35/04/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
في مقام التعليق على الوجه الأخير، قلنا أنّه اعترض على هذا الوجه بأنّ التفسير الذي ذكره لأسم الموصول، وقال أنّ أسم الموصول إمّا أن يُراد به عنوان التكليف، أو يُراد به واقع التكليف، هو استظهر أنّ المراد به واقع التكليف، بمعنى أنّ البراءة موردها هو التكليف الثابت واقعاً إذا شُكّ به؛ ولذا قال أنّ واقع التكليف واحد غير متعدد، فالرفع رفع واحد لا رفعان.
قلنا بأنّه اعتُرض على هذا بأنّ هذا التفسير لأسم الموصول لا يناسب ما تقدّم من أنّ الرفع في الحديث رفع ظاهري، في الدرس السابق قلنا بأنّ هذا الكلام غير واضح؛ لأنّه لماذا لا يناسب الرفع الظاهري ؟ واقع التكليف يمكن رفعه رفعاً ظاهرياً، لكن الظاهر بعد المراجعة تبيّن أنّ هناك نكتة قيل فيها هذا الكلام، أو كان الكلام ناظراً إليها، وهذه النكتة هي أنّ السيد الشهيد(قدّس سرّه) صاحب هذا الوجه في حديث الرفع استظهر أنّ الرفع رفع ظاهري وذكر قرينتين على ذلك،[1] القرينة الثانية كانت هي أنّ ظاهر الحديث هو أنّ المرفوع لولا هذا الحديث لكان موضوعاً على الأمّة، الحديث يرفع ما لولاه لكان ثابتاً وموضوعاً على الأمّة. يقول هذا المعنى لا يناسب إلاّ الرفع الظاهري؛ لأنّه في الرفع الظاهري يمكن أن يقال لولا الرفع الظاهري لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة، لكان وجوب الاحتياط ثابتاً على الأمّة، لكنّ حديث الرفع رفع هذا الذي لولاه لكان ثابتاً على الأمّة، فيناسب الرفع الظاهري، وأمّا إذا فسّرنا الرفع بالرفع الواقعي؛ حينئذٍ هذا الظاهر لا ينسجم معه؛ لأنّه بناءً على الرفع الواقعي لا يمكننا أن نقول أنّه لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة، ما يدرينا أنّه كان ثابتاً على الأمّة ؟لعلّه ليس ثابتاً أصلاً، فرضاً أنّ المكلّف شك في التكليف الواقعي، حديث الرفع يرفع التكليف واقعاً، لا نستطيع أن نقول لولا الرفع لكان التكليف الواقعي ثابتاً وموضوعاً على الأمّة؛ لأننّا نحتمل عدم وجود تكليفٍ في الواقع، بناءً على هذه القرينة استظهار أنّ رفع الحديث هو رفع ظاهري موقوف على افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، عندما يكون المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف الدائر بين الوجوب والتحريم كما في محل الكلام، هذا الكلام يكون تامّاً، واستظهار الرفع الظاهري يكون في محلّه؛ لأنّنا نتحدّث عن رفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً في الواقع، أو لم يكن ثابتاً، هذا معنى أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، الرفع يرفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً في الواقع، أو لم يكن ثابتاً، هنا إذا كان الرفع واقعياً لا نستطيع أنْ نقول لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً وموضوعاً على الأمّة، لعلّه ليس له ثبوت في الواقع أصلاً، حديث الرفع يرفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً، أو لم يكن ثابتاً، إذن: هذه النكتة لا تأتي، فيصح أنْ يقال حينئذٍ أنّ هذا الاستظهار من الحديث يناسب الرفع الظاهري، ولا يناسب الرفع الواقعي، بناءً على أنّ المراد باسم الموصول عنوان التكليف؛ لأنّه بناء على ذلك لا يمكن أن نقول أنّه لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة؛ إذ لعلّه لا يوجد هناك تكليف أصلاً في الواقع، وأمّا إذا قلنا أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف الذي هو واحد وغير متعدد؛ حينئذٍ بإمكاننا أن نجعل هذه القرينة لا تكون قرينة على الرفع الظاهري، هذه القرينة كما تنسجم مع الرفع الظاهري هي تنسجم مع الرفع الواقعي أيضاً، إذا قلنا بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف؛ لأنّه بإمكاننا؛ حينئذٍ أن نقول لولا حديث الرفع، بناءً على الرفع الواقعي، لكان الموضوع ثابتاً على الأمّة، لوكان المراد باسم الموصول هو واقع التكليف، يعني التكليف الثابت في الواقع إذا شكّ به المكلّف يُرفع، هذا إذا كان رفعه رفعاً ظاهرياً يصحّ أنْ يقال لولا الرفع لكان ثابتاً على الأمّة، أو كان رفعه رفعاً واقعياً أيضاً يصح أنْ يقال: لولا حديث الرفع لكان ذلك ثابتاً على الأمّة، فإذن: هذا الظهور للحديث لا يكون قرينةً لترجيح الرفع الظاهري على الرفع الواقعي، فاستظهار الرفع الظاهري يكون مبنياً على افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف حتّى يقال أنّ هذا الظاهر للحديث ينسجم مع الرفع الظاهري ولا ينسجم مع الرفع الواقعي، ومن هنا نصير إلى الرفع الظاهري ونشخّص أنّ الرفع الظاهري هو المراد، ومن هنا اعتُرض عليه هنا بأنّ تفسير اسم الموصول بواقع الحكم لا ينسجم مع استظهار الرفع الظاهري من الحديث بناءً على أنّ الحديث ظاهر في أنّه يرفع ما لولاه لكان موضوعاً على الأمّة، هذا مبني على أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، ومن هنا يكون هذا الكلام وجيهاً.
