتقييده بترك الطرف الآخر، لا يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية، ولا يلزم منه محذور الترخيص في المعصية . نعم، محذور الترخيص في المعصية يلزم من الإطلاق الأحوالي، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً ولهذا الطرف مطلقاً يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية، أمّا أصل شمول الأصل لهذا الطرف ولهذا الطرف لا يلزم منه هذا المحذور إذا لم نلتزم بإطلاقه الأحوالي. إذن: منشأ الترخيص والمحذور هو الإطلاق الأحوالي؛ حينئذٍ لابدّ أن نقتصر على هذا المقدار، هذا حيث أنّه يسبب محذوراً نرفع اليدّ عنه، أمّا ذاك حيث أنّه لا يسبب محذوراً، لماذا نرفع اليد عنه ؟ بل رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي وشمول دليل الأصل لكلٍ من الفردين، على القول بالاقتضاء لا مبرر له، فيكون رفع اليدّ عنه بلا موجبٍ وبلا سببٍ، الضرورات تقدّر بقدرها، الضرورة تلجأنا إلى أن نرفع اليد عن ما يوجب المحذور، وما يوجب المحذور هو الإطلاق الأحوالي للأصل في كل طرف، فنرفع اليد عن ما يسبب المحذور، ويبقى الإطلاق الأحوالي على حاله، وهذا معناه أنّ دليل الأصل يشمل كلا الطرفين على نحوٍ مشروط، وبهذا لا نصل إلى المحذور، لكنّه ينتج لنا نتيجة التخيير لا وجوب الموافقة القطعية؛ بل ينتج لنا الترخيص في ترك الموافقة القطعية وهذا ممّا لا يلتزم به مثل المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ ولذا صار نقضاً عليه، فأننا نلتزم بالعلّية التامّة وبوجوب الموافقة القطعية ونمنع من إجراء الأصل في أحد الطرفين وبقطع النظر عن وجود معارضٍ أو عدم وجود معارضٍ؛ لأنّه فيه محذور ثبوتي، فنلتزم بوجوب الموافقة القطعية، لكن المحقق النائيني(قدّس سرّه) عندما يقول بالاقتضاء لا يتعيّن أن يلتزم ولا دليل على أن ينتهي إلى وجوب الموافقة القطعية بتوسط هذا البرهان الذي يذكره ويكررّه وهو أنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين ثبوتاً، ولكن يمنع منه وجود المعارض في الطرف الآخر، والمعارض في الطرف الآخر يمنع من جريان الأصل في كلا الطرفين فأنّ إجراءه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، فلا يمكن إجراؤه في كلٍ منهما ولا يمكن إجراؤه في أحدهما المعيّن؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، ولا في أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل ليس هو الترخيص التخييري، وإنّما مفاد الأصل هو الترخيص التعييني، فيتساقطان، فإذا سقطا يبقى الاحتمال منجّزاً في كل طرفٍ ولا مؤمّن من ناحيته، فتجب الموافقة القطعية. هذا ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه)، بينما المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول في النقض: لا يتعيّن أن نلتزم بعد افتراض التعارض بتساقط الأصول؛ بل يمكن أن نلتزم بجريان الأصول في كلا الطرفين، لكن على نحوٍ مشروط؛ بل هذا هو المتعيّن للدليلين السابقين، إمّا لأنّ رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي متيّقن على كلا التقديرين، وإمّا لأنّ منشأ المحذور والذي يسبب الوقوع فيه هو الإطلاق الأحوالي، والضرورات تقدّر بقدرها، فلابدّ أن نرفع اليد عن الدليل بمقدار الضرورة، والضرورة في المقام هي أن نرفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للدليل ولا نرفع اليد عن أصل الإطلاق الأفرادي، وهذا ينتج عدم وجوب الموافقة القطعية، وهذا ممّا لا يلتزم به المحقق العراقي(قدّس سرّه) ومن يتبعه. هذا النقض الثاني. وهذا هو الذي يُعبّر عنه بشبهة التخيير، يعني شبهة نشأت بينهم وتنشأ من هذا النقض وهو أنّه هل يمكن بعد افتراض التعارض على القول بالاقتضاء، هل التعارض يؤدي إلى التساقط كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه)، أو أنّه يستدعي التخيير كما يقول المحقق العراقي(قدّس سرّه) ؟ بناءً على هذه المباني. هذا النقض الثاني للمحقق العراقي(قدّس سرّه).
