34/12/13
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ الاحتياط/ الاحتياط الشرعي
كان الكلام في الطائفة الثانية التي استُدلّ بها على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة، وبالخصوص الشبهة الحكميّة التحريميّة، وأنتهى الكلام إلى الرواية الثانية، وهي موثّقة عبد الله بن وضاح، قرأناها في الدرس السابق وذكرنا كيفيّة الاستدلال بها، وذكرنا المناقشة في دلالتها، وتتلخّص المناقشة في أنّه ما هو المقصود بالحمرة التي ذُكرت في الرواية، والتي أمر الإمام(عليه السلام) السائل بأنْ ينتظر حتّى تذهب الحمرة، ما هو المقصود بالحمرة ؟
هناك احتمالان طُرحا في الدرس السابق في الحمرة:
الاحتمال الأوّل: أنْ تكون الحمرة هي الحمرة المشرقيّة، وبناءً على هذا الاحتمال تكون الشبهة شبهة حكميّة؛ لأنّ هذا الشخص يحتمل أنْ يكون ذهاب الحمرة المشرقيّة دخيل في تحققّ الغروب، وبالتالي جواز الإفطار، فهي شبهة حكميّة، أنّ الغروب هل يتوقّف على زوال الحمرة المشرقيّة ؟ أو لا يتوقّف؛ بل يكفي في تحققّ الغروب استتار القرص ؟ فهذه شبهة حكميّة بلا إشكال.
لكنْ قلنا: أنّهم ذكروا أنّه لابدّ من حمل الرواية على التقيّة؛ لأنّ الإمام(عليه السلام) لم يجب هذا السائل عن سؤاله، ولم يرفع جهله، ولم يرفع شكّه، وبالنتيجة لم يعرف أنّ زوال الحمرة المشرقيّة دخيلٌ في تحققّ الغروب، أو لا ؟ لأنّ الإمام(عليه السلام) أجابه بالاحتياط(أرى لك أنْ تنتظر حتّى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك)، وهذا لا يُفهم منه ما هو الحكم الواقعي في الشبهة الحكمية التي يسأل عنها السائل؛ ولذا لابدّ من أنْ لا يكون جواب الإمام(عليه السلام) جواباً جدّيّاً، ولا يحمل على الجد، وإنّما يُحمَل على التقيّة، فكأنّ ما يريده الإمام(عليه السلام) جدّاً في الواقع هو بيان أنّ زوال الحمرة المشرقيّة دخيلٌ في تحققّ الغروب، لكن هذا يمنع منه مانع، وهو أنّه خلاف الرأي السائد عند العامّة، فالإمام(عليه السلام) لا يستطيع أنْ يُبيّن هذا بشكلٍ صريحٍ، فبيّنه بشكلٍ غير صريحٍ، وغير مباشرٍ، بأنْ أمره بالاحتياط، وهذا يحققّ الغرض من التقيّة، أنّ السامع يتخيّل أنّ انتظار ذهاب الحمرة المشرقيّة ليس لأجل أنّ الغروب يتوقّف على ذهابها، وإنّما لأجل تحصيل اليقين بتحققّ استتار القرص، فالإمام(عليه السلام) استخدم أسلوب التقيّة لبيان الحكم الواقعي، ومن هنا لا يصحّ الاستدلال بالرواية؛ لأنّ الأمر بالاحتياط في الرواية لا يُراد به معناه الحقيقي، يعني الأمر بالاحتياط في الشبهة الحكميّة، وإنّما هو ذُكر كطريقٍ لبيان الحكم الواقعي الحقيقي، وهو مقصوده، فيقول له:( أرى لك أنْ تنتظر حتّى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك)، وهذا لا يُفهم منه أنّه يجب الاحتياط في كلّ شبهةٍ حكميّةٍ بعد حمله على التقيّة.