الذي يمكن أن يلاحظ على الوجه الأخير: أنّه بناءً على تمامية هذا التفسير وأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف الذي هو أمر واحد وليس متعددّاً، وهناك رفع واحد لا رفعان، وهذا الرفع الواحد لا يمكن أن يُستفاد من حديث الرفع من أدلّة البراءة؛ لأنّ الرفع إنّما يكون ثابتاً عندما يكون الوضع ممكناً، وحيث أنّ الوضع في المقام عندما يكون الرفع واحداً ليس ممكناً؛ لما تقدّم من أنّ الموافقة القطعية أمر مستحيل، والموافقة الاحتمالية أمر ضروري، فالوضع الظاهري للتكليف الواقعي الذي هو أمر واحد غير ممكن، فالرفع أيضاً لا يستفاد من الحديث.
أقول: حتّى لو سلّمنا هذا التفسير وقلنا بأنّ واقع التكليف واحد وغير متعدد، لكنّه في واقعه هو مرددّ بين أمرين، هذا واقع التكليف الذي هو أمر واحد وغير متعدد هو مرددّ بين عنوانين، بين أن يكون وجوباً وبين أن يكون تحريماً، والمفروض في محل الكلام أننّا نجهل كلاً منهما، يعني لا نعلم أنّ واقع التكليف هو الوجوب، كما لا نعلم أنّ واقع التكليف هو التحريم، هذا أمر مجهول لدينا؛ فحينئذٍ أي ضير في أن نجري البراءة بلحاظ كل منهما، ونحتاج إلى الرفع بلحاظ كل منهما، وإن كان الحكم في الواقع أمراً واحداً، لكن هذا الحكم الواحد حيث أنه مردد بين أن يكون وجوباً وبين أن يكون تحريماً وكونه وجوباً أمر مشكوك وغير معلوم، وكونه تحريماً أيضاً أمر مشكوك وغير معلوم، أي َضير في أن تجري البراءة ويجري الرفع بالنسبة إلى واقع التكليف لكن بعنوانه وجوباً ؟ ويجري أيضاً في واقع التكليف بعنوان كونه تحريماً ؟ حتّى لو قلنا أنّ واقع الحكم واحد، وأنّ المراد باسم الموصول واقع الحكم، وواقع الحكم واحد وغير متعدد، لكنه واقع مرددّ بين أمرين، وكل منهما مجهول، بمعنى أنّ كون واقع الحكم هو الوجوب أمر مجهول عندنا، موضوع البراءة متحقق فيه، فتجري البراءة من جهته، يعني تجري البراءة في واقع التكليف، لكن بعنوان كونه وجوباً، وهذا مجهول، كما تجري البراءة في واقع التكليف بعنوان كونه تحريماً، فيكون هناك تعددّ في الرفع، والمفروض أنّ الوضع ممكن في كل واحداً منهما بحدّه، كل منهما ممكن، وضع وجوب الاحتياط على تقدير أن يكون واقع التكليف هو الوجوب أمر ممكن، فرفعه وجريان البراءة فيه أمر ممكن أيضاً، وهكذا الحال بالنسبة إلى الطرف الآخر، فيجري فيه الكلام المتقدّم.
