34/12/22
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/
الاحتياط الشرعي
انتهينا عن فرض الشبهة الحكميّة من النحو الأوّل: ونؤكد مرةً أخرى بأنّ هذا النحو هو أساساً خارج عن محل الكلام؛ لأنّ المفروض فيه إحراز التذكية، وإحراز قبول الحيوان للتذكية، وإنّما الشكّ من جهةٍ أخرى، وتبيّن أنّ الصحيح في هذا الفرض إذا كانت الشبهة حكميّة هو الرجوع إلى أصالة الحل، أو استصحاب الحلّية الثابتة قبل التشريع، وبالنتيجة يمكن الحكم بحلّية هذا الحيوان المشكوك في حلّيّة أكل لحمه، وحرمته بنحو الشبهة الحكمية في هذا النحو الأوّل.
وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية، النحو الأوّل نفسه، نعلم فيه بتذكية حيوانٍ، وبقبوله للتذكية، لكننّا لا نعلم أنّ هذا الحيوان هل هو غنم حتّى يترتّب على تذكيته حلّية أكل لحمه ؟ أو أنّه من المسوخات، أو السباع حتّى لا يترتّب على تذكيته حلّية أكل لحمه بنحو الشبهة الموضوعيّة التي لا يكون الشكّ فيها مرتبطاً بالشارع ؟ وإنّما الشكّ في أمورٍ خارجيّة وموضوعيّة. في هذا الفرض يختلف فرض الشبهة الموضوعية عن فرض الشبهة الحكميّة في أنّه في فرض الشبهة الحكميّة قلنا لا مانع من الرجوع إلى عامٍّ فوقاني ـــــ إذا وُجِد ـــــ يكون دالاً على حلّية كل حيوان، إلا ما استُثني، لا مانع من الرجوع إلى هذا العام في الشبهة الحكمية، أمّا في الشبهة الموضوعيّة فحتّى إذا وجد مثل هذا العام، فمن الواضح أنّه لا يجوز الرجوع إليه؛ لأنّ التمسّك بالعام حينئذٍ يكون تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصصّ؛ لأنّ هذا العام الدال على حلّية كل حيوانٍ خرجت منه عناوين معيّنة، ونحن نشكّ في أنّ هذا الحيوان المشتبه بنحو الشبهة الموضوعيّة هل هو شاة، أو هو من السباع، والسباع خرجت من دليل(يحلّ أكل كل حيوان)، ونحن نشكّ أنّ هذا من السباع، أو لا ؟ إذن: هي شبهة مصداقية للمخصصّ للعام، وفي الشبهة المصداقيّة بلا إشكال لا يجوز التمسّك بالعام. اللّهمّ إلاّ أنْ نحرز موضوع العام عن طريق إجراء أصالة عدم المخصص، يعني أصالة عدم كونه من السباع، هذا الأصل يحرز لنا موضوع الحلّيّة؛ لأنّ موضوع الحلّيّة هو كل حيوان، وبعد التخصيص يكون ماعدا السباع، فيكون هذا هو موضوع الحلّيّة بعد التخصيص، هذا حيوان ونحرز أنّه ليس من السباع بأصالة عدم كونه من السباع، طبعاً هذا الأصل هو من باب استصحاب العدم الأزلي، يعني من باب استصحاب العدم المحمولي، وليس من باب استصحاب العدم النعتي، عدم كونه من السباع؛ لأنّ هذا الحيوان منذ وُلِد هو يُشكّ في كونه من هذا، أو من هذا، وليست هناك حالة متيقنة سابقة نحرز فيها بأنّ هذا ليس من السباع، فلابدّ من إجراء استصحاب العدم الأزلي، فيتنقّح موضوع الحلّية، وهذا بحثٌ آخر وعام ويجري في جميع موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، مثلاً إذا قال(أكرم كل عالم) وخرج منه الفُسّاق منهم، فأصبح موضوع الوجوب هو عبارة عن العالم غير الفاسق، لا يجوز التمسّك بهذا العام في مورد الشكّ في الشبهة المصداقية، أنّ هذا عالم، لكن نشكّ أنّه عادل، أو فاسق، بلا شكٍّ لا يجوز التمسّك بالعام لإثبات وجوب إكرامه، لكن يمكن إحراز موضوع الوجوب عن طريق إجراء أصالة عدم كونه فاسقاً، ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي. هذا كلام آخر، لكن بالنتيجة لا يمكن الرجوع إلى العام الفوقاني ـــــ لو وُجِد ـــــ لأنّه تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقية.