الاحتمال الثاني: أنْ يكون المقصود بالحمرة هو الحمرة المغربيّة التي وردت روايات كثيرة في لعن أبي الخطاب، حيث أحدث الخطابيّة بدعاً في المذهب، ومن جملة البدع التي أحدثوها هي أنّهم كانوا لا يصلّون المغرب، إلاّ بعد زوال الحمرة المغربيّة التي تتأخّر بعد استتار القرص بمدّة طويلة، هذه من البدع التي نصّت الروايات على أنّها من بِدعهم، ونهت عنها، وأصبح من المسلّمات أنّ الغروب لا يتوقّف على ذهاب الحمرة المغربيّة، فحتّى لو فرضنا أنّ ظاهر الرواية هو توقّف الغروب على ذهاب الحمرة المغربيّة، ولو باعتبار التقيّة، يعني بلسان بيان الحكم الظاهري. على كلّ حال لا يمكن الأخذ والعمل بهذه الرواية لو كان مفادها لزوم انتظار ذهاب الحمرة المغربيّة، ولو من باب الاحتياط، وبيان الحكم الظاهري والحكم التقيّتي، هذا أمر مُسلّم الفساد فقهياً، فلا يمكن الالتزام به.
الاحتمال الثالث: الذي يمكن أنْ يُضاف إلى هذين الاحتمالين، والذي تكون الشبهة موضوعيّة بلحاظه، هو أنْ يُقال: أنّ المراد بالحمرة ليس هو الحمرة المشرقيّة ولا الحمرة المغربيّة، وإنّما المراد بالحمرة هو ما يكتنف سقوط القرص، فأنّ القرص عندما يميل إلى السقوط تكتنفه حمرة بلونٍ باهت، هذه هي المقصودة بالحمرة في الرواية، فكأنّ السائل يجعل بقاء هذه الحمرة موجباً للشكّ في استتار القرص؛ لأنّ هذه الحمرة تكتنف القرص حينما يميل إلى السقوط، وتبقى بعده لمدّة قصيرة جدّاً، فهو عندما يرى حمرة يشكّ في أنّه هل استتر القرص، وبقيت هذه الحمرة، أو أنّ هذه الحمرة هي التي اكتنفت القرص قبل استتاره، فمن هنا يكون بقاء الحمرة ورؤيته لها، موجباً للشكّ في استتار القرص وعدمه. إذن: هو يشكّ في استتار القرص وعدمه، وهذه شبهة موضوعيّة، ولا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين؛ وحينئذٍ لابدّ من حمل الأمر بالاحتياط في هذه الرواية على خصوصيّةٍ في هذه الشبهة الموضوعيّة أوجبت الاحتياط، وهذه الخصوصيّة هي عبارة عن أنّ الأصل الجاري في المقام هو عبارة عن استصحاب بقاء الوقت، أو اشتغال الذمّة بالتكليف المعلوم جزماً، والذي يستدعي الفراغ اليقيني، ولا فراغ يقيناً، إلاّ بأنْ يفطر بعد هذه الحمرة. هذه خصوصيّة في نفس هذه الشبهة الموضوعيّة أوجبت الاحتياط، ومن هنا لا يمكن تعميم الأمر بالاحتياط إلى سائر الشبهات الأخرى، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوب الاحتياط، لا في الشبهات الحكميّة، ولا في الشبهات الموضوعيّة الفاقدة لهذه الخصوصيّة.
حاصل الجواب هو: أنّ مورد الرواية هو إمّا شبهة حكميّة، أو شبهة موضوعيّة، لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا أنْ يكون مورد الرواية شبهة حكميّة بلحاظ الحمرة المشرقيّة، أو بلحاظ الحمرة المغربيّة، فالسائل لا يعلم أنّ ذهاب الحمرة المشرقيّة، أو المغربيّة دخيلٌ في تحققّ الغروب، أو لا ؟ وهذه شبهة حكميّة. وإمّا أنْ يكون مورد الرواية شبهة موضوعيّة بهذا البيان الأخير. وعلى كلا التقديرين لا يصح الاستدلال بالرواية في محل الكلام.
أمّا إذا كانت شبهة حكميّة: فلِما قلناه من أنّ الأمر بالاحتياط كجوابٍ على شبهةٍ حكميّةٍ لابدّ من حمله على محملٍ غير الجد، وأنّه ليس جواباً جدّياً من قِبل الإمام(عليه السلام)؛ لأنّ وظيفة الإمام(عليه السلام) هي أنْ يُبيّن الحكم، ويرفع جهل السائل، ويرفع الشكّ عنه، ويُبيّن له ما هو الحكم الواقعي، فإمّا أنْ يجيبه بأنّ الحمرة دخيلة، أو أنّها غير دخيلة، أمّا أنْ يأمره بالاحتياط، فهذا ليس جدّياً، وإنّما استدعته التقيّة بالبيان الذي ذكرناه؛ فحينئذٍ لا يكون جوابه إلاّ جواباً على نحو التقيّة؛ وحينئذٍ كيف يمكن الاستدلال بالأمر بالاحتياط الصادر منه من باب التقيّة على وجوب الاحتياط في سائر الشبهات.