هذا مضافاً إلى أنّ أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التكليف ليس واضحاً، وخصوصاً أنّه هو(قدّس سرّه) في ذلك المقام استظهر العكس، يعني استظهر بأنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، واستدلّ عليه بأنّ عنوان ما لا يعلمون الوارد في الحديث يصدق على عنوان التكليف، فأنه غير معلوم، سواء كان هناك تكليف في الواقع، أو لم يكن هناك تكليف في الواقع، عنوان التكليف، يعني الوجوب والتحريم هو أمر غير معلوم، فيصدق عليه ما لا يعلمون، رفع ما لا يعلمون، أي ما لا تعلم به وما تجهله، هذا يصدق على عنوان التكليف، فلماذا نقول بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف ؟ فليكن المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف، باعتبار أنّ عنوان(ما لا تعلم به) يصدق على كل واحد منهما، فهذا عنوان لا أعلم به، فتجري فيه البراءة، وهذا عنوان أيضاً لا أعلم به، فتجري فيه البراءة أيضاً، ومن هنا يكون هناك منافاة بين كلامه المتقدّم وبين ما استظهره هنا، هنا استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف، وبنا هذا الوجه السابع على هذا الاستظهار، بينما هناك استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف، سواء كان هناك تكليف في الواقع أو لم يكن هناك تكليف في الواقع، أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التكليف هذا قد يشكك فيه من هذه الجهة.
من هنا يتبيّن لحد الآن أنّه لم يثبت أنّ هناك مانعاً ثبوتياً ولا مانعاً إثباتياً يمنع من جريان البراءة الشرعية في محل الكلام كما يقول السيد الخوئي(قدّس سرّه).
الوجه الثامن: لكن بالرغم من ذلك يمكن أن يُذكر وجه ذكره بعض المحققين لمنع جريان البراءة في محل الكلام غير ما تقدّم، وذلك بأنْ يقال: وإن امكن تصوير جريان البراءة في المقام بالنحو المتقدّم بأنْ تجري البراءة في كل واحدٍ من الطرفين بخصوصه، باعتبار تحقق الجهل وعدم العلم الذي هو موضوع البراءة ـــــــــــ ومن هنا يظهر أنّ هذا الوجه أيضاً هو وجه إثباتي، وليس ثبوتياً ـــــــــــ لكن الظاهر من أدلة البراءة الشرعية جعل التأمين، أي جعل ما يكون مؤمّناً من ناحية التكليف المحتمل، بمعنى أنّ التكليف بالرغم من كونه محتملاً وغير معلوم، لكنّه على تقدير اهتمام الشارع به يقتضي من المكلّف التحرّك نحو امتثاله، الشارع يجعل البراءة عند الشكّ في هذا التكليف لغرض التأمين من ناحية ذلك التكليف المشكوك، وأنّ ترك التحرّك نحو امتثاله ليس فيه محذور، فيجعل البراءة، مع عدم جعل البراءة هذا التكليف المشكوك يقتضي تحرّكاً من قبل المكلّف، الغرض من أدلّة البراءة هو التأمين من ناحية ذلك التكليف، وأنّ ترك التحرّك نحو امتثال ليس فيه محذور ولا يترتب عليه شيء من قبل نفس المولى، يؤمّن من ناحية ذلك التكليف، هذا مفاد أدلّة البراءة، التأمين من ناحية التكليف المشكوك، وأنّ المكلّف إذا ترك التحرّك والعمل بالتكليف المشكوك لا شيء عليه، هو مأمون من ناحيته، لا يؤاخذه المولى بترك التحرّك تجاه ذلك التكليف حتّى لو كان ثابتاً في الواقع. هذا المفاد لأدلة البراءة يستلزم أن يكون التكليف المحتمل ممّا له اقتضاء التحريك وممّا له داعوية ومحرّكية نحو الفعل، أو نحو الترك على اختلاف التكليف الذي يكون محتملاً حتّى تجري أدلّة البراءة، فيقال: هذا التكليف له داعوية وله محرّكية، أدلّة البراءة تأتي للتأمين من ناحيته، وأنّ ترك التحرّك ليس فيه شيء، لكن أدلّة البراءة إنّما تؤمّن من ناحية التكليف عندما يكون التكليف في حدّ نفسه له داعوية، وله محرّكية نحو الامتثال، هذا أمر متحقق في الشبهات الوجوبية ومتحقق في الشبهات التحريمية، التكليف له اقتضاء التحريك وله اقتضاء الداعوية، وأمّا في محل الكلام فأنّ التكليف المحتمل ليس له هذا الاقتضاء؛ ولذا لا تشمله أدلّة البراءة؛ لأنّ التكليف المحتمل في المقام، وإن كان لو لاحظناه وحده له اقتضاء التحرّك وله تلك الداعوية، لكنّه لمّا كان التكليف المحتمل في المقام الذي يُراد تطبيق البراءة فيه، لمّا كان مقترناً دائماً في محل الكلام باحتمال نقيضه، نحن نريد أن نجري البراءة في الوجوب المحتمل، ونجريه في التحريم المحتمل، هذا هو الغرض من إجراء البراءة في المقام، هكذا صوّرنا جريان البراءة في دوران الأمر بين المحذورين، احتمال الوجوب، صحيح هو في حدّ نفسه له اقتضاء التحريك، لكن لمّا كان مقرناً باحتمال التحريم دائماً في محل كلامنا، مع تساوي هذين الاحتمالين كما هو المفروض، يعني عدم وجود مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر، احتمال الوجوب مع وجود مقارنٍ له وهو احتمال التحريم بحيث أنّ المكلّف كما يحتمل الوجوب في نفس الوقت يحتمل التحريم احتمالاً مساوياً بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، مثل هذا التكليف المحتمل ليس له داعوية وليس له محرّكية، هذا لا يقتضي التحرّك من المكلّف.