وأمّا إذا لم يوجد عام فوقاني من هذا القبيل يدلّ على الحلّيّة في الحيوان، أو بالعكس، قد يدلّ على حرمة كل حيوان إلاّ ما استُثني، المهم أنّه دليل اجتهادي يمكن التمسّك بعمومه، أو بإطلاقه، نفترض أنّه غير موجود؛ حينئذٍ يتعيّن الرجوع إلى الأصول العمليّة، والأصل الذي يُرجَع إليه هو عبارة عن استصحاب الحل، أو اصالة الحل، لكن استصحاب الحل في المقام أيضاً يكون بنحو استصحاب العدم الأزلي، ومعنى استصحاب الحل هو أنّ هذا الحيوان كان حلالاً، ما معنى كان حلالاً ؟ نحن لا نحرز أنّ هذا الحيوان بعد تولّده هو حلال، وإنّما من حين تولّده نشكّ في أنّه من هذا القبيل، أو من هذا القبيل ؟ لا نعلم به، وليس هناك حالة متيقنة كنّا نحرز أنّ هذا الحيوان كان حلالاً، ثمّ نشكّ بعدها هل هو باقٍ على حلّيّته، أو ارتفعت حلّيّته حتّى نستصحب عدم الحرمة بنحو العدم النعتي، وإنّما هو كان من البداية مشكوك، فلابدّ من استصحاب عدم الحرمة، أو نُعبّر عنه باستصحاب الحل بنحو استصحاب العدم الأزلي، يعني عدم الحرمة الثابتة ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، هذه قطعاً كانت ثابتة، هذا الحيوان ولو لأجل قبل وجوده كان حلالاً، يعني لم تثبت له الحرمة ولو باعتبار عدم وجوده، فيمكن في محل الكلام استصحاب عدم ثبوت الحرمة له ولو باعتبار عدم وجوده، وتثبت بذلك حلّية هذا الحيوان. إذا عجزنا عن ذلك واستشكلنا في جريان هذا الاستصحاب، فيمكن الرجوع إلى أصالة الحل؛ إذ لا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة، وإنْ كان هناك كلام في جريانها في الشبهات الحكميّة، هناك كلام في أنّ أصالة الحل هل تجري في الشبهات الحكميّة، أو تختصّ بالشبهات الموضوعيّة، لكنّ جريانها في الشبهات الموضوعيّة التي هي محل الكلام فعلاً هو أمر مسلّم، فيمكن الرجوع إلى أصالة الحل في هذه الحالة. وهنا أيضاً نقول لا مجال ولا موقع للرجوع إلى استصحاب عدم التذكية، لما قلناه من أنّه في هذا النحو بكلا قسميه لا يوجد هناك شكّ من جهة التذكية؛ بل حتّى من جهة قبول الحيوان للتذكية.
إذن: لا معنى لاستصحاب عدم التذكية، أو استصحاب عدم قابلية الحيوان للتذكية؛ لأننّا نقطع بكلٍ منهما ـــــ بحسب الفرض ـــــ فيُرجَع إلى أصالة الحلّيّة، أو الاستصحاب الذي ذكرناه.
هناك أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ الكلام في جريان استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة أيضاً يجري في المقام، والكلام نفس الكلام السابق، نفس ما ذكرناه في الشبهة الحكميّة أيضاً يجري في الشبهة الموضوعيّة بأنْ نقول أنّ هذا المرددّ بين أنْ يكون من الغنم، أو يكون من السباع، هذا حينما كان حيّاً كان يحرم أكله، والآن كما كان، هذا استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة. نفس الإشكالات المتقدّمة على جريان هذا الاستصحاب تجري في محل الكلام، ونفس الكلام السابق يجري في هذه الحالة، وانتهينا إلى نتيجة أنّ استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة لا يجري، والصحيح هو الرجوع إلى أصالة الحل.
النحو الثاني من أنحاء الشكّ في الحلّيّة والحرمة: وهو ما إذا كان الشكّ في حلّية أكل لحم هذا الحيوان الزاهق الروح، أو حرمة أكل لحمه من جهة الشكّ في قبوله التذكية، وعدم قبوله، وبهذا يختلف هذا النحو عن النحو الأوّل، حيث في النحو الأوّل لم يكن لدينا شكّ من جهة قبول الحيوان للتذكية، وإنّما شكّ في أنّه محلل الأكل بالذات، أو محرّم الأكل، بينما الشك هنا هو من جهة أنّ هذا الحيوان يقبل التذكية، أو لا ؟ من قبيل ما إذا شككنا في أنّ أسد البحر هل يقبل التذكية، أو لا يقبلها ؟ هل حكم الشارع عليه بحلّية أكل لحمه بعد التذكية ؟ هذا معناه أنّه يقبل التذكية، أو أنّه لم يحكم عليه بذلك ؟ أو في مثال آخر كما ذكروا حيواناً تولّد من حيوانين أحدهما كلب والآخر شاة، ولا يلحقهما في الاسم، فلا يصدق عليه عنوان(كلب)، ولا عنوان(شاة)، وشككنا في أنّه يقبل التذكية، أو لا ؟ هنا أيضاً الشبهة تارة تكون حكميّة، وأخرى تكون موضوعيّة. أمّا كونها حكميّة فكما مثّلنا بأننّا لا نعلم أنّ أسد البحر هل يقبل التذكية، أو لا ؟ أو هذا الحيوان المتولّد من كلبٍ وشاة، لا نعلم هل حكم الشارع عليه بحلّية أكل لحمه بعد التذكية ؟ هذه شبهة حكميّة، ويُسأل عنها الشارع لأجل حلّها، وأمّا كون الشبهة موضوعيّة، فذلك بأنْ يُشكّ بأنّ هذا الحيوان زاهق الروح الذي نشكّ في حلّية أكل لحمه وحرمته هل هو غنم ؟ حتّى يكون قابلاً للتذكية، ويحل أكل لحمه بعد الذبح، أو هو من السباع ؟ حتّى لا يحل أكله، هذه شبهة موضوعيّة وليست شبهة حكميّة، يُشك في الحلّية والحرمة من جهة الشكّ في قبول هذا الحيوان للتذكية، أو عدمه، لكن بنحو الشبهة الموضوعيّة.
