35/01/26
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الثاني
الكلام الإثباتي: في كيفيّة استفادة هذا الاستحباب، هناك طريقان لإثبات هذا الاستحباب:
الطريق الأوّل: دعوى استفادته من أدلّة الاحتياط، باعتبار أنّ أدلّة الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط، وبعد صرفها عن ظاهرها كما تقدّم سابقاً، ولو باعتبار أدلّة تدلّ على البراءة؛ وحينئذٍ لا يمكن الأخذ بهذا الظاهر؛ وحينئذٍ تُحمل على الاستحباب، ويُستفاد منه الاستحباب، أو المطلوبية، لكن لا على نحو الإلزام؛ بل قد يُدّعى أنّ بعض الروايات السابقة فيها دلالة على الاستحباب مباشرة، هي لا تدلّ على أكثر من الاستحباب؛ فحينئذٍ يثبت الاستحباب باعتبار تلك الأدلّة.
الطريق الثاني: أنْ يُستفاد الاستحباب من حكم العقل بحُسن الاحتياط بناءً على الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع، فإذا حكم العقل بحُسن الاحتياط؛ حينئذٍ بناءً على الملازمة يمكن أنْ يُستفاد من ذلك استحباب الاحتياط شرعاً، يعني مطلوبية الاحتياط شرعاً.
أمّا الطريق الأوّل وهو استفادة استحباب الاحتياط من أدلّة الاحتياط، فقد استشكل المحققّ النائيني(قدّس سرّه) في ذلك، وقال في وجه الإشكال:(وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال لاحتمال أنْ تكون الروايات الواردة في الباب ـــــ على كثرتها ـــــ للإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل من حُسن الاحتياط تحرّزاً عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنّما يكون طريقاً إلى ذلك، لا أنّه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة، وفعل ما يحتمل الوجوب بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنّه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلاً).[1]
وبناءً على حمل هذه الروايات على الإرشاد؛ حينئذٍ لا يمكن أنْ نستفيد منها الاستحباب المطلوب في محل الكلام؛ لأننّا نتكلّم عن الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط، ومثل هذا الاستحباب المولوي الشرعي للاحتياط لا يمكن أنْ يُستفاد من الأوامر إذا حُملت على الإرشاد، أوامر إرشادية لا يُعمِل الشارع فيها المولوية، فكيف نستفيد منها الطلب والاستحباب المولوي؛ بل هذه الأخبار في الحقيقة لا تزيد عن حكم العقل بحُسن الاحتياط، وهي ترشد إلى ذلك لا أزيد، فاستشكل(قدّس سرّه) في استفادة استحباب الاحتياط من الأخبار السابقة الدالّة على وجوب الاحتياط.
مسألة حمل الأوامر على الإرشاد لاحتمال أنْ تكون هذه الأوامر إرشادية لا ينفع في المقام؛ لأنّ الظهور الأوّلي للأوامر الصادرة من الشارع أنّها أوامر مولوية، بمعنى أنّ الشارع أعمل فيها المولوية، وحملها على خلاف ذلك، أي على أنّها إرشادية، وأنّ الشارع لم يُعمِل فيها المولوية يحتاج إلى قرينة، لا بأس به إذا كانت هناك قرينة تدلّ على ذلك، وهذه القرينة قد تكون موجودة في بعض الأخبار السابقة على ما تقدّم، لكن الظاهر أنّها غير موجودة بشكل واضح في جميع الأخبار السابقة، بحيث نحمل جميع أخبار الاحتياط بطوائفها الكثيرة السابقة على أنّها في مقام الإرشاد، المحقق النائيني(قدّس سرّه) لم يبرز قرينة وإنّما الذي ذكره هو احتمال أنْ تكون هذه الأوامر أوامر إرشادية ولم يذكر القرينة.
أقول: هذا الاحتمال وحده لا يبررّ لنا رفع اليد عن الظهور الأوّلي للأوامر الصادرة من المولى في أنّها أوامر مولوية.
قد يقال: أنّ القرينة على حمل الأوامر على الإرشاد في المقام موجودة وهي نفس حكم العقل بحُسن الاحتياط، باعتبار أنّ حكم العقل بحُسن الاحتياط يمنع من حمل هذه الأوامر على الاستحباب المولوي للاحتياط ويقتضي أنْ تُحمل هذه الأوامر على الإرشاد.
الجواب عن ذلك: إنّ هذا في الحقيقة بحسب الروح راجع إلى ما تقدّم سابقاً من دعوى اللّغوية، بمعنى أنّ حكم الشارع مولوياً باستحباب الاحتياط، بعد فرض حكم العقل بحُسن الاحتياط، يكون لغواً وبلا فائدة، فإذا كان لغواً؛ فحينئذٍ لابدّ من حملها على الإرشاد، فيكون ورود هذه الأوامر في مورد حكم العقل هو بنفسه قرينة على الإرشاد كما قيل؛ لأنّ كون هذه الأوامر مولوية في مورد حكم العقل لغو، فلابدّ من حملها على الإرشاد. وأجيب عن ذلك سابقاً بمنع اللّغوية، وأنّه لا توجد لغوية في أنْ يطلب الشارع طلباً مولوياً بالاحتياط، ولو على نحو الاستحباب، فلا توجد لغوية بذاك المعنى؛ لأننّا قلنا سابقاً بأنّه من الممكن افتراض فوائد وآثار تترتّب على الطلب الشرعي بالرغم من كون المورد مورداً لحكم العقل بحُسن الاحتياط، بالرغم من ذلك هناك فوائد يمكن تصوّرها في المقام لرفع المحذور الثبوتي، يمكن تصوّر فوائد للطلب الشرعي المولوي بحيث يمنعنا من أنْ نقول أنّ هذا مستحيل؛ لأنّه لغو وبلا فائدة، بل يمكن تصوّر ترتّب فوائد على الطلب الشرعي كما بيّنّا سابقاً، فإذن: هذا بحسب الروح يرجع إلى دعوى اللّغوية بحيث يكون ورود هذه الأوامر في موارد حكم العقل هو قرينة على حملها على الإرشاد، فنكررّ ما قلناه من أنّ هذا ممنوع ويرجع كلامنا السابق من عدم وجود قرينة واضحة في جميع تلك الأخبار على أنّها للإرشاد، قد تكون هذه القرينة موجودة في بعض الأخبار، لكنّ دعوى وجودها في جميع هذه الأخبار هذا غير واضح، والظهور الأوّلي للأوامر أنّها أوامر مولوية.
