34/08/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العملية/ البراءة الشرعية/ روايات الحلّيّة
كان الكلام في روايات الحل من القسم الأوّل التي يوجد فيها عبارة التقسيم(فيه حلال وحرام) في هذا القسم كان الإشكال على الاستدلال بالرواية هو أنّ هذه الرواية مختصة بالشبهات الموضوعيّة، وكان الكلام في القرائن الدالّة على هذا الاختصاص. ذكرنا قرائن ثلاثة ولم يتم منها إلاّ القرينة الأولى والتي هي مسألة التقسيم إلى حلال وحرام.
القرينة الرابعة التي يمكن أن تُضاف إلى ما تقدّم: هي أن يُستظهَر ذلك من كلمة(منه) الموجودة في هذه الروايات(حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) بقطع النظر عن كلمة(بعينه) وبقطع النظر عن التقسيم إلى حلال وحرام. والظاهر من كلمة(منه) أنّها تبعيضية ويُفهم من قوله(حتى تعرف الحرام منه) أي، من ذلك الشيء الذي ينقسم إلى حلال وحرام، فهي تكون قرينة أخرى على التقسيم في الشيء الذي حُكم بحلّيته، وأنّ له أبعاضاً غير مسألة التصريح في صدر الرواية بأنّ فيه حلال وحرام، وإنّما كلمة(منه) في حد نفسها، لو قال(كل شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه) يعني من ذلك الشيء. إذن: هذا الشيء فيه حلال وحرام بقطع النظر عن صدر الرواية، والمفروض أننّا قبلنا أنّ التقسيم قرينة على اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة، فتكون هذه قرينة أخرى على التقسيم، وبالتالي على اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعيّة. ومن هنا يظهر أنّ الاستدلال بالقسم الأوّل من روايات الحل فيه هذه المشكلة، يعني يقوى فيه احتمال الاختصاص بالشبهات الموضوعيّة على نحو يمنع من الاستدلال به في محل الكلام.
وأمّا القسم الثاني: وهو الروايات الخالية من التقسيم، والتي تتمثل في رواية مسعدة بن صدقة، ورواية عبد الله بن سليمان، وتقدّم سابقاً أنّ هناك مشكلة سندية في كلتا الروايتين، الكلام تارةً يقع في رواية مسعدة بن صدقة، وأخرى يقع في رواية عبد الله بن سليمان، مع الالتفات إلى ــــــ كما ذكرنا سابقاً ــــــ أنّ ما هو الموجود في الكفاية وغيرها من الاستدلال بالرواية، لا يوجد فيه هذا المضمون (كل شيءٍ لك حلال حتّى تعرف الحرام منه فتدعه من قِبل نفسك)، وإنّما قلنا كما عن بعض المحققين احتمال أنّه مقتبس ولو من باب النقل بالمعنى من رواية عبد الله بن سليمان.
إذن: نتكلّم أولاً عن رواية مسعدة بن صدقة؛ لأنّ فيها خصوصية كما سيأتي، ثمّ نتكلّم عن هذه الرواية ولو كانت منقولة بالمضمون، أي (كل شيءٍ لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه)، ولا يوجد التقسيم السابق في كلتا الروايتين.
رواية مسعدة بن صدقة: وقد قرأناها سابقاً، وفيها( كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حر قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة).
الاستدلال بالرواية في محل الكلام، بالتمسّك بإطلاق الرواية بمعنى أنّ الرواية ظاهرة في حلّيّة ما لم يُعلَم حرمته، كل شيءٍ لا تعلم حرمته فهو لك حلال، وهذا الحكم مطلق يشمل الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكمية، حيث يكون عدم العلم ناشئاً من عدم وجود دليل تام يدل على الحرمة في الشبهات الحكمية، وبالنتيجة الرواية بإطلاقها تشمل الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية ويصح الاستدلال بها في محل الكلام.