الكلام فعلاً في الشبهة الحكميّة، هنا لابدّ من افتراض إحراز التذكية، يعني لابدّ من إحراز أنّ هذا الحيوان قد ذُكّي، وإحراز فري الأوداج مع استقبال القبلة مع التسميّة وإسلام الذابح، هذه الأمور التي تُعتبر في التذكية، هذه الأمور كلّها محرزة، شكّنا ليس من هذه الجهة، أي ليس من جهة أنّ الذابح سمّى أو لم يُسمِّ، ولا من جهة أنّه ذُبح بالحديد، أو لم يُذبح بالحديد، وإنّما من جهة أنّ هذا الحيوان أساساً هل يقبل التذكية، أو لا يقبل التذكية ؟ مع إحراز حصول التذكية عليه، الكلام هنا يقع في أنّه هل يجري استصحاب عدم التذكية لإثبات حرمة أكل لحم هذا الحيوان، أو لا يجري هذا الاستصحاب ؟ هنا بالإمكان تصوّر جريان استصحاب عدم التذكية، باعتبار أنّ الكلام في قبول الحيوان للتذكية، أو عدم قبوله، فهل يجري هذا الاستصحاب ؟
قبل الجواب عن هذا السؤال ذكروا أنّه لابدّ من تحديد معنى التذكية، وما هو المراد بالتذكية؛ لأنّ تحديد معنى التذكية يؤثر في الجواب عن هذا السؤال من حيث أنّه يجري استصحاب عدم التذكية أو لا يجري. ذكروا احتمالات في معنى التذكية، ثمّ دخلوا في هذا البحث، ونحن نرى أنّ المناسب جدّاً أنْ نذكر آراء بعض المحققين في الجواب عن هذا السؤال، ثمّ منه ننطلق إلى بحث هذه المسألة التي ذكروها.
في البداية من المناسب جدّاً أنْ نذكر رأيّ المحقق النائيني(قُدّس سرّه) في الجواب عن هذا السؤال، هل يجري استصحاب عدم التذكية، أو لا ؟ مع افتراض أنّ الشبهة حكميّة، وأنّ الشكّ هو من جهة قبول التذكية وعدمه بعد إحراز عملية التذكية وما يُعتبر فيها خارجاً. المحقق النائيني(قُدّس سرّه) كما ورد في تقريرات المحقق الكاظمي(قُدّس سرّه) ذكر بأنّ التذكية التي تكون موجبة للطهارة ولحلّية اللّحم يوجد فيها احتمالان: [1]
الاحتمال الأوّل: أنْ تكون عبارة عن أمرٍ بسيط يحصل من المجموع المركّب من الأمور الخاصّة كفري الأوداج بالحديد مع الاستقبال والتسمية، مع قابلية المحل. إذن: هناك أمور خاصّة تتمثّل في ما يفعله الذابح، ولنفترض أنّ ما يفعله الذابح واجدٌ لكلّ الشرائط، ويُضاف إليه قابلية المحل، إذا اجتمعت هذه الأمور، يعني فعل المُذكّي زائداً قابلية المحل للتذكية، يترتّب عليها أمر بسيط وحداني يُسمّى بالتذكية، فالتذكيّة هي عبارة عن أمرٍ بسيطٍ يترتّب على مجموعةٍ من الأمور بما فيها قابلية المحل للتذكية، لكن نفس التذكية هي أمر بسيط مسبَّب عن مجموع فعل الذابح مع قابلية المحل، كما يقال أنّ الطهارة أمر مسبَّب عن الأفعال الوضوئيّة، هناك أفعال وضوئية هي الغسلات والمَسَحات يترتّب عليها عنوان بسيط هو عنوان(الطهارة).
الاحتمال الثاني: أنْ يكون المراد بالتذكية هو نفس الأمور الخاصّة المتقدّمة، وليس أمراً بسيطاً مسبَّباً عن هذه الأفعال والأمور الخاصّة، وإنّما هو عبارة عن نفس تلك الأمور الخاصّة، فالتذكية عبارة عن فري الأوداج بالحديد مع الاستقبال والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وقابلية المحل خارجة عن حقيقة التذكية، وإنْ كان لها دخل في تأثير هذه الأمور في الطهارة والحلّية، وقابلية المحل ليست داخلة في مفهوم التذكية، وإنّما هي شرط في تأثير هذه الأفعال والأمور الخاصّة في الحلّية، وهذه الأفعال لا تؤثر في الحلّية إلاّ بشرط أنْ يكون المحل قابلاً.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ قابلية المحل تؤخذ في التذكية بنحو الشرطية، فلا تكون داخلة في حقيقة التذكية، وإنّما هي شرط في التذكية على غرار الشروط الأخرى التي لا تدخل في حقيقة المشروط، وإنّما هي شرط في التأثير. المحقق النائيني(قُدّس سرّه) دخل في بحثٍ فقهي، وهو أنّه أيّ الاحتمالين هو الأرجح، هو رجّح الاحتمال الثاني، يعني هو يرى أنّ التذكية هي مجموعة الأفعال التي يمارسها الذابح بما فيها من الشرائط، لا أنّ التذكية أمر بسيط مسبَّب عن هذه الأفعال. ثمّ قال: فعلى الأوّل ـــــ أي إذا قلنا أنّها أمر بسيط ـــــ تجري أصالة عدم التذكية، باعتبار أنّ الحيوان في حال الحياة لم يكن مُذكّى، فيُستصحب هذا العدم، يعني عدم التذكية، حيث أنّ له حالة سابقة متيّقنة في حال الحياة، قطعاً التذكية غير حاصلة، بعد ذلك نشكّ في أنّه حصلت التذكية، أو لا، فنستصحب عدم التذكية إلى زمان خروج وزهاق روحه.