وبعبارةٍ أخرى: هو لا يؤثر في نفس المكلّف شيئاً، ليس له اقتضاء التحريك وليس له اقتضاء المحرّكية؛ لأنّه احتمال الوجوب المقترن باحتمال الحرمة، احتمال لزوم الفعل مقترن باحتمال لزوم ترك الفعل، مثل احتمال الوجوب هذا ليس له اقتضاء الداعوية، وليس له اقتضاء المحرّكية، فلا تشمله أدلّة البراءة، ونفس الكلام يقال في احتمال التحريم، أيضاً هذا احتمال هو مقترن دائماً باحتمال الوجوب، مثل هذا الاحتمال المقترن باحتمال الوجوب مع فرض التساوي بين الاحتمالين لا يكون له اقتضاء التحريك، فإذا قلنا فرغنا عن أنّ أدلّة البراءة لا تشمل إلاّ التكليف المحتمل الذي له اقتضاء التحريك واقتضاء المحرّكية حتّى تؤمّن المكلّف من ناحيته، هذا المكلّف الذي يقع في حيرة واضطراب من ناحية التكليف المحتمل تأتي أدلّة البراءة فتؤمّنه وترفع عنه الحيرة وترفع عنه الاضطراب، هذا هو مورد جريان البراءة، وأمّا حيث لا يكون التكليف المحتمل قد خلق في نفس المكلّف حيرة ولا ترددّ ولا اضطراب؛ لأنّ احتمال التكليف هذا مقترن باحتمال نقيضه، باحتمال التكليف بالعدم، وباحتمال التحريم، مثل هذا لا يكون موجباً للتحرّك من قبل المولى، يعني لا يخلق حالة اضطراب وتردد وحيرة عند المكلّف حتّى يحتاج إلى جعل التأمين، ومن هنا يكون هناك قصور في أدلّة البراءة عن الشمول لمثل محل الكلام.
وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ احتمال الوجوب عندما يقترن باحتمال الإباحة يكون مورداً للبراءة؛ لأنّ احتمال الوجوب هذا يكون فيه مقتضٍ للتحرّك وفيه محرّكية وداعوية تجعل المكلّف في حيرةٍ من أمره لا يعلم ماذا يصنع، هو يحتمل الوجوب، لكن في مقابله احتمال الإباحة، فيقع في حيرة واضطراب، أدلّة البراءة تؤمّنه من ناحية ذلك التكليف. أمّا إذا كان التكليف ليس له اقتضاء التحرّك، كما إذا كان احتمال الوجوب مقترناً باحتمال التحريم، مثل هذا ليس فيه اقتضاء التحرّك، فلا تشمله أدلّة البراءة. هذا مانع إثباتي آخر غير ما تقدّم يمكن أنْ يكون مانعاً من إجراء البراءة في محل الكلام.
هذا تمام الكلام عن جريان البراءة الشرعية في موارد دوران الأمر بين المحذورين، لكن قلنا أنّ القول الأوّل الذي أختاره السيد الخوئي(قدّس سرّه) هو يلتزم بجريان كلتا البراءتين، البراءة الشرعية في محل الكلام، والبراءة العقلية أيضاً يقول لا مانع من جريانها في محل الكلام، ومن هنا بعد الفراغ عن البراءة الشرعية، وأنّها تجري في محل الكلام، أو لا تجري ننتقل إلى الكلام عن البراءة العقلية، أنّها تجري في محل الكلام، أو لا تجري ؟
الشيخ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) استشكل في جريان البراءة العقلية في محل الكلام،[2] وإشكاله يرجع إلى أنّ البراءة العقلية مشروطة بعدم البيان، موضوعها عدم البيان، وهذا الموضوع غير متحقق في محل الكلام لتمامية البيان في محل الكلام؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعلم بالإلزام، لكن غاية الكلام أنّ هذا الإلزام مردد بين الوجوب وبين التحريم، فيقول أنّ البيان تام ولا قصور فيه، فإذا كان البيان تامّاً ولا قصور فيه؛ فحينئذٍ لا تجري البراءة العقلية؛ لأنّ موضوعها عدم البيان، بخلاف الشبهات التحريمية والوجوبية في غير محل الكلام، هناك أصلاً لم يتم البيان على التكليف، لا بعلم تفصيلي، ولا بعلم إجمالي؛ فلذا منع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام.