وأمّا إذا كان مورد الرواية هو شبهة موضوعيّة: فلما قلناه من أنّ الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ليس واجباً حتّى عند الأخباريين، وإنّما أمَرَ بالاحتياط في هذه الشبهة الموضوعيّة ــــــ إذا فسّرنا الرواية بذلك ــــــ باعتبار خصوصيّةٍ فيها، وهي أنّ هناك أصلاً، أو أصولاً تقتضي وجوب الانتظار، والأصل الواضح هو استصحاب بقاء الوقت، فكيف نجوّز له أنْ يفطر حتّى قبل ذهاب الحمرة ؟ يعني مع الشكّ في استتار القرص، فعلى كلا التقديرين لا يصحّ الاستدلال بهذه الرواية.
الطائفة الثالثة: وهي أهم الطوائف التي استُدلّ بها على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة، وهي أخبار التثليث، وعمدة هذه الأخبار ثلاث روايات:
الرواية الأولى: رواية جميل بن صالح،
[1]
يرويها الشيخ الصدوق(قُدّس سرّه) في الفقيه، وفي الخصال، وفي المجالس، ينفرد بروايتها الشيخ الصدوق(قُدّس سرّه)، لكنّه يرويها في عدّة كتبٍ من كتبه، يرويها في الفقيه بإسناده عن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد،
[2]
عن الحارث بن محمد بن النعمان الأحول، عن جميل بن صالح. هذا السند لا مشكلة فيه إلاّ من جهة الحارث بن محمد بن النعمان الأحول الذي هو من ذرية مؤمن الطاق، مجهول الحال، لم يرِد نص على وثاقته.
نعم، هناك محاولة للوحيد البهبهاني(قُدّس سرّه) لإثبات إمكان الاعتماد عليه، حيث ذكر في تعليقته
[3]
أنّه يمكن الاعتماد عليه لكونه صاحب أصلٍ، ولرواية عدّة من اصحابنا لكتابه، منهم الحسن بن محبوب، وغير ذلك من الأمور التي ذكرها.
في الخصال أيضاً فيه هذه المشكلة، وهكذا في المجالس؛ لأنّ السند دائماً ينتهي إلى الحارث بن محمد بن النعمان الأحول، عن جميل بن صالح، وجميل ثقة، فالسند فيه هذه المشكلة.
الرواية طويلة، وهي موجودة في الفقيه بتمامها، وفي ذيل الرواية يقول:(الأمور ثلاثة: أمر تبيّن لك رشده، فاتبعه، وأمر تبيّن لك غيّه، فاجتنبه، وأمر اختُلف فيه، فردّه إلى الله" عزّ وجل").
الاستدلال بالرواية على وجوب الاحتياط في محل الكلام يتوقّف على أمور:
الأمر الأوّل: أنْ يكون المقصود ببيّن الرشد هو معلوم الحلّيّة، وأنْ يُراد ببيّن الغيّ هو معلوم الحرمة، فكأنّ الحديث يقول معلوم الحلّيّة يجوز لك أنْ ترتكبه، ومعلوم الحرمة اجتنبه، وأمرٌ اختُلف فيه، فردّه إلى الله(عزّ وجل).
الأمر الثاني: أنْ يُراد من الأمر المختلَف فيه المشكوك والمشتبِه الذي يدور أمره بين الحرمة والحلّيّة.
الأمر الثالث: أنْ يُراد من الأمر بردّه إلى الله(عزّ وجل) وجوب الاحتياط.
إذا تمّت هذه الأمور الثلاثة، فالاستدلال بالرواية يكون واضحاً؛ لأنّ الرواية بناءً على تمامية هذه الأمور يكون مفادها هو أنّ الأمور ثلاثة: أمرٌ معلوم الحلّيّة لا مانع من ارتكابه، وأمرٌ معلوم الحرمة، فاجتنبه، وأمرٌ مشتبه مردّد بينهما لا يُعلم هل هو حلال، أم حرام، والذي هو محل كلامنا، وهو الشبهة الحكميّة التحريميّة. هذا الأمر المردّد المشتبه، تقول الرواية ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وقلنا أنّ الرد إلى الله(عزّ وجل) يُفسّر بوجوب الاحتياط، فتدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة، وهذا هو المطلوب.