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ هذا الأمر البسيط المتحصّل من هذه الأفعال الخاصّة بشرط قابلية المحل قطعاً لم يكن موجوداً سابقاً في حال الحياة؛ لسببٍ بسيطٍ جدّاً وهو أنّ في حال الحياة ليس هناك تذكية، حيث لا توجد عملية الذبح وفري الأوداج، وإنّما هو أمر بسيط يحصل نتيجة مجموع هذه الأفعال الخاصّة زائداً قابلية المحل، قطعاً في حال الحياة هذا الأمر البسيط ـــــ الذي هو التذكية بناءً على الاحتمال الأوّل ـــــ لم يكن حاصلاً؛ لما قلناه من أنّه بحسب الفرض لم تكن هناك تذكية، يعني لم تكن هناك عملية فري الأوداج بشرائط، فقطعاً لم يكن هذا الأمر البسيط حاصلاً في حال الحياة، وبعد تذكيته وفري أوداجه الأربعة بالشرائط المعتبرة نشكّ في أنّ هذا الأمر البسيط يحصل، أو لا ؟ وذلك لأننّا نشكّ في أنّ هذا الحيوان قابل للتذكية، أو لا ؟ لأننّا قلنا أنّ القابلية هي أحد الأمور التي تكون التذكية مسبّبة عنها، فهي مسبّبة عن مجموعة أمور، مسبّبة عن فري الأوداج الأربعة مع قابلية المحل، وبعد فري أوداجه وذبحه نشكّ في حصول التذكية في هذا الأمر المسبّب عن مجموعة أمور، وذلك لأننّا نشكّ في قابليته للتذكية وعدمها، فنستصحب عدم حصول هذا الأمر المسبّب؛ لأنّ هذا العدم كان متيقّناً سابقاً، فنستصحبه.
نعم، يقول المحقق النائيني(قُدّس سرّه) في مقام التعليق على هذا الاستصحاب الذي حكم بجريانه:[2] غاية الأمر أنّ جهة اليقين والشكّ تختلف، جهة اليقين بعدم حصول هذا الأمر البسيط المسبّب، والسبب في يقيني بعدم حصول هذا الأمر البسيط سابقاً هو عدم فري الأوداج في حال الحياة، هذه جهة اليقين سابقاً، جهة الشكّ فعلاً اختلفت وهي ليست نفس الجهة السابقة؛ لأنّه فُريت أوداجه، وذُبح بالحديد، جهة الشكّ ليست من هذه الجهة وإنّما من جهة قابلية المحل وعدم القابلية. يقول: أنّ اختلاف جهة اليقين والشكّ لا يؤثر في جريان الاستصحاب، ما دام وحدة الموضوع متحققّة، كون القضية المشكوكة هي نفس القضية المتيقنة، وهذا حاصل في المقام، اختلاف جهة الشكّ لا يؤثر في جريان الاستصحاب، فيجري استصحاب عدم التذكية بهذا المعنى. هذا بناءً على الاحتمال الأوّل.
يقول: وأمّا على الاحتمال الثاني ـــــ لا زال الكلام للمحقق النائيني(قُدّس سرّه) وهو أنّ التذكية هي عبارة عن الأفعال التي يأتي بها والشرائط التي يُعبّر عنها(فعل المكلّف)، هذه الأمور هي عبارة عن التذكية، وقابلية المحل شرط في تأثيرها في الحلّية والطهارة ـــــ لا تجري أصالة عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها؛ لأنّ هذه القابلية ليس لها حالة سابقة؛ لأنّ هذا الحيوان حينما وجد كان يُشك في قابليته للتذكية وعدمها، ولم تمرّ عليه فترة كنّا نقطع بعدم قابليته، ثمّ نشكّ في قابليته، وعدم قابليته حتّى نستصحب عدم القابلية المتيقنة سابقاً، وإنّما هذا الحيوان حينما وجد كان يُشكّ في أنّه قابل، أو ليس قابلاً، فأسد البحر ـــــ مثلاً ــــــ حينما وُلد نحن نشكّ في أنّه قابل، أو لا، أو هذا المتولّد من كلبٍ وشاة نشكّ من حينما وجد في أنّه قابل للتذكية، أو لا، فإذن: لا يجري استصحاب عدم التذكية، لماذا ؟ (هذه نكتة مهمّة) نحن نجري استصحاب عدم التذكية من أيّ جهة ؟ التذكية بمعنى فعل الذابح محرزة ـــــ بحسب الفرض ـــــ استصحاب عدم التذكية من جهة القابلية وعدم القابلية، هذه الجهة هي الجهة المشكوكة، فلنترك استصحاب عدم التذكية، ونتمسّك باستصحاب عدم القابلية، هذا هو مقصوده، يقول: استصحاب عدم التذكية من جهة الشكّ في القابلية وعدمه الذي هو بمعنى استصحاب عدم القابلية لا يجري؛ لأنّ عدم القابلية ليس لها حالة سابقة متيقنة، ليس لدينا حالة سابقة نستطيع أنْ نقول هذا الحيوان ليس قابلاً للتذكية، والآن نشكّ ونستصحب عدماً متيقّناً سابقاً، فلا يجري استصحاب عدم قابلية الحيوان للتذكية.
إذن: المحقق النائيني(قُدّس سرّه) فصّل بحسب ما يُختار في تفسير وتحديد معنى التذكية، إنْ كانت أمراً بسيطاً يجري استصحاب عدم التذكية، وإلاّ فلا يجري. هذا خلاصة ما قال المحقق النائيني(قُدّس سرّه) .
