35/06/16
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
اتضح ممّا تقدّم أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه)القائل بالاقتضاء و المحقق العراقي(قدّس سرّه) القائل بالعلّية، الظاهر من كلماتهما أنّهما يتفقان على كبرى إمكان الترخيص بلسان جعل البدل، أنّه لا إشكال في أنّه يمكن للشارع أن يرخّص في بعض الأطراف بأن يجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، ويكتفي بالامتثال الاحتمالي، وهذا هو الذي سمّاه كلٌ منهما بالموافقة القطعية التعبّدية، وإنّما يختلفان في أنّ جعل البدل هل يكفي فيه جريان الأصل في أحد الطرفين، أو أنّه يحتاج إلى دليلٍ آخر غير مجرّد جريان البراءة والأصل العملي في أحد الطرفين. الظاهر من مجموع كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أنّه يرى أنّه يكفي في جعل البدل جريان الأصل في أحد الطرفين، يكفي هذا المقدار، إذا جرى الأصل العملي في أحد الطرفين بلا معارض، هذا يكفي في جعل البدل، يكفي هذا المقدار في اعتبار الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، بينما الظاهر من المحقق العراقي(قدّس سرّه) أنّ هذا المقدار لا يكفي لجعل البدل؛ بل لابدّ من قيام دليل على الاكتفاء الاحتمالي وجعل الآخر بدلاً عن الواقع من علمٍ، أو إمارة معتبرة، ومجرّد أنّ الأصل يجري في أحد الطرفين هذا لا يمكن أن نستكشف منه أنّ الشارع جعل الآخر بدلاً عن الواقع. يختلفان في هذه النقطة لا في أصل إمكان جعل أحد الطرفين بدلا عن الواقع والترخيص في الطرف الآخر وإنّما الكلام في أنّه كيف نستفيد جعل البدل، هل يكفي فيه مجرّد جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض، أو لا؟ هذا محل الخلاف بينهم، وكما أشرنا أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه)من مجموع كلماته يظهر أنّه يرى أنّ مجرّد جريان البراءة يكفي لجعل البدل ولا يحتاج جعل البدل إلى شيءٍ آخر أزيد من جريان الأصل العملي في أحد الطرفين بلا معارض. نعم، له بعض الكلمات التي قد توهم خلاف هذا، لكن النظر إلى مجموع كلماته يؤدي إلى أنّه يرى أنّ مجرّد جريان البراءة يكفي في مقام جعل البدل، له عبارة يقول فيها:(فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر سواء كان الترخيص واقعياً كما إذا اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف أو ظاهرياً كما إذا كان في بعض الأطراف أصل نافٍ للتكليف غير معارض بمثله).[1] ظاهر هذه العبارة أنّه يكتفي بجريان الأصل النافي في بعض الأطراف بشرط عدم التعارض. ثمّ يقول:(الخروج عن عهدة التكليف كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبّدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الأذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر، ولو بمثل أصالة الإباحة وأصالة البراءة). إذا جرت أصالة البراءة وأصالة الإباحة في هذا الطرف هذا يكفي في اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي الذي سمّاه بالموافقة القطعية التعبّدية التي ترجع إلى مسألة جعل البدل، ثم قال:(بل نفس الأذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهراً). نفس الأذن في ارتكاب بعض الأطراف عن طريق البراءة والإباحة وأمثالها يستلزم بدلية الآخر قهراً، يعني القضية قهرية لا تحتاج إلى شيءٍ آخر. نعم في بدايات كلماته وردت هذه العبارة التي قد يُفهم منها المنافاة:(نعم للشارع الأذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الاخر ولكنّ هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامة المتكفلة لحكم الشبهات من قبيل قوله ــــــــــــ عليه السلام ــــــــــــ " كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام" أو "رفع ما لا يعلمون" ).[2] هذه العبارة تعني أنّ مسألة جعل البدلية تحتاج إلى دليلٍ بالخصوص لا تكفي فيه الأدلّة العامّة، لكن واضح بعد ملاحظة كلماته الأخرى أنّ كلامه هذا محمول على صورة عدم وجود ما يمنع من جريان الأصل في كلا الطرفين، هذه الأصول العامة من قبيل(رُفع ما لا يعلمون ) وأمثاله، لا يوجد ما يمنع من أن تجري في هذا الطرف ولا يوجد ما يمنع من أن تجري في هذا الطرف، في هذه الحالة لا نستطيع أن نستكشف جعل البدل؛ للتعارض الحاصل في دليل الأصل؛ لأنّ شمول دليل الأصل لهذا الطرف يعارضه شموله للطرف الآخر ولا مرجّح ويستحيل جريانهما معاً بحسب الفرض لاستحالة المخالفة القطعية، فتسقط الأصول في الأطراف، فلا يبقى لدينا أصل في هذا الطرف حتّى نستكشف منه جعل البدل؛ ولذا هو ركز في كلماته التي نقلناها عنه على أنّ استكشاف جعل البدل من جريان الأصل في أحد الطرفين مشروط بعدم المعارض، مشروط بأن لا يجري الأصل في الطرف الآخر، إذا لم يجرِ الأصل في هذا الطرف؛ حينئذٍ يكون الترخيص في هذا الطرف مستلزماً لجعل البدل كما في الأمثلة المتقدّمة عندما يكون أحد الطرفين يجري فيه ما يثبت التكليف كما إذا علم بثبوت التكليف في هذا الطرف، أو قامت إمارة على ثبوت التكليف في هذا الطرف، أو جرى الأصل العقلي على ثبوت التكليف في هذا الطرف، أو جرى الأصل الشرعي على ثبوت التكليف في هذا الطرف، في كل هذه الحالات الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض، هنا يقول نكتفي في جعل البدل بجريان الأصل في هذا الطرف، أمّا عبارته هذه، فهي ناظرة إلى العمومات أدلّة الأصول العملية العامّة لا محذور من جريانها في كلا الطرفين، في مثل هذه الحالة يقول: استكشاف البدل لابدّ أن يكون بدليلٍ خاصٍ ولا تكفي فيه الأدلّة العامّة الدالّة على الأصول العملية، فلا منافاة في كلامه، ورأيه هو هذا الذي بيّناه.