ولكن يمكن المناقشة في كل أمرٍ من هذه الأمور الثلاثة التي يتوقّف الاستدلال بالرواية عليها:
أمّا الأمر الأوّل، فقد نوقش فيه، بأنّه من المحتمل، إنْ لم نستظهر ذلك، أنْ لا يُراد ببيّن الرشد هو معلوم الحلّيّة، فكيف يمكن تفسير بيّن الرشد بمعلوم الحلّيّة ؟ وتفسير بيّن الغي بمعلوم الحرمة ؟ هذا تفسير يحتاج إلى قرينةٍ، فأنّ بيّن الرشد هو الأمر الواضح، فيكون إشارة إلى المستقلات العقليّة، فالتعبير بالرشد والغيّ هو أقرب إلى المستقلات العقليّة منه إلى الحلّيّة والحرمة الشرعيّتين الواقعيتين، بيّن الرشد يعني الأمر الذي يستقلّ العقل بحسنه ورشده، وبيّن الغيّ يعني ما يستقلّ العقل بقبحه، وكونه غيّاً، فنحملهما على هذا، ولا داعي لحملهما على معلوم الحلّيّة، ومعلوم الحرمة، لا أقل من احتمال هذا، ولو باعتبار المناسبة بين الرشد والغيّ، وبين ما يدرك العقل حسنه، وما يدرك العقل قبحه؛ بل لعلّ من الصعب جدّاً إطلاق بَينّ الغيّ على معلوم الحرمة، فالحرمة ليست غيّاً، وإنّما هي تشريع من التشريعات الإلهيّة التي هي عين الصلاح وعين الرشد، ولا فرق بين الحرمة والوجوب، فكلاهما حكم تشريعي الهي، ولا يُعبّر عنه بالغيّ. نعم، فعل الحرام يمكن أنْ يقال أنّ هذا غي، لكن لا يمكن أنْ نقول أنّ بيّن الغيّ يعني بيّن الحرمة، وكأنّه نجعل الحرمة غيّاً، فإذا كان الشيء معلوم الحرمة يكون بيّن الغيّ، هذا غير صحيح؛ لأنّ الحرمة ليست غيّاً، وليست فساداً، فمن الصعب جدّاً أنْ نفسّر بيّن الرشد، وبيّن الغي بمعلوم الحرمة، ومعلوم الحلّيّة، لا أقل من احتمال أنّ المقصود ليس هذا، وإنّما المقصود هو أنّ الأمور التي يدركها عقلك، وتجزم بها جزماً واضحاً، وبإدراك العقل العملي إذا أدركت قبح شيءٍ، وأنّه غيّ اجتنبه، وإذا أدركت حُسن شيءٍ، وأنّ الرشد فيه، فافعله، فالرواية ناظرة إلى المستقلات العقليّة، وليست ناظرة إلى معلوم الحرمة، وإلى معلوم الحلّيّة. (وأمر اختُلِف فيه) لابدّ من تفسيره على ضوء هذا، إذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ تُفسّر هذه الأمور بأنّها الأمور التي لا يدرك العقل حُسنها، ولا قُبحها، وليس لدى العقل شيء جازم في هذا الأمر، فلا يُدرك حُسنه، ولا يُدرك قبحه؛ حينئذٍ في هذه الحالة يجب أنْ تتلقّى حكم هذا الشيء من الشارع، ولابدّ من ردّه إلى الله(عزّ وجل)، وبهذا تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام، وبناءً على هذا هي في الحقيقة ناظرة إلى الأمور التي تدرك أنّها غيّ، فاجتنبها، والأمور التي تدرك أنّها رشد، فافعلها، والأمور التي تتوقّف، وعقلك ليس لديه إدراك لهذا الأمر، لا غيّه ولا رشده، لا حُسنه ولا قُبحه، هذه الأمور لا يجوز أنْ تعمل بها بالذوق والاستحسان والتخمينات والترجيحات الظنّيّة؛ بل لابدّ من ردّها إلى الله(عزّ وجل)، وبهذا تكون الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، ولا علاقة لها بالشبهة الحكميّة التحريميّة، وإنّما هي أشبه بعدم جواز الاعتماد على الاستحسانات والأذواق في تشخيص الموقف تجاه ما لا يدركه العقل؛ بل لابدّ من أخذ حكمه من الشارع(عزّ وجل)، فتكون من قبيل(أنّ دين الله لا يُصاب بالعقول) وأمثال هذه الأخبار.