انتهينا عن فرض الشبهة الحكميّة من النحو الأوّل: ونؤكد مرةً أخرى بأنّ هذا النحو هو أساساً خارج عن محل الكلام؛ لأنّ المفروض فيه إحراز التذكية، وإحراز قبول الحيوان للتذكية، وإنّما الشكّ من جهةٍ أخرى، وتبيّن أنّ الصحيح في هذا الفرض إذا كانت الشبهة حكميّة هو الرجوع إلى أصالة الحل، أو استصحاب الحلّية الثابتة قبل التشريع، وبالنتيجة يمكن الحكم بحلّية هذا الحيوان المشكوك في حلّيّة أكل لحمه، وحرمته بنحو الشبهة الحكمية في هذا النحو الأوّل.
وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية، النحو الأوّل نفسه، نعلم فيه بتذكية حيوانٍ، وبقبوله للتذكية، لكننّا لا نعلم أنّ هذا الحيوان هل هو غنم حتّى يترتّب على تذكيته حلّية أكل لحمه ؟ أو أنّه من المسوخات، أو السباع حتّى لا يترتّب على تذكيته حلّية أكل لحمه بنحو الشبهة الموضوعيّة التي لا يكون الشكّ فيها مرتبطاً بالشارع ؟ وإنّما الشكّ في أمورٍ خارجيّة وموضوعيّة. في هذا الفرض يختلف فرض الشبهة الموضوعية عن فرض الشبهة الحكميّة في أنّه في فرض الشبهة الحكميّة قلنا لا مانع من الرجوع إلى عامٍّ فوقاني ـــــ إذا وُجِد ـــــ يكون دالاً على حلّية كل حيوان، إلا ما استُثني، لا مانع من الرجوع إلى هذا العام في الشبهة الحكمية، أمّا في الشبهة الموضوعيّة فحتّى إذا وجد مثل هذا العام، فمن الواضح أنّه لا يجوز الرجوع إليه؛ لأنّ التمسّك بالعام حينئذٍ يكون تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصصّ؛ لأنّ هذا العام الدال على حلّية كل حيوانٍ خرجت منه عناوين معيّنة، ونحن نشكّ في أنّ هذا الحيوان المشتبه بنحو الشبهة الموضوعيّة هل هو شاة، أو هو من السباع، والسباع خرجت من دليل(يحلّ أكل كل حيوان)، ونحن نشكّ أنّ هذا من السباع، أو لا ؟ إذن: هي شبهة مصداقية للمخصصّ للعام، وفي الشبهة المصداقيّة بلا إشكال لا يجوز التمسّك بالعام. اللّهمّ إلاّ أنْ نحرز موضوع العام عن طريق إجراء أصالة عدم المخصص، يعني أصالة عدم كونه من السباع، هذا الأصل يحرز لنا موضوع الحلّيّة؛ لأنّ موضوع الحلّيّة هو كل حيوان، وبعد التخصيص يكون ماعدا السباع، فيكون هذا هو موضوع الحلّيّة بعد التخصيص، هذا حيوان ونحرز أنّه ليس من السباع بأصالة عدم كونه من السباع، طبعاً هذا الأصل هو من باب استصحاب العدم الأزلي، يعني من باب استصحاب العدم المحمولي، وليس من باب استصحاب العدم النعتي، عدم كونه من السباع؛ لأنّ هذا الحيوان منذ وُلِد هو يُشكّ في كونه من هذا، أو من هذا، وليست هناك حالة متيقنة سابقة نحرز فيها بأنّ هذا ليس من السباع، فلابدّ من إجراء استصحاب العدم الأزلي، فيتنقّح موضوع الحلّية، وهذا بحثٌ آخر وعام ويجري في جميع موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، مثلاً إذا قال(أكرم كل عالم) وخرج منه الفُسّاق منهم، فأصبح موضوع الوجوب هو عبارة عن العالم غير الفاسق، لا يجوز التمسّك بهذا العام في مورد الشكّ في الشبهة المصداقية، أنّ هذا عالم، لكن نشكّ أنّه عادل، أو فاسق، بلا شكٍّ لا يجوز التمسّك بالعام لإثبات وجوب إكرامه، لكن يمكن إحراز موضوع الوجوب عن طريق إجراء أصالة عدم كونه فاسقاً، ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي. هذا كلام آخر، لكن بالنتيجة لا يمكن الرجوع إلى العام الفوقاني ـــــ لو وُجِد ـــــ لأنّه تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقية.