هذا الكلام من المحقق النائيني(قدّس سرّه) بهذا الشكل الذي بيّنّاه يبدو أنّه ينافي ما نُقل عنه من أنّه يقول بعدم الاقتضاء في محل كلامنا كما في أجود التقريرات،[3] ظاهر كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) في أجود التقريرات أنّه يقول بعدم الاقتضاء، يعني في الجهة الأولى التي تقدّم الكلام فيها، أصل الاقتضاء غير ثابت للعلم الإجمالي بالنسبة لوجوب الموافقة القطعية؛ ولذا جعل المانع من جريان الأصل في الطرف هو المعارضة، وإلاّ لولا المعارضة لجرى الأصل في أحد الطرفين، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء لوجوب الموافقة القطعية، هذا الكلام ينافي هذا الكلام الذي يُنسب إليه؛ لأنّه في هذا الكلام بناءً على عدم الاقتضاء؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى مسألة جعل البدل لكي يجري الأصل في هذا الطرف، نقول أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين، ليس له معارض، فيجري هذا الأصل في هذا الطرف، لا أن نقول أنّ جريانه في هذا الطرف مع عدم المعارض يتوقّف على مسألة جعل البدل، توقف جريان الأصل في أحد الطرفين مع عدم المعارض على مسألة جعل البدل لا ينسجم إلاّ مع القول بالاقتضاء، وأمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فالأصل يجري في هذا الطرف بمجرّد أن لا يعارضه أصل في الطرف الآخر فقط، فإذا أحرزنا عدم المعارضة كما في هذه الموارد التي ذكرناها، فالأصل يجري في هذا الطرف بلا حاجة إلى مسألة جعل البدل، لا داعي لجعل البدل. على كل حال، ما هو مقصوده، هذا شيء آخر. هذا بالنسبة إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه).
أمّا المحقق العراقي(قدّس سرّه)، فهو يتّفق معه في أصل المطلب في إمكان جعل أحد الطرفين بدلاً عن الواقع والترخيص في الطرف الآخر، لكن الظاهر منه أنّه لا يرى كفاية مجرّد جريان الأصل في أحد الطرفين لجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، لا يرى كفاية الأصل؛ بل لابدّ من قيام دليل على جعل البدل من علمٍ،[4] أو علمي، علم بجعل البدل، أو تقوم إمارة على جعل البدل، والأصل لا يكفي، وأشكل على المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّه ما معنى ما تقوله من أنّ جريان الأصل في أحد الطرفين يدلّ على جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، كأنّ جريان الأصل في الطرف فيه دلالة على جعل البدل، يقول: لم نفهم معنى هذا، كيف يكون جريان الأصل يدل على جعل الآخر بدلاً عن الواقع، يقول إذا كان المحقق النائيني(قدّس سرّه) يدّعي ذلك بلحاظ نفس الأصل الجاري في هذا الطرف هو كأصل فيه دلالة. ومن الواضح جدّاً أنّه لا يمكن أن يدّعي أنّ الدلالة دلالة مطابقية؛ لأنّ المدلول المطابقي للأصل هو البراءة، الدلالة المطابقية هي التأمين في هذا الطرف وليس مدلوله المطابقي جعل الآخر بدلاً. وأمّا إذا كان يدّعي أنّ الأصل بالدلالة الالتزامية يدلّ على جعل البدل، باعتبار أنّ لازم كون هذا مرخّص فيه وحلال أن يكون الآخر حراماً بضميمة العلم الإجمالي بأنّ أحدهما حرام، فإذا قام الدليل على أنّ هذا حلال، فإذن هو يدلّ بالالتزام على أنّ الآخر حرام، فبالدلالة الالتزامية على أنّ الآخر حرام.