قد يُعترض على هذه المناقشة: قيل بأنّ هذه المناقشة غير تامّة، باعتبار أنّ لازم هذه المناقشة هو أنْ نحمل الرواية على الإرشاد، أنّها تكون في مقام الإرشاد إلى ما استقلّ به العقل العملي، وهذا خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من الشارع؛ إذ لا إشكال في أنّ الظهور الأوّلي لكل خطابٍ يصدر من الشارع هو أنّه يصدر منه بما هو شارع. وبعبارة أخرى: يصدر منه بما هو مولى، فحمل الخطاب الشرعي على أنّه إرشاد هو خلاف الظهور الأوّلي، ويحتاج إلى قرينة، فكأنّه يقول: أنّ هذه المناقشة لازمها حمل الرواية على أنّها في مقام الإرشاد إلى ما استقل به العقل العملي، وهذا خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من الشارع.
أقول: الظاهر أنّ هذا الاعتراض غير وارد، وذلك باعتبار أنّه بناءً على المناقشة يكون مفاد الحديث في الحقيقة هو حجّيّة حكم العقل العملي، وأنّ ما يستقل به العقل حجّة، فإذا استقل بقبح شيءٍ، فعليك أنْ تجتنبه، كما لو أمرك الشارع باجتنابه، وإذا استقل العقل بحُسن شيءٍ، فافعله كما لو أمرك الشارع بفعله، فهي ناظرة إلى بيان حجّيّة العقل العملي في المستقلات العقليّة وعدم حجّيّة الاستحسانات والأذواق والعقول الظنّيّة في غير المستقلات العقليّة. هذا يكون مفاد الحديث بناءً على المناقشة السابقة، ومن الواضح بأنّ هذا المفاد فيه إعمال مولويّةٍ، وليس إرشاداً، فهو يُبيّن أنّ العقل العملي حجّة في المستقلات العقليّة، الظنون والاستحسانات ليست حجّة في غير المستقلات العقليّة، وأيّ مولويّةٍ أكثر من إعمالها في هذا المجال ؟ هناك فرق بين روايةٍ يأمر الشارع فيها بالعدل، وينهى عن الظلم، هذه نقول أنّها إرشاديّة؛ لأنّ الأمر بالعدل إرشاد إلى حكم العقل واستقلاله بحسن العدل، والنهي عن الظلم وتحريمه، هذا إرشاد إلى ما حكم به العقل من قُبح الظلم. وفي ما نحن فيه ليس هناك أمر بالعدل، ولا نهي عن الظلم حتّى نقول أنّ هذا خطاب إرشادي؛ لأنّ العقل يحكم بقبح الظلم وحسن العدل، فالرواية بناءً على تمامية المناقشة، الشارع يريد أنْ يؤسس أنّ العقل العملي في المستقلات العقليّة حجّة، وأنّ العقل الظنّي غير القطعي، والاستحسانات وأمثالها في غير المستقلات العقلية ليست حجّة؛ بل لابدّ من أخذ حكمها من الشارع، وأيّ مولويةٍ أكثر من هذه المولوية التي أعملها الشارع في هذا الحديث الشريف ؟
إذن: لا يلزم من هذه المناقشة حمل الرواية كما قيل على الإرشاد؛ بل فيها إعمال مولويةٍ بشكل واضحٍ جدّاً، كالأدلّة الدالّة على حجّيّة شيءٍ، أو عدم حجّيّة شيءٍ، هي أوامر مولويّة صدرت منه بما هو مولى، وبما هو مشرّع، فلا يلزم منها ذلك.
[1] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 27، ص 162، أبواب صفات القاضي، باب 12، ح 28.
[2] في بعض النسخ (الحسن بن سعيد).
[3] تعليقة على منهج المقال، الوحيد البهبهاني، ص 113.