الإشكال في الاستدلال بهذه الرواية في محل الكلام من جهتين:
الجهة الأولى: نفس الإشكال المتقدّم في الرواية السابقة، يعني إدّعاء أنّ الرواية مختصة بالشبهات الموضوعيّة، ولا يوجد فيها إطلاق يشمل الشبهات الحكمية التي هي محل الكلام، وذُكرت قرائن على ذلك:
القرينة الأولى: الأمثلة التي ذُكرت في هذه الرواية. فأننّا نلاحظ أنّ جميع الأمثلة من قبيل الشبهة الموضوعية، وليست من قبيل الشبهة الحكمية، الثوب، والعبد، والامرأة....الخ، فذِكر هذه الأمثلة للقاعدة الكلية التي ذُكرت في صدر الرواية مع كونها شبهات موضوعية يُشكّل قرينة على أنّ القاعدة ليس لها عموم يشمل الشبهات الحكمية، وإنّما هي قاعدة في الشبهات الموضوعية، وهذه الأمثلة هي تطبيقات لهذه الكبرى، فتكون الكبرى مختصّة بهذه التطبيقات، وما كان على غرارها من الشبهات الموضوعية.
القرينة الثانية: قوله(عليه السلام):(الأشياء كلّها على هذا، حتّى يستبين لك خلاف ذلك، أو تقوم به البيّنة)، فيُدّعى بأنّ قيام البيّنة الذي جُعل أحد الغايتين للحكم بالحلّية في الرواية، لا يكون إلاّ في الشبهات الموضوعيّة، باعتبار أنّ المراد بالبيّنة في الرواية هو شهادة العدلين، وهي مختصّة بالشبهات الموضوعية، فالبيّنة كاصطلاحٍ يُراد به البيّنة في باب القضاء، يعني شهادة عدلين في باب القضاء والذي يمكن للحاكم أو القاضي أن يستند إليها للحكم والقضاء، فيُجعل قوله(عليه السلام):(أو تقوم به البيّنة) ــــــ بناءً على أنّ المراد بالبيّنة البيّنة الاصطلاحية، يعني شهادة عدلين ــــــ قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية.
القرينة الثالثة: حصر الغاية للحلّيّة بالاستبانة، وبقيام البيّنة. وهذا أيضاً قرينة على أنّ المراد بالأشياء في قوله(عليه السلام):(الأشياء كلّها على هذا) هو ما يكون من قبيل المذكورات في الأمثلة التي ذُكرت في الرواية، يعني هي من قبيل الشبهات الموضوعية. بمعنى أنّ رفع الحلّيّة في هذه الأشياء منحصر بأحد شيئين إمّا الاستبانة، أو قيام البيّنة، وهذا قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية، وإلاّ فالحكم بالحلّيّة في الشبهات الحكمية لا ينحصر الرافع لها بالاستبانة والبيّنة، فيمكن أنْ تُرفع الحلّيّة في الشبهات الحكمية بالاستصحاب، أي استصحاب الحرمة، ويمكن أن ترتفع بخبر الثقة الواحد الذي يقوم على حرمة الشيء الذي أشك في حرمته وعدمها بنحو الشبهة الحكمية، كأن يقوم خبر الثقة على حرمة لحم الأرنب، فأنّه يرفع الحلّيّة في الشبهة الحكمية، فالرافع للحلّية في الشبهة الحكمية لا ينحصر بالاستبانة والبيّنة، بينما الرافع للحلّية في الشبهة الموضوعية منحصر بالاستبانة والبيّنة.
القرينة الرابعة: كلمة(بعينه) الواردة في هذا الحديث كما هي واردة في القسم الأوّل. وقلنا أنّها قرينة عامّة؛ لأنّها موجودة في معظم روايات الحل.
استشكل في تمامية هذه القرائن الأربعة، وبالتالي في المنع من إطلاق هذه الرواية للشمول لمحل الكلام:
أمّا بالنسبة للقرينة الأولى: فقد يناقش فيها بأنّ الأمثلة المذكورة في الرواية هي مجرّد أمثلة، وكونها شبهات موضوعية لا ينافي كونها أمثلة للقاعدة الكلية حتّى مع الحفاظ على عموم القاعدة، وأنّ صدر الرواية في مقام بيان حلّية عامّة تشمل الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية، وذكر امثلة للشبهات الموضوعية لا ينافي عموم القاعدة.