وأجاب عن هذا: بأنّه أصل مثبت ولا يمكن التمسك بالأصل المثبت، لا يمكن أن نتمسّك بالأصل لإثبات مدلوله الالتزامي، هذا إذا فرضنا أنّ الأصل له مدلول التزامي كما إذا فرضنا أنّه أصل تنزيلي وكان مفاده أنّ هذا حلال واقعاً، هنا يوجد مجال لتخيّل أًنّ لازم هذا حرام واقعاً بضميمة العلم الإجمالي بأنّ أحدهما حرام، لازمه أن يكون الآخر حراماً وهذا هو جعل البدل، هذا يرد عليه الإشكال السابق وهو أنّ هذا تمسّك بالأصل المثبت، حتّى لو كان تنزيلياً بالنتيجة هو أصل ليس حجّة في مداليله الالتزامية. أقول: هذا حال الأصل التنزيلي، إذن: ما ظنّك بالأصل العملي البحت الذي ليس له نظر إلى الواقع أصلاً، وإنّما يثبت الترخيص في هذا الطرف فقط، لا يقول أنّ هذا حلال واقعاً، وإنّما يثبت الترخيص في هذا الطرف، أصلاً هذا ليس له مدلول التزامي بهذا المعنى، هذا ليس مدلوله الالتزامي أنّ الاخر هو الحرام، ليس فيه هكذا دلالة التزامية، فإذن: لا يدل على كون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية، وإذا وجدنا أصلاً يدل بالدلالة الالتزامية على أنّ الآخر حرام، فهو اصل مثبت ولا يجوز التمسّك بالأصل المثبت.[5]
قد يكون هناك احتمال آخر وهو أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يريد أن يتمسّك بالأصل حتّى يقال له أنّ الأصل لا يدل على كون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية، وإنّما يريد أن يتمسّك بدليل الأصل وليس بنفس الأصل، أي يتمسّك بدليل الاستصحاب، أو دليل البراءة، يعني يتمسّك بـــــ(رُفع ما لا يعلمون) ومن الواضح أنّ دليل الأصل إمارة وليس أصلاً، ومن هنا تكون الإمارة حجّة في مثبتاتها وفي مداليلها الالتزامية، قد يقال أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) إنّما يريد أن يلتزم بأنّ دليل الأصل يدل بالدلالة الالتزامية على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل؛ لأنّ المفروض في محل كلامنا أنّ الأصل لا يجري في هذا الطرف إلاّ بجعل الآخر بدلا عن الواقع، نحن نريد أن نتعقّل جعل الترخيص في أحد الطرفين عن طريق مسألة جعل البدل، فإذن: لا يجري الأصل في أحد الطرفين، وجريانه في أحد الطرفين موقوف على جعل الآخر بدلاً عن الواقع، عندما يجعل الشارع الآخر بدلاً عن الواقع يكون الترخيص في هذا الطرف معقولاً ومقبولاً، فبهذا الاعتبار يكون دليل الأصل دالاً على جعل البدل بالدلالة الالتزامية، المفاد المطابقي لدليل الأصل هو جعل الأصل، المفاد المطابقي الاستصحاب، أو البراءة، وبالالتزام يدل على جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننّا نعلم أنّ جريان الأصل في هذا الطرف، أو قل بعبارةٍ أخرى: شمول دليل الأصل لهذا الطرف موقوف على جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننا نعلم بذلك؛ حينئذٍ كأن دليل الأصل يكون له مدلول التزامي وهو جعل الآخر بدلاً، قد يكون هذا هو مدّعى المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا أنّه يريد أن يتمسّك بالأصل العملي لإثبات جعل البدل في الطرف الآخر، فأنّ هذا واضح لديه؛ لأنّه أصل مثبت، والأصل المثبت ليس حجّة، وإنّما يريد أن يتمسّك بدليل الأصل الذي هو من نوع الإمارات التي تكون حجّة في مدلولاتها الالتزامية، المفاد المطابقي لدليل الأصل هو الأصل، الاستصحاب، أو البراءة في هذا الطرف، لازم جريان البراءة في هذا الطرف هو جعل الآخر بدلاً؛ لأنّ جريان الأصل في هذا الطرف بحسب الفرض موقوف على جعل الطرف الآخر بدلاً، فيكون دالاً على جعل الطرف الآخر بدلاً بالدلالة الالتزامية ولا مشكلة في أن يدل دليل الأصل بالدلالة الالتزامية على جعل الآخر بدلاً؛ لأنّه حجّة في مداليله الالتزامية. قد يقال أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد أن يثبت هذا المطلب.
لكن هذا المطلب أيضاً لا يخلو من إشكال؛ بل منع؛ وذلك لأنّ مقتضى هذا الكلام أنّ دلالة الدليل على جعل البدل تكون في طول دلالته على جعل الأصل في هذا الطرف؛ لأنّه فُرض دلالة التزامية لدليل الأصل، الدلالة المطابقية لدليل الأصل هو إثبات البراءة في هذا الطرف بمقتضى إطلاقه، في طول هذه الدلالة يدل على جعل الآخر بدلاً، هذا معنى هذا الكلام، هذا الكلام معناه أننا نتمسك بدليل الأصل لإثبات حجّيته في مدلوله الالتزامي الذي هو جعل البدل، يعني له مدلول مطابقي وفي طوله يثبت المدلول الالتزامي. إذن: يكون دلالة الدليل على جعل البدل في طول دلالته على جعل الأصل في هذا الطرف، فتكون مسألة جعل البدل متفرّعة على جعل الأصل العملي في هذا الطرف، بينما هذا خُلف المفروض؛ لأننا نريد أن نستكشف جعل البدل من جريان الأصل في هذا الطرف، يعني نقول لأنّ الأصل جرى في هذا الطرف، فلابدّ أن يكون هناك في مرتبة سابقة بدلاً لا أنّ جعل البدل يكون في مرتبة متأخّرة عن جريان الأصل، وإنّما جريان الأصل يكون موقوفاً على أن يكون الآخر بدلاً عن الواقع، بينما هذا الكلام معناه أنّ الأمر بالعكس، أنّ جعل الآخر بدلاً متفرّع على جعل الأصل في هذا الطرف، ومن هنا لا يكون هذا معقولاً. هذا هو الإشكال الذي أورده المحقق العراقي(قدّس سرّه) على المحقق النائيني(قدّس سرّه).