وأمّا الطريق الثاني، وهو استكشاف الاستحباب الشرعي المولوي على أساس الملازمة لحكم العقل بحُسن الاحتياط بعد الإيمان بالملازمة. من الواضح أنّ هذا الطريق مبني على الإيمان بالملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، أي بين الحكم العقلي وبين الحكم الشرعي، وقد تقدّم في بحث التجرّي إنكار هذه الملازمة، وأنّه لا توجد ملازمة تحتّم بالضرورة أنْ يحكم الشارع في مورد حكم العقل بحُكم شرعي؛ لأنّه من الممكن ثبوتاً اكتفاء الشارع بما حكم به العقل، وبالإدراك العقلي للحسن والقبح، ويمكن افتراض عدم وجود داعٍ يدعو الشارع إلى أنْ يحكم على طبق ما حكم به العقل، لو فرضنا أنّ الشارع لا يهتم بذاك الأمر اهتماماً أزيد ممّا يقتضيه الحكم العقلي، الحكم العقلي يحرّك المكلّف نحو الفعل، أو نحو الترك بمقدارٍ ما، إذا فرضنا أنّ الشارع لا يهتم بذاك المطلب أزيد من هذا المقدار، فيترك الأمر لحكم العقل، ولا يرى داعياً لأنْ يجعل هو حكماً شرعياً على طبق الحكم العقلي، في أحيان أخرى نجد أنّ الشارع يرى أنّ هناك مبررّاً لأنْ يحكم بحكم شرعي في مورد حكم العقل، وذلك حينما يكون مهتمّاً بذلك الفعل، أو بذلك الترك بدرجة أكبر ممّا يحققّه الإدراك العقلي، وما يقتضيه الإدراك العقلي، هو يهتم بذلك المورد؛ فحينئذٍ يجعل حكماً على طبقه، هذا لا يعني وجود ملازمة بأنّه كلمّا حكم العقل بشيءٍ، فلابدّ أنْ يكون هناك حكم شرعي على طبقه، كلا، الأمر ليس هكذا، ليس هناك ملازمة تثبت بالضرورة وجود حكم شرعي في مورد حكم العقل. إذن: أساساً الطريق الثاني مبني على دعوى الملازمة.
الآن نُسلّم الملازمة، لنفترض أنّ الملازمة ثابتة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، بناءً على الملازمة هل هذا الطريق تام ؟ هل يمكن استكشاف استحباب الاحتياط من حكم العقل بحُسن الاحتياط، أو لا يمكن استكشاف ذلك ؟
المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً استشكل في ذلك،[2] وحاصل ما ذكره في مقام الإشكال على هذا الطريق لاستكشاف استحباب الاحتياط هو أنّ المورد ليس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلك باعتبار الرأي المعروف عنه والذي تبنّاه السيد الخوئي (قدّس سرّه)، وحاصله : أنّه يُفرّق بين نوعين من الأحكام العقلية، يُفرّق بين حكم عقلي واقع ــــ حسب تعبيره ـــــ في سلسلة علل الأحكام الشرعية، وهو الحكم العقلي الذي يثبت بقطع النظر عن الحكم الشرعي، لا أنّه يثبت في طوله، هذا نوع من الأحكام العقلية، وهناك نوع آخر من الأحكام العقلية وهو الحكم العقلي الذي يثبت في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية، يعني يثبت في مرحلة امتثال الحكم الشرعي، أو قل هو الحكم العقلي الواقع في طول الحكم الشرعي. الأوّل من قبيل حكم العقل بحُسن العدل، وقُبح الظلم، فهذا الحكم العقلي لا علاقة له بالحكم الشرعي، فهو يثبت بقطع النظر عن افتراض وجود حكم شرعي، سواء وجد حكم شرعي، أو لم يوجد، العقل يحكم بحُسن العدل وقُبح الظلم. الأمر الثاني هو من قبيل حكم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية، يقول هذا واقع في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية، يعني واقع في طول الحكم الشرعي، وفي مرحلة امتثاله، ومعنى حُسن الطاعة الذي يحكم به العقل هو أنّ الشارع إذا حكم بشيء؛ فحينئذٍ يحسُن منك طاعته، وتقبح منك معصيته، فهو حكم واقع في طول الحكم الشرعي، وفي مرحلة امتثاله، يقول(قدّس سرّه) هناك فرق بينهما: الملازمة ثابتة في القسم الأوّل، العقل يحكم بحُسن العدل، الملازمة تثبت حكماً شرعياً بوجوب العدل، العقل يدرك قبح الظلم، هذه الملازمة أيضاً تثبت حكماً شرعياً بأنّ الظلم حرام شرعاً، هذا لا مانع منه، فتُطبّق الملازمة في القسم الأوّل ويُستنبط منها حكم شرعي مولوي. وأمّا في القسم الثاني، فيقول القسم الثاني ليس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلك باعتبار أنّ صيرورة الحكم العقلي في القسم الثاني منشئاً للحكم الشرعي يلزم منه محذور التسلسل؛ لأنّ الحكم العقلي في القسم الثاني واقع في طول الحكم الشرعي، يعني هو يفترض حكماً شرعياً، وأمراً مولوياً، وهو يقول بأنّه تحسُن إطاعته وتقبح معصيته، وهذا معناه أننّا لابدّ أنْ نفترض أنّ هناك حكماً شرعياً ـــــ فرضاً ـــــ بوجوب الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، العقل يحكم بحُسن إطاعتهما، وقُبح معصيتهما، هذا الحكم العقلي بحُسن إطاعة هذا التكليف الشرعي لو كان منشئاً لحكم شرعي مولوي؛ حينئذٍ يلزم التسلسل، فإذن صيرورة الحكم العقلي في القسم الثاني منشئاً للحكم الشرعي المولوي يلزم منه التسلسل؛ لأنّه إذا جعل الشارع حكماً شرعياً مطابقاً للحكم العقلي بمضمون تجب إطاعة الأوامر الشرعية؛ لأنّ ما يحكم به العقل هو حسن الإطاعة وقبح المعصية، هذا الحكم العقلي إذا استلزم حكماً شرعياً، فأنّه سوف يكون حكماً شرعياً مولوياً بمضمون يجب إطاعة الأوامر الشرعية ويحرم معصية الأوامر الشرعية، وهذا الحكم الشرعي المستكشَف من الحكم العقلي هو حكم شرعي مولوي صادر من الشارع بما هو مولى، وأيضاً يحكم العقل بحُسن إطاعته؛ إذ لا فرق بينه وبين الحكم الشرعي الأوّل الذي فرضناه بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر، كل منهما حكم مولوي صادر من الشارع بما هو مولى، العقل أيضاً يحكم بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، فإذا حكم بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، والمفروض أنّ هذا الحكم العقلي يستلزم ويُستكشَف منه حكم شرعي، فأيضاً يستلزم جعل حكم شرعي آخر..... وهكذا يلزم التسلسل؛ لأنّه لا نهاية له؛ ولذا هنا تقف المسألة، يعني لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي المولوي من الحكم العقلي في القسم الثاني، وإنّما يمكن ذلك في خصوص القسم الأوّل.
يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ ما نحن فيه، وهو حكم العقل بحُسن الاحتياط هو من قبيل القسم الثاني؛ لأنّ الاحتياط طريق محض ـــــ حسب تعبيره ـــــ للتخلّص من فوات المصلحة والوقوع في المفسدة الواقعية، يقول: فهو نظير حكمه بحُسن الإطاعة وقُبح المعصية وهو في القسم الثاني، يعني من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعية، من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في مرحلة امتثال الحكم الشرعي، يعني هناك حكم شرعي ناشئ من مصلحة واقعية، أو من مفسدة واقعية، الاحتياط يقول يحسُن الاحتياط تجنّباً لتفويت المصلحة، أو تجنّباً للوقوع في المفسدة الواقعية، فيكون حاله حال أوامر الطاعة، وحكم العقل بحُسن الطاعة وحكمه بقبح المعصية، فإذا كان ما نحن فيه من قبيل القسم الثاني؛ حينئذٍ حتّى لو آمنّا بالملازمة لا يمكن استكشاف الاستحباب الشرعي للاحتياط من حكم العقل بحُسن الاحتياط.
لكن استُشكل في كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) كبروياً وصغروياً، هذا كلّه بقطع النظر عن الملازمة؛ لأننّا إذا أنكرنا الملازمة؛ فحينئذٍ لا يأتي هذا الكلام؛ بل ينتفي الطريق الثاني أصلاً؛ لأنّ الطريق الثاني مبني على التسليم بالملازمة، فإذا أنكرنا الملازمة؛ فحينئذٍ كيف يمكن استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بحُسن الاحتياط ؟ لا يمكن استكشافه، كلامنا كلّه مبني على تسليم الملازمة، كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) المبني على تسليم الملازمة استُشكل فيه كبروياً وصغروياً.
المراد من الكبرى هو التفصيل بين نوعين من الأحكام العقلية، هل هذه الكبرى تامّة بعد تسليم الملازمة ؟ هل أنّ هناك فرقاً بين الأحكام العقلية من القسم الأوّل التي يكون مورداً للملازمة ويستكشف منها الحكم الشرعي المولوي وبين الحكم العقلي من قبيل القسم الثاني الذي لا يمكن فيه ذلك، هل هذا صحيح ؟ هذه الكبرى.
أمّا الصغرى فهو في تطبيق ذلك على محل الكلام وأنّ محل الكلام وهو حكم العقل بحُسن الاحتياط هو من قبيل القسم الثاني، يعني من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعية وفي سلسلة معلولاتها كما يسمّيه. هذه الصغرى. كل منهما استُشكل فيها.