في مقام التعليق على الوجه الأخير، قلنا أنّه اعترض على هذا الوجه بأنّ التفسير الذي ذكره لأسم الموصول، وقال أنّ أسم الموصول إمّا أن يُراد به عنوان التكليف، أو يُراد به واقع التكليف، هو استظهر أنّ المراد به واقع التكليف، بمعنى أنّ البراءة موردها هو التكليف الثابت واقعاً إذا شُكّ به؛ ولذا قال أنّ واقع التكليف واحد غير متعدد، فالرفع رفع واحد لا رفعان.
قلنا بأنّه اعتُرض على هذا بأنّ هذا التفسير لأسم الموصول لا يناسب ما تقدّم من أنّ الرفع في الحديث رفع ظاهري، في الدرس السابق قلنا بأنّ هذا الكلام غير واضح؛ لأنّه لماذا لا يناسب الرفع الظاهري ؟ واقع التكليف يمكن رفعه رفعاً ظاهرياً، لكن الظاهر بعد المراجعة تبيّن أنّ هناك نكتة قيل فيها هذا الكلام، أو كان الكلام ناظراً إليها، وهذه النكتة هي أنّ السيد الشهيد(قدّس سرّه) صاحب هذا الوجه في حديث الرفع استظهر أنّ الرفع رفع ظاهري وذكر قرينتين على ذلك،[1] القرينة الثانية كانت هي أنّ ظاهر الحديث هو أنّ المرفوع لولا هذا الحديث لكان موضوعاً على الأمّة، الحديث يرفع ما لولاه لكان ثابتاً وموضوعاً على الأمّة. يقول هذا المعنى لا يناسب إلاّ الرفع الظاهري؛ لأنّه في الرفع الظاهري يمكن أن يقال لولا الرفع الظاهري لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة، لكان وجوب الاحتياط ثابتاً على الأمّة، لكنّ حديث الرفع رفع هذا الذي لولاه لكان ثابتاً على الأمّة، فيناسب الرفع الظاهري، وأمّا إذا فسّرنا الرفع بالرفع الواقعي؛ حينئذٍ هذا الظاهر لا ينسجم معه؛ لأنّه بناءً على الرفع الواقعي لا يمكننا أن نقول أنّه لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة، ما يدرينا أنّه كان ثابتاً على الأمّة ؟لعلّه ليس ثابتاً أصلاً، فرضاً أنّ المكلّف شك في التكليف الواقعي، حديث الرفع يرفع التكليف واقعاً، لا نستطيع أن نقول لولا الرفع لكان التكليف الواقعي ثابتاً وموضوعاً على الأمّة؛ لأننّا نحتمل عدم وجود تكليفٍ في الواقع، بناءً على هذه القرينة استظهار أنّ رفع الحديث هو رفع ظاهري موقوف على افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، عندما يكون المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف الدائر بين الوجوب والتحريم كما في محل الكلام، هذا الكلام يكون تامّاً، واستظهار الرفع الظاهري يكون في محلّه؛ لأنّنا نتحدّث عن رفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً في الواقع، أو لم يكن ثابتاً، هذا معنى أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، الرفع يرفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً في الواقع، أو لم يكن ثابتاً، هنا إذا كان الرفع واقعياً لا نستطيع أنْ نقول لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً وموضوعاً على الأمّة، لعلّه ليس له ثبوت في الواقع أصلاً، حديث الرفع يرفع التكليف المشكوك سواء كان ثابتاً، أو لم يكن ثابتاً، إذن: هذه النكتة لا تأتي، فيصح أنْ يقال حينئذٍ أنّ هذا الاستظهار من الحديث يناسب الرفع الظاهري، ولا يناسب الرفع الواقعي، بناءً على أنّ المراد باسم الموصول عنوان التكليف؛ لأنّه بناء على ذلك لا يمكن أن نقول أنّه لولا حديث الرفع لكان المرفوع ثابتاً على الأمّة؛ إذ لعلّه لا يوجد هناك تكليف أصلاً في الواقع، وأمّا إذا قلنا أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف الذي هو واحد وغير متعدد؛ حينئذٍ بإمكاننا أن نجعل هذه القرينة لا تكون قرينة على الرفع الظاهري، هذه القرينة كما تنسجم مع الرفع الظاهري هي تنسجم مع الرفع الواقعي أيضاً، إذا قلنا بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف؛ لأنّه بإمكاننا؛ حينئذٍ أن نقول لولا حديث الرفع، بناءً على الرفع الواقعي، لكان الموضوع ثابتاً على الأمّة، لوكان المراد باسم الموصول هو واقع التكليف، يعني التكليف الثابت في الواقع إذا شكّ به المكلّف يُرفع، هذا إذا كان رفعه رفعاً ظاهرياً يصحّ أنْ يقال لولا الرفع لكان ثابتاً على الأمّة، أو كان رفعه رفعاً واقعياً أيضاً يصح أنْ يقال: لولا حديث الرفع لكان ذلك ثابتاً على الأمّة، فإذن: هذا الظهور للحديث لا يكون قرينةً لترجيح الرفع الظاهري على الرفع الواقعي، فاستظهار الرفع الظاهري يكون مبنياً على افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف حتّى يقال أنّ هذا الظاهر للحديث ينسجم مع الرفع الظاهري ولا ينسجم مع الرفع الواقعي، ومن هنا نصير إلى الرفع الظاهري ونشخّص أنّ الرفع الظاهري هو المراد، ومن هنا اعتُرض عليه هنا بأنّ تفسير اسم الموصول بواقع الحكم لا ينسجم مع استظهار الرفع الظاهري من الحديث بناءً على أنّ الحديث ظاهر في أنّه يرفع ما لولاه لكان موضوعاً على الأمّة، هذا مبني على أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، ومن هنا يكون هذا الكلام وجيهاً.