وأمّا إذا لم يوجد عام فوقاني من هذا القبيل يدلّ على الحلّيّة في الحيوان، أو بالعكس، قد يدلّ على حرمة كل حيوان إلاّ ما استُثني، المهم أنّه دليل اجتهادي يمكن التمسّك بعمومه، أو بإطلاقه، نفترض أنّه غير موجود؛ حينئذٍ يتعيّن الرجوع إلى الأصول العمليّة، والأصل الذي يُرجَع إليه هو عبارة عن استصحاب الحل، أو اصالة الحل، لكن استصحاب الحل في المقام أيضاً يكون بنحو استصحاب العدم الأزلي، ومعنى استصحاب الحل هو أنّ هذا الحيوان كان حلالاً، ما معنى كان حلالاً ؟ نحن لا نحرز أنّ هذا الحيوان بعد تولّده هو حلال، وإنّما من حين تولّده نشكّ في أنّه من هذا القبيل، أو من هذا القبيل ؟ لا نعلم به، وليس هناك حالة متيقنة كنّا نحرز أنّ هذا الحيوان كان حلالاً، ثمّ نشكّ بعدها هل هو باقٍ على حلّيّته، أو ارتفعت حلّيّته حتّى نستصحب عدم الحرمة بنحو العدم النعتي، وإنّما هو كان من البداية مشكوك، فلابدّ من استصحاب عدم الحرمة، أو نُعبّر عنه باستصحاب الحل بنحو استصحاب العدم الأزلي، يعني عدم الحرمة الثابتة ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، هذه قطعاً كانت ثابتة، هذا الحيوان ولو لأجل قبل وجوده كان حلالاً، يعني لم تثبت له الحرمة ولو باعتبار عدم وجوده، فيمكن في محل الكلام استصحاب عدم ثبوت الحرمة له ولو باعتبار عدم وجوده، وتثبت بذلك حلّية هذا الحيوان. إذا عجزنا عن ذلك واستشكلنا في جريان هذا الاستصحاب، فيمكن الرجوع إلى أصالة الحل؛ إذ لا إشكال في جريانها في الشبهات الموضوعيّة، وإنْ كان هناك كلام في جريانها في الشبهات الحكميّة، هناك كلام في أنّ أصالة الحل هل تجري في الشبهات الحكميّة، أو تختصّ بالشبهات الموضوعيّة، لكنّ جريانها في الشبهات الموضوعيّة التي هي محل الكلام فعلاً هو أمر مسلّم، فيمكن الرجوع إلى أصالة الحل في هذه الحالة. وهنا أيضاً نقول لا مجال ولا موقع للرجوع إلى استصحاب عدم التذكية، لما قلناه من أنّه في هذا النحو بكلا قسميه لا يوجد هناك شكّ من جهة التذكية؛ بل حتّى من جهة قبول الحيوان للتذكية.
إذن: لا معنى لاستصحاب عدم التذكية، أو استصحاب عدم قابلية الحيوان للتذكية؛ لأننّا نقطع بكلٍ منهما ـــــ بحسب الفرض ـــــ فيُرجَع إلى أصالة الحلّيّة، أو الاستصحاب الذي ذكرناه.
هناك أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ الكلام في جريان استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة أيضاً يجري في المقام، والكلام نفس الكلام السابق، نفس ما ذكرناه في الشبهة الحكميّة أيضاً يجري في الشبهة الموضوعيّة بأنْ نقول أنّ هذا المرددّ بين أنْ يكون من الغنم، أو يكون من السباع، هذا حينما كان حيّاً كان يحرم أكله، والآن كما كان، هذا استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة. نفس الإشكالات المتقدّمة على جريان هذا الاستصحاب تجري في محل الكلام، ونفس الكلام السابق يجري في هذه الحالة، وانتهينا إلى نتيجة أنّ استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة لا يجري، والصحيح هو الرجوع إلى أصالة الحل.
النحو الثاني من أنحاء الشكّ في الحلّيّة والحرمة: وهو ما إذا كان الشكّ في حلّية أكل لحم هذا الحيوان الزاهق الروح، أو حرمة أكل لحمه من جهة الشكّ في قبوله التذكية، وعدم قبوله، وبهذا يختلف هذا النحو عن النحو الأوّل، حيث في النحو الأوّل لم يكن لدينا شكّ من جهة قبول الحيوان للتذكية، وإنّما شكّ في أنّه محلل الأكل بالذات، أو محرّم الأكل، بينما الشك هنا هو من جهة أنّ هذا الحيوان يقبل التذكية، أو لا ؟ من قبيل ما إذا شككنا في أنّ أسد البحر هل يقبل التذكية، أو لا يقبلها ؟ هل حكم الشارع عليه بحلّية أكل لحمه بعد التذكية ؟ هذا معناه أنّه يقبل التذكية، أو أنّه لم يحكم عليه بذلك ؟ أو في مثال آخر كما ذكروا حيواناً تولّد من حيوانين أحدهما كلب والآخر شاة، ولا يلحقهما في الاسم، فلا يصدق عليه عنوان(كلب)، ولا عنوان(شاة)، وشككنا في أنّه يقبل التذكية، أو لا ؟ هنا أيضاً الشبهة تارة تكون حكميّة، وأخرى تكون موضوعيّة. أمّا كونها حكميّة فكما مثّلنا بأننّا لا نعلم أنّ أسد البحر هل يقبل التذكية، أو لا ؟ أو هذا الحيوان المتولّد من كلبٍ وشاة، لا نعلم هل حكم الشارع عليه بحلّية أكل لحمه بعد التذكية ؟ هذه شبهة حكميّة، ويُسأل عنها الشارع لأجل حلّها، وأمّا كون الشبهة موضوعيّة، فذلك بأنْ يُشكّ بأنّ هذا الحيوان زاهق الروح الذي نشكّ في حلّية أكل لحمه وحرمته هل هو غنم ؟ حتّى يكون قابلاً للتذكية، ويحل أكل لحمه بعد الذبح، أو هو من السباع ؟ حتّى لا يحل أكله، هذه شبهة موضوعيّة وليست شبهة حكميّة، يُشك في الحلّية والحرمة من جهة الشكّ في قبول هذا الحيوان للتذكية، أو عدمه، لكن بنحو الشبهة الموضوعيّة.