أما الكبرى: فقد تقدّم الكلام عنها أيضاً في بحث التجرّي، على تقدير تسليم الملازمة هل هناك فرق بين نوعين من الأحكام العقلية، أو لا ؟ والذي انتهينا إليه في ذاك البحث أنّها تامّة، بمعنى أنّ الأحكام الشرعية من قبيل القسم الأوّل يمكن استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي فيها، بخلاف القسم الثاني، والسرّ في ذلك هو أنّ استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي في القسم الثاني، يعني في الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعيّة يلزم منه اللّغوية، افتراض حكم شرعي في مورد الحكم العقلي من قبيل القسم الأوّل الذي مثاله حكم العقل بحُسن الإطاعة، وقُبح المعصية، يلزم من استكشاف الحكم الشرعي المولوي في هذا المورد اللّغوية، فيصح كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، بمعنى أنّه في القسم الثاني لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي، بخلاف القسم الأوّل، باعتبار أنّ المفروض في القسم الثاني وجود تكليفٍ شرعي مولوي كما قلنا، ونمثّل له بوجوب إقامة الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، والعقل يحكم بحُسن إطاعة هذا الحكم الشرعي، وقُبح معصيته، هذا التكليف المولوي الذي افترضناه لا إشكال في أنّه يُحرّك المكلّف ويوجد عنده داعٍ للتحرّك لكنّه بتوسط حكم العقل بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، وإلاّ التكليف وحده، وبقطع النظر عن إدراك العقل للزوم إطاعته وقُبح معصيته لا يكون محرّكاً للمكلّف، فالذي يُحرّك المكلّف هو التكليف بتوسّط حكم العقل بحُسن الإطاعة وقُبح المعصيّة، وإلاّ من دون إدراك العقل لا يكون التكليف محرّكاً له، فإذا فرضنا كما يقول من يُنكر على المحقق النائيني(قدّس سرّه) هذا التفصيل، إذا فرضنا جعل حكم مولوي شرعي وطبّقنا الملازمة واستكشفنا حكماً شرعياً مولوياً بمضمون وجوب إطاعة هذا التكليف، وحرمة معصيته، الكلام هو في أنّ هذا لغو، أو ليس لغواً ؟ أنّ مثل هذا التكليف الشرعي المولوي الذي يُراد استكشافه بوجوب إطاعة ذلك التكليف وحرمة معصيته، هل هذا لغو، أو لا ؟ المُدّعى هو أنّ هذا لغو وبلا فائدة، وذلك لأنّ الفائدة المتوخاة من وجوبٍ من هذا القبيل هو الداعوية، أي جعل داعٍ للتحرّك، وقلنا أنّ أيّ تكليفٍ شرعي لا يدعو المكلّف للتحرّك إلاّ بتوسّط إدراك العقل للزوم الإطاعة وقبح المعصية، وهذا التكليف المستكشف له داعوية بتوسّط حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية، هذه الداعوية الثابتة بهذا التكليف الشرعي المولوي المستكشف بتوسّط حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية هي نفس الداعوية الموجودة بقطع النظر عن هذا التكليف الشرعي المستكشف، وليس شيئاً آخراً غيرها، سابقاً كان هناك تكليف يدعو المكلّف للتحرك، وهذا التحرّك لا يحصل عند المكلّف فعلاً، إلاّ بتوسّط حكمه العقلي وإدراكه العقلي لحُسن الإطاعة وقبح المعصية. نفس هذه الداعوية هي التي سوف يحققّها التكليف الجديد إذا استكشفناه من الحكم العقلي في هذا القسم وليس شيئاً إضافياً، أو جديداً، وبهذا يختلف الكلام هنا عن ما قلناه بالنسبة إلى استحباب الاحتياط، هنا نفترض وجود تكليف شرعي، وفي مسألة استحباب الاحتياط لم نفترض وجود تكليف شرعي، هنا نفترض وجود تكليف شرعي يأمر بالصلاة، وحكم عقلي يقول تلزم إطاعة هذا التكليف ويقبح معصيته، هذا سوف يخلق داعياً عند المكلّف للتحرّك بلا إشكال، هذا التكليف الذي يُستكشف هو لا يزيد على ذلك، غاية الأمر أنّ العبارة قد تبدّلت، بدل أنْ يأمر بالصلاة يأمر بوجوب إطاعة الأمر بالصلاة، فلا فرق بينهما، وإلاّ المضمون واحد، ذاك يقول أقيموا الصلاة، وهذا التكليف المستكشف ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ بناءً على ثبوت الملازمة في القسم الثاني مضمونه وجوب إطاعة وأقيموا الصلاة، هذا أيضاً يحرّك المكلّف ويوجد داعياً عند المكلّف بتوسّط حكم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية باعتباره أيضاً تكليفاً مولويّاً شرعيّاً، هذه الداعوية التي يخلقها هذا التكليف الجديد بضميمة حكم العقل هي نفس الداعوية التي كانت ثابتة سابقاً وليست شيئاً جديداً، أو أضافياً حتّى نقول أنّ هذا التكليف تكون له فائدة؛ لأنّه يضيف شيئاً جديداً، ومنه يظهر الفرق بين هذا وبين الحكم العقلي الذي لا يُفترض فيه وجود حكم شرعي مسبق يدعو المكلّف للتحرّك بتوسّط الحكم العقلي، وعلى هذا الأساس تقدّم سابقاً أنّ جعل استحباب شرعي للاحتياط ليس لغواً؛ لأننّا لم نفترض مسبقاً أنّ الشارع بتكليف شرعي مولوي حرّك المكلّف نحو الاحتياط، وإنّما نريد استكشاف ذلك من نفس حكم العقل بحُسن الاحتياط. الآن نريد أنْ نستكشفه، ولم نفترضه في مرحلةٍ سابقة، لو كنّا نفترض في مرحلةٍ سابقة أنّ الشارع حكم باستحباب الاحتياط؛ فحينئذٍ كل هذا الكلام لا يأتي؛ لأنّ الشارع حكم باستحباب الاحتياط، وإنّما نتكلّم عن استحباب الاحتياط شرعاً باعتبار أننّا لم نفترض الحكم باستحباب الاحتياط، وإنّما فقط افترضنا حكماً عقليّاً بحُسن الاحتياط، ونريد أنْ نستكشف من هذا الحكم العقلي حُسن الاحتياط الشرعي، وهذا ليس فيه لغوية، لا أريد أنْ أقول نستكشف من ذلك، وإنّما الكلام عن افتراض استحباب الاحتياط شرعاً ليس فيه لغويّة، وليس محالاً؛ لأنّ هذا الاستحباب المولوي الشرعي يحققّ داعوية وتحريك غير ما تحقق بمجرّد افتراض الحكم العقلي. أمّا في القسم الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية، وقلنا أنّه في طول الحكم الشرعي، يعني لابدّ أنْ نفترض حكماً شرعيّاً من الشارع يدعو المكلّف نحو فعل يحكم العقل بحسن إطاعته وبقبح معصيته؛ ولذا يمكن أنْ يقال أنّ كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ثابت وصحيح باعتبار أنّ الحكم الشرعي يحققّ فائدة ويحققّ داعوية غير ما تقدّم سابقاً حتّى في القسم الثاني؛ ولذا لا يكون لغواً ولا محذور فيه، فإذا دفعنا إشكال التسلسل؛ حينئذٍ يكون لا بأس به، هذا الكلام منظور فيه.