بعبارة أخرى: لا يمكننا أنْ نجعل ذكر أمثلة للشبهات الموضوعية فقط موجباً لرفع اليد عن إطلاق صدر الرواية، ويقال أنّ صدر الرواية ليس شاملاً للشبهات الحكمية؛ بل هو مختص بخصوص الشبهات الموضوعية، لا داعي لهذا، وما هو الضير أن يذكر المتكلّم قاعدة كلّية ثم يمثّل بأمثلة تختص ببعض مفردات تلك القاعدة الكلية لسبب من الأسباب ؟ وليكن السبب هو أنّ المُخاطب أكثر ابتلاءً بالشبهات الموضوعية من الشبهات الحكمية، فذكره أمثلة للشبهات الموضوعية لا يوجب أنْ نرفع اليد عن ظهور صدر الرواية إذا كان ظاهراً في العموم للشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية لمجرّد أنّه ذكر أمثلة لا تدخل إلاّ في بعض أفراد هذه القاعدة الكلية، هذا لا يوجب أنْ نرفع اليد عن ذلك لمجرّد ذكر هذه التطبيقات، وقلنا بأنّه لعلّ السر في هذا هو أنّ ابتلاء المكلّف عادة لا يكون بالشبهات الحكمية، فالقاعدة الكلية تبقى، وقوله(كل شيءٍ) إشارة إلى حكم بحلّية كل ما لا يُعلم حرمته، وكل ما لا تعلم حرمته هو لك حلال سواء كان لحم تشتريه من السوق، أو هو لحم أرنب تشك في حرمته وحلّيّته، فيُحكم بحليته، والأمثلة التي ذكرها لخصوص الشبهة الموضوعية لا تشكلّ قرينة لرفع اليد عن ذلك الإطلاق.
أمّا بالنسبة للقرينة الثانية: فقد يستشكل فيها بأنْ يقال: أنّ البيّنة لا يُراد بها شهادة العدلين في هذه الرواية
[1]
؛ لأنّ شهادة العدلين اصطلاح جديد، وإلاّ فأنّ البيّنة بحسب المعنى اللّغوي لا يُراد بها شهادة العدلين، فمن الواضح أنّ هذا معنى اصطلاحي للبيّنة، والمعنى اللّغوي للبيّنة هو الشيء الذي يبيّن ويوضّح؛ وحينئذٍ لا تكون البيّنة قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية؛ إذ لا يُراد بها شهادة العدلين حتّى نقول أنّها قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية، وإنّما المراد بها المُبيّن والموضّح، أي ما يجعل الشيء بيّناً، وهذا لا ينافي أنْ تكون الرواية شاملة للشبهات الموضوعية و الشبهات الحكمية، وأي شيءٍ تشك في حرمته فهو لك حلال إلى أنْ تقوم عليه البينة، وهذه البيّنة تشمل الشبهات الحكمية، وتشمل خبر الثقة الواحد الذي هو حجّة في باب الأحكام؛ لأنّ خبر الثقة الحجّة في باب الأحكام بيّنة لغة، بمعنى أنّه يكون مُبيّناً وموضّحاً ويصدق عليه اصطلاح البيّنة لغة، ولا داعي للتقييد بخصوص هذا الاصطلاح، وأنّ المراد به شهادة عدلين حتّى يُجعل هذا قرينة على الاختصاص بالشبهات الموضوعية. ويؤيّد هذا أنّ إرادة شهادة عدلين من البيّنة هو اصطلاح جديد لم يكن موجوداً في زمن صدور هذه الرواية، وإنّما الذي كان موجوداً في زمن صدور الرواية هو المعنى اللّغوي للبيّنة، فحمل لفظ البيّنة في هذه الرواية على المعنى الاصطلاحي هو خلاف الظاهر. هذا الشيء تقدّم سابقاً أنّه يُستبعد أنْ يكون هذا الاصطلاح ليس شائعاً في زمن صدور الرواية وذلك باعتبار أنّه يبدو أنّه كثُر استعمال هذا اللّفظ في شهادة العدلين في باب القضاء، وتداول استعماله بين الناس في هذا المعنى الجديد غير المعنى الجديد؛ لأنّ القضاء كان قائماً على قدمٍ وساق، والمفردات والاصطلاحات التي تستعمل في باب القضاء كانت متداولة، ومنها كلمة البينة، واستعملت كلمة البيّنة في شهادة العدلين كثيراً ولزمان طويل، نشكّك في انعقاد هذا الاصطلاح واستقراره في الآيات القرآنية، وفي ما يصدر عن الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً يمكن، لكن من البعيد جدّاً أنْ نشكك في انعقاد هذا الاصطلاح في زمان الإمام الصادق(عليه السلام) ومن تأخّر عنه من الأئمّة(عليهم السلام)، الظاهر من انعقاد هذا الاصطلاح واستقراره أنْ يكون المراد من البيّنة عندما تصدر من المشرّع بعد هذا الاستعمال الكثير والتداول لكلمة البينة في المعنى الجديد من الممكن أنْ نمنع من ذلك على تقديره، وعلى تقدير أن نتنزّل عن ذلك ولم يثبت هذا بشكل واضح، فلا أقل من احتمال أنْ يكون المقصود بالبيّنة هو المعنى الاصطلاحي، فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح أنْ يكون قرينة متصلة بالكلام، وهذا يكون مانعاً من انعقاد ظهور العموم والإطلاق. وهذه البيّنة موجودة في نفس الرواية، والمفروض أننّا لم نجزم بأنّ هذا الاصطلاح الجديد قطعاً ليس موجوداً في زمان الإمام الصادق(عليه السلام) وإنّما احتملنا أنّه لا يُراد به المعنى الجديد، ويُحتمل أن يُراد به المعنى اللّغوي. الظاهر أنّ هذا يدخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة، وهذا يمنع من انعقاد العموم وبالتالي يمنع من التمسّك بالرواية لإثبات عمومها للشبهات الحكمية.