الكلام فعلاً في الشبهة الحكميّة، هنا لابدّ من افتراض إحراز التذكية، يعني لابدّ من إحراز أنّ هذا الحيوان قد ذُكّي، وإحراز فري الأوداج مع استقبال القبلة مع التسميّة وإسلام الذابح، هذه الأمور التي تُعتبر في التذكية، هذه الأمور كلّها محرزة، شكّنا ليس من هذه الجهة، أي ليس من جهة أنّ الذابح سمّى أو لم يُسمِّ، ولا من جهة أنّه ذُبح بالحديد، أو لم يُذبح بالحديد، وإنّما من جهة أنّ هذا الحيوان أساساً هل يقبل التذكية، أو لا يقبل التذكية ؟ مع إحراز حصول التذكية عليه، الكلام هنا يقع في أنّه هل يجري استصحاب عدم التذكية لإثبات حرمة أكل لحم هذا الحيوان، أو لا يجري هذا الاستصحاب ؟ هنا بالإمكان تصوّر جريان استصحاب عدم التذكية، باعتبار أنّ الكلام في قبول الحيوان للتذكية، أو عدم قبوله، فهل يجري هذا الاستصحاب ؟
قبل الجواب عن هذا السؤال ذكروا أنّه لابدّ من تحديد معنى التذكية، وما هو المراد بالتذكية؛ لأنّ تحديد معنى التذكية يؤثر في الجواب عن هذا السؤال من حيث أنّه يجري استصحاب عدم التذكية أو لا يجري. ذكروا احتمالات في معنى التذكية، ثمّ دخلوا في هذا البحث، ونحن نرى أنّ المناسب جدّاً أنْ نذكر آراء بعض المحققين في الجواب عن هذا السؤال، ثمّ منه ننطلق إلى بحث هذه المسألة التي ذكروها.
في البداية من المناسب جدّاً أنْ نذكر رأيّ المحقق النائيني(قُدّس سرّه) في الجواب عن هذا السؤال، هل يجري استصحاب عدم التذكية، أو لا ؟ مع افتراض أنّ الشبهة حكميّة، وأنّ الشكّ هو من جهة قبول التذكية وعدمه بعد إحراز عملية التذكية وما يُعتبر فيها خارجاً. المحقق النائيني(قُدّس سرّه) كما ورد في تقريرات المحقق الكاظمي(قُدّس سرّه) ذكر بأنّ التذكية التي تكون موجبة للطهارة ولحلّية اللّحم يوجد فيها احتمالان: [1]
الاحتمال الأوّل: أنْ تكون عبارة عن أمرٍ بسيط يحصل من المجموع المركّب من الأمور الخاصّة كفري الأوداج بالحديد مع الاستقبال والتسمية، مع قابلية المحل. إذن: هناك أمور خاصّة تتمثّل في ما يفعله الذابح، ولنفترض أنّ ما يفعله الذابح واجدٌ لكلّ الشرائط، ويُضاف إليه قابلية المحل، إذا اجتمعت هذه الأمور، يعني فعل المُذكّي زائداً قابلية المحل للتذكية، يترتّب عليها أمر بسيط وحداني يُسمّى بالتذكية، فالتذكيّة هي عبارة عن أمرٍ بسيطٍ يترتّب على مجموعةٍ من الأمور بما فيها قابلية المحل للتذكية، لكن نفس التذكية هي أمر بسيط مسبَّب عن مجموع فعل الذابح مع قابلية المحل، كما يقال أنّ الطهارة أمر مسبَّب عن الأفعال الوضوئيّة، هناك أفعال وضوئية هي الغسلات والمَسَحات يترتّب عليها عنوان بسيط هو عنوان(الطهارة).
الاحتمال الثاني: أنْ يكون المراد بالتذكية هو نفس الأمور الخاصّة المتقدّمة، وليس أمراً بسيطاً مسبَّباً عن هذه الأفعال والأمور الخاصّة، وإنّما هو عبارة عن نفس تلك الأمور الخاصّة، فالتذكية عبارة عن فري الأوداج بالحديد مع الاستقبال والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وقابلية المحل خارجة عن حقيقة التذكية، وإنْ كان لها دخل في تأثير هذه الأمور في الطهارة والحلّية، وقابلية المحل ليست داخلة في مفهوم التذكية، وإنّما هي شرط في تأثير هذه الأفعال والأمور الخاصّة في الحلّية، وهذه الأفعال لا تؤثر في الحلّية إلاّ بشرط أنْ يكون المحل قابلاً.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ قابلية المحل تؤخذ في التذكية بنحو الشرطية، فلا تكون داخلة في حقيقة التذكية، وإنّما هي شرط في التذكية على غرار الشروط الأخرى التي لا تدخل في حقيقة المشروط، وإنّما هي شرط في التأثير. المحقق النائيني(قُدّس سرّه) دخل في بحثٍ فقهي، وهو أنّه أيّ الاحتمالين هو الأرجح، هو رجّح الاحتمال الثاني، يعني هو يرى أنّ التذكية هي مجموعة الأفعال التي يمارسها الذابح بما فيها من الشرائط، لا أنّ التذكية أمر بسيط مسبَّب عن هذه الأفعال. ثمّ قال: فعلى الأوّل ـــــ أي إذا قلنا أنّها أمر بسيط ـــــ تجري أصالة عدم التذكية، باعتبار أنّ الحيوان في حال الحياة لم يكن مُذكّى، فيُستصحب هذا العدم، يعني عدم التذكية، حيث أنّ له حالة سابقة متيّقنة في حال الحياة، قطعاً التذكية غير حاصلة، بعد ذلك نشكّ في أنّه حصلت التذكية، أو لا، فنستصحب عدم التذكية إلى زمان خروج وزهاق روحه.