الكلام الإثباتي: في كيفيّة استفادة هذا الاستحباب، هناك طريقان لإثبات هذا الاستحباب:
الطريق الأوّل: دعوى استفادته من أدلّة الاحتياط، باعتبار أنّ أدلّة الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط، وبعد صرفها عن ظاهرها كما تقدّم سابقاً، ولو باعتبار أدلّة تدلّ على البراءة؛ وحينئذٍ لا يمكن الأخذ بهذا الظاهر؛ وحينئذٍ تُحمل على الاستحباب، ويُستفاد منه الاستحباب، أو المطلوبية، لكن لا على نحو الإلزام؛ بل قد يُدّعى أنّ بعض الروايات السابقة فيها دلالة على الاستحباب مباشرة، هي لا تدلّ على أكثر من الاستحباب؛ فحينئذٍ يثبت الاستحباب باعتبار تلك الأدلّة.
الطريق الثاني: أنْ يُستفاد الاستحباب من حكم العقل بحُسن الاحتياط بناءً على الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع، فإذا حكم العقل بحُسن الاحتياط؛ حينئذٍ بناءً على الملازمة يمكن أنْ يُستفاد من ذلك استحباب الاحتياط شرعاً، يعني مطلوبية الاحتياط شرعاً.
أمّا الطريق الأوّل وهو استفادة استحباب الاحتياط من أدلّة الاحتياط، فقد استشكل المحققّ النائيني(قدّس سرّه) في ذلك، وقال في وجه الإشكال:(وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال لاحتمال أنْ تكون الروايات الواردة في الباب ـــــ على كثرتها ـــــ للإرشاد إلى ما يستقلّ به العقل من حُسن الاحتياط تحرّزاً عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنّما يكون طريقاً إلى ذلك، لا أنّه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة، وفعل ما يحتمل الوجوب بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنّه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلاً).[1]
وبناءً على حمل هذه الروايات على الإرشاد؛ حينئذٍ لا يمكن أنْ نستفيد منها الاستحباب المطلوب في محل الكلام؛ لأننّا نتكلّم عن الاستحباب الشرعي المولوي للاحتياط، ومثل هذا الاستحباب المولوي الشرعي للاحتياط لا يمكن أنْ يُستفاد من الأوامر إذا حُملت على الإرشاد، أوامر إرشادية لا يُعمِل الشارع فيها المولوية، فكيف نستفيد منها الطلب والاستحباب المولوي؛ بل هذه الأخبار في الحقيقة لا تزيد عن حكم العقل بحُسن الاحتياط، وهي ترشد إلى ذلك لا أزيد، فاستشكل(قدّس سرّه) في استفادة استحباب الاحتياط من الأخبار السابقة الدالّة على وجوب الاحتياط.
مسألة حمل الأوامر على الإرشاد لاحتمال أنْ تكون هذه الأوامر إرشادية لا ينفع في المقام؛ لأنّ الظهور الأوّلي للأوامر الصادرة من الشارع أنّها أوامر مولوية، بمعنى أنّ الشارع أعمل فيها المولوية، وحملها على خلاف ذلك، أي على أنّها إرشادية، وأنّ الشارع لم يُعمِل فيها المولوية يحتاج إلى قرينة، لا بأس به إذا كانت هناك قرينة تدلّ على ذلك، وهذه القرينة قد تكون موجودة في بعض الأخبار السابقة على ما تقدّم، لكن الظاهر أنّها غير موجودة بشكل واضح في جميع الأخبار السابقة، بحيث نحمل جميع أخبار الاحتياط بطوائفها الكثيرة السابقة على أنّها في مقام الإرشاد، المحقق النائيني(قدّس سرّه) لم يبرز قرينة وإنّما الذي ذكره هو احتمال أنْ تكون هذه الأوامر أوامر إرشادية ولم يذكر القرينة.
أقول: هذا الاحتمال وحده لا يبررّ لنا رفع اليد عن الظهور الأوّلي للأوامر الصادرة من المولى في أنّها أوامر مولوية.
قد يقال: أنّ القرينة على حمل الأوامر على الإرشاد في المقام موجودة وهي نفس حكم العقل بحُسن الاحتياط، باعتبار أنّ حكم العقل بحُسن الاحتياط يمنع من حمل هذه الأوامر على الاستحباب المولوي للاحتياط ويقتضي أنْ تُحمل هذه الأوامر على الإرشاد.
الجواب عن ذلك: إنّ هذا في الحقيقة بحسب الروح راجع إلى ما تقدّم سابقاً من دعوى اللّغوية، بمعنى أنّ حكم الشارع مولوياً باستحباب الاحتياط، بعد فرض حكم العقل بحُسن الاحتياط، يكون لغواً وبلا فائدة، فإذا كان لغواً؛ فحينئذٍ لابدّ من حملها على الإرشاد، فيكون ورود هذه الأوامر في مورد حكم العقل هو بنفسه قرينة على الإرشاد كما قيل؛ لأنّ كون هذه الأوامر مولوية في مورد حكم العقل لغو، فلابدّ من حملها على الإرشاد. وأجيب عن ذلك سابقاً بمنع اللّغوية، وأنّه لا توجد لغوية في أنْ يطلب الشارع طلباً مولوياً بالاحتياط، ولو على نحو الاستحباب، فلا توجد لغوية بذاك المعنى؛ لأننّا قلنا سابقاً بأنّه من الممكن افتراض فوائد وآثار تترتّب على الطلب الشرعي بالرغم من كون المورد مورداً لحكم العقل بحُسن الاحتياط، بالرغم من ذلك هناك فوائد يمكن تصوّرها في المقام لرفع المحذور الثبوتي، يمكن تصوّر فوائد للطلب الشرعي المولوي بحيث يمنعنا من أنْ نقول أنّ هذا مستحيل؛ لأنّه لغو وبلا فائدة، بل يمكن تصوّر ترتّب فوائد على الطلب الشرعي كما بيّنّا سابقاً، فإذن: هذا بحسب الروح يرجع إلى دعوى اللّغوية بحيث يكون ورود هذه الأوامر في موارد حكم العقل هو قرينة على حملها على الإرشاد، فنكررّ ما قلناه من أنّ هذا ممنوع ويرجع كلامنا السابق من عدم وجود قرينة واضحة في جميع تلك الأخبار على أنّها للإرشاد، قد تكون هذه القرينة موجودة في بعض الأخبار، لكنّ دعوى وجودها في جميع هذه الأخبار هذا غير واضح، والظهور الأوّلي للأوامر أنّها أوامر مولوية.