نعم، هناك شيء آخر يمكن أنْ يقال في قبال هذا، وهو مسألة التقابل بين قوله(حتّى يستبين لك ذلك) وبين (أو تقوم به البينة) هذا التقابل بين الاستبانة والبيّنة قد يُفسّر؛ بل فُسّر في كلمات جملة من المحققين بأنّ المقصود به هو حتّى يكون الشيء بيّناً بنفسه، وهو الاستبانة، ومقابلها أن يكون الشيء بيّناً بغيره وهو البيّنة، فيكون المقصود بالبيّنة هنا هو الشيء الذي يوجب كون الشيء بيّناً، يعني أنْ يكون الشيء بيّناً بواسطة، أي بغيره، وهذا الغير أعم من يكون شهادة عدلين، أو يكون خبر الثقة، أو يكون أي إمارة أخرى بحيث تجعل الشيء بيّناً عرفاً، بحيث يكون الشيء واضحاً. هذه القرينة تقتضي أنْ لا نحمل البيّنة على خصوص شهادة العدلين، وإنّما يكون المقصود من البيّنة هو ما يوجب أنْ يكون الشيء بيّناً، وتكون الشبهة بيّنة، فيكون المعنى هو كل شيءٍ لك حلالاً، أي الأشياء كلّها على الحلّيّة إلى أنْ يستبين في حدّ نفسه، أو تقوم به البيّنة، يعني حتّى يتّضح بغيره. وذكروا بأن المقصود بحتّى يستبين بنفسه، هو العلم الوجداني، فعندما تحصل حالة العلم الوجداني بالشيء اعتبروه استبانة للشيء بنفسه، بينما يُراد بالبيّنة أنْ يستبين الشيء بغيره. استبانة الشيء بغيره مع تحكيم هذا المعنى في البيّنة يكون من الصعب جدّاً أن نقول أنّ المراد بالبيّنة هي خصوص البيّنة الاصطلاحية؛ لأنّ هذه قرينة في داخل الرواية على أنّ المقصود ليس هو البيّنة الاصطلاحية، وإنّما المقصود بالبيّنة معنى آخر، وهو الشيء الذي يوجب صيرورة شيئاً آخراً بينّاً وواضحاً، وكل ما يوجب صيرورة الشيء واضحاً وبيّناً فهو بيّنة؛ فحينئذٍ يكون من الصعب جداً القول بأنّه يختص بخصوص شهادة العدلين؛ بل يُراد به الأعم من شهادة العدلين ومن كل ما يوجب أنْ يكون الشيء بيّناً وواضحاً، وهذا معناه أننّا لا نقتصر على خصوص شهادة العدلين حتّى نقول بأنّ هذا قرينة على الاختصاص بخصوص الشبهات الموضوعية، وبناءً على هذا لا مانع من إطلاق الرواية وعمومها حتّى للشبهات الحكمية.
[1] تقدّم الإشارة إلى هذا سابقاً في بحث حجيّة خبر الواحد في الشبهات الموضوعية عند التعرّض إلى هذه الرواية.