ويتبيّن من هذا أنّ الصحيح في أصل المطلب هو أنّ العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة له، والصحيح بالنسبة إلى هذا النقض بالنسبة إلى هذين الرأيين إلى هذين العلمين(قدّس سرّهما)، بناءً على المباني العامّة المتفق عليها بينهم، الظاهر أنّ الصحيح هو ما عليه المحقق العراقي(قدّس سرّه)، من أنّ جعل البدل يتوقف على دليلٍ خاص، ولا يكفي فيه مجرّد جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، وإنّما يحتاج إلى دليلٍ خاص، إذا دلّ الدليل الخاص على جعل البدل؛ حينئذٍ يُلتزَم بتحقق الموافقة القطعية التعبّدية بالإتيان بأحد الطرفين، ويُلتزَم بجواز الترخيص في الطرف الآخر، لكن في صورة جعل الآخر بدلاً عن الواقع؛ لأنّ الإتيان بأحد الطرفين المرخّص فيه حينئذٍ تكون موافقة قطعية تعبّدية بالتكليف المعلوم بالإجمال، والعقل من حيث تفريغ الذمّة من التكليف الذي اشتغلت به لا يُفرّق بين الموافقة القطعية الوجدانية وبين الموافقة القطعية التعبدية. هذا بناءً على ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من العلّية التامّة. أمّا بناءً على الاقتضاء فالأمر يكون أوضح، يعني جريان الترخيص في أحد الطرفين مع عدم المعارض بلا حاجة إلى مسألة جعل البدل، وإنّما هذا الكلام يقال بعد افتراض العلّية التامّة.
في ذيل هذا البحث بعد أن التزمنا بما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) من الاقتضاء وعدم العلّية التامّة في محل الكلام؛ حينئذٍ لابدّ من التعرّض إلى نقضين أوردهما المحقق العراقي(قدّس سرّه) على القول بالاقتضاء، أو بعبارةٍ أخرى على عدم القول بالعلّية التامّة، لابدّ من التعرّض إلى هذين النقضين لنرى أنّهما يتمّان، أو لا ؟
النقض الأوّل: نقض عليهم بموارد العلم التفصيلي بالتكليف إذا كان الشكّ في الامتثال، كما لو اشتغلت الذمّة بصلاة الظهر بلا إجمال، لكنّ المكلّف شكّ في امتثال هذه الصلاة في داخل الوقت. المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول بأنّ حكم العقل بالمنجزية وبلزوم الامتثال إذا كان تعليقياً، يعني إذا كان معلّقاً على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع في المخالفة، التعليقية في هذا الكلام تعني إمكان أن يرخّص الشارع في المخالفة، وإذا كان الأمر هكذا كما تقولون، فلابدّ من أن تلتزموا في أنّه يمكن الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالعلم التفصيلي تمسكاً بإطلاق دليل الأصل العملي البراءة وغير البراءة في محل الكلام في مورد الشك في الامتثال؛ إذ أيّ فرقٍ بين الشك في الامتثال وبين الشك في أصل التكليف ؟ بل الشك في الامتثال هو في واقعه شك في التكليف، غاية الأمر شك في التكليف بقاءً لا في التكليف حدوثاً، فهو شك في التكليف، وإذا كان شكاً في التكليف يكون موضوع الأصل العملي محفوظاً، فلماذا لا نتمسّك بإطلاق أدلّة البراءة ونكتفي بالموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالعلم التفصيلي بحسب الفرض ؟ نقول للمكلّف لا يجب عليك الإتيان بالواجب، ونكتفي بالموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالتفصيل بحسب الفرض؛ لأنّ النكتة فيهما واحدة وهي أنّ حكم العقل بمنجّزية التكليف معلّق على عدم ورود الترخيص، الذي يعني ــــــــــــ هذا الكلام كما قلنا ــــــــــــ أنّ الترخيص في المخالفة الاحتمالية ممكن أن يصدر من الشارع، فإذا أثبتنا الإمكان نتمسّك بإطلاق دليل الأصل، وموضوع دليل الأصل هو الشكّ في التكليف، هذا أيضاً شك في التكليف، غاية الأمر أنّه شك في التكليف بقاءً لا حدوثاً، فيكون موضوع الأصل العملي محفوظاً، فنتمسك بإطلاق دليل البراءة ونلتزم بجريان البراءة في هذا الشكّ في الامتثال، فلا يجب عليه الاحتياط، ولا يجب عليه أن يُفرغ ذمته قطعاً من التكليف الذي اشتغلت به؛ بل بإمكانه أن يكتفي باحتمال الموافقة تمسّكاً بهذا الأصل العملي، يقول: أنّ هذا لا يمكن تخريجه إلاّ على أساس أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، ومعناه أننا نمنع من الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فلا يجري الأصل في المقام. أمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا مانع من جريان الأصل؛ لأنّ الاقتضاء يعني إمكان الترخيص، فإذا كان الترخيص ممكناً؛ حينئذٍ يكون التمسك بدليل الأصل العملي أيضاً صحيحاً؛ وبالتالي لا تجري البراءة عند الشك في الامتثال، فيكون هذا نقضاً عليهم؛ لأنّهم اتّفقوا على عدم جريان البراءة عند الشك في الامتثال، مع أنّه يقول لا فرق بين الشكّ في الامتثال، أو الشك في التكليف.
اتضح ممّا تقدّم أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه)القائل بالاقتضاء و المحقق العراقي(قدّس سرّه) القائل بالعلّية، الظاهر من كلماتهما أنّهما يتفقان على كبرى إمكان الترخيص بلسان جعل البدل، أنّه لا إشكال في أنّه يمكن للشارع أن يرخّص في بعض الأطراف بأن يجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، ويكتفي بالامتثال الاحتمالي، وهذا هو الذي سمّاه كلٌ منهما بالموافقة القطعية التعبّدية، وإنّما يختلفان في أنّ جعل البدل هل يكفي فيه جريان الأصل في أحد الطرفين، أو أنّه يحتاج إلى دليلٍ آخر غير مجرّد جريان البراءة والأصل العملي في أحد الطرفين. الظاهر من مجموع كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أنّه يرى أنّه يكفي في جعل البدل جريان الأصل في أحد الطرفين، يكفي هذا المقدار، إذا جرى الأصل العملي في أحد الطرفين بلا معارض، هذا يكفي في جعل البدل، يكفي هذا المقدار في اعتبار الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، بينما الظاهر من المحقق العراقي(قدّس سرّه) أنّ هذا المقدار لا يكفي لجعل البدل؛ بل لابدّ من قيام دليل على الاكتفاء الاحتمالي وجعل الآخر بدلاً عن الواقع من علمٍ، أو إمارة معتبرة، ومجرّد أنّ الأصل يجري في أحد الطرفين هذا لا يمكن أن نستكشف منه أنّ الشارع جعل الآخر بدلاً عن الواقع. يختلفان في هذه النقطة لا في أصل إمكان جعل أحد الطرفين بدلا عن الواقع والترخيص في الطرف الآخر وإنّما الكلام في أنّه كيف نستفيد جعل البدل، هل يكفي فيه مجرّد جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض، أو لا؟ هذا محل الخلاف بينهم، وكما أشرنا أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه)من مجموع كلماته يظهر أنّه يرى أنّ مجرّد جريان البراءة يكفي لجعل البدل ولا يحتاج جعل البدل إلى شيءٍ آخر أزيد من جريان الأصل العملي في أحد الطرفين بلا معارض. نعم، له بعض الكلمات التي قد توهم خلاف هذا، لكن النظر إلى مجموع كلماته يؤدي إلى أنّه يرى أنّ مجرّد جريان البراءة يكفي في مقام جعل البدل، له عبارة يقول فيها:(فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر سواء كان الترخيص واقعياً كما إذا اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف أو ظاهرياً كما إذا كان في بعض الأطراف أصل نافٍ للتكليف غير معارض بمثله).[1] ظاهر هذه العبارة أنّه يكتفي بجريان الأصل النافي في بعض الأطراف بشرط عدم التعارض. ثمّ يقول:(الخروج عن عهدة التكليف كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبّدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الأذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر، ولو بمثل أصالة الإباحة وأصالة البراءة). إذا جرت أصالة البراءة وأصالة الإباحة في هذا الطرف هذا يكفي في اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي الذي سمّاه بالموافقة القطعية التعبّدية التي ترجع إلى مسألة جعل البدل، ثم قال:(بل نفس الأذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهراً). نفس الأذن في ارتكاب بعض الأطراف عن طريق البراءة والإباحة وأمثالها يستلزم بدلية الآخر قهراً، يعني القضية قهرية لا تحتاج إلى شيءٍ آخر. نعم في بدايات كلماته وردت هذه العبارة التي قد يُفهم منها المنافاة:(نعم للشارع الأذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الاخر ولكنّ هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامة المتكفلة لحكم الشبهات من قبيل قوله ــــــــــــ عليه السلام ــــــــــــ " كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام" أو "رفع ما لا يعلمون" ).[2] هذه العبارة تعني أنّ مسألة جعل البدلية تحتاج إلى دليلٍ بالخصوص لا تكفي فيه الأدلّة العامّة، لكن واضح بعد ملاحظة كلماته الأخرى أنّ كلامه هذا محمول على صورة عدم وجود ما يمنع من جريان الأصل في كلا الطرفين، هذه الأصول العامة من قبيل(رُفع ما لا يعلمون ) وأمثاله، لا يوجد ما يمنع من أن تجري في هذا الطرف ولا يوجد ما يمنع من أن تجري في هذا الطرف، في هذه الحالة لا نستطيع أن نستكشف جعل البدل؛ للتعارض الحاصل في دليل الأصل؛ لأنّ شمول دليل الأصل لهذا الطرف يعارضه شموله للطرف الآخر ولا مرجّح ويستحيل جريانهما معاً بحسب الفرض لاستحالة المخالفة القطعية، فتسقط الأصول في الأطراف، فلا يبقى لدينا أصل في هذا الطرف حتّى نستكشف منه جعل البدل؛ ولذا هو ركز في كلماته التي نقلناها عنه على أنّ استكشاف جعل البدل من جريان الأصل في أحد الطرفين مشروط بعدم المعارض، مشروط بأن لا يجري الأصل في الطرف الآخر، إذا لم يجرِ الأصل في هذا الطرف؛ حينئذٍ يكون الترخيص في هذا الطرف مستلزماً لجعل البدل كما في الأمثلة المتقدّمة عندما يكون أحد الطرفين يجري فيه ما يثبت التكليف كما إذا علم بثبوت التكليف في هذا الطرف، أو قامت إمارة على ثبوت التكليف في هذا الطرف، أو جرى الأصل العقلي على ثبوت التكليف في هذا الطرف، أو جرى الأصل الشرعي على ثبوت التكليف في هذا الطرف، في كل هذه الحالات الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض، هنا يقول نكتفي في جعل البدل بجريان الأصل في هذا الطرف، أمّا عبارته هذه، فهي ناظرة إلى العمومات أدلّة الأصول العملية العامّة لا محذور من جريانها في كلا الطرفين، في مثل هذه الحالة يقول: استكشاف البدل لابدّ أن يكون بدليلٍ خاصٍ ولا تكفي فيه الأدلّة العامّة الدالّة على الأصول العملية، فلا منافاة في كلامه، ورأيه هو هذا الذي بيّناه.