وأمّا الطريق الثاني، وهو استكشاف الاستحباب الشرعي المولوي على أساس الملازمة لحكم العقل بحُسن الاحتياط بعد الإيمان بالملازمة. من الواضح أنّ هذا الطريق مبني على الإيمان بالملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع، أي بين الحكم العقلي وبين الحكم الشرعي، وقد تقدّم في بحث التجرّي إنكار هذه الملازمة، وأنّه لا توجد ملازمة تحتّم بالضرورة أنْ يحكم الشارع في مورد حكم العقل بحُكم شرعي؛ لأنّه من الممكن ثبوتاً اكتفاء الشارع بما حكم به العقل، وبالإدراك العقلي للحسن والقبح، ويمكن افتراض عدم وجود داعٍ يدعو الشارع إلى أنْ يحكم على طبق ما حكم به العقل، لو فرضنا أنّ الشارع لا يهتم بذاك الأمر اهتماماً أزيد ممّا يقتضيه الحكم العقلي، الحكم العقلي يحرّك المكلّف نحو الفعل، أو نحو الترك بمقدارٍ ما، إذا فرضنا أنّ الشارع لا يهتم بذاك المطلب أزيد من هذا المقدار، فيترك الأمر لحكم العقل، ولا يرى داعياً لأنْ يجعل هو حكماً شرعياً على طبق الحكم العقلي، في أحيان أخرى نجد أنّ الشارع يرى أنّ هناك مبررّاً لأنْ يحكم بحكم شرعي في مورد حكم العقل، وذلك حينما يكون مهتمّاً بذلك الفعل، أو بذلك الترك بدرجة أكبر ممّا يحققّه الإدراك العقلي، وما يقتضيه الإدراك العقلي، هو يهتم بذلك المورد؛ فحينئذٍ يجعل حكماً على طبقه، هذا لا يعني وجود ملازمة بأنّه كلمّا حكم العقل بشيءٍ، فلابدّ أنْ يكون هناك حكم شرعي على طبقه، كلا، الأمر ليس هكذا، ليس هناك ملازمة تثبت بالضرورة وجود حكم شرعي في مورد حكم العقل. إذن: أساساً الطريق الثاني مبني على دعوى الملازمة.
الآن نُسلّم الملازمة، لنفترض أنّ الملازمة ثابتة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، بناءً على الملازمة هل هذا الطريق تام ؟ هل يمكن استكشاف استحباب الاحتياط من حكم العقل بحُسن الاحتياط، أو لا يمكن استكشاف ذلك ؟
المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً استشكل في ذلك،[2] وحاصل ما ذكره في مقام الإشكال على هذا الطريق لاستكشاف استحباب الاحتياط هو أنّ المورد ليس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلك باعتبار الرأي المعروف عنه والذي تبنّاه السيد الخوئي (قدّس سرّه)، وحاصله : أنّه يُفرّق بين نوعين من الأحكام العقلية، يُفرّق بين حكم عقلي واقع ــــ حسب تعبيره ـــــ في سلسلة علل الأحكام الشرعية، وهو الحكم العقلي الذي يثبت بقطع النظر عن الحكم الشرعي، لا أنّه يثبت في طوله، هذا نوع من الأحكام العقلية، وهناك نوع آخر من الأحكام العقلية وهو الحكم العقلي الذي يثبت في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية، يعني يثبت في مرحلة امتثال الحكم الشرعي، أو قل هو الحكم العقلي الواقع في طول الحكم الشرعي. الأوّل من قبيل حكم العقل بحُسن العدل، وقُبح الظلم، فهذا الحكم العقلي لا علاقة له بالحكم الشرعي، فهو يثبت بقطع النظر عن افتراض وجود حكم شرعي، سواء وجد حكم شرعي، أو لم يوجد، العقل يحكم بحُسن العدل وقُبح الظلم. الأمر الثاني هو من قبيل حكم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية، يقول هذا واقع في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية، يعني واقع في طول الحكم الشرعي، وفي مرحلة امتثاله، ومعنى حُسن الطاعة الذي يحكم به العقل هو أنّ الشارع إذا حكم بشيء؛ فحينئذٍ يحسُن منك طاعته، وتقبح منك معصيته، فهو حكم واقع في طول الحكم الشرعي، وفي مرحلة امتثاله، يقول(قدّس سرّه) هناك فرق بينهما: الملازمة ثابتة في القسم الأوّل، العقل يحكم بحُسن العدل، الملازمة تثبت حكماً شرعياً بوجوب العدل، العقل يدرك قبح الظلم، هذه الملازمة أيضاً تثبت حكماً شرعياً بأنّ الظلم حرام شرعاً، هذا لا مانع منه، فتُطبّق الملازمة في القسم الأوّل ويُستنبط منها حكم شرعي مولوي. وأمّا في القسم الثاني، فيقول القسم الثاني ليس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلك باعتبار أنّ صيرورة الحكم العقلي في القسم الثاني منشئاً للحكم الشرعي يلزم منه محذور التسلسل؛ لأنّ الحكم العقلي في القسم الثاني واقع في طول الحكم الشرعي، يعني هو يفترض حكماً شرعياً، وأمراً مولوياً، وهو يقول بأنّه تحسُن إطاعته وتقبح معصيته، وهذا معناه أننّا لابدّ أنْ نفترض أنّ هناك حكماً شرعياً ـــــ فرضاً ـــــ بوجوب الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، العقل يحكم بحُسن إطاعتهما، وقُبح معصيتهما، هذا الحكم العقلي بحُسن إطاعة هذا التكليف الشرعي لو كان منشئاً لحكم شرعي مولوي؛ حينئذٍ يلزم التسلسل، فإذن صيرورة الحكم العقلي في القسم الثاني منشئاً للحكم الشرعي المولوي يلزم منه التسلسل؛ لأنّه إذا جعل الشارع حكماً شرعياً مطابقاً للحكم العقلي بمضمون تجب إطاعة الأوامر الشرعية؛ لأنّ ما يحكم به العقل هو حسن الإطاعة وقبح المعصية، هذا الحكم العقلي إذا استلزم حكماً شرعياً، فأنّه سوف يكون حكماً شرعياً مولوياً بمضمون يجب إطاعة الأوامر الشرعية ويحرم معصية الأوامر الشرعية، وهذا الحكم الشرعي المستكشَف من الحكم العقلي هو حكم شرعي مولوي صادر من الشارع بما هو مولى، وأيضاً يحكم العقل بحُسن إطاعته؛ إذ لا فرق بينه وبين الحكم الشرعي الأوّل الذي فرضناه بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر، كل منهما حكم مولوي صادر من الشارع بما هو مولى، العقل أيضاً يحكم بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، فإذا حكم بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، والمفروض أنّ هذا الحكم العقلي يستلزم ويُستكشَف منه حكم شرعي، فأيضاً يستلزم جعل حكم شرعي آخر..... وهكذا يلزم التسلسل؛ لأنّه لا نهاية له؛ ولذا هنا تقف المسألة، يعني لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي المولوي من الحكم العقلي في القسم الثاني، وإنّما يمكن ذلك في خصوص القسم الأوّل.
يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ ما نحن فيه، وهو حكم العقل بحُسن الاحتياط هو من قبيل القسم الثاني؛ لأنّ الاحتياط طريق محض ـــــ حسب تعبيره ـــــ للتخلّص من فوات المصلحة والوقوع في المفسدة الواقعية، يقول: فهو نظير حكمه بحُسن الإطاعة وقُبح المعصية وهو في القسم الثاني، يعني من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعية، من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في مرحلة امتثال الحكم الشرعي، يعني هناك حكم شرعي ناشئ من مصلحة واقعية، أو من مفسدة واقعية، الاحتياط يقول يحسُن الاحتياط تجنّباً لتفويت المصلحة، أو تجنّباً للوقوع في المفسدة الواقعية، فيكون حاله حال أوامر الطاعة، وحكم العقل بحُسن الطاعة وحكمه بقبح المعصية، فإذا كان ما نحن فيه من قبيل القسم الثاني؛ حينئذٍ حتّى لو آمنّا بالملازمة لا يمكن استكشاف الاستحباب الشرعي للاحتياط من حكم العقل بحُسن الاحتياط.
لكن استُشكل في كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) كبروياً وصغروياً، هذا كلّه بقطع النظر عن الملازمة؛ لأننّا إذا أنكرنا الملازمة؛ فحينئذٍ لا يأتي هذا الكلام؛ بل ينتفي الطريق الثاني أصلاً؛ لأنّ الطريق الثاني مبني على التسليم بالملازمة، فإذا أنكرنا الملازمة؛ فحينئذٍ كيف يمكن استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بحُسن الاحتياط ؟ لا يمكن استكشافه، كلامنا كلّه مبني على تسليم الملازمة، كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) المبني على تسليم الملازمة استُشكل فيه كبروياً وصغروياً.
المراد من الكبرى هو التفصيل بين نوعين من الأحكام العقلية، هل هذه الكبرى تامّة بعد تسليم الملازمة ؟ هل أنّ هناك فرقاً بين الأحكام العقلية من القسم الأوّل التي يكون مورداً للملازمة ويستكشف منها الحكم الشرعي المولوي وبين الحكم العقلي من قبيل القسم الثاني الذي لا يمكن فيه ذلك، هل هذا صحيح ؟ هذه الكبرى.
أمّا الصغرى فهو في تطبيق ذلك على محل الكلام وأنّ محل الكلام وهو حكم العقل بحُسن الاحتياط هو من قبيل القسم الثاني، يعني من قبيل الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعية وفي سلسلة معلولاتها كما يسمّيه. هذه الصغرى. كل منهما استُشكل فيها.