الذي يمكن أن يلاحظ على الوجه الأخير: أنّه بناءً على تمامية هذا التفسير وأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف الذي هو أمر واحد وليس متعددّاً، وهناك رفع واحد لا رفعان، وهذا الرفع الواحد لا يمكن أن يُستفاد من حديث الرفع من أدلّة البراءة؛ لأنّ الرفع إنّما يكون ثابتاً عندما يكون الوضع ممكناً، وحيث أنّ الوضع في المقام عندما يكون الرفع واحداً ليس ممكناً؛ لما تقدّم من أنّ الموافقة القطعية أمر مستحيل، والموافقة الاحتمالية أمر ضروري، فالوضع الظاهري للتكليف الواقعي الذي هو أمر واحد غير ممكن، فالرفع أيضاً لا يستفاد من الحديث.
أقول: حتّى لو سلّمنا هذا التفسير وقلنا بأنّ واقع التكليف واحد وغير متعدد، لكنّه في واقعه هو مرددّ بين أمرين، هذا واقع التكليف الذي هو أمر واحد وغير متعدد هو مرددّ بين عنوانين، بين أن يكون وجوباً وبين أن يكون تحريماً، والمفروض في محل الكلام أننّا نجهل كلاً منهما، يعني لا نعلم أنّ واقع التكليف هو الوجوب، كما لا نعلم أنّ واقع التكليف هو التحريم، هذا أمر مجهول لدينا؛ فحينئذٍ أي ضير في أن نجري البراءة بلحاظ كل منهما، ونحتاج إلى الرفع بلحاظ كل منهما، وإن كان الحكم في الواقع أمراً واحداً، لكن هذا الحكم الواحد حيث أنه مردد بين أن يكون وجوباً وبين أن يكون تحريماً وكونه وجوباً أمر مشكوك وغير معلوم، وكونه تحريماً أيضاً أمر مشكوك وغير معلوم، أي َضير في أن تجري البراءة ويجري الرفع بالنسبة إلى واقع التكليف لكن بعنوانه وجوباً ؟ ويجري أيضاً في واقع التكليف بعنوان كونه تحريماً ؟ حتّى لو قلنا أنّ واقع الحكم واحد، وأنّ المراد باسم الموصول واقع الحكم، وواقع الحكم واحد وغير متعدد، لكنه واقع مرددّ بين أمرين، وكل منهما مجهول، بمعنى أنّ كون واقع الحكم هو الوجوب أمر مجهول عندنا، موضوع البراءة متحقق فيه، فتجري البراءة من جهته، يعني تجري البراءة في واقع التكليف، لكن بعنوان كونه وجوباً، وهذا مجهول، كما تجري البراءة في واقع التكليف بعنوان كونه تحريماً، فيكون هناك تعددّ في الرفع، والمفروض أنّ الوضع ممكن في كل واحداً منهما بحدّه، كل منهما ممكن، وضع وجوب الاحتياط على تقدير أن يكون واقع التكليف هو الوجوب أمر ممكن، فرفعه وجريان البراءة فيه أمر ممكن أيضاً، وهكذا الحال بالنسبة إلى الطرف الآخر، فيجري فيه الكلام المتقدّم.