من الواضح أنّ هذا النقض إنّما يرد على من يقول بالاقتضاء ويقول بعدم جريان الأصل في بعض الأطراف لأجل التعارض، وليس نقضاً على كل من يقول بالاقتضاء؛ لأننا مثلاً إذا قلنا بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمال ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، لكن منعنا من جريان الأصل في بعض الأطراف لعلّة إثباتية، قصور في دليل الأصل عن أن يشمل بعض أطراف العلم الإجمالي وليس مانعاً ثبوتياً؛ إذ لا مانع ثبوتاً؛ ولذا قلنا بالاقتضاء، لكن قد يقال أنّ المانع من جريان الأصل في بعض الأطراف ليس هو المعارضة، وإنّما هناك قصور في الدليل عن أن يشمل بعض أطراف العلم الإجمالي، قصور في الدليل يعني ناحية إثباتية، كما إذا آمنّا بما تقدّم سابقاً من أنّ مفاد الأصل هو الحكم الحيثي، أنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حيث الشكّ في التكليف وليس مفاد الأصل هو إثبات الإباحة مطلقاً وبلحاظ جميع الحيثيات، كلا، وإنما أصل ناظر إلى الإباحة من حيث الشك في التكليف، هذا مباح من حيثية الشك في التكليف لا أنّه مباح مطلقاً، ومن الواضح أنّ طرف العلم الإجمالي فيه حيثيتان، حيثية الشك في التكليف وحيثية كونه طرفاً لعلم إجمالي بتكليف منجّز، الأصل عندما نريد إجراءه في هذا الطرف هل يثبت التأمين من كلتا الناحيتين، أو يثبت التأمين من الناحية الأولى ؟ من الناحية الأولى يعني يقول أنت من حيث الشك في التكليف وفي الحرمة أنت في مأمن من هذه الناحية، أمّا من حيث أنّ هذا طرف لعلم إجمالي بتكليفٍ منجّز، فالأصل لا يؤمّن من ناحيته؛ لأنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حيث الشك في التكليف، الحكم الحيثي، تقدّم سابقاً طرح مثال وهو(الجبن حلال) ومفاده حكم حيثي، يعني الحلّية من حيث كونه جبناً، أمّا من حيثية كونه مغصوباً، أو من حيثية كونه مسروقاً هو لا ينظر إلى ذلك، لا يثبت الحلّية بلحاظ كل الحيثيات، وإنّما يثبت الحلّية لهذا من حيثية كونه جبناً؛ ولذا هذا لا يكون منافياً لتحريم هذا الجبن من حيثية أخرى، الترخيص مفاد الأصل هو إثبات الحلّية من حيث كونه مشكوك الحرمة، أمّا من حيث كونه طرفاً لعلم إجمالي، دليل الأصل غير ناظر إليه ولا يثبت البراءة من ناحيته، وهذا يعني وجود قصور في دليل الأصل من أن يثبت الإباحة والتأمين ولو في بعض أطراف العلم الإجمالي.
أقول: إذا آمنّا بذلك، ومنعنا من إجراء الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي لمحذور إثباتي وقصور في دليل الأصل لا لأجل التعارض، فهذا النقض لا يرد على القول بالاقتضاء إذا كان بهذا الشكل؛ لأنّ صاحب هذا القول يقول أنّ الأصل لا يجري في أحد الطرفين أصلاً بقطع النظر عن المعارضة، حتّى إذا لم يكن له معارض كما في الموارد التي تقدّم نقلها ما إذا كان أحد الطرفين تنجّز بمنجّز، علمٍ، أو علمي، أو أصلٍ عقلي، أو شرعي ثبّت التكليف في أحد الطرفين، هنا قلنا بأنّه حينئذٍ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ هذا المورد الذي تنجّز فيه التكليف سوف لن يجري فيه الأصل، في الآخر يجري الأصل؛ لأنّه لا معارض له، لكن مع ذلك بناءً على هذا الرأي لا يجري الأصل في ذاك الطرف لوجود مانع إثباتي؛ حينئذٍ هذا النقض لا يرد عليه؛ لأنّ هذا النقض يُحاسب من يقول بأنّ الأصل لا يجري في بعض الأطراف لأجل التعارض، فيقول له ليست النتيجة الحتمية للتعارض هي التساقط؛ بل يمكن أن تكون نتيجة التعارض هي التخيير والالتزام بشمول الأصل لكلا الطرفين ورفع اليد عن الإطلاق الأحوالي للأصل في كلٍ من الطرفين.
إذن: ينبغي أن يكون هذا واضحاً أنّ هذا النقض لا يرد على كل من يقول بالاقتضاء، وإنّما يرد على من يقول بالاقتضاء ويرى بأنّه لا يوجد محذور من جريان الأصل في بعض الأطراف لا ثبوتي ولا إثباتي، وإنّما المحذور ينحصر بمسألة التعارض، لولا التعارض لجرى الأصل في هذا الطرف؛ لأنّه لا يوجد محذور من جريانه لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فيرد عليه هذا النقض.