أما الكبرى: فقد تقدّم الكلام عنها أيضاً في بحث التجرّي، على تقدير تسليم الملازمة هل هناك فرق بين نوعين من الأحكام العقلية، أو لا ؟ والذي انتهينا إليه في ذاك البحث أنّها تامّة، بمعنى أنّ الأحكام الشرعية من قبيل القسم الأوّل يمكن استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي فيها، بخلاف القسم الثاني، والسرّ في ذلك هو أنّ استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي في القسم الثاني، يعني في الأحكام العقلية الواقعة في طول الأحكام الشرعيّة يلزم منه اللّغوية، افتراض حكم شرعي في مورد الحكم العقلي من قبيل القسم الأوّل الذي مثاله حكم العقل بحُسن الإطاعة، وقُبح المعصية، يلزم من استكشاف الحكم الشرعي المولوي في هذا المورد اللّغوية، فيصح كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، بمعنى أنّه في القسم الثاني لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي، بخلاف القسم الأوّل، باعتبار أنّ المفروض في القسم الثاني وجود تكليفٍ شرعي مولوي كما قلنا، ونمثّل له بوجوب إقامة الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، والعقل يحكم بحُسن إطاعة هذا الحكم الشرعي، وقُبح معصيته، هذا التكليف المولوي الذي افترضناه لا إشكال في أنّه يُحرّك المكلّف ويوجد عنده داعٍ للتحرّك لكنّه بتوسط حكم العقل بحُسن إطاعته وقُبح معصيته، وإلاّ التكليف وحده، وبقطع النظر عن إدراك العقل للزوم إطاعته وقُبح معصيته لا يكون محرّكاً للمكلّف، فالذي يُحرّك المكلّف هو التكليف بتوسّط حكم العقل بحُسن الإطاعة وقُبح المعصيّة، وإلاّ من دون إدراك العقل لا يكون التكليف محرّكاً له، فإذا فرضنا كما يقول من يُنكر على المحقق النائيني(قدّس سرّه) هذا التفصيل، إذا فرضنا جعل حكم مولوي شرعي وطبّقنا الملازمة واستكشفنا حكماً شرعياً مولوياً بمضمون وجوب إطاعة هذا التكليف، وحرمة معصيته، الكلام هو في أنّ هذا لغو، أو ليس لغواً ؟ أنّ مثل هذا التكليف الشرعي المولوي الذي يُراد استكشافه بوجوب إطاعة ذلك التكليف وحرمة معصيته، هل هذا لغو، أو لا ؟ المُدّعى هو أنّ هذا لغو وبلا فائدة، وذلك لأنّ الفائدة المتوخاة من وجوبٍ من هذا القبيل هو الداعوية، أي جعل داعٍ للتحرّك، وقلنا أنّ أيّ تكليفٍ شرعي لا يدعو المكلّف للتحرّك إلاّ بتوسّط إدراك العقل للزوم الإطاعة وقبح المعصية، وهذا التكليف المستكشف له داعوية بتوسّط حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية، هذه الداعوية الثابتة بهذا التكليف الشرعي المولوي المستكشف بتوسّط حكم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصية هي نفس الداعوية الموجودة بقطع النظر عن هذا التكليف الشرعي المستكشف، وليس شيئاً آخراً غيرها، سابقاً كان هناك تكليف يدعو المكلّف للتحرك، وهذا التحرّك لا يحصل عند المكلّف فعلاً، إلاّ بتوسّط حكمه العقلي وإدراكه العقلي لحُسن الإطاعة وقبح المعصية. نفس هذه الداعوية هي التي سوف يحققّها التكليف الجديد إذا استكشفناه من الحكم العقلي في هذا القسم وليس شيئاً إضافياً، أو جديداً، وبهذا يختلف الكلام هنا عن ما قلناه بالنسبة إلى استحباب الاحتياط، هنا نفترض وجود تكليف شرعي، وفي مسألة استحباب الاحتياط لم نفترض وجود تكليف شرعي، هنا نفترض وجود تكليف شرعي يأمر بالصلاة، وحكم عقلي يقول تلزم إطاعة هذا التكليف ويقبح معصيته، هذا سوف يخلق داعياً عند المكلّف للتحرّك بلا إشكال، هذا التكليف الذي يُستكشف هو لا يزيد على ذلك، غاية الأمر أنّ العبارة قد تبدّلت، بدل أنْ يأمر بالصلاة يأمر بوجوب إطاعة الأمر بالصلاة، فلا فرق بينهما، وإلاّ المضمون واحد، ذاك يقول أقيموا الصلاة، وهذا التكليف المستكشف ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ بناءً على ثبوت الملازمة في القسم الثاني مضمونه وجوب إطاعة وأقيموا الصلاة، هذا أيضاً يحرّك المكلّف ويوجد داعياً عند المكلّف بتوسّط حكم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصية باعتباره أيضاً تكليفاً مولويّاً شرعيّاً، هذه الداعوية التي يخلقها هذا التكليف الجديد بضميمة حكم العقل هي نفس الداعوية التي كانت ثابتة سابقاً وليست شيئاً جديداً، أو أضافياً حتّى نقول أنّ هذا التكليف تكون له فائدة؛ لأنّه يضيف شيئاً جديداً، ومنه يظهر الفرق بين هذا وبين الحكم العقلي الذي لا يُفترض فيه وجود حكم شرعي مسبق يدعو المكلّف للتحرّك بتوسّط الحكم العقلي، وعلى هذا الأساس تقدّم سابقاً أنّ جعل استحباب شرعي للاحتياط ليس لغواً؛ لأننّا لم نفترض مسبقاً أنّ الشارع بتكليف شرعي مولوي حرّك المكلّف نحو الاحتياط، وإنّما نريد استكشاف ذلك من نفس حكم العقل بحُسن الاحتياط. الآن نريد أنْ نستكشفه، ولم نفترضه في مرحلةٍ سابقة، لو كنّا نفترض في مرحلةٍ سابقة أنّ الشارع حكم باستحباب الاحتياط؛ فحينئذٍ كل هذا الكلام لا يأتي؛ لأنّ الشارع حكم باستحباب الاحتياط، وإنّما نتكلّم عن استحباب الاحتياط شرعاً باعتبار أننّا لم نفترض الحكم باستحباب الاحتياط، وإنّما فقط افترضنا حكماً عقليّاً بحُسن الاحتياط، ونريد أنْ نستكشف من هذا الحكم العقلي حُسن الاحتياط الشرعي، وهذا ليس فيه لغوية، لا أريد أنْ أقول نستكشف من ذلك، وإنّما الكلام عن افتراض استحباب الاحتياط شرعاً ليس فيه لغويّة، وليس محالاً؛ لأنّ هذا الاستحباب المولوي الشرعي يحققّ داعوية وتحريك غير ما تحقق بمجرّد افتراض الحكم العقلي. أمّا في القسم الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية، وقلنا أنّه في طول الحكم الشرعي، يعني لابدّ أنْ نفترض حكماً شرعيّاً من الشارع يدعو المكلّف نحو فعل يحكم العقل بحسن إطاعته وبقبح معصيته؛ ولذا يمكن أنْ يقال أنّ كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ثابت وصحيح باعتبار أنّ الحكم الشرعي يحققّ فائدة ويحققّ داعوية غير ما تقدّم سابقاً حتّى في القسم الثاني؛ ولذا لا يكون لغواً ولا محذور فيه، فإذا دفعنا إشكال التسلسل؛ حينئذٍ يكون لا بأس به، هذا الكلام منظور فيه.