هذا مضافاً إلى أنّ أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التكليف ليس واضحاً، وخصوصاً أنّه هو(قدّس سرّه) في ذلك المقام استظهر العكس، يعني استظهر بأنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف لا واقع التكليف، واستدلّ عليه بأنّ عنوان ما لا يعلمون الوارد في الحديث يصدق على عنوان التكليف، فأنه غير معلوم، سواء كان هناك تكليف في الواقع، أو لم يكن هناك تكليف في الواقع، عنوان التكليف، يعني الوجوب والتحريم هو أمر غير معلوم، فيصدق عليه ما لا يعلمون، رفع ما لا يعلمون، أي ما لا تعلم به وما تجهله، هذا يصدق على عنوان التكليف، فلماذا نقول بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف ؟ فليكن المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف، باعتبار أنّ عنوان(ما لا تعلم به) يصدق على كل واحد منهما، فهذا عنوان لا أعلم به، فتجري فيه البراءة، وهذا عنوان أيضاً لا أعلم به، فتجري فيه البراءة أيضاً، ومن هنا يكون هناك منافاة بين كلامه المتقدّم وبين ما استظهره هنا، هنا استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التكليف، وبنا هذا الوجه السابع على هذا الاستظهار، بينما هناك استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التكليف، سواء كان هناك تكليف في الواقع أو لم يكن هناك تكليف في الواقع، أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التكليف هذا قد يشكك فيه من هذه الجهة.
من هنا يتبيّن لحد الآن أنّه لم يثبت أنّ هناك مانعاً ثبوتياً ولا مانعاً إثباتياً يمنع من جريان البراءة الشرعية في محل الكلام كما يقول السيد الخوئي(قدّس سرّه).
الوجه الثامن: لكن بالرغم من ذلك يمكن أن يُذكر وجه ذكره بعض المحققين لمنع جريان البراءة في محل الكلام غير ما تقدّم، وذلك بأنْ يقال: وإن امكن تصوير جريان البراءة في المقام بالنحو المتقدّم بأنْ تجري البراءة في كل واحدٍ من الطرفين بخصوصه، باعتبار تحقق الجهل وعدم العلم الذي هو موضوع البراءة ـــــــــــ ومن هنا يظهر أنّ هذا الوجه أيضاً هو وجه إثباتي، وليس ثبوتياً ـــــــــــ لكن الظاهر من أدلة البراءة الشرعية جعل التأمين، أي جعل ما يكون مؤمّناً من ناحية التكليف المحتمل، بمعنى أنّ التكليف بالرغم من كونه محتملاً وغير معلوم، لكنّه على تقدير اهتمام الشارع به يقتضي من المكلّف التحرّك نحو امتثاله، الشارع يجعل البراءة عند الشكّ في هذا التكليف لغرض التأمين من ناحية ذلك التكليف المشكوك، وأنّ ترك التحرّك نحو امتثاله ليس فيه محذور، فيجعل البراءة، مع عدم جعل البراءة هذا التكليف المشكوك يقتضي تحرّكاً من قبل المكلّف، الغرض من أدلّة البراءة هو التأمين من ناحية ذلك التكليف، وأنّ ترك التحرّك نحو امتثال ليس فيه محذور ولا يترتب عليه شيء من قبل نفس المولى، يؤمّن من ناحية ذلك التكليف، هذا مفاد أدلّة البراءة، التأمين من ناحية التكليف المشكوك، وأنّ المكلّف إذا ترك التحرّك والعمل بالتكليف المشكوك لا شيء عليه، هو مأمون من ناحيته، لا يؤاخذه المولى بترك التحرّك تجاه ذلك التكليف حتّى لو كان ثابتاً في الواقع. هذا المفاد لأدلة البراءة يستلزم أن يكون التكليف المحتمل ممّا له اقتضاء التحريك وممّا له داعوية ومحرّكية نحو الفعل، أو نحو الترك على اختلاف التكليف الذي يكون محتملاً حتّى تجري أدلّة البراءة، فيقال: هذا التكليف له داعوية وله محرّكية، أدلّة البراءة تأتي للتأمين من ناحيته، وأنّ ترك التحرّك ليس فيه شيء، لكن أدلّة البراءة إنّما تؤمّن من ناحية التكليف عندما يكون التكليف في حدّ نفسه له داعوية، وله محرّكية نحو الامتثال، هذا أمر متحقق في الشبهات الوجوبية ومتحقق في الشبهات التحريمية، التكليف له اقتضاء التحريك وله اقتضاء الداعوية، وأمّا في محل الكلام فأنّ التكليف المحتمل ليس له هذا الاقتضاء؛ ولذا لا تشمله أدلّة البراءة؛ لأنّ التكليف المحتمل في المقام، وإن كان لو لاحظناه وحده له اقتضاء التحرّك وله تلك الداعوية، لكنّه لمّا كان التكليف المحتمل في المقام الذي يُراد تطبيق البراءة فيه، لمّا كان مقترناً دائماً في محل الكلام باحتمال نقيضه، نحن نريد أن نجري البراءة في الوجوب المحتمل، ونجريه في التحريم المحتمل، هذا هو الغرض من إجراء البراءة في المقام، هكذا صوّرنا جريان البراءة في دوران الأمر بين المحذورين، احتمال الوجوب، صحيح هو في حدّ نفسه له اقتضاء التحريك، لكن لمّا كان مقرناً باحتمال التحريم دائماً في محل كلامنا، مع تساوي هذين الاحتمالين كما هو المفروض، يعني عدم وجود مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر، احتمال الوجوب مع وجود مقارنٍ له وهو احتمال التحريم بحيث أنّ المكلّف كما يحتمل الوجوب في نفس الوقت يحتمل التحريم احتمالاً مساوياً بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، مثل هذا التكليف المحتمل ليس له داعوية وليس له محرّكية، هذا لا يقتضي التحرّك من المكلّف.