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ هذا الأمر البسيط المتحصّل من هذه الأفعال الخاصّة بشرط قابلية المحل قطعاً لم يكن موجوداً سابقاً في حال الحياة؛ لسببٍ بسيطٍ جدّاً وهو أنّ في حال الحياة ليس هناك تذكية، حيث لا توجد عملية الذبح وفري الأوداج، وإنّما هو أمر بسيط يحصل نتيجة مجموع هذه الأفعال الخاصّة زائداً قابلية المحل، قطعاً في حال الحياة هذا الأمر البسيط ـــــ الذي هو التذكية بناءً على الاحتمال الأوّل ـــــ لم يكن حاصلاً؛ لما قلناه من أنّه بحسب الفرض لم تكن هناك تذكية، يعني لم تكن هناك عملية فري الأوداج بشرائط، فقطعاً لم يكن هذا الأمر البسيط حاصلاً في حال الحياة، وبعد تذكيته وفري أوداجه الأربعة بالشرائط المعتبرة نشكّ في أنّ هذا الأمر البسيط يحصل، أو لا ؟ وذلك لأننّا نشكّ في أنّ هذا الحيوان قابل للتذكية، أو لا ؟ لأننّا قلنا أنّ القابلية هي أحد الأمور التي تكون التذكية مسبّبة عنها، فهي مسبّبة عن مجموعة أمور، مسبّبة عن فري الأوداج الأربعة مع قابلية المحل، وبعد فري أوداجه وذبحه نشكّ في حصول التذكية في هذا الأمر المسبّب عن مجموعة أمور، وذلك لأننّا نشكّ في قابليته للتذكية وعدمها، فنستصحب عدم حصول هذا الأمر المسبّب؛ لأنّ هذا العدم كان متيقّناً سابقاً، فنستصحبه.
نعم، يقول المحقق النائيني(قُدّس سرّه) في مقام التعليق على هذا الاستصحاب الذي حكم بجريانه:[2] غاية الأمر أنّ جهة اليقين والشكّ تختلف، جهة اليقين بعدم حصول هذا الأمر البسيط المسبّب، والسبب في يقيني بعدم حصول هذا الأمر البسيط سابقاً هو عدم فري الأوداج في حال الحياة، هذه جهة اليقين سابقاً، جهة الشكّ فعلاً اختلفت وهي ليست نفس الجهة السابقة؛ لأنّه فُريت أوداجه، وذُبح بالحديد، جهة الشكّ ليست من هذه الجهة وإنّما من جهة قابلية المحل وعدم القابلية. يقول: أنّ اختلاف جهة اليقين والشكّ لا يؤثر في جريان الاستصحاب، ما دام وحدة الموضوع متحققّة، كون القضية المشكوكة هي نفس القضية المتيقنة، وهذا حاصل في المقام، اختلاف جهة الشكّ لا يؤثر في جريان الاستصحاب، فيجري استصحاب عدم التذكية بهذا المعنى. هذا بناءً على الاحتمال الأوّل.
يقول: وأمّا على الاحتمال الثاني ـــــ لا زال الكلام للمحقق النائيني(قُدّس سرّه) وهو أنّ التذكية هي عبارة عن الأفعال التي يأتي بها والشرائط التي يُعبّر عنها(فعل المكلّف)، هذه الأمور هي عبارة عن التذكية، وقابلية المحل شرط في تأثيرها في الحلّية والطهارة ـــــ لا تجري أصالة عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها؛ لأنّ هذه القابلية ليس لها حالة سابقة؛ لأنّ هذا الحيوان حينما وجد كان يُشك في قابليته للتذكية وعدمها، ولم تمرّ عليه فترة كنّا نقطع بعدم قابليته، ثمّ نشكّ في قابليته، وعدم قابليته حتّى نستصحب عدم القابلية المتيقنة سابقاً، وإنّما هذا الحيوان حينما وجد كان يُشكّ في أنّه قابل، أو ليس قابلاً، فأسد البحر ـــــ مثلاً ــــــ حينما وُلد نحن نشكّ في أنّه قابل، أو لا، أو هذا المتولّد من كلبٍ وشاة نشكّ من حينما وجد في أنّه قابل للتذكية، أو لا، فإذن: لا يجري استصحاب عدم التذكية، لماذا ؟ (هذه نكتة مهمّة) نحن نجري استصحاب عدم التذكية من أيّ جهة ؟ التذكية بمعنى فعل الذابح محرزة ـــــ بحسب الفرض ـــــ استصحاب عدم التذكية من جهة القابلية وعدم القابلية، هذه الجهة هي الجهة المشكوكة، فلنترك استصحاب عدم التذكية، ونتمسّك باستصحاب عدم القابلية، هذا هو مقصوده، يقول: استصحاب عدم التذكية من جهة الشكّ في القابلية وعدمه الذي هو بمعنى استصحاب عدم القابلية لا يجري؛ لأنّ عدم القابلية ليس لها حالة سابقة متيقنة، ليس لدينا حالة سابقة نستطيع أنْ نقول هذا الحيوان ليس قابلاً للتذكية، والآن نشكّ ونستصحب عدماً متيقّناً سابقاً، فلا يجري استصحاب عدم قابلية الحيوان للتذكية.
إذن: المحقق النائيني(قُدّس سرّه) فصّل بحسب ما يُختار في تفسير وتحديد معنى التذكية، إنْ كانت أمراً بسيطاً يجري استصحاب عدم التذكية، وإلاّ فلا يجري. هذا خلاصة ما قال المحقق النائيني(قُدّس سرّه) .