هذا الكلام من المحقق النائيني(قدّس سرّه) بهذا الشكل الذي بيّنّاه يبدو أنّه ينافي ما نُقل عنه من أنّه يقول بعدم الاقتضاء في محل كلامنا كما في أجود التقريرات،[3] ظاهر كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) في أجود التقريرات أنّه يقول بعدم الاقتضاء، يعني في الجهة الأولى التي تقدّم الكلام فيها، أصل الاقتضاء غير ثابت للعلم الإجمالي بالنسبة لوجوب الموافقة القطعية؛ ولذا جعل المانع من جريان الأصل في الطرف هو المعارضة، وإلاّ لولا المعارضة لجرى الأصل في أحد الطرفين، هذا معناه أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء لوجوب الموافقة القطعية، هذا الكلام ينافي هذا الكلام الذي يُنسب إليه؛ لأنّه في هذا الكلام بناءً على عدم الاقتضاء؛ حينئذٍ لا نحتاج إلى مسألة جعل البدل لكي يجري الأصل في هذا الطرف، نقول أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين، ليس له معارض، فيجري هذا الأصل في هذا الطرف، لا أن نقول أنّ جريانه في هذا الطرف مع عدم المعارض يتوقّف على مسألة جعل البدل، توقف جريان الأصل في أحد الطرفين مع عدم المعارض على مسألة جعل البدل لا ينسجم إلاّ مع القول بالاقتضاء، وأمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء وأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فالأصل يجري في هذا الطرف بمجرّد أن لا يعارضه أصل في الطرف الآخر فقط، فإذا أحرزنا عدم المعارضة كما في هذه الموارد التي ذكرناها، فالأصل يجري في هذا الطرف بلا حاجة إلى مسألة جعل البدل، لا داعي لجعل البدل. على كل حال، ما هو مقصوده، هذا شيء آخر. هذا بالنسبة إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه).
أمّا المحقق العراقي(قدّس سرّه)، فهو يتّفق معه في أصل المطلب في إمكان جعل أحد الطرفين بدلاً عن الواقع والترخيص في الطرف الآخر، لكن الظاهر منه أنّه لا يرى كفاية مجرّد جريان الأصل في أحد الطرفين لجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، لا يرى كفاية الأصل؛ بل لابدّ من قيام دليل على جعل البدل من علمٍ،[4] أو علمي، علم بجعل البدل، أو تقوم إمارة على جعل البدل، والأصل لا يكفي، وأشكل على المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّه ما معنى ما تقوله من أنّ جريان الأصل في أحد الطرفين يدلّ على جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، كأنّ جريان الأصل في الطرف فيه دلالة على جعل البدل، يقول: لم نفهم معنى هذا، كيف يكون جريان الأصل يدل على جعل الآخر بدلاً عن الواقع، يقول إذا كان المحقق النائيني(قدّس سرّه) يدّعي ذلك بلحاظ نفس الأصل الجاري في هذا الطرف هو كأصل فيه دلالة. ومن الواضح جدّاً أنّه لا يمكن أن يدّعي أنّ الدلالة دلالة مطابقية؛ لأنّ المدلول المطابقي للأصل هو البراءة، الدلالة المطابقية هي التأمين في هذا الطرف وليس مدلوله المطابقي جعل الآخر بدلاً. وأمّا إذا كان يدّعي أنّ الأصل بالدلالة الالتزامية يدلّ على جعل البدل، باعتبار أنّ لازم كون هذا مرخّص فيه وحلال أن يكون الآخر حراماً بضميمة العلم الإجمالي بأنّ أحدهما حرام، فإذا قام الدليل على أنّ هذا حلال، فإذن هو يدلّ بالالتزام على أنّ الآخر حرام، فبالدلالة الالتزامية على أنّ الآخر حرام.
وأجاب عن هذا: بأنّه أصل مثبت ولا يمكن التمسك بالأصل المثبت، لا يمكن أن نتمسّك بالأصل لإثبات مدلوله الالتزامي، هذا إذا فرضنا أنّ الأصل له مدلول التزامي كما إذا فرضنا أنّه أصل تنزيلي وكان مفاده أنّ هذا حلال واقعاً، هنا يوجد مجال لتخيّل أًنّ لازم هذا حرام واقعاً بضميمة العلم الإجمالي بأنّ أحدهما حرام، لازمه أن يكون الآخر حراماً وهذا هو جعل البدل، هذا يرد عليه الإشكال السابق وهو أنّ هذا تمسّك بالأصل المثبت، حتّى لو كان تنزيلياً بالنتيجة هو أصل ليس حجّة في مداليله الالتزامية. أقول: هذا حال الأصل التنزيلي، إذن: ما ظنّك بالأصل العملي البحت الذي ليس له نظر إلى الواقع أصلاً، وإنّما يثبت الترخيص في هذا الطرف فقط، لا يقول أنّ هذا حلال واقعاً، وإنّما يثبت الترخيص في هذا الطرف، أصلاً هذا ليس له مدلول التزامي بهذا المعنى، هذا ليس مدلوله الالتزامي أنّ الاخر هو الحرام، ليس فيه هكذا دلالة التزامية، فإذن: لا يدل على كون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية، وإذا وجدنا أصلاً يدل بالدلالة الالتزامية على أنّ الآخر حرام، فهو اصل مثبت ولا يجوز التمسّك بالأصل المثبت.[5]
قد يكون هناك احتمال آخر وهو أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يريد أن يتمسّك بالأصل حتّى يقال له أنّ الأصل لا يدل على كون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية، وإنّما يريد أن يتمسّك بدليل الأصل وليس بنفس الأصل، أي يتمسّك بدليل الاستصحاب، أو دليل البراءة، يعني يتمسّك بـــــ(رُفع ما لا يعلمون) ومن الواضح أنّ دليل الأصل إمارة وليس أصلاً، ومن هنا تكون الإمارة حجّة في مثبتاتها وفي مداليلها الالتزامية، قد يقال أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) إنّما يريد أن يلتزم بأنّ دليل الأصل يدل بالدلالة الالتزامية على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل؛ لأنّ المفروض في محل كلامنا أنّ الأصل لا يجري في هذا الطرف إلاّ بجعل الآخر بدلا عن الواقع، نحن نريد أن نتعقّل جعل الترخيص في أحد الطرفين عن طريق مسألة جعل البدل، فإذن: لا يجري الأصل في أحد الطرفين، وجريانه في أحد الطرفين موقوف على جعل الآخر بدلاً عن الواقع، عندما يجعل الشارع الآخر بدلاً عن الواقع يكون الترخيص في هذا الطرف معقولاً ومقبولاً، فبهذا الاعتبار يكون دليل الأصل دالاً على جعل البدل بالدلالة الالتزامية، المفاد المطابقي لدليل الأصل هو جعل الأصل، المفاد المطابقي الاستصحاب، أو البراءة، وبالالتزام يدل على جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننّا نعلم أنّ جريان الأصل في هذا الطرف، أو قل بعبارةٍ أخرى: شمول دليل الأصل لهذا الطرف موقوف على جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننا نعلم بذلك؛ حينئذٍ كأن دليل الأصل يكون له مدلول التزامي وهو جعل الآخر بدلاً، قد يكون هذا هو مدّعى المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا أنّه يريد أن يتمسّك بالأصل العملي لإثبات جعل البدل في الطرف الآخر، فأنّ هذا واضح لديه؛ لأنّه أصل مثبت، والأصل المثبت ليس حجّة، وإنّما يريد أن يتمسّك بدليل الأصل الذي هو من نوع الإمارات التي تكون حجّة في مدلولاتها الالتزامية، المفاد المطابقي لدليل الأصل هو الأصل، الاستصحاب، أو البراءة في هذا الطرف، لازم جريان البراءة في هذا الطرف هو جعل الآخر بدلاً؛ لأنّ جريان الأصل في هذا الطرف بحسب الفرض موقوف على جعل الطرف الآخر بدلاً، فيكون دالاً على جعل الطرف الآخر بدلاً بالدلالة الالتزامية ولا مشكلة في أن يدل دليل الأصل بالدلالة الالتزامية على جعل الآخر بدلاً؛ لأنّه حجّة في مداليله الالتزامية. قد يقال أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد أن يثبت هذا المطلب.
لكن هذا المطلب أيضاً لا يخلو من إشكال؛ بل منع؛ وذلك لأنّ مقتضى هذا الكلام أنّ دلالة الدليل على جعل البدل تكون في طول دلالته على جعل الأصل في هذا الطرف؛ لأنّه فُرض دلالة التزامية لدليل الأصل، الدلالة المطابقية لدليل الأصل هو إثبات البراءة في هذا الطرف بمقتضى إطلاقه، في طول هذه الدلالة يدل على جعل الآخر بدلاً، هذا معنى هذا الكلام، هذا الكلام معناه أننا نتمسك بدليل الأصل لإثبات حجّيته في مدلوله الالتزامي الذي هو جعل البدل، يعني له مدلول مطابقي وفي طوله يثبت المدلول الالتزامي. إذن: يكون دلالة الدليل على جعل البدل في طول دلالته على جعل الأصل في هذا الطرف، فتكون مسألة جعل البدل متفرّعة على جعل الأصل العملي في هذا الطرف، بينما هذا خُلف المفروض؛ لأننا نريد أن نستكشف جعل البدل من جريان الأصل في هذا الطرف، يعني نقول لأنّ الأصل جرى في هذا الطرف، فلابدّ أن يكون هناك في مرتبة سابقة بدلاً لا أنّ جعل البدل يكون في مرتبة متأخّرة عن جريان الأصل، وإنّما جريان الأصل يكون موقوفاً على أن يكون الآخر بدلاً عن الواقع، بينما هذا الكلام معناه أنّ الأمر بالعكس، أنّ جعل الآخر بدلاً متفرّع على جعل الأصل في هذا الطرف، ومن هنا لا يكون هذا معقولاً. هذا هو الإشكال الذي أورده المحقق العراقي(قدّس سرّه) على المحقق النائيني(قدّس سرّه).
ويتبيّن من هذا أنّ الصحيح في أصل المطلب هو أنّ العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة له، والصحيح بالنسبة إلى هذا النقض بالنسبة إلى هذين الرأيين إلى هذين العلمين(قدّس سرّهما)، بناءً على المباني العامّة المتفق عليها بينهم، الظاهر أنّ الصحيح هو ما عليه المحقق العراقي(قدّس سرّه)، من أنّ جعل البدل يتوقف على دليلٍ خاص، ولا يكفي فيه مجرّد جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، وإنّما يحتاج إلى دليلٍ خاص، إذا دلّ الدليل الخاص على جعل البدل؛ حينئذٍ يُلتزَم بتحقق الموافقة القطعية التعبّدية بالإتيان بأحد الطرفين، ويُلتزَم بجواز الترخيص في الطرف الآخر، لكن في صورة جعل الآخر بدلاً عن الواقع؛ لأنّ الإتيان بأحد الطرفين المرخّص فيه حينئذٍ تكون موافقة قطعية تعبّدية بالتكليف المعلوم بالإجمال، والعقل من حيث تفريغ الذمّة من التكليف الذي اشتغلت به لا يُفرّق بين الموافقة القطعية الوجدانية وبين الموافقة القطعية التعبدية. هذا بناءً على ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من العلّية التامّة. أمّا بناءً على الاقتضاء فالأمر يكون أوضح، يعني جريان الترخيص في أحد الطرفين مع عدم المعارض بلا حاجة إلى مسألة جعل البدل، وإنّما هذا الكلام يقال بعد افتراض العلّية التامّة.
في ذيل هذا البحث بعد أن التزمنا بما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) من الاقتضاء وعدم العلّية التامّة في محل الكلام؛ حينئذٍ لابدّ من التعرّض إلى نقضين أوردهما المحقق العراقي(قدّس سرّه) على القول بالاقتضاء، أو بعبارةٍ أخرى على عدم القول بالعلّية التامّة، لابدّ من التعرّض إلى هذين النقضين لنرى أنّهما يتمّان، أو لا ؟
النقض الأوّل: نقض عليهم بموارد العلم التفصيلي بالتكليف إذا كان الشكّ في الامتثال، كما لو اشتغلت الذمّة بصلاة الظهر بلا إجمال، لكنّ المكلّف شكّ في امتثال هذه الصلاة في داخل الوقت. المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول بأنّ حكم العقل بالمنجزية وبلزوم الامتثال إذا كان تعليقياً، يعني إذا كان معلّقاً على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع في المخالفة، التعليقية في هذا الكلام تعني إمكان أن يرخّص الشارع في المخالفة، وإذا كان الأمر هكذا كما تقولون، فلابدّ من أن تلتزموا في أنّه يمكن الترخيص في المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالعلم التفصيلي تمسكاً بإطلاق دليل الأصل العملي البراءة وغير البراءة في محل الكلام في مورد الشك في الامتثال؛ إذ أيّ فرقٍ بين الشك في الامتثال وبين الشك في أصل التكليف ؟ بل الشك في الامتثال هو في واقعه شك في التكليف، غاية الأمر شك في التكليف بقاءً لا في التكليف حدوثاً، فهو شك في التكليف، وإذا كان شكاً في التكليف يكون موضوع الأصل العملي محفوظاً، فلماذا لا نتمسّك بإطلاق أدلّة البراءة ونكتفي بالموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالعلم التفصيلي بحسب الفرض ؟ نقول للمكلّف لا يجب عليك الإتيان بالواجب، ونكتفي بالموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالتفصيل بحسب الفرض؛ لأنّ النكتة فيهما واحدة وهي أنّ حكم العقل بمنجّزية التكليف معلّق على عدم ورود الترخيص، الذي يعني ــــــــــــ هذا الكلام كما قلنا ــــــــــــ أنّ الترخيص في المخالفة الاحتمالية ممكن أن يصدر من الشارع، فإذا أثبتنا الإمكان نتمسّك بإطلاق دليل الأصل، وموضوع دليل الأصل هو الشكّ في التكليف، هذا أيضاً شك في التكليف، غاية الأمر أنّه شك في التكليف بقاءً لا حدوثاً، فيكون موضوع الأصل العملي محفوظاً، فنتمسك بإطلاق دليل البراءة ونلتزم بجريان البراءة في هذا الشكّ في الامتثال، فلا يجب عليه الاحتياط، ولا يجب عليه أن يُفرغ ذمته قطعاً من التكليف الذي اشتغلت به؛ بل بإمكانه أن يكتفي باحتمال الموافقة تمسّكاً بهذا الأصل العملي، يقول: أنّ هذا لا يمكن تخريجه إلاّ على أساس أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، ومعناه أننا نمنع من الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فلا يجري الأصل في المقام. أمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا مانع من جريان الأصل؛ لأنّ الاقتضاء يعني إمكان الترخيص، فإذا كان الترخيص ممكناً؛ حينئذٍ يكون التمسك بدليل الأصل العملي أيضاً صحيحاً؛ وبالتالي لا تجري البراءة عند الشك في الامتثال، فيكون هذا نقضاً عليهم؛ لأنّهم اتّفقوا على عدم جريان البراءة عند الشك في الامتثال، مع أنّه يقول لا فرق بين الشكّ في الامتثال، أو الشك في التكليف.