وبعبارةٍ أخرى: هو لا يؤثر في نفس المكلّف شيئاً، ليس له اقتضاء التحريك وليس له اقتضاء المحرّكية؛ لأنّه احتمال الوجوب المقترن باحتمال الحرمة، احتمال لزوم الفعل مقترن باحتمال لزوم ترك الفعل، مثل احتمال الوجوب هذا ليس له اقتضاء الداعوية، وليس له اقتضاء المحرّكية، فلا تشمله أدلّة البراءة، ونفس الكلام يقال في احتمال التحريم، أيضاً هذا احتمال هو مقترن دائماً باحتمال الوجوب، مثل هذا الاحتمال المقترن باحتمال الوجوب مع فرض التساوي بين الاحتمالين لا يكون له اقتضاء التحريك، فإذا قلنا فرغنا عن أنّ أدلّة البراءة لا تشمل إلاّ التكليف المحتمل الذي له اقتضاء التحريك واقتضاء المحرّكية حتّى تؤمّن المكلّف من ناحيته، هذا المكلّف الذي يقع في حيرة واضطراب من ناحية التكليف المحتمل تأتي أدلّة البراءة فتؤمّنه وترفع عنه الحيرة وترفع عنه الاضطراب، هذا هو مورد جريان البراءة، وأمّا حيث لا يكون التكليف المحتمل قد خلق في نفس المكلّف حيرة ولا ترددّ ولا اضطراب؛ لأنّ احتمال التكليف هذا مقترن باحتمال نقيضه، باحتمال التكليف بالعدم، وباحتمال التحريم، مثل هذا لا يكون موجباً للتحرّك من قبل المولى، يعني لا يخلق حالة اضطراب وتردد وحيرة عند المكلّف حتّى يحتاج إلى جعل التأمين، ومن هنا يكون هناك قصور في أدلّة البراءة عن الشمول لمثل محل الكلام.
وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ احتمال الوجوب عندما يقترن باحتمال الإباحة يكون مورداً للبراءة؛ لأنّ احتمال الوجوب هذا يكون فيه مقتضٍ للتحرّك وفيه محرّكية وداعوية تجعل المكلّف في حيرةٍ من أمره لا يعلم ماذا يصنع، هو يحتمل الوجوب، لكن في مقابله احتمال الإباحة، فيقع في حيرة واضطراب، أدلّة البراءة تؤمّنه من ناحية ذلك التكليف. أمّا إذا كان التكليف ليس له اقتضاء التحرّك، كما إذا كان احتمال الوجوب مقترناً باحتمال التحريم، مثل هذا ليس فيه اقتضاء التحرّك، فلا تشمله أدلّة البراءة. هذا مانع إثباتي آخر غير ما تقدّم يمكن أنْ يكون مانعاً من إجراء البراءة في محل الكلام.
هذا تمام الكلام عن جريان البراءة الشرعية في موارد دوران الأمر بين المحذورين، لكن قلنا أنّ القول الأوّل الذي أختاره السيد الخوئي(قدّس سرّه) هو يلتزم بجريان كلتا البراءتين، البراءة الشرعية في محل الكلام، والبراءة العقلية أيضاً يقول لا مانع من جريانها في محل الكلام، ومن هنا بعد الفراغ عن البراءة الشرعية، وأنّها تجري في محل الكلام، أو لا تجري ننتقل إلى الكلام عن البراءة العقلية، أنّها تجري في محل الكلام، أو لا تجري ؟
الشيخ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) استشكل في جريان البراءة العقلية في محل الكلام،[2] وإشكاله يرجع إلى أنّ البراءة العقلية مشروطة بعدم البيان، موضوعها عدم البيان، وهذا الموضوع غير متحقق في محل الكلام لتمامية البيان في محل الكلام؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعلم بالإلزام، لكن غاية الكلام أنّ هذا الإلزام مردد بين الوجوب وبين التحريم، فيقول أنّ البيان تام ولا قصور فيه، فإذا كان البيان تامّاً ولا قصور فيه؛ فحينئذٍ لا تجري البراءة العقلية؛ لأنّ موضوعها عدم البيان، بخلاف الشبهات التحريمية والوجوبية في غير محل الكلام، هناك أصلاً لم يتم البيان على التكليف، لا بعلم تفصيلي، ولا بعلم إجمالي؛ فلذا منع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام.